|
غاندي الإنسان 4: غاندي الإنسان٭
كان لويس فيشر، وهو صحفي أمريكي، يتابع بدقة حملات غاندي في الهند لسنوات عدة، وما انفكَّ يتساءل عن الحكمة العملية لهذا الرجل الضئيل البنية الذي كان يطبق بنجاح منقطع النظير قوانين المحبة على التحديات الهائجة لسياسة القوة. وحين سنحت له الفرصة أخيرًا لزيارة غاندي في منزله، لم يجد ذاك السياسي الذي أسر قلبه، وإنما كان غاندي الإنسان: حيويته الدائبة، دفء مشاعره، قوته الرقيقة الثابتة، حسَّ الدعابة الذي لا يفارقه، وفرحه العارم. كان هناك رجل بلا ممتلكات خاصة ماعدا غنى تجربته الداخلية؛ رجل بدا أنه يعاني من نكبات ونكسات بلا نهاية، لكنه لم يفقد قط مرونته ومزاجه اللطيف؛ رجل لم يكن لديه سوى ستة أو سبعة كتب على طاولة مكتبه، لكنه كان مفعمًا بالحكمة العملية. أمضى فيشر أسبوعًا برفقة غاندي، يلقاه كل يوم، يمشي معه، يشاركه وجباته، مفتونًا، كحال المئات من الزوار الآخرين، بما أسماه "معجزة الشخصية". وعندما غادر، كان محملاً بإحساس راسخ بأن تجارب غاندي الأكثر أهمية لم تكن في ميدان السياسة على الإطلاق، بل في فن العيش على نحو هادف في عالم يعجُّ بالصراعات العنيفة والتغيرات المتلاحقة. كتب المتصوِّف الألماني القروسطي مايستر إكهارت يقول: "على الناس أن يفكروا على نحو أقل بما ينبغي عليهم عمله، وأكثر بما ينبغي عليهم أن يكونوا. فإذا كانت طرائق معيشتهم صالحة، ستتألق أعمالهم وضَّاءة بالبهجة". كان غاندي يفكر فقط بما يجب عليه أن يكون، وكل ما فعله كان يشعُّ بالجمال. وبالنسبة لأولئك الذين التقوا به، حتى الذين كانوا يُعدُّون من الخصوم، كان الفنان الأسمى الذي يخلق من أدق تفصيل في حياته عملاً فنيًا. حياتي كلٌّ لا يتجزأ، وكافة نشاطاتي تتلاقى مع بعضها البعض؛ ولها جميعًا ذات المنبع: محبتي التي لا ترتوي للبشرية. إنها زوجته كاستورباي، كما يقرُّ غاندي في ما بعد، التي علمته كيف يحب. كانت تريه، بمثالها الشخصي، السبيل إلى اجتثاث الغضب والمشاحنة اللذين كانا يؤديان إلى تآكل حياتهما الزوجية. لم تكن تقابل أذاه بالمثل أو تأجج ما ينشب بينهما من خلاف، بل تسعى بدأب إلى مساندته ومعاملته بصبر وأناة أثناء هيجانه أو ارتكابه أخطاء، مبقية عينيها دومًا على ما هو صالح فيه وحاثَّة إياه بصمت على التصرف معها باحترام. وبدأ غاندي بالتدريج في إدراك أنها تمارس يوميًا ما كان هو نفسه معجبًا به كمثال نظري. فاتخذها قدوة له، وأصبح كل منهما معلمًا للآخر، إذ تعلم غاندي صبر كاستورباي وألهمها بحماسه المتَّقد في المقابل. كان انضباطًا يتطلب جهدًا وصرامة ووقتًا، وقد اعتاد غاندي على القول أنه يتطلب "صبر إنسان يحاول إفراغ البحر بمصَّاصة، قطرة قطرة". لكن في كل مرة كانا يتغلبان فيها على عائق بينهما، كانا يجدان أنهما ليس فقط قادران على محبة بعضهما البعض أكثر، بل أن لديهما مزيدًا من المحبة والصبر لكل الناس أيضًا. وهكذا، في الوقت الذي كان غاندي قد تعلم إغداق هذه المحبة حتى على أعدائه، كانت كاستورباي أيضًا في السجن، والنساء الأخريات منضويات تحت قيادتها. لم يكن غاندي يتوقع من أولئك الذين يأتون إليه أن يحققوا هذا التحول على الفور، أو أن يقلبوا بين عشية وضحاها تشريط ملايين السنين من التطور ويحبوا أعداءهم أكثر مما يحبوا أنفسهم. فقد أخفق هو نفسه مرات لا تحصى في مساعيه للوصول إلى تلك الحالة السامية. كان يخاطبهم بالقول: إذا لم يكن بوسع أحدكم أن يحب الملك جورج، مثلاً، أو السير ونستون تشرشل، فليبدأ بمحبة زوجته (أو هي بمحبة زوجها) أو أطفاله. حاول أن تضع سعادتهم في رأس قائمة كل لحظة في حياتك، وسعادتك في آخرها، ودَعْ دائرة محبتك تتوسع من هذه النقطة. ومادمت تبذل أقصى جهدك، لا يمكن أن يكون هناك شك بالفشل. هذا هو الانضباط الذي بنى غاندي بواسطته قدرته من الساتياغراها. إنه الحافز الأعمق الذي يمكن للكائن البشري الإنصات إليه، لأنه يجيب مباشرة على أعمق حاجة بشرية: الحاجة إلى المحبة. المحبة غير متطلِّبة مطلقًَا؛ إنها معطاءة بلا حساب. المحبة تعاني دومًا، بلا امتعاض أو سعي إلى الانتقام بتاتًا. علينا ألا نقصر الحقيقة واللاعنف على الممارسة الفردية المحضة، بل نجعلهما ممارسة للمجموعات والمجتمعات المحلية والأمم. ذلك هو حلمي على أية حال. سأعيش وأموت ساعيًا إلى تحقيقه. ويساعدني إيماني على اكتشاف حقائق جديدة كل يوم. أهِمسا هي صفة مميزة للروح، ولذا، يجب ممارستها في كل شؤون الحياة. إن لم تُمارس في كل المجالات، لن يكون لها قيمة عملية. لقد أنشأ غاندي في مجرى حياته عددًا من المجتمعات المحلية أو الأشرمات Ashrams، حيث يأتي إليها رجال ونساء وأطفال من مختلف المشارب والجنسيات للتعلم من نموذجه اليومي كيف يجعلون من المحبة واللاعنف أساسًا لحيواتهم. وفي المراحل المبكرة للحركة في الهند، كان الناس يأتون إليه في أشرم سابارماتي Sabarmati بغية التدرُّب من معامل النسيج المنعزلة في ضواحي أحمدأباد. كان سابارماتي بيته طوال خمسين عامًا ومنه أطلق الحركة من أجل القماش المنسوج في البيت، وكذلك ساتياغراها الملح في العام 1930. وأخيرًا، عندما اقتضى نشاطه الانتقال إلى مكان آخر، تخلى غاندي عن أشرم سابارماتي ليكون في خدمة الهاريجان وانتقل بعدها للعيش في قرية وسط الهند ليجعل بيته بين الناس هناك. كان الأشرم الذي توسع حوله يدعى سيفاغرام Sevagram، أي "قرية الخدمات". لقد اختار غاندي بعناية موقع سيفاغرام على بعد سبعة أميال من الحياة المدنية، في جزء من الهند شديد الحرارة. كان معظم الهنود مضطرين للعيش في هذا الطقس، ولهذا السبب فضَّل غاندي إقامة أشرمه هناك بدلاً من أن يقيم على تلَّة في الهيمالايا الباردة أو في بقعة خصيبة على ضفاف نهر الغانج. ربما كان يأمل بالعزلة، لكن في غضون سنوات قليلة كان هناك أفواج من الناس يتوافدون إلى الأشرم الذي مهَّدوا الطريق إليه بأقدامهم. كان غاندي يتلقى الكثير من الرسائل البريدية مما أجبر الحكومة على افتتاح مكتب للبريد هناك. كما كانت يرده سيل من البرقيات مما استدعى إنشاء مركز برق. وأصبح سيفاغرام خلية نحل نابضة بالنشاط، حيث كان بوسع العالم أجمع أن يرى ما يعنيه القيام بأدق الأعمال اليومية بمحبة. يجب أن تراقب حياتي، كيف أعيش، كيف أتناول طعامي، كيف أجلس، كيف أتحدث، كيف أتصرف عمومًا. المجموع الحاصل لكل تلك التفاصيل هو ديانتي. كان يوم غاندي يبدأ باكرًا جدًا، حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا، لكي يستغل برودة الصباح الهندي وهدوئه. ففي هذا الوقت من اليوم يكون العقل في أصفى حالات السلام الطبيعية، وحتى في أشد الأزمات الوطنية توترًا، سواء كان في لندن أم في قطار أم في زنزانة في أحد "فنادق جلالته"، لم يكف غاندي عن استغلال هذا الوقت من أجل التأمل. لقد كان هو الجزء الجوهري في يومه، أكثر بكثير من أوقات وجباته؛ فكل صباح يحرر فيضًا إضافيًا من الطاقة يجدد كل خلية من خلايا جسده. وطوال بقية اليوم، سيوظِّف تلك الساعات الصباحية الباكرة في الصبر والشجاعة والمرونة، وفي حس دعابة لا يمكن كبحه. وما أن ينتهي غاندي من تأمله حتى كان يغوص في الشؤون اليومية. كان يكرِّس كل لحظة للآخرين، بدءًا من سيل الزوار المتدفق من كافة أنحاء العالم لأسباب شتى: لإجراء مقابلة لصحيفة نيويورك تايمز، لتسوية بعض القضايا المتعلقة بحق الهاريجان في التصويت، لمناقشة وجهة نظره بخصوص تحديد النسل، أو طلبًا للمساعدة على تأديب طفل صعب المراس. وخلف أولئك الذين كانوا يطلبون مقابلات كانت تقف الحشود الصامتة التي جاءت فقط لمشاهدة "رجل سيفاغرام الفقير النحيل" الذي جعل من أدق تفصيل في حياته لوحة فرح تستحق المشاهدة. ففي مكان إقامة غاندي كان الناس يشعرون في الحال أنهم في بيوتهم: وكأنما خُلقوا في سيفاغرام، وأن العائلة الهائلة العدد التي تبنَّاها غاندي هي عائلتهم. كان غاندي يوليهم جميعًا الاهتمام نفسه، مُفسحًا بطريقة ما لكل منهم وقتًا في برنامجه اليومي المزدحم، متحدثًا إليهم في نزهته الصباحية أو على مائدة الإفطار أو حول دولاب الغزل. لم يكن لديه أدنى خصوصية؛ فكل ما كان يفعله كان تحت أنظار غرباء، وبالتالي كانت حياته شفافة على نحو جميل. وذات مرة، كتبت له مساعدته ماري بار معتذرة عن تطفُّلها عليه بلا قصد في اليوم السابق، تعكير صفو عزلته وهدوئه لبضع لحظات، كما اعتقدت. فكتب لها غاندي مجيبًا: "لم تعكري صفو عزلتي. عزلتي تُستكفى وسط الكثرة". وسط كل تلك الفوضى الظاهرة حافظ غاندي على النظام عن طريق الاهتمام الدقيق بالتفاصيل والوقت. كان حريصًا على كل لحظة، وينتظر من جميع زواره، بمن فيهم الوزراء البريطانيين ذوي الشأن، أن يجاروا ما تقتضيه معاييره. كتب يقول: يجب ألا تهدر حبة أرز أو قصاصة ورق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل لحظة من وقتك. إنها ليست ملكنا. إنها تخصُّ الأمة، ونحن أوصياء من أجل الاستفادة منها. في تلك السنوات المتَّسمة بالاضطراب، غالبًا ما كانت الشؤون اليومية مشحونة بالضغط والتوتر، فكان من المألوف رؤية جواهرلال نهرو أو أحد الزعماء السياسيين الهنود الكبار في سيفاغرام قادمًا من أقاصي القارة، مُثقَلاً بهموم ذات أثر على مئات الملايين من البشر. ولم تكن تمض سوى بضعة دقائق عادة حتى تُسمع ضحكاتهم المكتومة لدعابة من دعابات غاندي، وعندما يغادرون، وبخيمياء ما من شخصيته، تكون السكينة قد حلَّت في نفوسهم، مفعمين بحماسة وإلهام جديدين، وعلى أهبة الاستعداد للتعامل مع مشكلاتهم بمنظور واضح وعزيمة أشد. كانت الأزمات الوطنية الكبرى تتوضح في النموذج المتواصل للمشاكل والمآسي المحلية: انتشار مرض بين الماشية، طفل يحتضر بسبب ذات الرئة، رجل من قرية مجاورة يسعى للحصول على إذن من غاندي من أجل هجر زوجته. وخلف كل هذه القضايا كانت تخيِّم معضلة الفقراء الهنود الكبرى، الذين حمل غاندي بمفرده المسؤولية اليومية لقيادتهم نحو الاكتفاء الذاتي والحكم الذاتي. كان يتنقل عبر هذه المحن برشاقة راقص، جذل ودمث دومًا، رائق وعميق مثل بحر السلام الموصوف في بهَغَفاد غيتا، الذي تصبُّ فيه معظم الأنهر الهائجة ويبقى هادئًا. هذا ما كان عليه الحال مع عائلته في الأشرم حيث كان جماله يشع ببهاء. كانت مجموعة غريبة: مئات من الرجال والنساء والأطفال من كل أصقاع الأرض، من مختلف المنابت والميول إلى حد جعل سردار فالابهاي باتل، رفيق غاندي منذ الأيام الباكرة للساتياغراها الهندية، يشير إليها بدعابة على أنها "حديقة حيوانات الأشرم". وحيثما كان يحلُّ غاندي، كان يخلب لبَّ رجال ونساء حرَّرت محبتهم له ذخائر هائلة من الولاء والشجاعة والخدمة الغيرية مما حوَّل حيواتهم كليًا. حتى في جنوب أفريقيا، بينما كان مفهوم "العائلة" يتوسع، انضم مثل هؤلاء الناس إليه في الأعمال المنزلية وكرَّسوا أنفسهم بالكامل لأسلوبه في الحياة. كثير منهم كانوا من النساء اللواتي استجبن بإخلاص إلى فهمه الفذ لقوَّتهن الصبورة الحازمة الهادئة وطبعهن الإيثاري وقدرتهن على الغفران. كان يقول عنهن بإعجاب: "إذا كان اللاعنف هو قانون وجودنا، فالمستقبل رهن بالنساء". لقد ضمَّهن جميعًا في عائلته، وبما أنه كان قد تعلم أن ينشر محبته لكاستورباي وأطفاله إلى كل الآخرين أيضًا، كان ثمة متسع دومًا على ما يبدو لأحد آخر. كان العالم أجمع عائلته. فعندما سأل أحد المراسلين الصحفيين، ذات مرة، كاستورباي كم طفلاً لديها أجابت مازحة: "لدي أربعة، لكن بابو، زوجي، لديه أربع مئة مليون". ما من سمة أكثر جمالاً وألقًا في طبع غاندي من علاقته المُحبِّة مع كل فرد من مئات الناس الذين كانوا جزءًا من عائلته في الأشرم. كان يولي أهمية لكل تفصيل من تفاصيل حيواتهم. ومع أن متطلَّباته من المقربين منه كانت كثيرة، إلا أن معاملته لهم كانت مفعمة بالمحبة والدعابة واللباقة. كانت علاقته مع كل شخص منهم مباشرة. كان مدركًا لاحتياجات الآخرين حتى في أدق التفاصيل، وغالبًا ما كان يغمرهم بالرعاية والسهر على صحتهم رغم ازدحام جدول أعماله اليومي. لا يفوته تفصيل في حياة الأشرم مهما صغر. وكان يحب القيام بجولاته بعد الظهر، فيلعب مع الأطفال ويمازحهم ويتفقد سير العمل في المطبخ. وكان يخصُّ المرضى في الأشرم بمحبة مميزة؛ يغدق عليهم كل شغف طفولته في التمريض، ويزورهم حاملاً لكل مريض في مشفى سيفاغرام هدية صغيرة معبِّرة، فكانت البهجة تعمُّ المكان عندما يتواجد غاندي. وفي وصفه لإحدى زيارات غاندي، يقول لويس فيشر إنه استيقظ صباح أحد الأيام على صوت امرأة في الغرفة المجاورة في الأشرم تغني مثل مراهقة. وعندما خرجت إلى الشرفة سألها عن سبب غنائها، فأجابت: "لأنني سعيدة". "ولِمَ أنت سعيدة؟". ابتسمت وهي تقول: "نحن سعداء لأننا بالقرب من بابو". غالبًا ما كان العشاء في سيفاغرام، بالنسبة للأغرار، مليئًا بالمفاجآت. كان غاندي قليل الاهتمام بطيب الطعام؛ فبالنسبة له، كان الجسد مجرد آلة مكرسة للخدمة، وكان يلقمه الطعام كمن يزود محركًا بالوقود. وكان يقول ناصحًا: "تناول من الطعام ما تحتاجه فحسب. عندما تكون جائعًا فقط، وفقط عندما تكون قد أسديت خدمة للآخرين ولو كانت صغيرة". منذ سنوات دراسته في لندن كان يجرب توليفات من كل أنواع الخضار المتوافرة بتجاهل مضحك لجمالية أصناف الطعام. كانت الحصيلة أحيانًا في غاية الغرابة، يشاركه فيها ضيف عزيز عليه كان قد دعاه لتذوق آخر طبق حساء أو صلصة ابتدعه، غني بفيتامينات غامضة المصدر وبمرارة العلقم أحيانًا. كان كافيًا، بالنسبة لغاندي، أن يكون الطبق مُغذٍّ؛ فذلك يجعل مذاقه طيبًا أيضًا، حسب علمه. كانت الوجبات في الأشرم تتسم بإلفة طقس عائلي. وكان غاندي على قناعة بأن الوجبة لكي تكون مفيدة للصحة ينبغي طهوها وتناولها بمحبة، فكان يحيط من حوله بجو من الحيوية والمودة والدعابة. كان مُقِّلاً في الكلام، لكنه يبدي كامل تركيزه على كل ما يستحق الاهتمام. حتى في القضايا البسيطة، كان بنموذجه الشخصي مثالاً لعائلته في الحفاظ على أقصى الانتباه لما بين أيديهم من عمل، إلى حد أنه لم يكن بإمكان غضب أو خوف أن يزحزحهم في أعتى الحملات. بعد وجبة العشاء، كان يُسدل ستار على كل القضايا الوطنية، ويجتمع حشد بما يبدو وكأنه موكب لمرافقة غاندي في مسيره المسائي. في ذلك الوقت تكون قد خفَّت قليلاً حدة الشمس اللاهبة في الهند الوسطى، وستكون بركة عظيمة بالنسبة لغاندي أن يقضي هذه الساعة من اليوم مع نفسه. لكنه، عوضًا عن ذلك، كان يفضل إعطاء المزيد من الوقت لأولئك الذين يرغبون في التحدث إليه أو يوجهون إليه بعض الأسئلة، وعندما يكونوا صامتين، كان يستثير جوًا من الضحك مع أطفال الأشرم. ورغم أنه كان في السبعينيات من عمره، كانت خطواته سريعة جدًا، وبعد فترة قصيرة كان الموكب يتقلص حيث يتساقط الناس تعبًا. كان في غاية الرشاقة؛ بالكاد تلامس قدماه الأرض ويبدو وكأنه يطير. بعد المسير المسائي، كانت تُقام الصلاة تحت قبة السماء الإستوائية. فمع مغيب الشمس، كان يتجمع مئات الناس حاملين المصابيح لسماع حديث غاندي. كانت الضجة تعلو، والحشد يتحرك كموج البحر. عندما يأتي غاندي، كان يبدو صغيرًا وهزيلاً، لكن حضوره كان طاغيًا. كان يرفع يده بجهد كإشارة فيهدأ الجميع، وتشخص كل الأعين صوب ذاك الرجل الضئيل الجالس على المنصة. كان صوته لطيفًا ورخيمًا؛ يبدو ناعمًا لكنه يبلغ مدى بعيدًا. في الدقائق القليلة الأولى، كان غاندي يتطرق إلى أحوال الجمهور واحتياجاته. كانت الكلمات تخرج من بين شفتيه بطيئة ودقيقة؛ تمامًا مثل طفل يرى أفكاره تتشكل وتتطور وتُصاغ بوضوح في خطاب بسيط لكنه مفعم بالقوة. كان غاندي يتقلَّد جسده كعباءة، ورغم ضعف ذلك الجسد، إذ لم يكن يَزِن أكثر من خمسة وأربعين كيلو غرامًا، كان يعطي انطباعًا بالجَلَد والقوة الهائلة، قوة الروح التي لا تُضاهى. ففي الغسق الذي يلف الحشد بظلاله، كان يبدو أن قرونًا من السنين تُطوى لكي تتكشَّف ومضة من الرحيم بوذا وهو يمنح سرَّ اللاعنف إلى عالم ممزق بالنزاعات منذ أكثر من 2500 سنة. كانت تُتلى في اجتماعات الصلاة الكتب المقدسة لكل الديانات، مثل القرآن والعظة على الجبل، لكن بهَغَفاد غيتا هي التي كانت كان يستمد منها غاندي أعمق الإلهام والهدي. كان مهاديف ديساي يجلس بالقرب من غاندي ويبدأ في قراءة الفصل الثاني من الغيتا الذي يصف الإنسان الكامل. لقد عمل غاندي طوال حياته لكي يترجم هذه المُثل العليا في حياته اليومية. ومع توالي الأبيات الشعرية يمكنك رؤية غاندي مستغرقًا بالكامل، تغمر السكينة عقله والانعتاق روحه الجبارة. كان تركيزه تامًا إلى حد أنك لا تعود تسمع الفصل الثاني من الغيتا، بل تراه مجسدًا، شاهدًا بنفسك على التحول الذي يصفه.
حرٌّ إلى الأبد "فن الموت ينتج عن فن العيش كنتيجة لازمة". ذات مساء، من مثل تلك المساءات، حدثت المأساة الختامية. كان غادي في دلهي، ممضيًا كل لحظة يقظة من لحظات يومه في التماس أخير للوحدة بين الهندوس والمسلمين. وعندما حان وقت اجتماع الصلاة، اتجه إلى هناك بخفة، كعادته دومًا، متكئًا على أكتاف فتاتين من فتيات الأشرم. كان قد تجمع حشد ضخم لسماعه. كان يتجه إلى المنصة وسط ذلك الحشد وهو يضمُّ راحتي يديه أمامه محييًا. وفجأة، اعترض طريقه شاب أعمت الكراهية قلبه، وحيا غاندي بنفس الطريقة، ثم سدد مسدسًا إلى قلبه وأطلق النار. في تلك اللحظة بدت عظمة هذا الرجل النحيل المفعم بالمحبة؛ لا شيء سوى الترتيلة التي خرجت عميقًا من داخله إلى شفتيه: راما، راما، راما. وكانت تعني: أسامحك، أحبك، أباركك. الكائن البشري قوة روحية هائلة بالكاد يحتويها شكل فيزيائي. عندما تنصهر معًا جميع آماله ورغباته وحوافزه وإرادته وتصبح كلاً واحد، تتحرر هذه القوة في حياته بالذات، ولا يمكن حتى لفناء جسده أن يحبسها ثانية. لقد جعل غاندي من نفسه قوة اللاعنف. إنه قوة لا يمكن أن تخمد، قوة تنهض من سباتها مجددًا حيثما تحول شخص (أو مجتمع محلي، أو أمة) صوب اللاعنف بكل قوته وكل إرادته. ذات مرة، بينما كان القطار الذي يستقله غاندي يتحرك ببطء مغادرًا المحطة، ركض إليه أحد المراسلين الصحفيين وسأله وهو منقطع الأنفاس عن الرسالة التي يود إيصالها إلى شعبه. كان جواب غاندي سريعًا، إذ خربش على قطعة صغيرة من الورق: "حياتي هي رسالتي". إنها رسالة لا تتطلب مرحلة فسيحة من السياسة العالمية، بل يمكن أن تُوضع في الممارسة هنا والآن، في لجَّة الحياة اليومية. لا أملك تعاليم جديدة أقدمها للعالم. الحقيقة واللاعنف قديمان قدم التلال. كل ما قمت به هو محاولة اختبارهما على أوسع مستوى استطعت العمل عليه. وفي خضم هذا العمل، أخطأت أحيانًا وتعلمت من أخطائي. ولذا أصبحت الحياة ومشاكلها بالنسبة لي تجارب تُضاف إلى تجارب في ممارسة الحقيقة واللاعنف... حسنًا، لنقُل أن كل فلسفتي، إن كان لي أن أدعوها بهذا الاسم المفخَّم، مُتضمَّنة في ما قد قلته. لكن لا يمكن تسميتها "عقيدة غاندوية" Gandhism؛ ليست فيها شيء من العقيدة. ولا تحتاج إلى مؤلفات أو دعاية تروِّج لها. لقد سبقني الأوَّلون، لكنني حثثت الخطى أسرع من أيِّما وقت مضى إلى الموقع الذي لا يمكن فيه أن يُضحّى بالحقيقة من أجل أيّ كان ومهما كان. وبوسع أولئك الذين يؤمنون بالحقائق البسيطة التي عرضتُها أن يشيعوها فقط عن طريق معايشتها. لا ينتابني أدنى شك في قدرة أي رجل أو امرأة على إنجاز ما أنجزتُه، إن هو (أو هي) بذل الجهد ذاته ورعى الأمل والإيمان ذاتهما. ترجمة: غياث جازي *** *** *** ٭ فصل من كتاب غاندي الإنسان، إكناث إيسوران، ترجمة غياث جازي. قيد الطباعة حاليًا. |
|
|