|
قيم خالدة
لقد تحدثنا عن إشكالية الوجود المعقدة، وعن تشكيل التصورات في علاقاتنا مع بعضنا، والأوهام التي يعرضها لنا الفكر ونقوم نحن بعبادتها. كما تحدثنا عن الخوف والمتعة وإنهاء الأسى وتساءلنا عن ماهية الحب، بعيدًا عن كل المخاض المندرج فيما نسميه حبًا. وتكلمنا أيضًا عن التعاطف وذكائه وعن الموت. أما الآن، فسنتحدث عن الدين. يخجل الكثيرُ من مفكري العالم من الحديثِ في موضوع الدين. حيث يرون ماهية الأديان القائمة في عالم اليوم، بمعتقداتها ومبادئها وشعائرها والبنية الهرمية التي أقامت عليها كيانها؛ فيسخرون منها ومن ثم يهربون بعيدًا عن كل ما له علاقة بالدين. ثم حين يكبرون في السن ويقتربون من تلك العتبة المسماة بالموت نراهم يعودون غالبًا إلى ما نشأوا عليه، فيتحولون إلى الكاثوليكية أو قد يلتحقون بمعلم (غورو) في الهند أو اليابان. لقد خسر الدين مصداقيته حول العالم وأضاع معناه في الحياة اليومية. فكلما تمعنتَ، وكلما ازدادَ فهمُكَ لمحتوى البنى الدينية، بتَّ أكثرَ شكًا حول الموضوع برمته. وكباقي المثقفين، سترى ألا علاقة لك به. أما غير المتشككين فيتعاملون مع الدين برومانسية وعاطفية أو كشكل من أشكال الترفيه.
قال أرسطو: "يا أصدقائي، ليس من أصدقاء". لن أناقش المعلم الأول في ما ذهب إليه مغاليًا. فالبشرية لا تخلو من محبين صادقين كما لا تخلو من مبغضين كثر. في اللغة صادقته أي خاللته. ومعنى صديق فلان أنه صدقه المودة والنصيحة. هناك إذًا نأي عن الكذب. هناك مبيت في الإخلاص: "أحبب صديقك كنفسك”. بذا تجعله قريبًا وكأنكما واحد. لعل كل سر الصداقة أنه يكمن كليًا في المحبة التي يصير فيها المحبوب واحدًا مع المحب. مرة خاطب أحد قياصرة روسيا الرئيس الفرنسي في رسالة إليه قائلاً: صديقي العزيز، فأراد الرئيس الفرنسي أن ينقح له العبارة قائلاً: في العرف الديبلوماسي يقال يا أخي العزيز. أجابه الروسي: أخوك مفروض عليك (بالطبيعة) أما صديقك فتختاره.
يتغذَّى التمييز من النسيان والغفلة. فهو يضع الأقنعة حتى ننسى أنه تمييز، بحيث يتم تمرير أبنيته وسلوكياته وكأنها بديهية بداهة طلوع الشمس كلَّ صباح. ولكن التمييز قائم على نسيان أساسيٍّ هو نسيان "العقل والوجدان" باعتباره أساسًا للتشابه بين البشر وأساسًا للاختلاف الخلاَّق بينهم. إنه يعتمد، في الكثير من مظاهره، على البيولوجيا لجعل الفوارق ماهوِّيَّة، ولتأسيس الفوارق والميزات عليها.
من نحن، ما نحن؟ إننا مجرَّد كائنات تافهة وضعيفة، قابلة للفناء في أية لحظة، انبثقت لبرهة من العدم إلى حياةٍ رائعة مفرحة، بسمائها وشمسها وغاباتها ومروجها وأنهارها وطيورها وحيواناتها، مع غبطة محبة الأقربين ومحبة أنفسنا، محبة الخير ومحبة كل ما هو حي...؛ ففيمَ الأمر؟ |
|
|