english arabic

 نظرةُ عالِمٍ إلى

دور الإنسان في التطوُّر

 

أ. لِسْتِر سميث

 

حصلتْ تغيراتٌ عظيمة إبان العشرين سنة الماضية في نماذج الفكر العلمي حول طبيعة الإنسان ودوره في السيرورة التطورية التي هو جزء منها. إذ إن الفتوح التكنولوجية والمصادر الجديدة للطاقة التي ما كانت لتخطر بالبال قبلئذٍ قد وضعت غزو الفضاء حتى في نطاق المساعي البشرية. الآفاق تتوسع إلى ما لا نهاية، والحكمة القديمة – "أيها الإنسان، اعرفْ نفسك" – تلح علينا لئلا نستخدم معرفتنا بالقوى الطبيعية في خدمة الدمار التام.

هذه التطورات تطرح على الإنسانية تحديًّا غير مسبوق لاكتشاف الدور المنوط بها فيما يتعلق بكلِّية الحياة على هذا الكوكب ولقبول هذا الدور.

مهما شدَّدنا بقوة على أن الإنسان فريد بين المخلوقات، على أنه ليس مجرَّد نوع من الأنواع الحيوانية العليا، سنبقى مقصِّرين. فالإنسان يتحلَّى بالإرادة وبالفردية على نحو جديد تمامًا، بما يختلف فيه مع الحيوانات. الإنسان هو محور السيرورة التطورية.

لقد ضرب بيولوجيون روَّاد على النغمة الأساسية لنظرة جديدة إلى دور الإنسان في سيرورة الإبداع. فالسير جوليان هكسلي، على سبيل المثال، أعلنها حقيقةً علميةً بأن "الإنسان نوع جديد وفريد من المتعضِّيات".

بُعدٌ جديد في التطور

يشرح هكسلي بأن التطور بالمعنى الداروِني قد توقَّف بحكم الواقع. بعبارة أخرى، فإن التطور البيولوجي لم يعد ينتج أيَّ نوع جديد من حيث الأساس. غير أن الإنسان، من ناحية أخرى، مازال يتطور، لكنْ بطريقة أخرى. فالإنسان، إذ يتميز بعقله عن الحيوانات الأخرى، باتت لديه الآن القدرة على توجيه التطور بنفسه؛ لا بل صار ذلك من واجبه. فبحسب كلمات هكسلي الدرامية: "إن قَدَر الإنسان هو أن يكون العامل الأوحد من أجل التطور المقبل لهذا الكوكب."

على الصعيد البيولوجي، تتعين قدرتنا الكامنة على التحكم بالتطور بمعرفة الآلية الوراثية للإنزيمات والإنزيمات المساعدة ولوظائفها في نموِّ الخلايا والأجهزة. ففي العقدين الأخيرين، تنامت مثل هذه المعرفة تناميًا مذهلاً.* فقد حُسِّنَتْ المحاصيل الزراعية والحيوانات المدجَّنة تحسينًا كبيرًا عبر التقنيات التجريبية للتنسيل والاصطفاء. والفتوح في علم الوراثة تجيز الآن ربطًا دقيقًا بين الخواص الجسمانية والجينات المتوضعة بالدقة على كروموسومات نواة الخلية. ويمكن الآن لتشكيلات جديدة من الجينات المختارة أن توجَد جزمًا بين أفراد الذرية الناتجة من تضريب النسل: فبهذه الطريقة أُدمِجَتْ صفةٌ مرغوبة يختص بها الجودار في القمح. وبذلك يمكن لخصائص جديدة أن تُدمَج أحيانًا بواسطة تحريض متعمَّد لطفرات.

ومن الناحية الكيميائية الحيوية، نحن ندنو بسرعة من حلِّ "الشيفرة الوراثية". بعبارة أخرى، قد نكون على وشك فهم البُنى التفصيلية للأحماض النووية التي تشكِّل قوام الجينات، والطريقة التي تملي بها، عبر هذه الجينات، بُنى الإنزيمات والبروتينات الأخرى التي تتحكم في الفرادة البيولوجية. ومن الصعب التنبؤ بالقدرات الجديدة والمرعبة التي يمكن لهذه المعرفة أن تضعها بين أيدينا.

غير أن تطور الإنسان نفسه هو ما يهمنا حقًّا. إذ إن الإنسان يستطيع أن يورِّث أخلافه ليس الخصائص الوراثية الكامنة في الخلايا التناسلية وحسب، لكنْ مخزونه من المعرفة والخبرة أيضًا. فهذا بالفعل يمكن نقله على الفور دون انتظار الجيل التالي. وبذلك فإن الإنسان قد سرَّع في التطور تسريعًا هائلاً بهذا المعنى الثقافي. وعلاوة على ذلك، فإنه قادر الآن على قيادة التطور نحو هدف من اختياره هو. وهو، بقبوله هذه المسؤولية العظيمة وبممارستها، يجب أن يطالب بألوهيته ويعبِّر عنها.

"إن عقل الإنسان يجعل منه العامل الحرَّ الأوحد في الطبيعة." وإن مستقبل الأحياء جميعًا، ومستقبله هو، ومستقبل البشرية – هذه جميعًا أمانة بين يديه: فإما أن يصنعها وإما أن يفسدها. فهذه قدرات إلهية – وذلك ما نقصده بألوهية الإنسان. لكننا نقصد أكثر من هذا أيضًا. فقد بدأ يتبيَّن للعلماء أن الألوهية بهذا المعنى مبطونة في الكوسموس نفسه – وإن يكن الإنسان وحده يعبِّر عنها تعبيرًا واعيًا لذاته في خير لحظاته. فلنورد ما يقول هكسلي مرة أخرى:

إنه مذكِّر، هنا وهناك في الشَّساعة الكمية للمادة الكونية ولمكافئاتها الطاقية، بوجود تيار يتَّجه نحو العقل، بما يرافقه من نوعية في الوجود وغنى، لا بل وببرهان على أهمية العقل في السيرورة التطورية المحيطة بكلِّ شيء.

وحدة الإنسان والطبيعة

مع أن الإنسان يقف الآن على ذروة السيرورة التطورية، فإنه يبقى وثيق الارتباط بكلِّ ما قد سبق أن جرى. فالوحدة التي تعلنها الثيوصوفيا ليست من قبيل التمنِّي المحض وحسب، بل هي حقيقة علمية على الأصعدة كافة. كلٌّ منَّا أصلاً جزء من الآخر، ونحن واحد مع الطبيعة، على الرغم من أننا قلما نتريث للاعتراف بهذه الأمور. على الصعيد الجسماني، نتقاسم أرضًا واحدة؛ ذرات أجسامنا تتغير على الدوام، ومع كلِّ نَفَس، نستنشق الآلاف المؤلَّفة من الذرات التي سبق لغيرنا من البشر أن استعملها؛ حتى إنه يقال إن في أجسام غالبية الإنكليز بضع ذرات كانت ذات مرة جزءًا من ذرات شكسبير.

على الصعيد الكيميائي، نتشارك في نموذج استقلابيٍّ واحد: آلاف التفاعلات الكيميائية، التي نهضم بها طعامنا ونصون أجسادنا وأجهزتنا، مشتركة، في غالبيتها، مع المملكة الحيوانية قاطبة؛ والنباتات، في الواقع، تستعمل العديد من هذه التفاعلات نفسها، إلى جانب تفاعلات أخرى. وهكذا فقد تبيَّن أن الدروب التي يسلكها الاستقلاب، في ثنايا الطبيعة بأسرها، إنما هي أشبه بتنويعات على لحن واحد.

على الصعيد البيولوجي، نشترك في الحياة نفسها: فالتقدم التطوري للمتعضِّيات الحية أشبه بمخطط جليل من السلالم المتفرعة، وما ثمة، في أية نقطة، درجة هي من العلوِّ بما يسوِّغ أيَّ إنكار للاستمرار. والخلايا المفردة في أجسامنا تشبه المتعضِّيات البدائية من وحيدات الخلية؛ وفي الحياة الجنينية أيضًا يُستعرَض إجمالاً العديد من الأشكال السابقة من جديد.

على الصعيد الاجتماعي، نتشارك في إنسانية واحدة: فنحن نوع اجتماعي واحد ذو تنويعات ضئيلة؛ وتاريخ الحضارة يتناول جهودنا في الدمج المتناغم لجماعات أكبر فأكبر.

وأخيرًا، على الصعيد الروحي، نتشارك في إله واحد. وهذا، في نظر الكثيرين، ليس أكثر من بند يُسلَّم به دينيًّا؛ غير أنه، في نظر القلة، يقين ساطع هو ثمرة اختبار شخصي عميق. لكنه عندما سيكون كذلك في نظرنا جميعًا، لن نعود في حاجة إلى تذكير أنفسنا بهذه الحقائق – وسنكون حينذاك متحضِّرين حقًّا. الإنسان، إذن، يحمل في داخله جوهر كلِّ ما كان وما هو كائن الآن؛ وهو يتحلِّى بالقدرة على بناء المستقبل كما يشاء.

الطريق أمام الإنسانية

إن في عقل الإنسان هلاكه أو خلاصه. فهو، متحالفًا مع طبيعته الدنيا، يقود إلى سلوك أناني مناوئ للمجتمع؛ لكنه، متحالفًا مع صفاته الروحية، يقود نحو التعاون والغيرية والوحدة.

لقد طوَّرت المملكة الإنسانية قيمًا غير قيم مجرد البقاء في التنافس مع الآخرين. إذ إن دوافعنا العليا ليست لها قيمة بيولوجية بقائية، بل هي في، في الواقع، عكس ذلك تمامًا في نتائجها. وهذه ظاهرة جديدة، عامل جديد في التطور. مثل هذه "الطفرة"، إذ تعبِّر عن نازع روحي وغيري غائي، شيء جديد بالكلِّية في النموذج التطوري للأشكال المادية.

مثل هذا السلوك الغيري قد يفتقر بالفعل إلى قيمة بقائية بالمعنى البيولوجي حصرًا، لكنه يتصف قطعًا بقيمة بقائية في السياق الأوسع للحضارة الإنسانية. ولا ريب في أننا سنستمر في التعثُّر، لكن من الواضح أن هذا هو الدرب الذي علينا أن نسلكه. فعلى المدى الطويل، بالفعل، سيكون عدم القيام بذلك محفوفًا بالمخاطر. ذلك أننا قطعنا شوطًا طويلاً، ومعرفتنا الآن أكبر من أن تجيز لنا العودة القهقرى. حقًّا إنه لطريق وعر ذلك الذي اختارت البشرية أن تسير عليه؛ لكننا ما لم نثبت على الإيمان فقد يُفني الجنس البشري ذاته.

ولكن مادمنا قادرين على تجنُّب هذه الكارثة الأخيرة ليس ثمة ما يدعو إلى مثل هذا الإلحاح اليائس. فعلى السلَّم الزمني الجيولوجي، مازالت البشرية فتية. لذا فالمرجَّح أن أمامنا – على افتراض أننا سنوفَّق في المضيِّ قُدُمًا في الاتجاه الصحيح – ملايين السنين كجنس، نحقق في غضونها الكمال الذي نطلب. ولا بدَّ من التأكيد ثانيةً أن هذا ليس من قبيل التمنِّي، بل هو تقدير محض علمي للممكنات الإنسانية. هذا تحدٍّ؛ لكنه أيضًا نظرة تنطوي على أمل عظيم، تتناقض بقوة مع التوجسات المغمومة الشائعة اليوم في بعض الدوائر.

الإنسان أعظم مما يظن:

بمستطاعه أن يصير شيئًا أرقى؛ أعقل؛ أبعد نظرًا؛ أكثر غيرية؛ أقل تمركزًا على أنيَّته؛ أوفر حكمة ومحبة؛ أقرب إلى تقرير مصيره منه إلى البقاء ألعوبة بيد الظروف. لذا فإن المسؤولية تقع على عاتق كلِّ شخص عاقل وغيري بأن يفعل كلَّ ما في مستطاعه لتيسير سيرورة التنامي الإنساني هذه.

كثيرون يأملون بأن تشكِّل هذه الأفكار أساسًا لدين عالمي جديد لم يُعلَن عنه بعد. وقد يكون هذا عبر معلِّم سوف ينفث نارًا في هذه الخواطر الباردة، وسوف يلهمنا بحسٍّ بهيج من التآزُر في هذا المشروع الهائل الماثل أمام الإنسانية. أو لعله سيأتي عبر عقول عديدة تسري فيها نار هذا المثال الروحي الخلاق. مهمتنا واضحة: إنها ليست أقل من تشييد فردوس هاهنا على الأرض.

نحن جميعًا في هذه المهمة معًا، لا مفرَّ لنا منها. لكن إنجازها مؤجَّل إلى حين يستعد الجميع. ذلك أن غاية الكون هي إبداع إله جديد – و"نحن ذلك الإله".

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


* لا ريب في أن العلم تجاوز اليوم بأشواط بعيدة المعلومات العلمية "البسيطة" الواردة في النص، التي تعود إلى زمن كتابته في السبعينات. لكن المنظور الذي يتبناه العالِم الثيوصوفي لِسْتِر سميث مازال صالحًا لاستشراف أفق واسع للمستقبل التطوري للإنسانية. ومن هنا ارتأينا ترجمة مقاله إلى العربية وتضمينه في هذا الملف عن التطورية. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود