|
بعض النقاط على بعض الحروف
1 عندما يتم التطرقُ إلى "اللاعنف"، ينبغي إجراءُ تمييز يسبِّب إغفالُه التباساتٍ كثيرةً والإصرارُ عليه: التمييز بين فريضة اللاعنف الفلسفية وبين إستراتيجية العمل اللاعنفي. فهذه وتلك تتوضعان على صعيدين مختلفين يجدر التمييز بينهما، لا للفصل بينهما، بل لتفادي الخلط. فاللاَّعنف، كمبدأ فلسفي، هو طلب المعنى؛ أما كمنهاج عمل، فهو البحث عن الفعالية.[1] بهذه العبارات يستهل المفكر والمناضل اللاعنفي الفرنسي جان ماري مولِّر، في قاموس اللاعنف، تعريفه بمصطلح "اللاعنف"؛ وهو – من منظورنا – مصيب إلى حدٍّ كبير فيما يذهب إليه... [لأن] خيار اللاعنف هو تفعيل فريضة الضمير العقلاني العالمية في حياتنا نفسها، الضمير الذي يعبَّر عنه بالصيغة الآمرة، المنفية هي الأخرى: "لا تقتل". إن تحريم القتل هذا تحريم عالمي شامل؛ وهو جوهري، لأن رغبة القتل كامنة في كلٍّ منَّا. القتل محرَّم لأنه يبقى ممكنًا دومًا، ولأن هذه الإمكانية تفضي إلى اللاإنسانية. التحريم "مُلزِم" impérative لأن الإغراء "مستبد" impérieuse؛ وبقدر ما يكون الإغراء مستبدًّا يكون التحريمُ أشد إلزامًا. اللاعنف، إذن، فريضةٌ سالبة أولاً؛ وهو يطالب الإنسانَ بنزع سلاح انفعالاته ورغباته ومشاعره وذكائه وذراعيه حتى يستطيع الفكاك من كلِّ "سوء نية" mal-veillance في حقِّ الإنسان الآخر. عندئذٍ، يكون حرًّا في إظهار "حسن نيته" bien-veillance له والتعبير له عن "طيب إرادته" béné-volence.[2] وأيضًا... [لأن] اللاعنف، قبل أن يكون منهاج عمل، هو، أولاً وأساسًا، موقف. فهو الموقف الأخلاقي والروحي للإنسان الناهد الذي يقر بالعنف بوصفه نفي الإنسانية – إنسانيته وإنسانية الآخر في آنٍ معًا – والذي يقرِّر رفض الخضوع لقانونه. اللاعنف هو احترام كرامة إنسانية الإنسان، فيه هو وفي كلِّ إنسان آخر.[3] أما على أرض الواقع، حين نختار اللاعنف كمنهج للعمل السياسي و/أو المطلبي، سواء كان هذا الخيار عن قناعة مبدئية و/أو من منطلق ذرائعي يبحث عن الفعالية، فإن المنظور يختلف حتمًا، وذلك لأن المقصود من الكفاح اللاعنفي الذي يتحول، في هذه الحالة، إلى منهج عمل يطبَّق على الأرض يصير: [...] التفتيش عن "معادِلات وظيفية" [...] لبلوغ هدف سياسي (أو مطلبي) معين.[4] ما يعني أن محور إستراتيجيته (إنْ جاز لنا استعمالُ كلمة "إستراتيجية" في هذا المضمار)، [...] بعد تحليل الموقف وتقييم نقاط القوة والضعف لدى مختلف أبطال النزاع، [يصير] اختيار مختلف الأعمال والتخطيط لها وتنفيذها تنفيذًا منسقًا لبلوغ [الهدف. لأن] مرمى إستراتيجية الكفاح اللاعنفي هو [في آخر المطاف] إكراه الخصم حتى يجد نفسه مرغمًا على قبول حلٍّ للنزاع من شأنه أن يلبِّي مقتضيات العدل.[5] ونجدنا هنا أمام مفاهيم في حاجة إلى المزيد من التعمق والتفكر، سواء في ضوء المبادئ والقيم الإنسانية اللاعنفية التي نؤمن بها وننطلق منها (وهي الأساس) أو من منطلق الواقع القائم في العالم عمومًا وفي بلدنا خصوصًا. لأن ما تطرَّق إليه جان ماري مولِّر في محاضرته حول إستراتيجية العمل اللاعنفي، الذي هو عين طروحاته الواردة في كتيِّب له سبق أن أرسله إلينا بعنوان اللاعنف في العمل – المراحل المختلفة لحملة العمل اللاعنفي[6] والمتعلقة بموقف اللاعنف من السلطة، بوصفها هدفًا إستراتيجيًّا نهائيًّا للحملة السياسية اللاعنفية، وبضرورة استمراره على أرض الواقع كشكل من الرقابة الشعبية الدائمة والمستمرة للمجتمع المدني – حتى في حال استلام السلطة – فيما أسماه بـ"الثورة الدائمة" – هذه الطروحات هي في الحقيقة أمور إشكالية تحتاج معالجتُها إلى الكثير من التروِّي.
2 وترانا، للمزيد من الأمانة وبهدف التعمق، نعود إلى هذا الكتاب الرائع للعزيز جان ماري الذي هو قاموس اللاعنف، لنناقش في ضوئه بعض ما طرحه في محاضرته حول إستراتيجية العمل اللاعنفي من مفاهيم بهذا الخصوص. فنلاحظ ما يلي: أ. إن هذا الكتاب، الذي حاول صاحبُه أن يجعله موضوعيًّا وفلسفيًّا بامتياز، لم يتطرق البتة إلى مفهوم "الثورة" الذي عَرَضَ له كنقطة أخيرة في محاضرته حول إستراتيجية العمل اللاعنفي، حيث جاء: الثورة لا تنتهي باستلام السلطة السياسية. فليس استلام السلطة سوى لحظة في ثورة لن تنتهي. لأن الثورة مستمرة. [...] ينبغي عدم تأسيس ديموقراطية تمثيلية يمارِس فيها المنتخَبون سلطةَ القرار الكاملة، بل ديموقراطية مشارَكة تمكِّن المواطنات والمواطنين كلَّهم من المشاركة في صنع القرارات من خلال لامركزية واسعة للسلطة. وهذا ينطوي على أن ينتظم المواطنون في المجتمع المدني ليحصلوا على سلطة مضادة حقيقية تتيح لهم ممارسةَ رقابة شعبية على المنتخَبين.[7] ولكن... ب. في تعريفه الوارد في قاموس اللاعنف الذي تناول مفهوم "الدولة"[8]، التي يعني الاستيلاءُ عليها الاستيلاءَ على السلطة السياسية، نلاحظ أن مفكرنا – وهذا ما يشرِّفه – إنما كان يتفكر ويتلمس طريقه، بكلِّ موضوعية، في خصوص مفهوم من أعقد المفاهيم السياسية على الإطلاق، حيث جاء: تؤسِّس الدولةُ شرعيةَ عنفها الخاص على ضرورة التصدي الفعال لعنف الأفراد والمجموعات الاجتماعية التي تُخِلُّ بالنظام العام. ولا جَرَمَ أن من الممكن أن توجد حالاتٌ قصوى يبدو فيها من الصعب – بل ومن المتعذر – تحييدُ الجانحين الثابتة خطورتهم العامة و"المستعدين لكلِّ شيء" لبلوغ مآربهم وكفُّ أذاهم دون اللجوء إلى العنف. لكن القوم يكبِّدون الفكرَ السياسي اعوجاجًا خطيرًا، إذ يتذرعون بهذه الحالات القصوى، التي يمكن للعنف أن يكون فيها ضروريًّا، لبناء عقيدة تخوِّل الدولةَ الحق في اللجوء لجوءًا سويًّا إلى العنف المادي لضمان السلم الأهلي. هو عنف يرفضه جان ماري من منظوره (ونرفضه نحن أيضًا)، لأن... [...] قيام الدولة بمَأسَسة العنف، بصفته وسيلةً معياريةً (تفيد معيارًا) ونظاميةً (تفيد نظامًا) في إدارة النزاعات الحتمية التي تنتأ فجأة في قلب المجتمع، يضفي عليه صفة الشرعية. ما يعني أنه يجب التنبه إلى ذلك الخطر على الدوام، وحتى النضال ضده، لأنه حين... [...] تؤْثر مصلحةُ الدولة العليا، في الغالب الأعم، تجاهُل موجبات الديموقراطية. وعندما تقوم الإيديولوجيا الأمنية، باسم ضرورة استتباب النظام، بتبرئة الدولة من أعمالها العنفية، إذ ذاك يمكن للطغيان أن يولد. لذا فإن اللاعنف... [...] يضع [على الدوام] مسلَّمةً مُفادها تحول عميق ودائم للدولة بمقدار ما تهدف هذه إلى حلِّ النزاعات دون اللجوء إلى العنف. غير أن عملية كهذه لا يسعها أن تؤدي إلى زوال كلِّ سلطة إكراهٍ سياسية. [لأن] انتواء بناء مجتمع بلا حكومة وبلا قوانينَ وبلا شرطة وبلا قضاء ضربٌ من اليوطوپيا. ما يعني على أرض الواقع أنه... [...] لا يجوز للاَّعنف السياسي أن يكون مطلقًا؛ إذ إنه نسبي بالضرورة، أي مرتبط بالبشر وبالظروف وبالأحداث. [فـ]ـالمقصود ليس، إذن، الانطلاق من الفكرة الخالصة عن مجتمع كامل، بهدف محاولة لصقها على الواقع فيما بعد، بل، انطلاقًا من واقع أعمال العنف، إيجادُ دينامية ترمي إلى الحدِّ من هذه الأعمال وتقليصها والقضاء عليها ما أمكن. وتكون النتيجة التي توصل إليها جان ماري بهذا الخصوص، والتي هي صحيحة تمامًا (من منظورنا)، أنه... [...] ضمن هذا المنظار، قد تكون المهمة الأولى للسلطة السياسية هي إعمال سياسة خاصة بالتربية والتأهيل المستمرَّين على الإدارة اللاعنفية للنزاعات من أجل جميع المواطنين. فعِبرَ سياسةٍ كهذه تستطيع الحكومةُ إيجاد الشروط التي تتيح لها ممارسة سلطانها دون الاضطرار للجوء إلى طُرُق الإكراه العنيفة. ولكن، من أجل إيجاد مثل هذه الدينامية الاجتماعية والسياسية، يطرح جان ماري منظوره السياسي – الخاص – الذي فيه الكثير من الصحة والقائل بأنه... [...] لا يجب الاعتماد على رجال الدولة بقدر ما يجب الاعتماد على المواطنين. وينبغي للمجتمع المدني أن يتأهب لبناء سلطة مضادة ترغم القادةَ السياسيين على اتخاذ قرارات ما كانوا ليتخذوها بأنفسهم. فرجال الدولة لن يتبعوا طريقَ اللاعنف إلا إذا تقدَّمَهم المواطنون على هذه الطريق. ت. وهذا المنظور السياسي – الخاص بجان ماري – هو ما نتلمَّسه تلمسًا جليًّا وواضحًا حين نراجع ما يورِده في قاموس اللاعنف من مفاهيم تتعلق بـ"السلطة"[9] وتقول بأن... [...] تصاعُد الكفاح الشعبي يخلق الشروط التي تتيح للشعب استجماع قواه في حركة سياسية لا ترمي إلى مقاومة السلطات القائمة ومكافحتها وحسب، بل وإلى الاستيلاء على السلطة. ينبغي لحركة المقاومة اللاعنفية ألا تبقى منغلقةً في وظيفتها الاعتراضية، بل أن تصير إلى الاضطلاع بدور إداري. حيث، خاصةً في المجتمعات التي يكون الطريق الشرعي فيها مسدودًا، [...] ينبغي للحركة السياسية التي تجسِّد أملَ الشعب وإصرارَه أن تفتش عن طريق آخر للوصول إلى السلطة التي هي من حقِّها. ولا مناص هنا من تنظيم حملة عصيان مدني على مستوى البلاد ودعوة الشعب، حين يسمح الوضعُ بذلك، إلى تمرد سِلْمي ضد النظام القائم. ما يعني، كتحصيل حاصل في نظره، أنه... [...] عندما يصل قادة حركة مقاومة لاعنفية إلى السلطة، يواجهون عندئذٍ مهمةَ إعمال مبادئ اللاعنف وطرائقه في تنظيم المجتمع وإدارته. ث. وهذا المنظور السياسي (الخاص به) هو ما طوره تحديدًا في النقاط الأخيرة – النقاط 13 و14 و15 – من محاضرته المتعلقة بـ"إستراتيجية العمل اللاعنفي" والتي هي: 13. التنظيم السياسي الذي، كمفهوم الثورة، لم يتطرق إليه جان ماري البتة أيضًا في قاموسه، القائل بأن ارتفاع حدة الصراعات... [...] يوجِد [...] ظروفًا تتيح للشعب استجماع قواه في تنظيم سياسي لا يهدف إلى النضال ضدَّ السلطة القائمة فحسب، بل إلى استلام السلطة أيضًا وممارستها، ليس وفقًا لمصلحة طبقة مسيطرة إنما وفقًا لمصالح العدد الأكبر. إذا صحَّ أن الثورة جيدة التنظيم تبدأ من المرء نفسه، فصحيح أيضًا أن الثورة جيدة التنظيم تنتهي باستلام السلطة السياسية وممارستها. إن اللاعنف يحملنا بالتأكيد على الطعن في الدولة كمؤسَّسة تحتكر اللجوء إلى العنف الشرعي، لكن الصراع اللاعنفي لا يمكن له أن يكون كحرب عصابات مستمرة ضد انتهاكات الدولة. فعندما تصير الدولة نفسها عبارة عن انتهاك، ينبغي القضاء عليها. ومن الأساسي أن يأخذ اللاعنف وظيفة إدارية وألا ينغلق في وظيفته الاحتجاجية. 14. استلام السلطة السياسية، حيث يكرر جان ماري معظم ما أورده حول "السلطة" في قاموس اللاعنف، و... 15. الثورة المستمرة، التي سبق أن قدمنا تعريفًا بها كما أورده جان ماري في محاضرته. ج. كما انعكس هذا الموقف السياسي – الخاص – أخيرًا في بعض المناقشات التي دارت على هامش محاضرته الأولى حول فلسفة اللاعنف، آراء تتعلق بما جرى من أحداث في بعض بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، وخاصةً پولونيا، وأدى في نهاية المطاف إلى انهيار الأنظمة التوتاليتارية في تلك البلدان[10].
3 ونبدأ من هنا، حيث في مقابل منطق سياسي يقول بأن اللاعنف، كمفهوم وكتنظيم سياسي، استلم السلطة في پولونيا وتشيكوسلوڤاكيا، وقبلهما في الهند حتى، هناك منطق آخر يقول، من منطلق آخر، أن اللاعنف لم يستلم السلطة في أيِّ مكان! فمن استلم السلطة في تلك البلدان التي نجح فيها أسلوب اللاعنف كان أحزابًا سياسية ذات برامج خاصة، استعملت، في أوقات وظروف معينة، أساليب وطرائق، وربما فلسفة اللاعنف حتى، التي وجدتها أكثر واقعية وأكثر فعالية لتحقيق أهدافها السياسية. من هذا المنطلق، كان جان ماري على شيء من الحق حين قال إن... [...] اللاعنف، كمنهج عمل، هو بشكل أساسي بحث عن الفعالية. لكن ما لم يوفَّق فيه تمامًا، بالشكل الذي أورده، جاء في محاضرته حول إستراتيجية العمل اللاعنفي: 1. محاولة "تطوير" ما سبق وجاء في قاموسه حول "السلطة"، ليقدم لنا من خلاله برنامجًا بوسعه أن يكون – بكل بساطة – البرنامج السياسي العملي لأيِّ حزب سياسي يسعى إلى السلطة[11]. و 2. من خلال مفهوم "الثورة الدائمة" – تلك التي لا تنتهي – تشجيع منطق صراع دائم من شأنه أن يخرق الشرعية والقوانين والأنظمة وأن يتجاوز مؤسَّسات الدولة الديموقراطية التي يُفترَض أن تكون لها أنظمتها وقوانينها، ما يمكن له أن يؤدي إلى الفوضى من خلال تدمير هيكلية الدولة والمجتمع. 3. ذلك التصور القائل بأن بوسع اللاعنف أن يصبح "تنظيمًا سياسيًّا" يهدف إلى استلام السلطة وممارستها وفقًا لمصالح العدد الأكبر، وذلك من منطلق يقول بأن اللاعنف يحملنا بالتأكيد على الطعن في الدولة كمؤسَّسة تحتكر اللجوء إلى العنف الشرعي. وهذه أمور خطيرة نسمح لأنفسنا بأن لا نتفق مع جان ماري عليها وبأن نناقشه فيها بكلِّ رويةٍ ومحبة، وذلك من منطلق البُعد الإنساني الذي يجمعنا: اللاعنف. لأن اللاعنف، كمنهج عمل حتى، ليس في شكل أساسي بحثًا عن الفعالية، لأنه... [...] قد يكون من قبيل تدمير أسُس الأخلاق نفسها الادعاءُ، باسم الواقعية، بأن الفعالية هي المعيار الحاسم لقيمة أعمال الإنسان. فعلى منحدَر كهذا، سرعان ما يصل تدهور الأمر إلى تأكيد الشرعية الأخلاقية للعنف ما إنْ يَبْدُ بوصفه الوسيلةَ الوحيدة القادرة على ضمان فعالية العمل.[12] لأن ما تقدمه محاضرة إستراتيجية العمل اللاعنفي هو، بشكل أساسي، تقنيات وأدوات قد تكون فعَّالة على أرض الواقع، لكنها ليست هي الأساس، لأنه من قبيل الخطأ المنهجي حتمًا... [...] الحكمُ على فعالية اللاعنف بحسب المعايير التي نقدِّر بها فعالية العنف. [حيث] ينبغي القطع مع المفهوم محض الأداتي للفعالية، مفهومها محض الآلي والتقنوي techniciste، وباختصار مفهومها المادي. فالحكم على فعالية عملٍ ما يجب أن يتم وفقًا للتأثير الذي تمارسه على علاقة الضمائر، وليس فقط بحسب الأثر الذي تُحدِثُه على توازن القوى.[13] ولأن اللاعنف ليس إيديولوجيا، بل هو أصلاً، في الأساس ومن حيث المبدأ، خيار وجودي روحي الجوهر.[14] وهذا ما يجعله، من حيث العمق، أقرب إلى الفلسفة التي... [...] تتوضع [...] على صعيد آخر غير [الـ]ـصعيد الإيديولوجي. فبينما الإيديولوجيا تأكيد مغرور صاخب لعقيدة قطعية معصومة، فإن الفلسفة بحث متواضع ومتأنٍّ وصامت عن الحقيقة.[15] مع التأكيد هنا (كما قال جان ماري) على أن هذا لا يعني على الإطلاق أنْ... [...] ليس هناك إلا فلسفة واحدة للاَّعنف، بل يعني أن مبدأ اللاعنف موجود في القلب من كل فلسفة تنتسب إلى الحكمة؛ وهذا يعني، في عبارة أخرى، أن مبدأ اللاعنف موجود في ملتقى جميع الفلسفات.[16] بل يعني، أيضًا وخاصةً، كـ...
4 أنه... 1. ليس بوسع اللاعنف، بأيِّ حال من الأحوال، أن يكون على أرض الواقع العملي تنظيمًا سياسيًّا يسعى إلى السلطة. ما بوسعه، كحدٍّ أقصى في هذا المضمار، هو أن يكون "جبهة" تجمع، في لحظة وفي ظروف معينة، مختلف الأشخاص والتنظيمات التي تقبل به مبدئيًّا أداةً فعالة لمحاربة الظلم وإزالته. 2. لا يمكن للاَّعنفي، بأيِّ حال من الأحوال، أن يكون طالبًا لأية سلطة زمنية: فهذه لا تهمه إلاَّ بمقدار ما تعنيه مجابهتها، وحتى في أقصى الأحوال إزالتها، من موقف مبدئي رافض للظلم، ساعٍ في إزالته. 3. أمَّا فيما يتعلق بـ"الثورة الدائمة" فهي، كما نفهمها، ليست على الإطلاق بنظر اللاَّعنفي ذلك الحِراك الدائم خارج إطار القوانين والمؤسَّسات وتجاوُز الطرق التي يمكن أن تؤمنها له وللجميع أنظمة الدولة الديموقراطية وقوانينها ومؤسساتها، بل هو، أولاً وأخيرًا، كما نفهمها، على صعيد كلِّ إنسان، تلك المراجعة الدائمة والمستمرة للذات وللمفاهيم والقيم والعقائد والأديان، لأن... [...] فريضة اللاعنف هي دعوة إلى "انقلاب" conversion: انقلاب في القلب، في النظرة، في الفطنة. وكل انقلاب هو قطيعة وانشقاق وتجاوُز وزحزحة وإزعاج وبلبلة وتحول وجنوح وارتحال. كل انقلاب فهو شروع في السفر؛ لكن كلَّ "سَفَر" إبداع جديد. فلكي يصمِّم المرء على اللاعنف، ينبغي أن يستيقظ من النوم الوجودي الذي تغفو فيه إنسانيتُه. ففي هذا النوم، يذعن الفرد إذعانًا سلبيًّا لعادات المجتمع القديمة التي لا طاقة له على التشكيك فيها. فماذا ينبغي له في النهاية أن يقرِّر؟[17] وهذه هي وحدها، من منظورنا، وبنظر اللاعنفي، الثورة الدائمة! *** *** *** [1] جان ماري مولِّر، قاموس اللاعنف، معابر للنشر، ص 237. [2] المرجع نفسه، التعريف نفسه. [3] المرجع نفسه، التعريف نفسه. [4] قاموس اللاعنف، ص 28. [5] المرجع نفسه، التعريف نفسه. [6] تضع معابر تحت تصرف قرائها، في عددها الخاص السابع حول ورشة عمل "اللاعنف، الثقافة، التربية"، النصين الكاملين لكلتا المحاضرتين. [7] هذه الفقرة مأخوذة حرفيًّا من كتيِّبه اللاعنف في العمل، الفقرة 15 بعنوان "الثورة الدائمة". [8] قاموس اللاعنف، ص 119. [9] قاموس اللاعنف، ص 146. [10] راجع الجزء الأول من محاضرة جان ماري حول "اللاعنف: المبادئ الفلسفية" والمناقشات التي تلتها، معابر الإصدار الخاص السابع. [11] هذا ما كانوا يعلِّموننا إياه في الحزب الشيوعي مثلاً! [12] قاموس اللاعنف، ص 212. [13] المرجع نفسه، التعريف نفسه. [14] المرجع نفسه، التعريف نفسه. [15] قاموس اللاعنف، ص 56. [16] قاموس اللاعنف، ص 219. [17] قاموس اللاعنف، ص 237.
|
|
|