|
منقولات روحيّة
يُضيِّع عامة المسْلِمون جهودَهم ووقتَهم سدىً في إثبات عدم تحريف كتابهم المقدَّس "القرآن" وفي إثبات تحريف كتاب غيرهم، "الإنجيل" أو "التوراة". كذلك فإن عامة المسيحيين ليسوا أحسنَ حالاً من عامة المسْلمين، فهم الآخرون يُضيِّعون وقتَهم وجهدَهم سدىً في إثبات صحة كتابهم وفي إثبات تحريف القرآن. إنَّ ما يفعله أغلبُ المسلمين والمسيحيين واليهود وكل من يتمسَّك بالحَرْفِ – من خلال فهمهم العامّي لدينهم – لا يدلُّ سوى على تخلُّفِ مستوى وعيهم؛ فهم يَرَون عيوبَ الإصبع التي تشير إلى الشمس وتعمى أبصارهم عن رؤية الشمس! ويضيع أتباعُ العقائد والأديان في متاهات حروف الرسالة الروحية ويُقفِلون قلوبَهم عن فهم مراميها.
على الأقل، فيما يتعلق بهذا الموضوع، يتَّفق تاريخ الفرد مع تاريخ الجنس البشري، ومهما كان شكل الشراكة بينهما، على أنهما يعكسان تزايدًا متدرجًا في عالم الـهو. أما فيما يتعلق بتاريخ الجنس البشري، الذي نحن بصدده، فتجدر الإشارة إلى أن بدايات العوالم المتعاقبة للثقافة تعود إلى حالة بدائية، قد تختلف من حيث الشكل إلا أنها تبقى ثابتة من حيث المضمون. وبما ينسجم مع هذه البدائية تبدأ العوالم الثقافية بعدد ضئيل من الأشياء، ما يجعل ليس فقط حياة ذلك الجنس إنما حياة تلك الثقافة المعينة متطابقةً مع حياة الفرد. لكن، وبغض النظر عما يبدو وكأنه عوالم منعزلة، ومن خلال التأثير التاريخي لثقافات أخرى سبقت، تهيمن هذه الثقافات في مرحلة معينة على عالم الـهو الخاص بها. وهذه حالة لا يتم بلوغها باكرًا، إلا أنها، على أيَّة حال، تسبق جيل الذروة، حيث بوسعها أن تتخذ شكل القبول المباشر لما هو معاصر، كقبول اليونان بالعالم المصري؛ أو شكل القبول غير المباشر لما مضى، كقبول المسيحية الغربية بالعالم اليوناني. بعد ذلك، توسِّع هذه الثقافات عالم الـهو الخاص بها، ليس فقط من خلال تجربتها الذاتية، إنما أيضًا من خلال استيعاب التجربة الأجنبية. عندها، فقط، تبدأ ثقافة ما بالنمو وبالتوسع الراسخ والمسكتشِف. (لندع خارج حساباتنا في الوقت الراهن المساهمة الأساسية للادراكات وللأفعال الحسِّية لعالم الـأنت). انطلاقًا من هنا، وبشكل عام، يكون عالم الأشياء، في كل ثقافة، أكثر شموليةً من ذلك الذي سبقه. ورغم العثرات والتراجعات الكثيرة فإنه بوسعنا أن نتبين بوضوح، في التاريخ، التزايد التدريجي في عالم الـهو. وإلى جانب تلك النقطة الناجمة عن الاستنتاج بأن طابع المحدودية و/أو طابع ما يدعى باللانهاية، أو بتعبير أدق اللامحدودية، ينتمي إلى "المنظور العالمي" لثقافة معينة؛ وذلك بالرغم من أنه مؤكد أن عالمًا "محدودًا" بوسعه أن يتضمن أجزاء وأشياء وعمليات أكثر من عالم "لامتناه". وتجدر الملاحظة أنه من الأهمية بمكان أن نقارن ليس فقط مدى المعرفة الطبيعية، بل أيضًا تلك المعرفة المرتبطة بالفارق الاجتماعي وبالإنجاز التقني، لأنه عن طريقهما معًا يتوسع عالم الأشياء.
ثانيًا: الصدق عدة الأنبياء هل يمكن للمنافق أن يكون نبيًا؟ الجواب المباشر والساذج سيقول: لا.. بالتأكيد لا.. لا يمكن للنبي أن يكون منافقًا. أما الجواب الدقيق فيجب أن يكون: لا بالتأكيد لا يمكن للمنافق أن يكون نبيًا. والسبب أن النفاق داء يتعارض مع صفة الصدق مع الذات. المنافق لا يفعل الأشياء لذاتها، لا يمارسها بتلقائية، وبالنتيجة لا يمكن له أن يغوص بأعماق ذاته فضلاً عن أعماق الأشياء الأخرى. وهذا ما سيجعله طافيًا على سطح الأشياء ومكتفيًا بمظاهرها. النبوة بحاجة إلى نوع خاص جدًا من الصدق، يسميه المتصوفة بـالإخلاص. وهم لا يقصدون مفهوم الإخلاص فقط، بل وطريقه الذي يشترطون للسير عليه طرقًا خاصَّة ورياضات متعبة، لا يبوحون بإسرارها إلا لمن يتيقنون من قابليته التكوينية على أن يكون صادقًا. وهنا أريد أن أغتنم الفرصة لأؤكد على الجانب التكويني من موضوع الصفات التي تؤهل شخصًا ما لأن يكون نبيًا... نعم فأن يكون الإنسان كاذبًا هو الآخر خطأ تكويني لا يتحمله هو، وبالتالي فالكذب ليس خطيئة أبدًا. على الأقل لأن الموضوع متعلق بالتربية، والتربية ليست من ضمن خيارات الإنسان، هذا فضلاً عن مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تضطر إنسانًا ما لأن يكون كاذبًا.
|
|
|