english

 

الغاباتُ كَحُرُم

هنريك سكوليموفسكي

 

1. الغابات والهندسة الأصلية للكون

كلُّنا يعلم مقدار تشابُك العلاقات بين الشجرة الواحدة وبين أشكال الحياة التي تحيا فيها ومن حولها. ولكنْ، ما سرُّ أهمية الأشجار بنظر الكائنات الإنسانية التي هي، في النهاية – كشكل من أشكال الحياة –، شديدة التميُّز والاختلاف عن الأشجار؟ الكائنات الإنسانية، على تميُّزها واختلافها، جزء من إرث الحياة عينه.

إن سبب أهمية الأشجار والغابات بنظرنا إلى هذا الحد، بما نحن بشر، يتعلَّق بالهندسة الطبيعية للكون. لذا علينا أن نميِّز بين الهندسة البشريةِ الصُّنع، المتفرِّعة عن الهندسة الإقليدية – الهندسة التي نتعلَّمها في المدارس – وبين الهندسة الطبيعية، وخصوصًا هندسة الأشكال الحية.

حين كان إقليدس يبتكر هندسته، التي صارت أساسًا للأشكال البشريةِ الصُّنع، فإن العقل الإغريقي كان قد أُفْسِدَ بمقاربة أرسطو التحليلية والتصنيفية للعالم. فمع سقراط وأفلاطون كان العالم الإغريقي ما يزال متماسكًا في الوحدة والتناغم. أما مع أرسطو، فقد بدأنا نقسِّم ونجزِّئ، نشرِّح ونُذَرْذِر – أي نضع الأشياء في قطاعات منفصلة، حيث يتم التعرُّف إليها بفضل لصاقات خاصة تدعى بـ"التعريفات".

لا يفعل إقليدس وهندسته إلا تعزيز الميل إلى الذرَّانية atomism، والانفصالية، والتفكير بمقتضى مقولات منطقية مرتَّبة – فهاهنا المسلَّمات، وهاهنا قواعد الاشتقاق، وهاهنا النظريات المشتقة من المسلَّمات عبر قواعد الاشتقاق المتَّفق عليها. وكلُّها مرتَّب جدًّا ومحدَّد بصرامة بالغة. هو انتصار للعقل الغربي العقلاني، الذي سيعتمد كلَّ الاعتماد على استطاعة المنطق الشكلاني، على معنى المسلَّمات التي ستصير اللَّبِنات النهائية التي سوف تُبنى عليها الأشياءُ الأخرى.

وما ينبغي ألا يغيب عن ملاحظتنا، بوجه خاص، هو إصرار إقليدس على أهمية النقطة والخط المستقيم. ولنكن على دراية بأننا لا نبصر النقطة أبدًا لأن النقطة، بما هي كذلك، غير مرئية؛ ونحن نكاد ألا نصادف مستقيمًا في الطبيعة. ومع ذلك، فإن عمارة العالم البشري – أو لكي نتوخى المزيد من الدقة – عمارة العالم كما بناه الإنسان الحديث، قائمة على الخطوط المستقيمة وعلى تلك النقاط غير المرئية.

فلنضع الفرضية في عبارات عامة: إن الهندسة التي تتسيَّد حياتنا، حين نعيش في مدينة، أو في بيت حديث، أو حين نقود سيارة، هي الهندسة المشتقة من المنظومة المجردة للهندسة البشرية الصُّنع. وإنها لهندسة سوف تضيِّق علينا بعد هنيهة وتخنقنا.

لقد ميَّزنا الهندسة الطبيعية عن الهندسة البشرية الصُّنع. ولكن ما الهندسة الطبيعية؟ إنها الأشكال التي تطوَّر بها، ومن خلالها، الكونُ؛ الأشكال التي تطوَّرتْ بها الحياة. وما هي هذه الأشكال؟ هذه الأشكال دائرية، لولبية، كروية، رَحِميةُ الشكل. وحين نتأمل عمارة الكون – المجرات والذرات، الأميبا والأشجار – فإننا نرى على الفور بأن الأشكال والهيئات السائدة في الطبيعة وفي الكون مستديرة ولولبية، ومرارًا ما تكون عديمة الشكل.

إن الكون الراقص لا يتحرك وفق خطوط مستقيمة؛ إنه يتحرك وفق مسارات لولبية ودائرية غير منتظمة. والحياة الراقصة في الكون، ومن خلاله، لا يصمِّم رقصاتِها الكمبيوتر بمنطقه الخطِّي linear logic. إنما الرمز الجوهري للحياة هي الرَّحِم.[1]

لقد انبثقت الحياة برمَّتها من الرحم الأزلية غير المنتظمة، عديمة الشكل، المليئة بالالتفافات والحلزونات الواصلة. ونحن البشر الأفراد حُبِلَ بنا وصُوِّرنا وترعرعنا في أرحام أمهاتنا. وقد طَبَعَت الهندسةُ الطبيعية دوافعَنا الباكرة، وصاغت الهندسةُ الطبيعية نموَّنا الباكر، وشكَّلت الهندسةُ الطبيعية أجسامنا التي ليست سوى التعبير عن هذه الهندسة. فلننظر الآن إلى أجسامنا ولنعايِنْها بعبارات الهندسة الطبيعية. جسمُنا ممتلئ بالأشكال غير المنتظمة – مستديرة، وإهليلجية، غير متناظرة. وتكاد عمارة جسمنا أن تخلو من أيِّ خط مستقيم: فالرأس بيضة غير منتظمة مضحكة؛ والذراعان والساقان أسطوانات غير منتظمة؛ وما العينان والفم، العنق والمعدة، غير تنويعات لانهائية على ثيمة الهندسة الطبيعية.

ولما كنَّا قد ترعرعنا وتطبَّعنا، تشكَّلنا وتحدَّدنا، بالهندسة الطبيعية، فإننا نستجيب لها استجابة حدسية وعفوية. فلِمَ نشعر بهذه الراحة في حضرة شجرة؟ لأننا نجد فيها منفذًا لهندستنا الطبيعية. والتواصُل مع الأشجار، وإحاطة النفس بها، والبقاء موضع رعايتها، هي لنا عودة إلى هندسة الحياة الأصلية. لذا فإننا نشعر بكلِّ ذلك الارتياح في فعل هذا التواصُل. لقد ولدنا على الهندسة الطبيعية وتغذَّينا بها، وإلى هذه الهندسة نتوق لأن نعود. وفي اندماجنا في هندسة الشجرة، نفكك التوتر والضغوط المتراكمة، المُقحَمة علينا عِبْر الهندسة الصنعية. علينا أن نعي بوضوح أن الهندسة الصنعية للبيئات البشريةِ الصُّنع مليئة بالتوتر والضغط.

الاندماج في الحِواء الأوَّلي للحياة – ذلك هو الرَّشاد.

الوصال مع الصور التي تفصح عن الحياة العضوية – ذلك فرحٌ صامت.

ذوبان الذات في الأشكال المتشربة بجوهر الحياة – ذلك تجدد أساسي.

الأشجار والغابات هامة لأسباب نفسية عميقة. فبالعودة إلى الغابة، نعود إلى الرَّحِم، ليس بعبارات التحليل النفسي، إنما باللغة الكوسمولوجية. نحن نعود إلى منبع أصلنا؛ نتواصَل مع الحياة بعامة. وإن وجود الغابات لَمِنَ الأهمية بمكان لأنها تمكِّننا من العودة إلى منبع أصلنا. فهي توفر لنا محرابًا يمكن لوصالنا مع الحياة كلِّها أن يتم فيه.

إن البيئات غير المُبَنْيَنَة unstructured التي نحتاج إليها من أجل رشادنا وسلامتنا العقلية، كما ومن أجل لحظات التأمل الصامت التي لا نستطيع من دونها بلوغَ ذواتنا العميقة، يجب ألا تقتصر على الغابات وحدها. فالجبال الوعرة والقِفار تزوِّدنا بِصِلَة الوَصْل عينها للتواحُد مع مجد قوى عناصر الحياة. فالقِفار مانحة للحياة بمعنى أساسي، إذ هي تغذِّي لُبَّ كياننا – ولبُّ كياننا يُدعى النفس أحيانًا.

إن فهم طبيعة الإنسان هو، في مآل الأمر، رحلة ميتافيزيائية؛ وهو، في حدِّه الأدنى، رحلة عِبْرفيزيائية transphysical. والعِبْرفيزيائي، مترجَمًا إلى اللغة اليونانية، يعني الميتافيزيائي. والمعنى الميتافيزيائي للغابات يتعلق بنوعية الأماكن التي توفِّرها الغابات من أجل سكينة نفوسنا. فتلك هي فضاءات الصمت، فضاءات الرَّشاد، فضاءات القوت الروحي – التي يستشفي فيها كيانُنا وينعم بالسلام.

كلُّنا يعلم إلى أي حدٍّ يمكن للمدن الحديثة أن تبلغ في تحطيم نفوسنا وتدمير كياننا الداخلي – وهي فاعلة ذلك فعلاً. وإن المقارنة بين نهج مدينة تكنولوجية ونهج قَفْرٍ تخبرنا وحدها بما يكفي حول المعنى الميتافيزيائي لفضاءات الغابات والجبال والسِّباخ.

ومع أن الأشجار هائلة الأهمية من أجل سلامتنا النفسانية، فما كلُّ شجرة تملك الطاقة ذاتها والمعنى عينه. ففي الحدائق الفرنسية المنمَّقة نشهد انتصار المنطق الديكارتي والهندسة الإقليدية، بينما نشهد في الغابات الفنلندية، الحاضنة على نحو عظيم والمحوَّطة بالبحيرات غير المنتظمة الأنثوية الشكل، انتصارًا للهندسة الطبيعية.

يصعب، في أيامنا هذه، تمييزُ ما هو طبيعي عمَّا هو صنعي. غير أننا، حين نجد أنفسنا في صالة أحد المطارات، بجدرانها الباردة الفظة ورواكزها البلاستيكية المُحدِقة بنا – من ناحية، وفي حِجْرِ غابة كبيرة، من ناحية أخرى، نعرف الفرق بينهما على وجه الدقة، دونما أيِّ لَبْس. ففي الغابة تتنفَّس نفوسُنا، بينما تختنق في البيئات البلاستيكية.

إن فكرة أن نفوسنا تتنفَّس في البيئة الطبيعية غير المُبَنْيَنَة يجب ألا تُعامَل على سبيل المجاز الشعري؛ فهي حقيقة ملموسة. ولقد تمَّ الإقرار بهذه الحقيقة في مناسبات لا عدَّ لها، وفي سياقات عديدة – وإنْ يكن إقرارًا غير مباشر ونصف واعٍ عادةً.

نمضي إلى كوخ جميل، فتشدُّنا إليها بقوة الروافدُ الخشبية الحاملة للسقف على الفور – كما يتعذر على أية روافد من الإسمنت والحديد أن تفعل. ونذهب إلى شقَّة حديثة، لا يميِّزها إلا وجود تصافيح خشبية جميلة على طول جدران الغرف، فنستجيب لها، ونطرب تناغُمًا. نفعل ذلك لا لأننا حمقى عاطفيون عُجَّز، أو لأسباب جمالية وحسب، إنما لأسباب أعمق وأكثر أساسية.

الحياة تريد أن تتنفس. وإننا لنتنفس بحرية أكبر حين تكون ثمة أشكال أخرى من الحياة يمكن لها أن تتنفس من حولنا. وهذه الروافد القديمة المصنوعة من خشب السنديان في الكوخ القديم تتنفس؛ وكذلك تلك التصافيح المصنوعة من الخشب في الشقة الحديثة – وإننا لنتنفس معها. أما ذلك الداخل البلاستيكي، وتلك المقصورات المكعبة الإسمنتية، وتلك الأبنية البرجية، وتلك المدن المرسومة بخطوط مستقيمة، فهي لا تتنفس. وإننا لنجدها "عقيمة"، و"مُنفِرة"، و"مُغِمَّة". هذه النعوت بالذات تخرج من لُباب كياناتنا مباشرةً؛ وهي ليست مجرَّد ردود فعل لبعض الأفراد الشاذِّين، إنما ردود فعلنا جميعًا – على الأقل غالبيتنا الساحقة.

إن داخلاً صُنعيًّا قد يكون لطيفًا من الوجهة الجمالية. ومع ذلك، فإن نَفْسنا، بعد هنيهة، تجده غير مريح، زاجرًا، وعلى نحو ما مُكْسحًا. فالحياة الأزلية فينا تستجيب استجابةً لا لَبْس فيها لبيئاتنا. علينا أن نتعلَّم الإصغاء بانتباه إلى نبض الحياة الأزلية فينا، سواء كنا ندعوه الغريزة، أو الحدس، أو الاستجابة الكلاَّنية wholistic. وإننا لنستجيب بحساسية عظيمة لفضاءات الحياة المحيطة بنا ولهندساتها وأشكالها؛ ونستجيب إيجابيًّا للأشكال التي تتنفس حياةً، لأن هذه الأشكال مؤزِّرة للحياة. فالحياة فينا تريد أن تؤزَّر وتقتات. ومن هنا فإننا نريد أن نكون في صحبة الأشكال التي تتنفس حياةً.

لذا فمن المهم جدًّا أن نقيم في محيط توجد فيه أشكالٌ تستطيع أن تتنفس – الروافد الخشبية، الأرضيات الخشبية، التصافيح الخشبية. وطوبى للأمم التي في وسعها أن تبني بيوتًا مصنوعة من الخشب – من الداخل ومن الخارج. فالخشب يتنفس، يتغيَّر، يتحلَّل – مثلنا. كما وأن من المهم أن تكون لنا أزهار ونباتات في بيئتنا الحية – فهي تتنفس. وإن تأمُّل زهرة لمدة ثلاث ثوانٍ قد تكون رحلة توحُّد هامة، رحلة إياب إلى الهندسة الأصلية – وهي رحلة مجدِّدة دومًا. ونحن، نوعًا ما، مرارًا ما نقوم بهذه الرحلات كلَّما كانت في محيطاتنا نباتات وأزهار؛ لكننا قلَّما نكون على دراية بما نفعل.

الغابات والروحانية وثيقتا الصلة. ولقد كان الأقدمون يعرفون هذه الصلة، ويصونونها، ويعملون على تنميتها. كانت روحهم تقتات لأن حكمتهم كانت تخبرهم بمكامن مصادر القوت الحق.

2. الغابات الحرام في التاريخ

كان الأقدمون على صلة حميمة بمحيطهم، وكانوا كثيرًا ما يحيكون أنفسهم في نسيج الحياة المحيطة بهم حياكة هي من الأناقة إلى حدِّ أننا لا نستطيع إلا أن نُعجَب بحساسيتهم وبحكمتهم. فقد كان لديهم فَهْمٌ شديدُ الخصوصية للأماكن، ألا وهي المواقع الهندسية العبقرية لأراضيهم.

ولقد كانت للغابات، بالطبع، أهمية عظيمة بنظر الأقدمين؛ وفي كلِّ مكان كانت الأشجار تنمو في العالم تقريبًا، كانت بعض الغابات توسَم باعتبارها محميَّات خاصة، لا بل باعتبارها حرامًا. وكان على الناس أن يصونوا هذه الغابات، ولا ينتهكوا حُرمتها. ففي كتاب السير جيمس فريزر الملهِم الغصن الذهبي (1935)، نجد دليلاً مؤثرًا وبليغًا عن كيفية إمعان الناس، منذ العصر الباليوليثي وما بعده، في صون غاباتهم وعبادتها، وعن كيفية اعتبارهم غابات معينة حرامًا:

ففيها يحرَّم على الفؤوس أن تُرفَع على شجرة، ويحرَّم كَسْرُ غصن، ويحرَّم جَمْعُ الحطب منها، ويحرَّم حَرْقُ العشب؛ والحيوانات التي تلوذ بها يحرَّم التحرش بها.[2]

وفي عالم اليونان الكلاسيكية، ومن بعدُ في عالم روما، كانت هذه الحِراج والغابات الخاصة تحوَّط عادةً بجدران حجرية. وكانت هذه المحمية تدعى باليونانية تيمينوس، مكانًا مقتطَعًا، أو مكانًا معيَّنَ الحدود. ولعل خير ترجمة قد تكون "محمية حرامًا".[3]

 

هيكل أبولون في دلفي، اليونان، مقرُّ الوحي المقدس

وفي اللاتينية كان يُطلَق على هذه الأماكن المميزة مصطلح تمبلوم templum. و"تمبلوم"، بالطبع، هو الجذر الأصلي لكلمة temple (هيكل). وتلك المحميات المحرَّمة، بادئ ذي بدء، كانت الحُرُم التي تقام فيها الشعائر الدينية؛ فقد كانت في الواقع هياكل في الهواء الطلق. وحين شُيِّدَتْ المعابد فيما بعد كأبنية فخمة، بأعمدتها الشاهقة وبكلِّ ملحقاتها، لم تكف الحِراج والغابات عن الوجود، وكانت لا تزال تُكرَّم وتُصان. إذ كانت تُلهِم الخشوع، والإحساس بسرِّ الكون، وإحساسًا أسمى بالإقامة في الداخل وبالقرب من الآلهة. فقد كتب الفيلسوف الروماني سينيكا في القرن الأول الميلادي ما يلي:

إذا صادفتَ حرجة من الأشجار القديمة رفعتْ تيجانها إلى الأعلى وحجبتْ نور السماء بعتمة أغصانها المتعانقة، فإنك تشعر بوجود روح في المكان، من فرط شموخ الغابة، وانفراد الموضع، وعَجَبِ الظلِّ الكثيف غير المنقطع.[4]

هذا الإحساس بسرِّ الكون، الذي تستحضره بعض الأماكن أكثر من سواها، قاد الأقدمين إلى الاحتفاء في هذه الأماكن وإلى حمايتها. فقد كانوا يشعرون بأن حياتهم في تلك الأماكن تغتني وتتعمَّق. كانوا يشعرون بأنفسهم في الحِراج والغابات الحرام قريبين من الآلهة وغيرها من قوى الطبيعة السامية. لكن هذا الإحساس بسرِّ الكون قد فَقَدَه الإنسانُ الغربي إلى حدٍّ كبير.

حين نمضي إلى دلفي، في يوم لاذع البرد من أيام الربيع، في وقت لا تكون جحافل السوَّاح قد انتهكت المكانَ بعد، وحين نتواحد في السلام والسكينة بروح المكان، نشعرُ بقوة جبارة تصدر عن المحيط.

تيمينوس نبتوليموس في دلفي، اليونان

الإحساسُ بالحرام the Sacred يقيم فينا جميعًا، لكنه الآن يتطلب ظروفًا خاصة جدًّا ليتجلَّى. فأجسامنا المنهكة، وحواسنا المتبلِّدة، وعقولنا المثقلة، تجعل رحلة التسامي – إلى لبِّ كياننا – عسيرة إلى حدٍّ ما في أيامنا هذه.

أما عند الأقدمين، فقد كان الإحساس بالحرام يمثَّل يوميًّا. وكانت بنية الحياة برمَّتها مرتَّبة بحيث لم يكن الكائن البشري يستطيع أن يختبر الحرام وحسب، بل ويشجَّع على ذلك أيضًا. غير أن الأمر بات مختلفًا نوعًا ما في زماننا.

في الحِراج والغابات الحرام في اليونان القديمة، كانت أنواع معينة من الأشجار تكرَّس لآلهة معينة. فالسنديان كان ينتمي إلى مجال زفس، والصفصاف إلى مجال هيرا، والزيتون إلى مجال أثينا، والغار إلى مجال أبولون، والصنوبر إلى مجال بان، والكرمة إلى مجال ديونيسوس. لكن هذه المواحدة لم تكون جامدة؛ فقد كان قدماء الإغريق قومًا كرماء سَمْحين. ففي مواضع متنوعة، عملاً بتقاليد معينة، كان من الممكن أن تكرَّس أشجارٌ مختلفة لآلهة مختلفة. ففي جزيرة لسفوس، على سبيل المثال، كانت ثمة حرجة تفاح مكرَّسة لأفروديتي.

كان العديد من الحِراج الحرام يحوي ينابيع وجداول وأحيانًا بحيرات؛ وكان تلويث هذه الينابيع والبحيرات ممنوعًا منعًا مطلقًا. وقد جَرَت العادة أن يقوم حَظْرٌ تام على صيد السمك، باستثناء الكهنة. وكان يُعتقَد أن كلَّ مَن يصيد في بحيرة بوسيدون ويصطاد سمكة ينقلب إلى السمكة التي تدعى "الصياد".[5]

وفي بلليني كانت ثمة حرجة حرام خاصة جدًّا، مكرَّسة لأرتميس المخلِّصة، وكان يُحظَّر على أيِّ إنسان دخولُها ما خلا الكهنة. وقد كان هذا بعيدًا عن المألوف نوعًا ما؛ فالقاعدة العامة كانت تنصُّ على أن في وسع عامة الناس أن يدخلوا الحرجة، شريطة أن يأتوها متوضئين أطهارًا، غير آثمين في جرائم خطيرة، ولاسيما آثام الدم.[6]

وقد ظلَّ الأقدمون محافظين على تقليد تحريم الحِراج والغابات في العالم كلِّه. فالحِراج الحرام في الهند قديمةٌ قِدَمَ الحضارة نفسها، لا بل تعود إلى الأزمنة ما قبل التاريخية وما قبل الزراعية. وفي حين لم تستمر فكرة وجود غابات وحِراج حرام في الغرب – بما أننا قد أمسينا تدريجيًّا مجتمعًا دهريًّا secular (= علمانيًّا) – فإن هذه الحِراج بقيت في الهند حتى الأزمنة المعاصرة. غير أن إضعاف البنية الدينية للمعتقدات قد أوْهى الفكرة عينها في الهند، وبالتالي، أوْهى وجود الحِراج والغابات الحرام. ومع ذلك، فلا تزال ثمة حِراج حرام في الهند، ظلت باقية، وخصوصًا بين أهل القبائل.[7]

من التعريفات بالغابة الأثيرة إليَّ التعريف الذي يقدِّمه البوذا. فالغابة، في نظره،

عضوية عجيبة ذات لطف وإحسان غير محدودين، ولا تطلب شيئًا من أجل قوتها وتبذل بكرم نواتج نشاطها الحيوي، وتوفر الحماية للكائنات جميعًا، مانحةً الظلَّ حتى للحطَّاب الذي يُهلِكها.

ولقد كان سكان أمريكا الأصليون أو الهنود الأمريكيون حساسين بنوع خاص لنوعية الأمكنة. فكانت عبادةُ جبل أو جدول أو غابة أمرًا طبيعيًّا في نظرهم، لأن كلَّ نبتة، وكلَّ شجرة، مثلهما كمثل الأرض الأمِّ والأب السماء، مشبعتان بروح من الأرواح.

وفي الكوسموس الذي تتخلَّله قوى روحية، كان تحديد أماكن خاصة باعتبارها ذات أهمية وحُرمة خاصتين أمرًا طبيعيًّا بمقدار ما هو حتمي. فهذه الأماكن الخاصة أيضًا كانت أماكن طقوس وشعائر – الأماكن التي كان الحرام فيها يمثَّل في الحياة اليومية. وفي سياق ذلك، كان سرُّ الكون وألوهيته الجوهريين يُشهَد لهما من جديد.

أما في الغرب، فكانت الكنائس والمقامات المقدسة تؤدي هذا الغرض: وَصْلَ الإنسان بالحرام. لكن ذلك كان يتم في عهدٍ ولَّى. فبما أننا صرنا دهريين أكثر فأكثر، فقد أضعنا الإحساس بسرِّ الحياة وبحُرمة الكون. فالكنائس الآن خاوية وتتردَّد فيها أصداءُ الخواء، لأن الروح فارقت الناس.[8]

لقد فقد الهيكل الأصلي – تمبلوم أو تيمينوس – معناه لأن قلوبنا غالبًا ما أمست باردة، وفقدت عقولنا صلتها بالسرَّاني والحرام. وبمقدار ما أفقرْنا عالَم الحرام أفقرْنا أنفسنا؛ وبمقدار ما حوَّلنا الحِراج الحرام وغيرها من الغابات إلى مصادر لصناعة الخشب، لم تعد لدينا هياكل طبيعية نستطيع أن نتجدَّد فيها.

3. نحو تجدُّد روحي

نحن الآن نعاود تخمين قيمة إرث المدنية التكنولوجية برمَّتها وما فعلتْه بنفوسنا وبغاباتنا. فمشكلتنا لم تعد مشكلة كيفية تدبير غاباتنا وحياتنا تدبيرًا أكثر فعالية من أجل إنجاز المزيد من التقدم المادي. نحن الآن نسأل أنفسنا أسئلة أعمق: كيف يمكن لنا أن نتجدد روحيًّا؟ وما هو درب الحياة المتكاملة؟ كيف يمكن لنا أن ننجو ككائنات إنسانية رحيمة؟ كيف يمكن لنا أن نصون موروثنا الروحي والثقافي؟

إن القِفار، التي أدعوها مناطق مانحة للحياة، هامة لأسباب ثلاثة في آن:

-       إنها هامة، أولاً، كحُرُم. فأشكال متنوعة من الحياة ما كانت لتنجو لولاها.

-       وهي هامة، ثانيًا، كمانحات للخشب الذي يتنفس والذي تُصنَع منه تصافيح وروافد جميلة تتنفس حياةً في بيوتنا.

-       وهي هامة، ثالثًا، وعلى نحو خطير الشأن، كحُرُم إنسانية، كأماكن للتجدد الروحي والبيولوجي والنفسي.

فمع تحرُّك قطار التقدم – وهو شيطان الدمار الإيكولوجي – قُدُمًا، نكتسح المزيد والمزيد من الحُرُم. إنها تختفي تحت فأس الإنسان، وتتلوث بالبيئات الصُّنعية، وتُحوَّل إلى ديزني لاند.

إن إعادة بناء الحُرُم مسألة حيوية لسلامة جسمنا وسلامة نفسنا، لأن كلاً منهما يعمل بالتنسيق مع الآخر. لقد فقدنا معنى الهيكل (تمبلوم) في الكنائس التي أمْسَتْ مهجورة، وعلينا أن نعاود خلق هذا المعنى من الأساس. علينا أن نعاود تحريم العالم – وإلا فسيكون وجودنا عقيمًا. نحن نعيش في عالم بَطُلَ سحرُه. وعلينا أن ننهض لرحلة إعادة إضفاء السحر على العالم. علينا أن نعاود خلق الطقوس والشعائر الخاصة التي يُفصَح من خلالها عن أثمن مظاهر الحياة ويُحتفَل بها.

ما فتئت الغابات تُلهِمنا وتوحي إلينا بحسِّ الخشوع والسر – وهذا كلما توفَّر لدينا الوقت وراحة العقل لنغيب فيها. وهاهنا رسالة هامة: فقد تصبح الغابات من جديد محميات حرامًا، تقام فيها طقوس الحياة الكبرى، ويجري فيها الاحتفال بفرادة الحياة والكون وسرِّهما الرهيب. غير أن جعل الغابات أماكن لمعاودة تحريم العالم يتوقف على نوايانا. وقد قام بالخطوات الأولى في هذا الاتجاه المخرجُ البولوني الشهير يرجي غروتوفسكي الذي تخلَّى عن المسرح لكي يجعل من الطبيعة – من الغابات خصوصًا – الأراضي الحرام لوصال الإنسان الجديد مع الكوسموس.[9]

بينما كنت في فندهورن في العام 1979، قابلتُ رجل الأشجار الأسطوري، ريتشارد سانت باربي بيكر. وحين التقيت به كان قد بلغ التسعينات من عمره، شيخًا مهيب الطلعة، يوحي بانتصاب الأشجار العظيمة وهدوئها وصلابتها. كان هَواه، منذ نعومة أظفاره، غَرْس الأشجار؛ وقد غَرَسَ منها فعلاً الملايين طوال حياته الممتلئة والمثمرة – في أنحاء العالم كلِّها. وفي أثناء محاضرته في فندهورن، قاد تأملاً من نوع خاص: سألنا أن نتصور أن كلاًّ منَّا شجرة. فمَدَدْنا أذرعنا كأننا أشجار، بينما ثبَّتنا أقدامنا في التراب – كما جذور الأشجار. فالاتصال مع الغابة عند سانت باربي كان شكلاً من أشكال الدين، وكلُّ شجرة عنده مذبح.[10] وعلينا أن ننمِّي فينا مثل هذه الروح من الإجلال والتعاطف مع الأشجار والغابات – فهي حُرُم بحق.

فليُسمَح لي الآن أن أختتم بقصيدة:

 

عن البشر والغابات

 

الغابات هي الهياكل.

والأشجار هي المذابح.

ونحن الكهَّان يخدمون آلهة الغابات.

 

ونحن أيضًا الكهَّان يخدمون الهيكل الجَوَّاني.

عامِل نفسَك وكأنك هيكل جَوَّاني،

ولسوف تدنو

من الإله المقيم في الداخل.

 

سِرْ عِبْر الحياة وكأنك

في هيكل واحد هائل –

هذا هو سرُّ النعمة.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


[1] نَهِيَ إليَّ أن كلمتي "رحم" (رمز الحياة) و"رحمة" (من القيم الإيكولوجية الرئيسة) من جذر واحد في العربية. فالشكر لصديقي المترجم على هذه المعلومة الهامة.

[2] السير جيمس فريزر، الغصن الذهبي، مج 2، ص 42.

[3] جدير بالذكر أن دورية بعنوان Temenos بدأت بالصدور في إنكلترا في أواخر السبعينات، تيمُّنًا بروح تيمينوس – بوصفه محمية حرامًا – ودعوةً إلى إيجاد فضاءات حُرُم.

[4] سينيكا، الرسائل، 4، 12، 3.

[5] بفسانياس، 3، 21، 5.

[6] للمزيد من المناقشة، راجع: ج. دونالد هيوز، "الحِراج الحرام: الآلهة وحماية الغابات والريع المستدام في العالم القديم"، في تاريخ حِراجة الريع المستدام، بتحرير ن.ك. ستين، 1983.

[7] للمزيد من المناقشة، راجع: مَدْهَف كَدْجيل وف.د. فَرْتَك، "الحِراج الحرام في الهند: التماس للصون المستمر"، مجلة جمعية مومباي للتاريخ الطبيعي، مج 72، رقم 2، ص 314-320، 1975.

[8] مافتئت الكنائس تُغلَق الآن. ففي إنكلترا وحدها أُغلِقَ ألفان من الكنائس الستة عشر ألفًا الموجودة. وقد جاء في أحد التقارير أن 3% من الناس وحسب يرتادون الكنيسة الأنغليكانية. من هنا فقد صرَّح مطران دُرهام: "لم يعد يصح قولُنا إن إنكلترا بلد مسيحي." أليست الحال مثل ذلك في غيرها من البلدان المسيحية المزعومة؟

[9] راجع: يرجي غروتوفسكي، على طريق الثقافة الفاعلة، 1979، ومؤلَّفاته الأخرى.

[10] راجع بخاصة: ريتشارد سانت باربي بيكر، حياتي، أشجاري، منشورات فندهورن، 1979.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود