|
تألُّه
الكوسموس مقابلة
مع برايان سويمِّي حول تِلار دُه شاردان في مطالعاتنا وفي البحث
الواسع المدى الذي أجريناه حول مستقبل الخبرة
الروحية والمصير الروحي للأرض، وقعنا،
مرارًا وتكرارًا، على اسم الأب اليسوعي
والباليونتولوجي الفرنسي، المعاصر لأواسط
القرن الماضي، بيير تِلار دُه شاردان. لقد
باتت كتاباته الرؤيوية، كما تبيَّن لنا،
مصدرًا هامًّا استوحى منه واستلهم العديدُ من
العلماء والإيكولوجيين والمستقبليين
والثيولوجيين الذين يتعاطون مسائل حرجة حول
وضع الأرض ومكانة الكائن الإنساني فيها.
وعندما قرأنا مقتطفات من كتب تِلار الظاهرة
الإنسانية والوسط الإلهي ومستقبل
الإنسان فهمنا سبب ذلك على الفور.
لقد عكف برايان سويمِّي
سنين طويلة على دراسة فكر تلار. فهو – العالِم
المهتم اهتمامًا مقيمًا بالتفاعل بين العلم
والروحانية – قد تأثَّر ولعُه وفهمُه
تأثُّرًا عميقًا بأفكار تِلار. فمَن يحيي
رؤيا تِلار – فكَّرنا – خيرًا منه؟ إن
سويمِّي يصف اكتشافه لتِلار في تقديمه لترجمة
سارة أبلتون–فيبر الجديدة لكتاب الظاهرة
الإنسانية: ثمة
أيام في مدينة نيويورك لا ترى فيها الشمس
البتة، بل تحس بحضورها وحسب في هبَّات الهواء
الساخن التي تكتسح وديان البيتون وفي موجات
الحَرِّ التي تشع متصاعدة من الإسفلت. وعندما
صارت ثيابي أخيرًا مشرَّبة تمامًا بعرقي
ووجدت نفسي تائهًا للمرة الثالثة، أغراني
الاختباءُ في فندق ما مكيَّف الهواء؛ لكن كان
حسبي أن أتذكر بؤسي لكي أستمر في المضيِّ
قُدُمًا. كنت مؤخرًا قد استقلت من عملي كأستاذ
للرياضيات والفيزياء، وكنت آنذاك أبحث عن
الحكمة، وكان عدد من الناس قد دلَّني على
نيويورك، ولا سيما [آوريليو بيتشييْ]، مؤسِّس
نادي روما، ذلك التجمع الخصب من المفكرين
والرؤيويين الكوكبيين. فعندما سئل بيتشييْ،
وهو على فراش الموت، بمَن يوصي خيرًا بين
مجموع العقول اللامعة التي عمل معها، أجاب
ببساطة: "خير آمالنا هو توماس بِرِّي." بوصولي
إلى مركز أبحاث ريفرديل الذي أسَّسه بِرِّي
ودعوتي إلى مكتبته، كانت آمالي قد بلغت
أوْجَها. أصغى إليَّ بانتباه، وأنا أحاول أن
أشرح بؤسي وتشوشي أمام مشهد تدمير الكوكب وما
يجب فعله حيال ذلك. وبعد صمت طويل، ومن دون أن
يتفوه بكلمة، سحب توماس بِرِّي كتابًا من
آلاف الكتب على رفوف مكتبته، وبوجه صارم
التقاطيع طوَّح عبر الطاولة بكتاب تِلار دُه
شاردان العظيم الظاهرة الإنسانية.
أصابتني
الخيبة من فوري. فمادة هذا الكتاب بالية. هل
جئت قاطعًا تلك المسافة كلِّها عبر القارة
لأستلم كتابًا سبق لي أن قرأته في مدرستي
الثانوية اليسوعية؟ والأنكى أن عددًا من
العلماء المرموقين اعترضوا على أفكار تِلار
– فما لبثت أن أثرتُ تلك المسألة. اكتفى توماس
بِرِّي بابتسامة، انفرجت عن ضحكة مجلجلة. "كان
تِلار أول مَن رأى الكون رؤية جديدة؛ لذا كان
لا بدَّ من أن يُنتقَد، فيما أرى. إذا
بلبلتْكَ آراءُ ثلة من العلماء، فكم بالحري
سيبلبلكَ ما كتبه بعض الثيولوجيين! الصعوبة
أساسًا هي صعوبة في المقياس. فكل محاولة لفهم
تِلار لا تنطلق من جملة الحضارات برمَّتها،
كما ومن البانوراما الشاسع للكون المتطور،
مقضيٌّ عليها بالإخفاق؛ إذ إنها ببساطة أصغر
من أن تحيط بما يتكلَّم عليه. وقطعًا حصلت
أوضاع مشابهة في تاريخ العلم." تقاطرت
على ذهني خواطر عن ألبرت أينشتاين ونيلز بوهر
والثورات التي أطلقاها وكيف استعصت هذه
الثورات على الدخول في عالم الفيزياء
الاتباعية؛ لكنه طرح السؤال طرحًا تقريريًّا
وحسب. ثم ما لبث أن أنهى لقاءنا القصير، لكنْ
ليس قبل أن ينطق بعبارة من العبارات التي لا
تُنسى: "أن نرى كما كان تِلار يرى – ذلك
تحدٍّ؛ لكن رؤياه باتت متاحة لنا أكثر فأكثر.
وإني أتوقع جازمًا أن تِلار سيُعتبَر في
الألفية القادمة عمومًا في عِداد المفكرين
الأربعة الكبار في المنقول المسيحي الغربي.
وهؤلاء هم القديس بولس، أوغسطينوس، توما
الأكويني، وتِلار." ثم
ابتسم من جديد، مدرِكًا مقدار ما ينبغي أن
يقال على سبيل الشرح، لكنْ عارفًا أيضًا أنني
لن أكون قادرًا هذه المرة على استيعاب هذا
الأمر. ثم أشار إلى الكتاب الذي كان وضعه بين
يدي: "ابدأ بتِلار. فلا مناص من قراءة
مؤلَّفاته عن كثب." وهكذا
شرعت في القراءة وحدي، مناقشًا الأفكار مع
توماس بِرِّي مرة في الأسبوع. وكنت أعجب من
حجم التاريخ الفكري للعالم الذي لا بدَّ من
العودة إليه، على ما يبدو، دعمًا لقراءتي. إذ
كان ينهل دائمًا ليس من الفيزياء والبيولوجيا
وحسب، بل ومن الفلسفة والشعر واللسانيات
والموسيقى، وفوق ذلك كلِّه، من التاريخ
العالمي والكوسمولوجيا. وبمرور الشهور، بدأت
أفطن إلى أن مقولات عقلي الأساسية كانت تعاني
نوعًا من التغيير. لقد بدأت الافتراضات غير
المفحوص عنها التي كانت تنتظم اختباراتي في
العالم بالتلوِّي تحت وطأة كوسمولوجيا تِلار
الهائلة والنافذة..."
غلاف
كتاب برايان سويمِّي قلب الكوسموس الخفي وقد تسنَّم تأمل
سويمِّي المكثف في أعمال تِلار ذروته في
اختبار روحي عميق اجتاحه ذات يوم وهو يتنزَّه
مع ابنه ذي الأربع سنوات في غابة شمال مدينة
نيويورك. لقد كان تجلِّيًا للنار
السِّرَّانية المتقدة في القلب من رؤيا
تِلار، آنة أبدية من التعرف الحيِّ إلى
احتدام الكوسموس الخلاق، الملتهب صُعْدًا –
رؤيا ما تزال تنبض بالحياة في أعماقه حتى
اليوم. ففي نهاية حديثنا حول بيير تِلار دُه
شاردان وأفكاره، اعترف سويمِّي ضاحكًا: "يا
لتِلار العزيز الطيب! لم أبرأ من ذلك اليوم قط." سوزان
برايدل *** سوزان برايدل: كان تِلار دُه شاردان مفكرًا
عظيمًا، أثَّر في فهمك أنت بالذات تأثيرًا
عميقًا. فهل لك أن تكلِّمنا بعض الشيء على
تِلار – مَن كان، وماذا كان في اعتقادك أهم
إسهاماته؟ برايان سويمِّي:
كان يسوعيًّا باليونتولوجيًّا فرنسيًّا عاش
بين عامي 1881 و1955. أهم إنجازاته كان الإفصاح عن
المغزى من سيرة التطور الجديدة. كان أول
مفكِّر عظيم في الغرب أفصح إفصاحًا تامًّا عن
تطابُق – أو تلازُم – التطور مع القدسي. لقد
توصَّل تِلار دُه شاردان في الغرب وشري
أوروبندو في الهند إلى الرؤيا الأساسية نفسها
حقًّا، ومفادها أن تفتُّح الكون هو تطور
فيزيائي، وهو كذلك تطور روحي. أعتقد أن هذا هو
إسهامه الرئيسي. فمن ناحية، ثمة هذا المنقول
المهول عن الله أو برهمن؛ وثمة، من ناحية
أخرى، هذا المنقول عن التطور – وأتباع كلٍّ
من المنظورين ينزعون إلى نقد الآخرين نقدًا
لاذعًا. المسيحيون يقولون: "التطور، ذلك
مرعب!" والعلماء يقولون: "الإيمان بوجود
الله، ذلك مرعب!" أوروبندو وتِلار جمعا
بينهما. لذا أنظر إلى كليهما كعبقريين ألَّفا
بين الرؤيتين. لقد حاول تِلار أن يتخطَّى
ثنوية ذاتي/موضوعي الأساسية السائدة على جانب
كبير من الفكر الغربي. بدأ حقًّا برؤية الكون
كحَدَثٍ واحد للطاقة هو، في آنٍ معًا،
فيزيائي ونفساني أو حتى روحاني. أعتقد أن هذا
هو إسهامه العظيم: لقد بدأ يرى الكون رؤية
متكاملة، ليس كمجرد مادة موضوعية، بل بوصفه
تسري فيه وتتخلَّله طاقةٌ نفسية أو روحية. كذلك، فيما أرى، فكرة تِلار
المركزية هي قانونه في "التعقيد–الوعي".
فهو ينظر إلى هذا القانون بوصفه القانون
الأساسي للتطور. يرى أن السيرورة بأسرها هي
سيرورة تعقيد العقل أو الذاتية وتعميقهما.
حركة الكون بأسرها في تعقيده هي، في الآن
نفسه، حركة غوص أو استبطان في أعماق الوعي.
لقد رأى الأمر برمَّته كسيرورة فيزيائية–بيولوجية–روحية.
إنه هو الذي رأى الأمر كلَّه مجتمعًا. بوسعكِ
أن تلخِّصي فكره تلخيصًا مبسَّطًا، فتقولي إن
الكون يبدأ مع المادة، ثم يتفتح حياةً، ثم
ينبسط فكرًا، ليفصح في المآل عن الله. تلك هي
رؤياه ككل – هاهنا بالضبط. جليٌّ، بالطبع، أن
هذا الإله الذي يتم الإفصاح عنه – ليس
المقصود من ذلك أن المادة تفتحت عن الله.
فالله حاضر منذ البداية نفسها، إنما حضورًا
منطويًا كامنًا؛ والكون هو الذي ينجز هذا
العمل العظيم، عمل استظهار الألوهة. س ب: فماذا كانت رؤية تِلار للطبيعة
ولدور الإنسان في التطور؟ ب س: نظرته
هي أن ولادة الوعي المنعكس على ذاته في البشري
كانت لحظة فاصلة في رحلة الأرض. لقد قال بأن
اكتشاف البشر للتطور يمثل أكثر التغيرات
دراميةً في الذهنية البشرية إبان المليوني
سنة الأخيرتين. يفكِّر المرء في إعلان
الحقوق، في الرحلة إلى القمر، في الأديان
الكبرى، في كلِّ هذه الأشياء التي لا تصدَّق
– لقد كان يعتقد بأن هذه الأشياء كلَّها
ثانوية بالمقارنة مع اكتشاف الوعي البشري هذا
للتطور. لقد رآه بوصفه "الكون منطويًا على
نفسه من جديد". هناك جميع هذه المخلوقات
التي تحيا في الطبيعة؛ ثم، فجأة، يظهر هذا
المخلوق الفريد الذي يلتفت إلى الطبيعة خلفه
ويتفرس فيها ويقول: "ماذا تنوين بالضبط؟"
لقد رأى ذلك الانعطاف بوصفه أساسيًّا. وقد عمل
على المزيد من استكشاف هذه الفكرة – وأنا أحب
هذه الفكرة – بالكلام على الأرض كسلسلة من
الأغلفة. هناك، أولاً، الغلاف الحجري، أو
الطبقة الصخرية السطحية؛ ثم ينبسط الغلاف
الجوي، ثم الغلاف المائي، فالغلاف الحيوي.
لكنه يرى بأن هناك، في زماننا، طبقة أخرى
تنضاف، وهي "الكرة العقلية" noosphère
– طبقة تتولد
من الفكر الإنساني. وليس بإمكان المرء فهم
الأرض ما لم يرها عبر هذه الطبقات. والطريقة
التي استحوذت بها هذه الفكرة على المخيلة
المعاصرة هي في انتشار الإنترنت – يكاد الأمر
يكون أشبه بالشبكة العصبية للكرة العقلية.
غلاف
فيلم مخيلة الأرض بتعليق برايان سويمِّي س ب: أصدرت مجلة Wired منذ مدة مقالاً عن تِلار يشير
إلى هذه النقطة. لكنهم غالوا بعض الشيء، فبدوا
وكأنهم ساوَوْا بين كرة تِلار العقلية وبين
الإنترنت، طارحين أن رؤياه كانت ببساطة من
إرهاصات الإنترنت. ب س: نعم.
أظن أن هناك طرقًا مختلفة لاختزال فكره
وتفويت أجزاء منه على الفهم؛ وإحداها قولنا
إن الكرة العقلية هي الإنترنت. لكنْ تِلار،
بالطبع، سيقول إن فيه، ككلِّ شيء في الكون،
بُعدًا فيزيائيًّا بقدر ما فيه بُعد روحي. س ب: ما هو المغزى من صيرورتنا
واعين لسيرورة التطور؟ ب س: لقد
أعطى تِلار مقايسة عظيمة. إن لحظة استيقاظنا
كنوع أشبه ما تكون بما يحدث في الفرد وهو في
السنتين من عمره تقريبًا. لا أعرف الوقت بدقة،
ولكن تأتي لحظة يعي فيها الطفل الصغير إدراك
بُعد العمق للمرة الأولى. وهكذا فإن ثمة إعادة
ترتيب للظواهر، في حقلها الظواهري، ضمن
البُعد الثالث، بالتعارُض مع الخارطة
الثنائية البُعد. لقد قال بأن النوع يكابد ذلك
الآن بالضبط – بمعنى أننا نكتشف عمقًا للزمن.
فقبلئذٍ كنَّا نرى كلَّ شيء في إطار هذا
المكان الأصغر بكثير، والآن – "طاخ!" –
ينفتح الكون ككل على أعماق الزمن. تِلار طرح كذلك ذلك المصطلح
المسمَّى بـ"الأنْسَنَة" humanisation. والأنسنة هي الطريقة التي
يحوِّل بها الفكرُ ممارسات الأرض ووظائفها
الموجودة سابقًا. دعيني أقدِّم لكِ مثالاً
على ذلك: الأرض تتخذ قرارات طوال الوقت، تتخذ
خيارات؛ وبالمعنى الواسع، يسمَّى هذا
بالاصطفاء الطبيعي. لكن عندما تقحمين الفكر
الإنساني فيه فإنه يتفجر في مجموع القرارات
التي نتخذها على الأرض قاطبة. فالقرار
الإنساني "أنْسَنَ" سيرورة الاصطفاء
الطبيعي – في السراء والضراء. وكل ما قد
وُجِدَ، من الماضي إلى الآن، يمر عبر سيرورة
الأنسنة هذه. مثال آخر على ذلك هو الثدييات
الفتية والطريقة التي تلعب بها: إنها تتعابث
وتختبئ وتتسابق؛ ونحن نؤنْسِن ذلك بإيجاد
صناعة الرياضات والفنون والتسلية الهائلة
هذه برمَّتها. كل شيء يبدو وكأنه يكابد هذا
التفجر عندما تلامسه المخيلةُ البشرية. أما رؤيا تِلار القصوى عما يجري
مع البشري فهي أنسنة المحبة. أتدرين أنه كان
يعدُّ قوة الثقالة الجاذبة شكلاً من أشكال
المحبة، ويرى كذلك أن الطريقة التي ترعى بها
الحيوانات بعضها بعضًا شكل من أشكال المحبة؟
وهكذا فإن من شأن أنسنة المحبة أن تركِّز ذلك
وتوسِّعه لكي تجعل منه قدرة هائلة في مستقبل
تطور الأرض. وتلك هي عبارته الأشهر: "سيأتي
يوم نُسْرِجُ فيه لله طاقات المحبة. ويومذاك،
للمرة الثانية في تاريخ العالم، سيكون الكائن
البشري قد اكتشف النار." س ب: كيف يمكن لصيرورتنا واعين
للسلَّم التطوري للزمن أن تُعِين "تفتُّح
الكون عن الله" – كما سبق لكَ أن قلت – أو
أن تعزِّز استحضار الله من خلال الوعي
الإنساني؟ ب س: لقد
كان لديه شعور بأن تغييرًا عميقًا على مستوى
الكينونة – تغييرًا في القلب، تغييرًا في
الذهن، تغييرًا في الجسم الفعلي – يمكن له أن
يحدث في البشري الذي يتعلم أن يرى الكون
يتخلَّله الفعل الإلهي. وقد عوَّل الكثير
جدًّا على هذه الكلمة: "الرؤية" Voir. وبذلك فإن مفهومه عن الرياضات الروحية
يتمثل في تنمية تلك الصفات الضرورية لنا لكي
نفقه ذلك حقًّا، لكي نرى حقًّا أين نحن. فمن
الأمور التي تكلم عليها كيفية نزوعنا إلى
الاستغراق في الأعداد الغفيرة، وبذلك قال إن
علينا أن ننمِّي فينا القدرة على رؤية
النماذج في الأعداد الغفيرة. وفيما نحن
ننمِّي هذه القدرة، بدلاً من أن ننسحق تحت
وطأة شساعة الكون، سوف نتصادى فجأة، بدلاً من
ذلك، مع الكون ككل، بوصفه الشكل الخارجي
لروحنا الداخلية نحن. تلك كانت صرخته في البشر
من أجل أن ينمُّوا هذه القدرات. كذلك كانت نظرته إلى المنقولات
الروحية عمومًا هامة فيما يخص ذلك. فكأنه يقول
بأن الأبدية أيسر منالاً من التطور. لقد اعتبر
فكرة الصحوة على الأبدية فكرة ذات مغزى عظيم
في التاريخ الإنساني – لكنها ليست في مثل
صعوبة الصحوة على طبيعة الكون الزمنيةِ
التفتُّحِ أو التطورية. س ب: ماذا تقصد بـ"الصحوة على
الأبدية" في هذا السياق؟ ب س: أقصد
بها كيفية انبثاقنا، في أية لحظة، عن
الأبدية، آنةً بعد آنة. لقد نظر تِلار إلى
التملص من وَهْم الزوال وإلى استشراف اللحظة
المطلقة كحَدَثٍ صوفي عظيم في حياة الفرد،
كما وفي الرحلة البشرية. لكنه قال إن الإنجاز
والتحدي الأعمق والأشق أمامنا هو الصحوة على
طبيعة الكون الزمنيةِ التفتُّح. فالرحلة
بأسرها هي هذه الآنة – إنها ليست العام 2000
وحسب – وهذه الآنة هي كذلك ولادة الكون نفسه.
لكنها – وهذا هو الأخطر فيما يتعلق بهذه
المناقشة حصرًا – آنة "المستقبل المطلق"
كذلك. إن التحدي الماثل أمامنا هو تحدي
المستقبل المطلق مستدعيًا الحاضر. وهذه هي
صوفيَّته حقًّا. لقد قال بأن المرء، إذ يتعلم
الرؤية، إذ يصير يقظًا ومنتبهًا في هذا
الكون، يشعر بنداء الإله غير المولود بعد
وبحضوره يتطلبان نمط العمل الخلاق الذي يتمخض
عن الآنة التالية في سيرورة دعاها "التألُّه"
divinisation
أو يرشداننا إليه. س ب: هذا أمر فكَّرنا فيه طويلاً
ونحن نتأمل في المستقبل الروحي للكرة الأرضية.
مرارًا، في المنقولات الشرقية، يتم التركيز
حصرًا على "الصحوة على الأبدية" التي كنت
تصفها لتوِّك. أما في فكر تِلار، فهناك نداء
آخر: هناك نداء من أجل أن يتجلَّى كمال المطلق
في الشكل – من أجل أن يحدث تعقيد أعظم فأعظم،
نظام أعظم فأعظم، كمال أعظم فأعظم، في الشكل،
في الزمن، في المكان، في المادة. يبدو أن
تِلار يجمع المطلق والمتجلِّي في رؤيا
لاثنوية بحق تبدو فريدة فعلاً. ب س: صحيح.
أحب توجُّهَه ونظرتَه إلى الأديان النقلية.
فهو يقول إن مستقبل المنقولات الروحية على
كوكبنا يتعيَّن بالدرجة التي ستعزِّز بها
سيرورة التألُّه. وهو يطرح فكرة أن واحدة من
الصعوبات هي أننا، حتى هذه اللحظة، ملنا إلى
رؤية أنفسنا ضمن هذه المنقولات. أما الآن، على
حدِّ قوله، فقد أصبح الكون بأسره هو موطننا.
هي، إذن، وسيلة لإعلاء شأنها، لكن مع رؤيتها
من المنظور الخاص بالسياق الأقصى – الذي هو
الكون ككل. س ب: لعل أشهر ما يُعرَف به تِلار هي
فكرته عن "نقطة أوميغا". لقد أضحى
المصطلح شعبيًّا للغاية، لكن يبدو أن ثلة
صغيرة من القوم فقط تفهم حقًّا ما قصد به. هلا
شرحتَ لنا نقطة أوميغا تِلار؟ ب س: بـ"نقطة
أوميغا" قصد تِلار كونًا صار الله. قصد بها
الله في صورة متجسِّمة. لقد نظر إلى نقطة
أوميغا كشيئين اثنين: إنها حَدَث يتحرك
الكونُ باتجاهه، في المستقبل. غير أن ما تخيله
أيضًا – الأمر الذي يصعب علينا أن نتصوره –
هو أن نقطة أوميغا، على كونها موجودة في
المستقبل، تبذل قوة على الحاضر. عندما نفكر في
نقطة أوميغا، يصعب علينا، في وعينا الغربي،
أن نتجنب تخيُّل الأمر كخطٍّ توجد نقطة
أوميغا في آخره. أما تفكيره فلم يكن على ذلك
النحو؛ إذ كان يرى أن نقطة أوميغا تتخلَّل
السيرورة برمَّتها. لقد تخيل تأثير نقطة
أوميغا يشع القهقرى من المستقبل إلى الحاضر.
المستقبل، بطريقة سرية ما، حاضر هاهنا الآن.
وقد ذهب تِلار إلى أن الطريقة التي يتواجد
فيها المستقبل هاهنا هي في خبرة انجذابنا أو
استدراجنا، أو في "صبوتنا". وتلك هي
الكلمة التي استعملها – "صبوة" – وأنا
شغف بذلك أيما شغف. نحن – و"نحن" هنا تعني
أيَّ شيء في الكون – مستدرَجون إلى الأمام،
وهذه القوة الجاذبة التي تستدرجنا هي ما
يُطلِق سيرورةً تفضي إلى كينونة أعمق أو أعظم.
وذلك الجَذْب اعتبرَه محبة، وهو الدليل على
حضور نقطة أوميغا. فعندما تختبرين ذلك
الجَذْب، تلك الصبوة، فأنت تختبرين
المستقبل، تختبرين نقطة أوميغا، تختبرين
الله، تختبرين قَدَركِ ومآلك.
س ب: ماذا يعني للكون أن يصير الله؟ ب س: بما
أننا موجودون وسط هذه السيرورة، فأحسن ما
تستطيع مخيلتنا أن تتفتق عنه هي صور مجازية
فجة. تتراءى لنا ومضات وتبصُّرات صغيرة وحسب.
أما الصورة التي أنا مولع بها فهي الآتية:
لديكِ صخر منصهر، ثم، من تلقاء ذاته، يتحول
إلى أمٍّ بشرية ترعى طفلها. ذلك تحول مدهش
نوعًا ما. بالطبع يتطلب هذا التحول أربعة
مليارات من السنين. لديكِ السيليسيوم، لديكِ
المغنيزيوم، ولديكِ عناصر الصخر كافة؛ وهذه
تصير العين الزرقاء الشفافة والشعر البني
الجميل وهذا الحس العميق بالمحبة والاهتمام
وحتى بالتضحية من أجل الطفل. ذلك تحول عميق في
الصورة. المحبة والحقيقة والرحمة والصبوة
وهذه الصفات جميعًا التي نعتبرها إلهية تصير
متجسِّمة تجسُّمًا أقوى في الكون. لعل في تلك
الصورة ما يشي بفكرتي حول صيرورة الكون
إلهيًّا. س ب: إذن، فهي عملية صيرورة الله
أكثر فأكثر تجلِّيًا أو تجسُّمًا في أشكال
الكون؟ ب س: أجل،
بالضبط. تكلم تِلار كذلك بلغة "استيلاد
الشخص" enfanter
la personne. فعلى
سبيل المثال، زميلكِ كريغ موجود هنا في الطرف
الآخر من الغرفة. لكنكِ إذا عدتِ إلى الوراء
خمسة مليارات سنة، فإن ذرات جسم كريغ كلَّها
كانت متناثرة على مدى مائة مليون ميل.
والسيرورة، مهما بلغت من الغموض – سيرورة
المادة نفسها متشكِّلة في الشخص أو التشخصُن
– هي ما اعتبره تِلار ماهية التطور. فالتطور
ليس باردًا. لقد رأى نقطة أوميغا بوصفها تلك
السيرورة عينها التي يتم عبرها استيلاد هذا
الشخص الإلهي الجديد المحيط أو تَحقُّقه –
ليس عبر جميع الذرات المتفاعل بعضها مع بعض
وحسب، ولكن كذلك عبر "أشخاص" البشر
والحيوانات الأخرى كافة. نحن جميعًا، معًا،
جزء من هذه السيرورة نفسها، بحيث إن الكون
بأسره يصير جسم الله. وحتى تدركي مقدار جذرية
نظرة تِلار، فكِّري في حيوان، ثم ذوِّبيه
رجوعًا بالزمان إلى الوراء في مخيلتك، حتى
الخلايا الفردية. قبل حوالى سبعمائة مليون
سنة لم تكن ثمة متعضِّيات عديدات الخلايا.
فإبان ما يزيد عن الثلاثة مليارات سنة، لم تكن
توجد ثمة إلا متعضِّيات وحيدات الخلية. فإذا
اتفق لكِ أن تعرفي حيوانًا عن كثب فلا بدَّ أن
تدركي بأن للحيوان شخصيةً فعلاً. لكن الشخصية
شيء تستدعيه خلايا الحيوان. الأمر غامض بحق.
إذ إن شخصية الحيوان حقيقية؛ لكن تلك الشخصية
تستدعيها الخلايا. بذلك فإن الأعضاء الأفراد
في الكون، بنظر تِلار، هم فعليًّا منخرطون في
سيرورة استدعاء الشخص الإلهي. إننا بالفعل
نستولد شخصية ذهنية روحية أوسع وأكثر إحاطة. س ب: بمعنى من المعاني، لم يكن ذلك
أقل صحة قبل 65 مليون سنة منه الآن. لكنْ، في
الوقت نفسه، البشر يصيرون الآن واعين لتطورنا
ولمشاركتنا الواعية في هذه السيرورة الأوسع.
كيف، برأيكَ، غيَّر ذلك في هذه السيرورة؟ ب س: طيب،
أعتقد أن الفارق هو في أنه بينما يشارك كلُّ
عضو في الكون في بناء الكوسموس، فإن هذه
المشاركة تتواصل بدون انعكاس واعٍ عليها. نحن
كذلك نشارك في بناء الكوسموس، لكننا على وعي
بأننا نفعل ذلك. ذلك هو الفارق الأساسي للكائن
الإنساني. إننا نقر بحدوث هذه السيرورة،
ونستطيع بالفعل أن نصحو على أننا نقوم بذلك
فاعلين. إننا لا نفعل ذلك وحسب، بل نصحو على
كوننا نفعله. وهذا، بالتالي، يتطلب التفتح
الروحي، بحيث نتمكن من إيجاد طريقنا بين
طرفَيْ كيفية ميلنا إلى الاستجابة لهذا الأمر.
فمن ناحية، يمكن لما يعنيه ذلك أن يطغى علينا،
فتجمِّدنا المسؤولية، بما يجعلنا نحرف
أنفسنا عن اعتناق ذلك المصير فعلاً. وأعتقد أن
هذا كثيرًا ما يحدث. ذلك هو المأزق الذي وقعت
فيه مدنيتنا الحالية، في معظمها. غير أن الطرف
الآخر بالفعل ليس أقل سوءًا: نصير من الانتفاخ
بطرب ذلك الدور، بحيث إننا نرجِّح التفكير
بأننا الفعل الحقيقي للكون، وبأن الإنسان
والاستنارة الإنسانية هي كل ما يهم. لكني لا
أعتقد أن الأمر كذلك. إننا بالأحرى نشارك في
هذا الحَدَث الهائل، الشاسع، المتشابك، ونحن
عضو من أعضاء هذا المجموع؛ لكنْ يبدو أنه
مقدَّر علينا بصفة خاصة التفكُّر في هذا
الأمر والمشاركة فيه مشاركة واعية. لذا أحاول
أن أشدد على الفرادة هنا – لكنْ ثمة، في
الوقت نفسه، مساواة. كلا الأمرين معًا.
نحن فريدون في دورنا الخاص؛ لكنْ على الصعيد
الأونطولوجي هناك مساواة. فنحن لسنا، على نحو
ما، أرقى من القمر أو من البلانكتون النباتي
أو من العناكب أو من أيِّ شيء آخر. كل واحد من
هذه جوهري. س ب: ما أهمية فهم تِلار للتطور
ولدور الكائن الإنساني من أجل أزمتنا
الكوكبية؟ ب س: ثمة
نقطتان أود أن أطرحهما: أولاً، تمكِّننا
أفكارُ تِلار في التطور من البدء بتقدير
المغزى الحقيقي من لحظتنا. فمن العسير للغاية
علينا أن نفهم حقًّا معنى أن نتخذ قرارات
سيكون لها وَقْعٌ على العشرة ملايين سنة
القادمة. فحتى إذا فهم المرء الفكرة، فإن هذا
يتم على مستوى واحد من مستويات ذهنه. لذا
تُعتبَر دراسة فكر تِلار وأعماله رياضة روحية
غايتها البدء بالتفكير على المستوى المطلوب
من البشر أن يفكروا عليه اليوم – التفكير
بلغة مقاطع زمنية مقدارها ملايين السنين، على
سبيل المثال. فما أصعب على الناس أن يفقهوا
ذلك! والشيء الثاني الذي أود أن
أقوله هو أن معظم النقاش الإيكولوجي مؤطَّر
بالسلبيات لأن التدمير الحاصل هو من الترويع
بحيث إن أيَّ امرئ يملك أيَّ قسط ضئيل من
الذكاء، حالما ينظر إليه، يستحوذ عليه مجرد
مقدار الرعب فيه. إن واحدًا من إسهامات تِلار
العظيمة هي أنه يمكِّننا من البدء في تخيل أن
هذه النقلة تنطوي، على الأقل، على إمكان
الإفضاء إلى كيفية حياة مجيدة حقًّا في
المستقبل، ورؤياه تشحننا بالطاقة التي نحتاج
إليها لتحمُّل مصاعب هذا الجهاد. وذلك،
بنظري، هام للغاية. إنه يستطيع أن ينشِّط
الصبوة العميقة، العميقة، العميقة إلى
الحياة والوجود، المطلوبة، فيما أرى،
للقيادة الحقيقية في زماننا. *** *** *** أجرت اللقاء: سوزان
برايدل ترجمة: ديمتري
أفييرينوس |
|
|