english

العمل اللاعنفي والنضال في سبيل الديموقراطية

 

ستيڤن زونس[1]

 

لعل ما فعلته الولايات المتحدة بقضية الديموقراطية هو عينه ما فعله الإتحاد السوفييتي بقضية الاشتراكية. فإدارة بوش لم تسيء فقط إلى سمعة هذه القضية في معظم أنحاء العالم، إنما بالتركيز المبالغ والمشبوه لأجندتها المتعلقة بـ "تسويق الديموقراطية"، أعطت الأنظمة القمعية ومناصريها الحجة في وصم أي حراك شعبي ديموقراطي يهددها بالعمالة للأجنبي حتى ولو كان هذا الحراك بقيادة مناضلين لاعنفيين مستقلين.

ففي الأشهر الأخيرة قامت حكومات زيمبابوي وإيران وبيلاروسيا وبورما وغيرها بالادعاء، وبلا أي تمييز، أن التمردات المدنية اللاعنفية والشعبية الشبيهة بتلك التي أطاحت بالأنظمة القمعية في صربيا وجورجيا وأوكرانيا خلال السنوات القريبة الماضية - والتي يمكن أن تهددها أيضًا - هي، بشكل أو بآخر، من صنع إدارة بوش وحلفائها للتهيئة "لانقلابات ناعمة" تطيح بالحكومات المعارضة للمصالح الأمريكية، واستبدلها بأخرى أكثر طواعية. وهذا ما يخلط بين ظاهرتين مختلفتين تمامًا.

لأن حكومة الولايات المتحدة قد قدمت فعلاً مبالغ قليلة من المال إلى عدد من المنظمات والأحزاب السياسية المعارضة عبر ما عرف بـالدعم الوطني للديموقراطية National Endowment for Democracy (NED)، والمركز الجمهوري الدولي the International Republican Institute (IRI) وغيرها. وقد ساعد هذا تمويل، أحيانًا وفعلاً، عددًا من هذه التنظيمات المعارضة على تغطية مصاريف بعض أنشطتها، كالحصول على حواسب والاتصال بالانترنت وتأمين أجهزة الفاكس وتغطية تكاليف مطبوعاتها وغيرها. كما ساعدت هذه المساعدات، المقدمة من قبل حكومات أجنبية وسواها من وسائل الدعم اللوجستي، على مراقبة الانتخابات وتأمين قيام انتخابات حرة ونزيهة. كما قامت الولايات المتحدة أيضًا، من خلال الـNED والـIRI وغيرها من المنظمات التي تمولها الحكومة الأمريكية، بتمويل المؤتمرات وتدريب العديد من قادة المعارضة في حملاتهم الاستراتيجية.

لكن ما هو مثيرٌ للجدل، في هكذا سلوكيات، هو أنها كانت موجهة بشكل أساسي لدعم التيارات المحافظة الموالية للغرب والمؤيدة لتوجهات السوق الحرة، ولم تكن موجهة إلى أحزاب اليسار الديموقراطي. كما أنها لم تكن موجهة فقط للنضالات المؤيدة للديموقراطية والمعارضة للأنظمة القمعية. وفعلاً، قامت الوكالات الأمريكية بدعم أحزاب المعارضة في بلدان كفنزويلا على الرغم من كون هذه الأخيرة ديموقراطية.

وقد رحبت بعض الجماعات المعارضة، في بعض البلدان، بتلك المساعدة الأمريكية، بينما رفضها بعضها الآخر مبدئيًا. رغم أنه لا توجد دلائل تشير - حتى في الحالات التي حصلت فيها هكذا مساعدات أمريكية محدودة للتنظيمات المعارضة - أن الحكومة الأمريكية، أو أية جهة داعمة، قد قدمت التدريب، والنصح، والمساعدة الاستراتيجية لتلك الحملات الشعبية اللاعنفية التي أسقطت الحكومات أو هددت مصير الأنظمة القمعية.

