تغمرنا
اليوم ونحن نلج قرنًا بل وألفية جديدة مئات الأفكار العلمية الجديدة التي يتصدر
بعضها أخبار الإعلام بشكل يومي. وعلى الرغم من أن الانتقال الاصطلاحي من قرن
إلى قرن لا يعني شيئًا على مستوى التطور، لكنه يعطينا الفرصة لتأمل التسارع
الرهيب للنظريات العلمية وتطبيقاتها التقنية على حد سواء. نحن اليوم نعيش لحظات
ستصبح متميزة في التاريخ المستقبلي. لقد عمل الإنسان خلال القرون القليلة
السابقة على تعديل حياته بشكل سريع نسبيًا، وخلال بضعة قرون تغيرت معالم
مدنيتنا كما ونفسيتنا واختلفت طرائق تفكيرنا وسلوكنا وتبلورت معاييرنا
ومنظوماتنا الفلسفية والعقائدية. لكن العقود القليلة الماضية وتحديدًا ربع
القرن الأخير، حمل لنا ما يفوق ما حملته لنا الإنجازات البشرية على مدى
التاريخ! وهذا اليقين لا ينبع فقط من التحولات الكبيرة في طريقة تناولنا
للظاهرات وتفسيرها، بل وفي إدراكنا للإمكانيات التي تنفتح أمامنا في تغيير
العالم والإنسان. بعبارة أخرى، يقترب الإنسان من بلوغ مرحلة ينتهي فيها وجوده
على الأرض كطفل يحبو ويكتشف ويلعب أحيانًا مستفيدًا أو مدمرًا. فهو الآن يقف
على قدميه وينظر إلى الأفق ويفكر كيف يريد أن يصبح بمستوى عظمة هذا الكون الذي
اكتشفه لتوه. كان الإنسان القديم قد بنى أساطيره على المعرفة البسيطة،
والمغلوطة غالبًا، التي كان يشكلها عن الطبيعة والكون. أما اليوم، فإن الإنسان
يبني أسطورة معرفية حقيقية بما هي مفتوحة باستمرار على التجدد والتطور.
اسمحوا
لي أن أستهل هذه المحاضرة معرفًا بالكلمات التي استعملتُها في
عنوانها، لعلِّي بذلك أتمكن من استجلاء مضمونها بعض الشيء.
بادئ ذي بدء، ماذا ينبغي لنا أن نستشف
من كلمة أصول؟ لعل الأصح بالعربية أن نتكلم على نَسَب الفلسفة
العربية أو نسبتها بدلاً من الكلام على "أصولها" المفترَضة. فبـ"نَسَب"
الفلسفة العربية أعني بالفعل معرفة أسلاف هذه الفلسفة الذين كان الفلاسفة العرب
أنفسهم يطلقون عليهم تسمية "القدماء من اليونانيين" أو "القدماء" وحسب، بمعنى
الأسلاف. وأسارع إلى لفت أنظاركم إلى أن هذه الإشارة تلميح من العرب إلى
أنهم كانوا يعدُّون أنفسهم بمثابة "ورثة" هؤلاء الأسلاف الإغريق أو "أخلافهم"،
إذا جاز لي القول؛ وبعبارة أخرى، كانوا يجاهرون بصحيح انتسابهم شرعًا إلى العقل
اليوناني. ففي العصر الذي نحن بصدده ما كان لأحد أن يطلق تسمية "أجداد" أو
"أسلاف" على أناس مختلَف على ميراثهم أو مشكوك فيه.