|
خيوط الزمن: سيرة شخصيَّة
يوصف پيتر بروك بأنه واحد من أهم صُنَّاع المسرح الحديث، كما يوصف بقدرته المستمرة على إدهاش المتلقِّي في قاعة العرض وعلى جعله يشم رائحة المسرح! مخرج من هذا النوع هو "مسرحجي"، كما يفضل الناقد فاروق عبد القادر أن يطلق عليه؛ وهذا ما كرَّره مرة أخرى في مقدمة ترجمته لسيرة پيتر بروك التي صدرت بالعربية بعنوان خيوط الزمن: سيرة شخصية[*].
كل قراءة لهذا الكتاب تؤكد ذلك بامتياز: فهذه السيرة هي سيرة لتجربة مسرحية غير اعتيادية، بدأت بتجارب "مسرح القسوة" التي استلهمها بروك من مؤسِّسها أنطونين أرتو واختبرها في تجاربه الأولى: الملك لير (1961)، المارا صاد (1964)، ويو إس (1966)؛ ثم عرجت على خبرات إعادة إخراج شكسپير في أعمال عديدة؛ ومنها إلى تأسيس مسرح إنساني عرقي ينجو بنفسه من مركزية المسرح الأوروبي المستند إلى تقاليد المسرح الإغريقي العريقة، مختبرًا تفاعُل الثقافات الشرقية والغربية والإفريقية، وثقافات الجنوب إجمالاً، في إنتاج مسرح تجريبي مختلف، وطارحًا مفهوم الارتجال كقيمة مسرحية تكشف القدرات التعبيرية المطمورة في الممثل والانفعالات غير المتوقعة لدى المتلقِّي، بالإضافة إلى اكتشاف مفاهيم جديدة للإطار المسرحي نفسه. يكتفي بروك في صفحات الكتاب الأولى بإشارات مركَّزة وعميقة إلى الطفولة وإلى أبيه وأمِّه. الأب يصف الأم بأن ابتسامتها تشبه ابتسامة الموناليزا – وهذا ما يتأكد له عندما يزور اللوڤر. يقول بروك: حين أستعيد وجهها وأرى ابتسامتها أعرف الآن أن ما فيها ليس سخرية، بل حزنٌ لانهائي نصف مخبوء. فهي تخلَّت عن طموحها في أن تصبح طبيبة لكي تتبع الأب الذي يدرِّس في جامعة تخلو من فرع الطب. لذا لم تفقد إحساسها العميق بعدم الرضا عن نفسها، وكانت تخشى الجمهور وتختبئ عندما يحضر الضيوف إلى منزلها، وفي الأيام العادية تنشغل اليوم بطوله في المعمل غارقةً في المعادلات والأحماض. ويصف بروك علاقة الوالدين بأنها صراع بين الطاقة والاندفاع والتصميم في مواجهة الحاجة للاستسلام: إذا أنا حاولت أن أفهم مصادر دوافعي وتناقضاتي فسوف أجدها في هذا الصراع الذي لم ينتهِ أبدًا. بسبب شبه يقين أصابه في المراهقة بأنه سيموت قبل الأربعين، بدا پيتر بروك في عجلة من أمره، ما بين قرار العمل في السينما وتدابير الهرب من رغبة الأب في أن يدرس القانون، إلى أن قادتْه المصادفات والملابسات إلى المسرح، وذلك من دون أن يعبأ بالعلاقات العاطفية. لم ينتبه إلى ذلك إلا عندما لمح فتاة جميلة في إحدى حفلات الماتينيه في مسرح الـCovent Garden: ناتاشا؟ بدا لي أني أسمع أصداء أجراس بعيدة. حين كنت في الثانية عشرة قرأت رواية الحرب والسلام وأرقتُ قلبي وروحي بين الغلافين. لقد عشت مع بطلة الرواية – واسمها ناتاشا – وأحببتها. وقبل أن أطوي الكتاب، كنت قد اتخذت قراري أن أتزوج من فتاة تحمل الاسم نفسه – وهذا ما كان. لكن هذا النص أيضًا سيرة روحية موازية لسيرة اكتشاف آفاق المسرح. وهذا ما يتجلَّى من خلال علاقة بروك بمعلِّمته الروحية جين هيپ[†]، حيث اكتشف، بفضل خبرته معها، خطأ اقتناعه بأن ليس ثمة تقدم في الفهم الحقيقي، على اعتبار أن الإنسان بلغ ذروة الفهم والوعي منذ آلاف السنين، فأدرك أن اتِّباع التعاليم [تعاليم غورجييف] لا يعني فقط مجرد الاستماع ثم الطاعة، وأن البحث الشخصي الحقيقي يبدأ حين يوقن الفرد أنه كي تصبح العملية حقيقية لا خيار له سوى إعادة الاكتشاف. يفيض الكتاب بخبرات التعامل مع النجوم، من أمثال: لورنس أوليڤييه، پول سكوفيلد، ريتشارد بورتون، جان مورو، غليندا جاكسون، وسواهم، إضافة إلى برتولد بريخت ومارغريت دوراس وجان جونيه وسلڤادور دالي. كل علاقة من تلك العلاقات تضيء خبرة مشتركة: فهم دور الممثل أو تركيب المشاهد، وفهم النص في شكل عام، يقدِّم تراكمًا في مفهوم "التشخيص" وفي السيطرة على الممثل: كيف تُستخرَج الطاقات الكامنة فيه كلها، وكيف يتواصل التجريب والتدريب من دون جمهور. وهو يشير عَرَضًا إلى المفهوم المثالي لممثل مدرَّب جيدًا: جسد لا يتموَّج بالعضلات والمظهر الخارجي للقوة، لكنه كائن عضوي شفاف، يتكامل كل نسيج عضلي فيه ليخدم ذبذبات كلِّ دفعة جديدة. من أمتع فضاءات الكتاب ذاك الذي يتناول فيه بروك خبرات السفر: من لندن إلى باريس، برلين، نيويورك، ثم إلى الجنوب، من كابول وقندهار إلى الهند، ثم المكسيك، ومنها إلى أفريقيا. ففي سرد كلٍّ منها يقدِّم رسمًا مركزًا لروح المدينة والبشر وتأثير ذلك على الخبرة المسرحية. يشير بروك إلى سؤال طرحه عليه مدرِّس للفنون في شبابه عن سبب وجود الإيقاع مشترَكًا أساسيًّا في الفنون البصرية والسمعية والحركية؛ وهو سؤال له دور محوري في تجربته الفنية، على ما يشير. وربما لذلك يهتم كثيرًا بالارتجال وباكتشاف تجارب تخلق إيقاعاتها الخاصة كلَّ مرة، لكنه يستنكر ما وُصِفَتْ به تلك التجارب بكونها محاولة لابتكار لغة عالمية، موضحًا أن كلَّ ثقافة لها مجموعتها الخاصة من الكليشيهات، وأن الخطوة الأولى كانت تتمثل في تحرير العقل، الانتقائي بطبيعته، [...] الذي قسَّمنا أوروبيين وأفارقة وآسيويين، والإصغاء إلى الأصوات والحركات قريبًا من مصدرها، دون حاجة إلى أن نشرح لأنفسنا ما تعني. ومن هذه التجارب، تخلَّقت علاقاتٌ جديدة بين الجمهور والخشبة. وهو ما تجلَّى في تجارب عديدة، من بينها: المهابهارتا ومنطق الطير وبستان الكرز. يقدِّم پيتر بروك في مذكراته هذه صورةً لراهب مخلص في كهنوت المسرح، يفتح فيه كلَّ يوم آفاقًا للفهم والمعرفة، تمامًا كما هي حال خبرته الروحية: إذ لا يعني له الذاتي أو الشخصي شيئًا إلا إذا كان على تماس مع المسرح بشكل ما؛ كما أنه لا يفسِّر الذاتي إلا بلغة المسرح التي هي عنده لغة الحياة. التحية هاهنا واجبة لترجمة فاروق عبد القادر الذي سبق له أن ترجم جميع أعمال بروك النثرية: المساحة الفارغة والنقطة المتحولة، ثم الباب المفتوح وأفكار حول التمثيل والمسرح. ونعم، كان ضروريًّا أن يترجم فاروق عبد القادر هذا الكتاب: فمن دونه لا تكتمل صورة پيتر بروك. القاهرة *** *** *** |
|
|