كيف تحصل التغيرات الديموقراطية؟

ما زالت الولايات المتحدة هي المزود الأول للأسلحة وللمساعدات الأمنية للأنظمة الديكتاتورية في مختلف أنحاء العالم. ما يعني أنه لا يمكن أن نأخذ على محمل الجد الفكرة القائلة بأن السياسة الخارجية الأمريكية، سواء في ظل الإدارات الجمهورية أو الديموقراطية، دعمت عن قناعة مخلصة الحرية والديموقراطية كقضية مبدئية. فالتاريخ بيّن، وبشكل متكرر، أن الحكومات الأمريكية، كسواها من معظم السلطات الغربية، دعمت الحكم الديموقراطي فقط في حال كان هذا الحكم متوافقًا مع مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. وفي المقابل غالبًا ما عارضت الحكومة الأمريكية حكومات ديموقراطية رأت أنها تعارض مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. ورغم أن الغالبية العظمى من الأمريكيين، استنادًا إلى نتائج الاستطلاعات، يؤيدون الديموقراطية كقضية مبدئية، إلاّ أن دعم "الديموقراطية" لم يكن إلاّ مجرد عقلنة للعديد من المبادرات الخارجية الأمريكية التي غالبًا ما انتهت بدعم الأنظمة التسلطية والقمعية. ما يعني، بالنتيجة، أنه، رغم كون دعم التغيرات الديموقراطية في البلدان التي تحكمها أنظمة أوتوقراطية هدفًا عالميًا؛ فإن التشكك بتوجهات إدارة بوش المؤيدة للديموقراطية هو أمر مشروع فعلاً.

لأنه، وفي جميع الأحوال، لا يحصل التغيير الديموقراطي إلاّ من الداخل. وقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور عدد من الحركات الاجتماعية اللاعنفية التي نجحت في الإطاحة بالديكتاتوريات، وفرضت إصلاحات ديموقراطية في العديد من البلدان كالفيليبين والشيلي وبوليفيا ومدغشقر والنيبال وتشيكوسلوفاكيا وإندونيسيا وصربيا ومالي وأوكراينا. ما جعل، مؤسسة محافظة نسبيًا كبيت الحرية الذي مركزه واشنطن، وبعد دراسة حال 67 بلدًا خلال العقود الأخيرة؛ تنشر تقريرًا[2] يستنتج منه أن هذه التحولات لم تكن فقط نتيجة تدخل خارجي، ولا بسبب ثورات مسلحة، أو إصلاحات إرادية من النخب؛ إنما في معظم الحالات، وحسب نفس التقرير، جاءت التحولات من خلال المنظمات الديموقراطية للمجتمع المدني التي انخرطت في مظاهرات لاعنفية عارمة، وسواها من أشكال المقاومة المدنية، كالإضراب، والمقاطعة، ورفض دفع الضرائب، واحتلال الأماكن العامة، وغيرها من أشكال عدم التعامل.

لأنه عندما تواجه الحكومات تحديات من قبل شعوبها غالبًا ما تميل إلى الادعاء بأن أولئك المناضلين من أجل الحرية والعدالة هم خونة للأمة وعملاء لقوى خارجية معادية. فخلال العقود الأخيرة كان ناشطو المعارضة، الذين تحدوا الديكتاتوريات المدعومة من قبل الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وغيرها، يصنفون بشكل روتيني كـ"عملاء للشيوعية" وكـ"موالين للسوفييت". تمامًا كما تصنف، اليوم، حركات ديموقراطية في بلدان شرق أوسطية تتعامل معها أمريكا على أنها "إسلامية أصولية" و"عميلة لإيران". وكما يصنف في نفس الوقت، ناشطو المعارضة، في إيران وبيلاروسيا وبورما وزيمبابوي، على أنهم "مؤيدين للإمبريالية الغربية" و"عملاء للأمريكان".

وفي الواقع، ليس بوسع الدعم المالي المحدود الذي قدمته الولايات المتحدة وسواها من الدول الغربية لبعض المجموعات المعارضة خلال العقود الأخيرة، أن يولد ثورة ليبرالية ديموقراطية ولاعنفية. تمامًا كما لم يكن بوسع الدعم المالي والمادي المحدود، المقدم من قبل السوفييت للحركات اليسارية خلال العقود التي سبقتها، أن يتسبب بثورة اشتراكية مسلحة. لأن الثورات، وكما يعترف بذلك الماركسيون وغيرهم ممن له خبرة طويلة بالحركات الشعبية، إنما هي نتيجةُ عدد من الظروف الموضوعية. وبالفعل، ليس بوسع المال أن يجبر مئات الآلاف من الناس على ترك أعمالهم، وبيوتهم، وعائلاتهم لكي يواجهوا الشرطة المدججة بالسلاح والدبابات، ويقدموا أجسادهم كقرابين، ما لم يكن لديهم دافع مخلص لذلك.

