|
إضاءات
المنهجيَّة الصارمة في النقد الدِّيني سالم المتروك: تقرؤون الفضاء الديني ومكوِّناته التاريخية والعقائدية من خلال حفر تحليليٍّ واسع، تتوسلون فيه بجملة من العلوم الإنسانية المعاصرة، فضلاً عن حسِّ السؤال النقدي الصادِم. بيد أن هناك مَن يأخذ عليكم أن قراءاتكم، بسبب طبيعتها "الصلبة"، تتعارض مع متطلَّب التسامح المنهجي الذي يقتضي انتقالاً تفكيكيًّا هادئًا بين اعتقادات الشعوب وموروثاتها اليقينية الكبرى ومقاربتَها بمنهجية تنأى عن تسخيفها وعن محاكمتها من منظور عَلمانوي خالٍ من الفوائد العملية والمواضعات المتصالحة. ما تعليقكم على هذه المؤاخذة؟ وبأيِّ نحوٍ تقدِّمون الخلفية المنهجية لكتاباتكم وأبحاثكم في الدِّينيات – الإسلاميَّات خاصة –، الموروث منها والمعاصر؟ وليد عبد الله: للانتماء إلى منهجية نقدية فيها أشكال من الصرامة أو الصِّدام التساؤلي عدة أسباب، منها أن للمنهجية الصارمة في النقد الديني امتدادًا موغلاً في تاريخ البحث والنقد والأساليب التي ظهرت في فترات تاريخية مختلفة؛ إلا أن لها في الزمن المعاصر أبعادًا أخرى: إذ نقرأ الصرامة المنهجية والمواجهة المعرفية الصِّدامية ونشاهدهما في الخطاب الفكري لدى بعض الباحثين والمفكرين والمثقفين وأصحاب المحاولات والمشاريع الفكرية الجُدُد، في العالم العربي والإسلامي، العراقي بالأخص، لما يمثل ذلك من مصداق لمعاينتهم سيرورة الانهيار الحضاري والفكري والقيمي وللظهور الواقعي لفعاليات الاقتتال المذهبي والعقائدي الداخلي وقمع السلطات وتجهيل المجتمع، بما يفرض، بدوره، مواجهةً منهجيةً تتسم بالصرامة الأكاديمية والمهنية العلمية القاسية عند الأساتذة الجامعيين، أو بالمكاشفة المعرفية والواقعية والصِّدامية المنهجية عند الباحثين بشكل عام، وذلك لعدة أسباب، منها:
كما هي الحال في جميع القضايا الفكرية والسياسية، تطور في الفضاء الثقافي والسياسي العربي، في مواجهة قضية العَلمانية، موقفان: موقف المغالاة الذي يقود إلى التطرف السياسي الذي يحوِّل العَلمانية إلى "ثابت" constante تصبح أمامه جميع القضايا الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ثانويةً يمكن تأجيلها، وموقف الاعتدال الذي يقود إلى "النسبوية" relativisme وينظر إلى مسألة إنجاز قيم العَلمانية في علاقتها مع القضايا الاجتماعية الأخرى، وفي مقدِّمها قضية الديموقراطية التي تشكل اليوم محور اهتمام المثقفين والمفكرين العرب العاملين على تحويل المجتمعات العربية وتحديثها. ومن الواضح أن المقصود بالديموقراطية ليس نظامًا جاهزًا، وإنما تجديد قيم المجتمعات وأفكارها وتطوير أساليب عملها وتنظيمها، في الميادين كافة، على أسُس المشاركة الفردية والخيار الحر، وبالتالي، التفاوض الاجتماعي والحوار. ولهذا تشكِّل الديموقراطية معركةً طويلة المدى، ربما تحتل العقدين القادمين بأكملهما أو أكثر. ولن يكون النظام الديموقراطي الناجز سوى ثمرة هذا التحويل في الثقافة السياسية وفي سُبُل عمل المجتمعات وتنظيمها.
اختلف الباحثون حول فكر جبران الديني. منهم من اعتبره مسيحيًا بلا منازع، ومنهم من وضعه في خطّ الديانات الشرقية. أين يقع بين هذين التصنيفين؟ ما هي عقيدته وبأيّ دين بشّر؟ لِمَ هذا الاهتمام الدائم بالفكر الديني الجبراني؟ ألأنه يحتل مكانة مهمة بل أساسية في فكره العام، وهو تاليًا لا ينفصل عنه، أم لأننا تعوّدنا، خصوصًا في الشرق، البحث عن هوية مفكّرينا الدينية لإنصافهم أو للحكم عليهم؟ نحاول البحث في دين جبران لا للحكم عليه، ولا لتبرير مواقفه الدينية، بل لأننا نرى الفكر الديني مسيطرًا في أعماله الفنية والكتابية منذ البدايات حتى بلوغ ذروتها في النبي ويسوع ابن الإنسان. كما أننا نقرأ في حركته الفكرية توجّهًا نحو المعارف الربّانية.
عندما كان الحديث يتناول أوضاع المسيحيين في الشرق، كان الحديث يدور حول محور دورهم في صناعة الشخصية المشرقية-العربية. سواء من حيث الثقافة والتربية، أو من حيث الاقتصاد والاجتماع، أو من حيث النضال الوطني. كانت أدوارهم ومواقفهم وأدبياتهم في هذه المجالات كافة جوهرية وأساسية. وكانت تعبر بواقعية عن أصالتهم المشرقية وعن التزامهم بقضايا أمتهم وفي صناعة مصير ومستقبل دولهم الوطنية. ولا عجب في ذلك فهم جزء أساسي من نسيج المجتمعات العربية المتعددة. كانوا قبل الإسلام، واستمروا مع الإسلام. وكانت لهم في المرحلتين مساهماتهم البنّاءة والمباشرة في انتاج الحضارة الإسلامية التي هي موضع اعتزاز المسلمين والمسيحيين معًا. أما اليوم، فإن الحديث عن أوضاع المسيحيين في الشرق يتمحور حول الهجرة: أسبابها المباشرة وغير المباشرة. وحول نتائجها وانعكاساتها، وكلها سلبية ليس على الحضور وعلى الدور المسيحيين فقط، إنما على شخصية العالم العربي وهويته، وعلى مستقبله ومصيره.
تمامًا مثلما أن الإعلان وسيلة تسويق سلعي من الدرجة الأولى فإن الإعلام وسيلة تسويق فكري من الطراز الأول أيضًا، على الرغم من أن هناك ترفعًا من جانب الباحثين والمعنيين عن النزول بالصورة "السامية" للإعلام إلى هذا المستوى من المقارنة بين الأفكار والمبادئ السامية والأهداف العظيمة للشعوب أو للطبقات الحاكمة أو المحكومة. إلا أن الحقيقة التي لا يمكن لغربال أن يخفيها هي هذا التشابه الكبير بين الدور المباشر والحقيقي للإعلام وبين الدور الذي يقوم به الإعلان؛ وتبديل الحرف الأخير لا يمكن له أن يلغي تطابُق الدورين أبدًا، وإن اختلفت الأهداف المرجوة من الإعلام عن الأهداف المرجوة من الإعلان. وقد اعتاد منتجو السلع التعويل على الإعلان للترويج لأيِّ شيء من مكونات السوق لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى تقديمه على المنتج نفسه. وحين يُسأل اقتصادي ناجح عن سبب "نجاحه"، الذي يعني في واقع الحال نجاح سلعته، عادةً ما يجيب بأن مردَّ ذلك إلى سياسة الإعلان والدعاية الناجحة التي ينتهجها. ويرصد الاقتصاديون "الناجحون" ميزانياتٍ ضخمةً للإعلان لكي يتواصلوا مع جمهور مستهلكيهم؛ ومهما بلغت مستويات نجاحهم فهم يحرصون على مواصلة ذلك، خشية أن تتمكن سلعة جديدة أخرى من الحلول مكان سلعتهم وإخراجهم من السوق.
طوَّر إريش فروم، في عودته إلى كلٍّ من ماركس وفرويد، مفهوم «الاغتراب» alienation ورَبَطَه بخبراته ومعالجاته السريرية، منطلقًا من نقطة مركزية أكدت على الترابط الجدلي بين الإنسان ومحيطه. ربط فروم ذلك كلَّه بتوجُّه أخلاقي ونفسي، ليس وليد الصراع الاقتصادي (كما قال به ماركس)، وليس نتاج الصراع الجنسي (كما نظَّر له فرويد)، بل هو نتاج أمور وجودية، شخصية الطابع، اجتماعية المنشأ، وَضَعَها في إطارها الإنساني الأوسع. والاغتراب، كمفهوم ذي دلالات، يمثل نمطًا من تجربة يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات: فهو لا يعيش ذاته كـ«مركز» لعالمه أو كصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الاغتراب متعددة، اجتماعية ونفسية واقتصادية؛ ويمكن إجمالُها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع، أي العجز المادي عن احتلال المكان الذي ينبغي للمرء أن يحتلَّه وشعوره بالتبعية أو بحسِّ الانتماء إلى شخص أو إلى آلية أخرى، فيصبح المرء مرهونًا له/لها، بل مستلَبًا alienated. وهذا ما يولِّد شعورًا داخليًّا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذرِّي والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.
فكرةُ الإله (أو الآلهة) فكرةٌ تطورتْ بتطور العقل البشري على امتداد الزمن، بدءًا من تقديس الظواهر الطبيعية ومحاولة استرضائها بتقديم القرابين وإقامة الطقوس الدينية السحرية. وكلما ارتقى الجنسُ البشري قليلاً على سلَّم المعرفة تطورتْ معه فكرتُه عن الإله وشكلُ علاقته به: فمن الطوطمية، إلى التعددية (مجمع الآلهة الإغريقي، مثلاً)، إلى بذور فكرة التوحيد الفرعونية (ممثلةً في أخناتون وعبادة "آتن" الشمسية)، وأخيرًا وليس آخِرًا، الإله في طبعته الأخيرة بنسخته الإبراهيمية.
مأسـاة ابن رشـد نظر شيخ جليل إلى المرآة المعدنية في زاوية غرفته، ثم راح يتأمل وجهه الوقور ذا اللحية البيضاء وهو يتلاشي شيئًا فشيئًا حتى اختفى تمامًا من الوجود! هو الشيخ ابن رشد أو Averroes، الفيلسوف العربي الأشهر، كما صوَّره بورخيس في قصته الطويلة "البحث عن ابن رشد" La busca de Averroes. كان ابن رشد متوفرًا على ترجمة أحد مؤلَّفات فيلسوف إغريقي يفصل بينهما أربعة عشر قرنًا من الزمان كي يضمِّنه الفصل الحادي عشر من كتاب تهافت التهافت الذي يحاجج فيه كتاب الإمام الغزالي تهافت الفلاسفة. ولما كان فيلسوفنا الأكبر لا يعرف أيًّا من اللغتين اليونانية أو السريانية فقد اضطر إلى ترجمة كتاب فن الشعر لأرسطو عبر لغة وسيطة. جاء المساء، واصطدم الرجل بكلمتين عسيرتين في باب الشِّعر، كلمتين لم يجد لهما مقابلاً مفهومًا في لغته العربية: "التراجيديا" و"الكوميديا". الرجلُ يذكر الآن أنه كان قد تعثَّر بهما قبل عدة أعوام في الكتاب الثالث لـعلم الجمال، لكنه في هذه اللحظة مُطالَب باستيعاب المعنى الدلالي الحقيقي للمفردتين. فهو سيغدو فيما بعد "الشارح" لفلسفة أرسطو. ثم إنه مُطالَب، بعد استيعابه المفردتين، بوضع تعريب لهما في متن مخطوطه؛ تعريب دقيق ودالٍّ من شأنه أن يجعل كلَّ عربيٍّ يقرأ الكتاب يقبض على الجوهر العميق لكلِّ مفردة منهما. كيف السبيل إلى الحصول على معنى يشرح مفردتين تخصان فنَّ المسرح داخل منظومة ثقافية لم تعرف مطلقًا فن التمثيل أو المحاكاة؟ – أعني منظومة الثقافة العربية. ما أفاده شيئًا تصفُّحُه الإسكندر الأفروديسي، ولا التقليب في طبعات النسطوري وأبي بشار متى وحنين بن إسحاق، ولا حتى نفعتْه بشيء قراءتُه كتاب العين للخليل. والمشكلة أن هاتين الكلمتين المبهمتين متجذِّرتان في متن كتاب فن الشعر، منتشرتان في طوله وعرضه، ومن ثم مستحيل حذفُهما.
|
|
|