نظريات المؤامرة

تدعي بعض الأنظمة، التي تواجه معارضة شعبية، أن بعض المنظمات المستقلة وغير-الربحية وكذلك مؤيدو العمل اللاعنفي، في أوروبا والولايات المتحدة، الذين أقاموا مؤتمرات وورشات عمل لنشطاء المعارضة حول تاريخ وديناميكيات المقاومة اللاعنفية؛ إنما هم عملاء لإدارة بوش. وقد خدع بعض كتاب المقالات والصحفيين المنتقدين لتلك الإدارة والقلقين بشكل مشروع من التدخل الأمريكي المتستر بـ"الديموقراطية" بهكذا ادعاءات. كما قامت بعض المواقع الإلكترونية وبعض الصحف التقدمية المعروفة جدًا بتبني تلك النظريات التآمرية وتردادها كوقائع.

ورغم هذا، فإن معظم هذه المؤتمرات والورشات كانت تتم بناءً على طلب مباشر من نفس منظمي المعارضة. وأغلب تلك الطلبات كان من قبل مناضلين ديموقراطيين يناضلون ضد الديكتاتوريات اليمينية، أو نشطاء ديموقراطيين يناضلون ضد الديكتاتوريات اليسارية. فخلال السنة الأخيرة، مثلاً، عملت وزملائي مع مصريين، ومولدافيين، وفلسطينين، وجنوب-بوبيين، وصحراويين، وأزرابيجانيين، وهنود غواتيماليين، يناضلون ضد حكومات ديكتاتورية مدعومة من قبل الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك فإن معظم هذه المجموعات قد اتبعت سياسة رفض حازمة لأية مساعدات من قبل الـNED أو من أية منظمات تتلقى تمويلها من منظمات حكومية أخرى. وكنتيجة لانخراطي الشخصي مع العديد من هذه المنظمات، التي أعرف شخصيًا معظم قادة ورشها، فإنه بوسعي أن أؤكد أن الاتهامات الموجهة إلى جين شارب، وجاك دوفال، وبوب هيلفي، وإيفان ماروفيك، كما إلى مؤسسة ألبرت أنشتاين، وإلى المركز الدولي حول النزاعات اللاعنفية ICNC، أو مركز تطبيق العمل اللاعنفي واستراتيجياته CANVAS؛ والقائلة بأنها تنسق مع الـCIA أو أنهم عملاء للإمبريالية الأمريكية إنما هي عارية تمامًا عن الصحة.

لكن، مع الأسف، فإن ما حصل أنه حتى الرئيس هوغو شافيز - وبالتناغم مع بعض مؤيديه في أمريكا الشمالية - قد صدق، على ما يبدو، تلك الادعاءات، واتهم بعض الأشخاص والمجموعات بالتآمر للإطاحة به. وإذا كان من حق شافيز، ربما، أن يكون مهووسًا، استنادًا لما قامت به الحكومة الأمريكية من جهود للإطاحة بنظامه، بما في ذلك مساندتها للانقلاب القصير الأجل الذي وقع ضده في العام 2002؛ فإن الوقائع تقول، رغم كل شيء، أن الزيارة الوحيدة التي جرت لفنزويلا، من قبل أي من تلك المنظمات غير الربحية ذات العلاقة بالاستراتيجيات اللاعنفية؛ كانت في مطلع 2006، ومن قبلي شخصيًا، عندما قمت - بالاشتراك مع دافيد هارثو داعية السلام الراديكالي ومدير Peaceworkers - بتوجيه عدد من ورشات العمل خلال المؤتمر العالمي الاجتماعي في كاراكاس. فهناك ألقينا محاضرات وقدنا نقاشات ذات علاقة بقوة المقاومة اللاعنفية، كما قدمنا مجموعة من المشاهد من فيلم ICNC يبين كيفية المساعدة في تطوير الحركة المؤيدة للديموقراطية في التشيلي ضد الديكتاتور الراحل أوغوستو بينوشيت، الذي كان مدعومًا من الولايات المتحدة. وكانت الإشارة الوحيدة إلى فنزويلا، خلال هذه الورشات، من أجل تبيان كيف أن بوسع الفعل اللاعنفي الجماهيري المساعدة في مقاومة انقلاب ممكن ضد شافيز، وليس للتهيئة لانقلاب ضده. وقد التقينا حينذاك، هارثو وأنا، مع بعض المسؤولين الفنزويليين للحديث حول مقترحات تقدمنا بها، وتتعلق بكيفية واجب قيام الحكومة بتدريب الناس على استخدام مختلف الطرائق اللاعنفية في الدفاع المدني من أجل مقاومة أي محاولة انقلابية محتملة تهدف إلى الإطاحة بتشافيز مستقبلاً.

ورشات العمل المتعلقة بالاستراتيجيات اللاعنفية

لا تختلف المجموعات الأمريكية والأوروبية، التي تشارك التنظيمات المدنية للمجتمع المدني في البلدان الأجنبية بمعلوماتها الأساسية المتعلقة بتاريخ وديناميكية الاستراتيجية اللاعنفية، عن المنظمات الأخرى الطوعية والخاصة ذات العلاقة بالتقنيات البيئية المدعمة والتقنيات الزراعية المقدمة للمزارعين من أجل مساعدتهم في المساهمة في تقدم أممهم. فكلاهما تقدم وسائل مفيدة بوسعها، إن طبقت بشكل دؤوب وفعال، تحسين نوعية معيشة الملايين من البشر. ولا شيء "إمبريالي" في هذا الأمر.

فكما أنه بوسع التقنيات والطرق الزراعية المدعمة أن تكون أكثر نجاعة في تلبية الحاجات الإنسانية، والحفاظ على الكوكب، من الاستراتيجيات الحكومية التقليدية التي تسوقها الحكومات الغربية؛ كذلك برهن العمل اللاعنفي أنه أكثر نجاعة في تطوير التغيير الديموقراطي من التهديد الأجنبي بالتدخل العسكري، ومساندة الانقلابات، وفرض العقوبات، ومساندة المجموعات المتمردة المسلحة، وغيرها من الوسائل التقليدية المستعملة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. وكما أن تطبيق التقنيات المناسبة هي وسيلة لإصلاح الأضرار الناجمة عن تطبيق تقنيات نماذج اقتصادية نيو-ليبرالية، ساندتها الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية، كذلك فإنه من الممكن، عبر استعمال العمل الجماهيري اللاعنفي، مواجهة الأضرار الناجمة عن سباق التسلح، والتدخلات العسكرية، وغيرها من الممارسات الغربية المسيئة.

سلطة الشعب

وهناك فرق آخر بين هذه الجهود التثقيفية من شعب إلى شعب وبين تدخل الولايات المتحدة، ألا وهو أنه بعكس ما تفعله الـNED وسواها من جهود "مؤيدة للديموقراطية"، وتركز غالبًا على تطوير مبادرات سياسية تقليدية تقودها نخب مؤيدة للغرب، فإن الورشات حول استراتيجيات اللاعنف مصممة أساسًا من أجل نشطاء القاعدة الشعبية غير المنتسبين إلى أحزاب سياسية قائمة ويريدون تحقيق التغيير بدءًا من الأسفل.

تاريخيًا، وبشكل عام، يأتي الأشخاص، وكذلك تأتي المجموعات ذات الخبرة الفعالة بالحملات اللاعنفية، من خلفيات يسارية وسلمية لها رأي سلبي فيما يتعلق بسلطة الحكومة، وخاصةً منها تلك الحكومات التي لها تاريخ حافل بالعسكرة والغزوات. فعلى سبيل المثال، تعود جذور خلفيتي، المتعلقة باستراتيجية العمل اللاعنفي، إلى انخراطي، في أواخر السبعينات، كمدرب لاعنفي في تحالف كلامشيل المعادي للأسلحة النووية، وإلى المجموعة الثورية اللاعنفية في سبيل مجتمع جديد، وكلتاهما كانتا غير مركزيتان في بنيانهما ومعاديتان حتمًا للرأسمالية وللإمبريالية في توجهاتهما. وفي الماضي القريب كانت ورشات العمل، التي قدتها، تضم خبيراً محترفاً من جنوب-أفريقي من الاتحاد الديموقراطي المعادي للأبارتهايد، وناشطاً فلسطينياً قيادياً من الانتفاضة الأولى، وقادة طلابيون سابقون من الجناح الصربي اليساري المعادي لميلوسيفيتش.

بل على العكس، فإن العديد من الحكومات البيروقراطية، المعتادة على تصور السلطة السياسية من خلال القوة العسكرية أو عبر قنوات النخب الديبلوماسية، ليس بوسعها أن تتفهم ولو قليلاً العمل اللاعنفي أو أي شكل من أشكال النضال الشعبي الجماهيري. وبالفعل، ماذا بوسع عملاء المخابرات المركزية CIA أن يعلموا عن اللاعنف أكثر من كونه مجرد تنظيم قواعدي؟

أي باختصار، يبدو ساذجًا ذلك التصور القائل أنه بوسع أية قوة خارجية إحداث ثورة من أي نوع. بل إنه يجب أن يكون واضحًا أن الحكومة الأمريكية لا تعرف حتى أولويات التهيئة لانتفاضة لاعنفية مدنية. والنتيجة هي أن صانعي سياسات الولايات المتحدة يواجهون رهانًا ذو حدين ألا وهو: هل الطريقة الأكثر واقعية، للإطاحة بما تبقى في العالم من أنظمة أوتوقراطية، يمر عبر عملية لا تستطيع الحكومة الأمريكية السيطرة عليها؟

فحكومة الولايات المتحدة، التي شجعت تاريخيًا، تغيير الأنظمة عن طريق الغزو العسكري، والانقلابات، وغيرها من الوسائل العنيفة للاستيلاء على السلطة؛ قد اوصلت إلى الحكم أقليات غير ديموقراطية. بينما، على العكس من ذلك، جعلت حركات "السلطة الشعبية" اللاعنفية تغيير هذه الأنظمة ممكنًا عن طريق تفعيل الأكثريات المؤيدة للديموقراطية. والنتيجة هي أن أفضل أمل لتقدم الحرية والديموقراطية، في البلدان ذات الأنظمة الأوتوقراطية التي ما زالت متبقية في عالمنا، يأتي من المجتمع المدني وليس عن طريق حكومة الولايات المتحدة، التي لا تستحق حتى تحمل مسؤولية الإشادة بها أو لومها فيما يتعلق بتطور ظاهرة الثورات الديموقراطية اللاعنفية.

دعم جدول أعمال الرئيس بوش

إن ظهور منظمات المجتمع المدني، وازدياد الوعي فيما يتعلق بقوة العمل اللاعنفي خلال السنوات الأخيرة، كان من أكثر التطورات السياسية إيجابيةً، والتي يبدو أنه لولاها لكانت هذه الأزمنة السياسية أكثر مدعاة للخيبة. وهنا بوسعنا أن نقول أنه من المؤسف فعلاً أن تقرر بعض الأصوات "التقدمية" المفترضة مهاجمة هذه الظاهرة الشعبية المتأصلة وكأنها شكل من أشكال المؤامرة التي ترعاها إدارة بوش.

كما أنه من المثير للسخرية أن الكثير من اليسار الأميركي - الذي دعم لسنوات رومانسية الكفاح المسلح كطريق وحيد للتغلب على الديكتاتوريات، متجاهلاً القوة الكامنة للعمل اللاعنفي في الإطاحة بالحكومات القمعية، ورافضًا مفهوم الثورة اللاعنفية -، يعبر الآن عن قلقه من نجاح الثورات الشعبية اللاعنفية، وتصل به السذاجة إلى حد تصور أنه من الممكن تنظيم هكذا حراك من قبل الرأسمال الأجنبي. لأن الواقع يقول: أن كل حركة شعبية لاعنفية ناجحة كانت منبثقة من إدراك الجماهير لواقع أن حكامها غير شرعيين، وأنه ليس بوسع النظام السياسي القائم إزالة الظلم. لا بل على العكس، لم ينجح أي تمرد لاعنفي حين لم تكن قيادة الحركة وبرنامجها مدعومًا من قبل أغلبية السكان. لهذا السبب فشلت "اضرابات" أعوام 2002 – 2003 في صناعات النفط الفنزويلية في الإطاحة بتشافيز، بينما أدت اضطرابات اقتصادية في أماكن أخرى إلى الإطاحة بقادة أقل شعبية.

فالانتقادات "اليسارية" للحركات اللاعنفية المؤيدة للديموقراطية تلتقي مع طروحات أنصار الجناح اليميني المؤيد للتدخل الأمريكي في واقع أن كلاهما ينكر مقدرة الناس على الإمساك بمصائرهم بأيديهم والإطاحة بقادتهم الطغاة وبمؤسساتهم. لا بل على العكس، يميل الطرفان إلى الاعتقاد أن الشعب مجرد ضحية سلبية، وأن التغيير الاجتماعي والسياسي لا يمكن أن يتم إلا من خلال مناورات القوى الخارجية.

تبسيطات ريغانية

على سبيل المثال، ورغم إصرار الرئيس ريغان، في الثمانينات، على أن التمردات الشعبية المسلحة، التي تحدت الأنظمة القمعية المدعومة من قبل الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، إنما هي محصلة "جدول أعمال" سوفييتي؛ فإن الواقع يقول أن الثورات في كل من نيكاراغوا والسالفادور وغواتيمالا كانت بسبب التطور المحلي لحركات شعبية. وطبعًا، قدم السوفييت لهذه التمردات مساعدة محدودة راغبين حتمًا في إحراز مكاسب سياسية من خلال الإطاحة بالأوليغارشية المؤيدة لأمريكا واستبدالها بثوريين يسارين أكثر إيجابية تجاههم. لكن الفلاحين والعمال المضطهدين في بلدان أمريكا الوسطى لم يكونوا ينفذون أوامر موسكو، إنما كانوا يناضلون من أجل حقوقهم الأساسية وفي سبيل الخلاص من القمع.

لأننا نسمع اليوم ادعاءات مشابهة تدعو إلى السخرية، وتقول بأن الولايات المتحدة هي القوة الرئيسية الداعمة للحركات الشعبية في بورما وإيران وزيمبابوي وبيلاروسيا، أو أن الولايات المتحدة هي، بشكل أو بآخر، مسؤولة عن نجاح الحركات الشعبية التي سبقتها في صربيا وجورجيا وأكرانيا. ففي هكذا مواقف تتلاقى الادعاءات اليمينية التي دعمت بلا تحفظ سياسات ريغان العسكرية الخطرة، خلال فترة الحرب الباردة، ومن أجل اسقاط الشيوعية في شرق أوروبا؛ بتلك التي حاولت وصم اتحادات النشطاء والفلاحين والطلاب والكهنة وغيرهم ممن عانوا الكثير خلال الانتفاضات الشعبية في أمريكا الوسطى بأنهم عملاء للسوفييت.

ومن المهم هنا أن نتذكر أيضًا أن أغلبية الحركات اللاعنفية الناجحة لم تكن ضد ديكتاتوريات تعارضها حكومة الولايات المتحدة إنما كانت ضد ديكتاتوريات تدعمها حكومة الولايات المتحدة. فالطغاة اليمينيون الذين أطاحت بهم تحركات هذه "القوى الشعبية" شملت أشخاصاً كماركوس في الفيليبين، وسوهارتو في أندونيسيا، وشاه إيران، ودوفالييه في هايتي، وشون في كوريا الجنوبية، والنميري في السودان، ونحن هنا لا نعدد إلاّ بعضًا قليلاً من هؤلاء.

كما وينجم عن هكذا طرح تبسيطي مشكلة أخرى غالبًا ما تحدث عندما تتمكن هذه التمردات المدنية اللاعنفية من إيصال الديموقراطيين إلى السلطة في بلدان كانت سابقًا تحت حكم ديكتاتوريات معادية لأمريكا. حين يواجه أولئك القادة الجدد والقليلي الخبرة تصفيق اليمين الأمريكي وشكوك الأوروبيين واليسار الأمريكي. مما يدفعهم إلى التساؤل عن ماهية أصدقائهم الحقيقيين ويعزز اعتقادهم بأن أولئك اليمينيين، وليس اليساريين، هم المدافعين الحقيقيين عن الحرية.

فالتفكير التآمري، الذي يؤدي إلى تشويه سمعة الحركات الشعبية، والذي غالبًا ما يظهر عند بعض الحلقات اليسارية؛ إنما يدعّم الأنظمة القمعية ويضعف القوى الديموقراطية، كما وأنه يقوي حجج المحافظين الجدد في أمريكا والقائلين بأنه فقط التدخل العسكري - وليس النضال اللاعنفي للشعوب المضطهدة - كفيل بتحرير أولئك الذين يعانون من أنظمتهم القمعية.

كيف تحصل التغيرات

لأنه غالبًا ما تستلزم الثورات اللاعنفية الناجحة، مثلها مثل الثورات المسلحة الناجحة، عشرات السنين كي تتطور كفعل عضوي في قلب الجسم السياسي لبلد معين. لأنه لا توجد أية وصفة جاهزة تضمن النجاح وتقول أنه بوسع حكومة، أو منظمة لاحكومية أجنبية، ومنذ بداية التاريخ، أن تقدم الثقافة والنصح فيما يتعلق بالتحالفات السياسية في كل بلد وبنفس الشكل. كلا ليس بوسع أية حكومة ولا أية منظمات غير حكومية أجنبية جذب وتجنيد تلك الأعداد الواسعة من المدنيين الذين بوسعهم بناء حركة شعبية تستطيع أن تتحدى بشكل فعال القيادة السياسية القائمة، وحتى ما هو أقل من ذلك أي مجرد اسقاط حكومة.

فالمدربون وقادة ورشات العمل، من أمثالي وأمثال زملائي، بوسعهم التأكيد على بعض الاستراتيجيات والتكتيكات التي برهنت على نجاعتها في أماكن أخرى وذات العلاقة بالضغط على الحكومات كي تغير من سلوكياتها وعلى كيفية تقويض الدعم والولاء الضروري لهكذا حكومات كي تفكك بنجاح معارضتها. كما أنه، في بعض الحالات، بوسع النشطاء المحليين أن يجربوا وسائلهم الخاصة. لكنه يبقى من المؤكد أن أي حكم سيضعف حتمًا في النهاية حين يحاول الاحتفاظ بالإكراه على منظومة يعارضها شعبه، وليس قطعًا لأن قائد ورشة عمل أجنبي لقن، ذات يوم، مجموعة صغيرة من نشطاء المعارضة في بلده بعض التكتيكات التي استعملت ذات يوم بنجاعة، في بلدان أخرى وأزمنة أخرى.

لذلك، ومحافظين في نفس الوقت على معارضتنا المبدئية للسياسات التدخلية للولايات المتحدة، وفاضحين نفاق اللغة المنمقة وذات الوجهين لإدارة بوش في تأييدها للديموقراطية؛ يتوجب علينا تحدي أؤلئك الذين يحاولون الإساءة إلى الحركات الشعبية المحلية بالادعاء أنها صنيعة لواشنطن و/أو بهدلة المجموعات اللاربحية المحترمة وذات السمعة الطيبة التي تشارك الآخرين فيما وراء البحار الذين يتفقون معها بالرأي خبراتها ومعلوماتها الأساسية حول استراتيجيات وتكتيكات اللاعنف.

وفي النهاية يتوجب على جميع التقدميين، لأن هذا هو الشيء الصحيح الواجب فعله، الاعتراف بالضرورة الأخلاقية في معارضة الأنظمة القمعية بغض النظر عن أيديولوجياتها و/أو علاقتها مع الولايات المتحدة. كما يتوجب عليهم تبني استراتيجية العمل اللاعنفي في سبيل قضية الحرية كمبدأ وكبديل واقعي معارض للتدخل الأمريكي.

ترجمة: أكرم أنطاكي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  ستيفن زونس: محرر مختص بقضايا الشرق الأوسط في مجلة السياسة الخارجية تحت المجهر Foreign Policy in Focus، وأستاذ في العلوم السياسية في جامعة سان فرانسيسكو. كما أنه المحرر-المشارك الأساسي في الحركات الاجتماعية اللاعنفية (بلاكويل 1999)، وعضو مجلس إدارة الأكاديميين الاستشاريين في المركز الدولي للصراعات اللاعنفية International Center on Nonviolent Conflict.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود