english arabic

 قوة اللاعنف كنشاط سياسي وأسلحته

 

مبارك عوض*

وعبد العزيز سعيد**

 

بعد خمسين عامًا من الصراع، تبدَّدتْ حظوظُ تحقيق السلام: الفلسطينيون والإسرائيليون يتنابذون، ويفصل بينهم اليأس.

لدى أنصار السلام من الجانبين وفي العالم العربي وعلى الساحة الدولية فرصة لتضييق الشِّقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ إذ لقد تبيَّن بالبرهان أن استراتيجيات الصِّدام غير قابلة للتطبيق. فالحاجة ماسَّة إلى منظور جديد، قائم على استعمال اللاعنف، يحقن الدماء ويحفظ الكرامة ويحقق إعادة الأنْسَنَة والتحرُّر للفلسطينيين والإسرائيليين جميعًا.

اللاعنف كنشاط سياسي

اللاعنف أداة قوة، استراتيجية للتحرُّر، ووسيلة للاستنهاض الاقتصادي، لكنه، في المقام الأول، يعني الفعل. فاللاعنف يدفع الناس، في طلبهم للعمل العادل والأخلاقي، إلى الفعل، تحدوهم في ذلك العدالة والأخلاق، بدون اللجوء إلى الإكراه المادي. وهو يشتمل، في آنٍ معًا، على حضٍّ على العمل الأخلاقي، على عدم السكوت على الظلم، وعلى نداء إلى التعبير عن النظرات الشخصية إلى الأخلاق كخطوة نحو مساعدة الآخرين في المجتمع الأوسع. اللاعنف هو الفعل مستندًا إلى المبدأ، معمولاً به على نحو تكتيكي يفعِّل الجانب الأخلاقي على نحو أشد ما يكون فعالية. إذ لا غنى عن اعتماد التكتيك والاستراتيجيا من أجل تقرير ما يجب القيام به وكيفية القيام به. والمفتاح هنا هو العلاقة بين الوسائل والغايات – إذ لا فصل بينهما. وهذا هو لبُّ ممارسة اللاعنف.

 عبد العزيز سعيد

عبد العزيز سعيد

للعلاقة بين المبدأ والممارسة في النشاط اللاعنفي تأثير. فقد يحدث، في بعض المناسبات، أن يتسبب النشاط اللاعنفي نفسه في التوصل مباشرة إلى النتيجة المطلوبة، كأن تُقنِع مظاهرةٌ الزعماء السياسيين بتغيير مسار نشاطهم. ومرارًا جدًّا ما يلعب النشاط اللاعنفي الناجح دور المحرِّض على حشد الدعم المعنوي والسياسي لتغيير السياسة الاجتماعية والسياسية. لقد كانت مسيرة غاندي الهادفة، سلاميًّا، إلى احتلال الملاحات في الهند شديدة الفعالية لأن العديد من القوم تحلوا بالشجاعة على مواصلة السير في الرتل حتى المدخل حيث كان الحراس ينهالون عليهم ضربًا بالهراوات. كما حققت حركة الحقوق المدنية الأمريكية كذلك مكتسبات جمة من خلال أفراد تآزروا على القيام بمجازفات مماثلة. ففي برمنغهام، ألاباما، حيث هاجم رجالُ الشرطة السائرين المسالمين، وهم راكعون يغنون الأناشيد، مستخدمين الهراوات ومطلقين كلابهم، استبانتْ ببلاغة حجةُ السائرين للملايين من مشاهدي الحدث على التلفزيون الذين أدركوا عدالة قضية السائرين وظلم السلطات.

مرارًا ما يكون النشاط اللاعنفي الاستراتيجي استفزازيًّا. وهو يحرج المعارضة – وهي غالبًا ما تكون السلطات – من وجهين اثنين: فإذا أجيز النشاط اللاعنفي فإنه يقيم حجَّته وتكتسب الحركة قوة؛ أما إذا قاومت السلطات – ولاسيما حيث تلجأ إلى الوسائل العنيفة – فإن العدالة النسبية لقضية الناشطين، إذ يظهر ظلمُ خصومهم للعيان جسيمًا، تحرز لهم كسبًا سياسيًّا لا يستهان به.

اللاعنف يتطلب شجاعة. لكن الشجاعة ليست هي التهور، والنشاط الذي يكون مدمِّرًا لذات المرء و/أو لمؤيِّديه، عن قصد كان أو عن طيش، نشاط مؤذٍ، وبالتالي، عنيف وظالم في صميمه. فالشجاعة وإرادة العمل ينبغي أن يُوازَنا بالاعتدال. وحتى يلتزم المرء العدل، عليه أن يكون عاقلاً ويتصرف بتعقُّل. والتعقُّل يتضمن عددًا من الخصال، بما فيها أخذ الوقت اللازم لفهم وضعٍ ما وتقييمه فهمًا وتقييمًا متأنِّيين قبل النهوض للفعل، بحيث إن ذلك النشاط يأخذ بالحسبان كافة عناصر الوضع ويكون ملائمًا لها.

أسلحة اللاعنف

اللاعنف، كفنٍّ من فنون القوة، نشاط يقود إلى العدالة والسلام في آنٍ معًا. إنه وسيلة لتعاطي القوة واستراتيجيا مصمَّمة لقتال خصم عنيف وعازم ومدجج جيدًا لممارسة القوة العسكرية. إنه استراتيجيا مصمَّمة للاستعمال ضد خصوم يتعذر دحرهم بالعنف. واللاعنف لا يقلل من عنف الخصم، بل يعطِّل فاعلية عنفه وحسب. فالقامع يحافظ على سلطانه من خلال خنوع المقموع. فحالما يتم التراجع عن هذا الخنوع فإن القامع يفقد سلطانه.

تشتمل أسلحة اللاعنف على مناهج نفسانية واقتصادية وسياسية، ويمكن أن تنقسم إلى خمسة أبواب:

-       مناهج الاحتجاج والاستمالة اللاعنفيين التي تتضمن تصريحات رسمية، وبلاغات إلى جمهور أوسع، وأفعال علنية رمزية، وسهرات، ودراما وموسيقى، ومسيرات، وتجمهرات علنية، والانسحاب والزهد.

-       مناهج اللاتعاون الاجتماعي التي تتضمن اللاتعاون مع المناسبات الاجتماعية، والأعراف، والمؤسَّسات، والانسحاب من النظام الاجتماعي.

-       مناهج اللاتعاون الاقتصادي التي تتضمن المقاطعة لجهة المستهلكين، والعمال والمنتجين، والمالكين والمديرين، وأصحاب الموارد المالية، والحكومات.

-       مناهج اللاتعاون السياسي التي تشمل رفض السلطة وعدم تعاون المواطنين مع الدولة.

-       مناهج التدخل اللاعنفي التي تتضمن نشاطات مباشرة ذات مكوِّنات نفسانية وجسمانية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وأسلحتها المفضلة عبارة عن الإضراب عن الطعام، والاحتلال والحصار اللاعنفيين، وإقامة مؤسَّسات معتمدة على الذات أو حكومات موازية منافسة.

وللاعنف، شأنه شأن أدوات القوة الأخرى (من نحو الحرب التقليدية أو حرب العصابات)، متطلباتُه الخاصة للفاعلية التي لا بدَّ من اعتناقها من أجل إحداث الوَقْع الأقصى للتقنيات اللاعنفية. ونجاح اللاعنف يتوقف على عدد من العوامل.

فلا بدَّ من وجود استراتيجيا إجمالية ذات أهداف قابلة للتحقيق. ولا بدَّ من وجود حركة متصاعدة من هدف قابل للتحقيق إلى الهدف التالي. ولا بدَّ أن تكون الاستراتيجيا الإجمالية قابلة للتكيف مع التغيير بدون الحياد عن القيم. والتدريب المكثف والاعتماد على النفس والانضباط ضرورية للفرد وللجماعة – إذ لا مجال هنا للارتجال.

للاستراتيجيا اللاعنفية تاريخ طويل بدرجات متفاوتة من النجاح. ولقد أُحرِزَ النجاح أحيانًا عبر تغيير أذهان ومواقف الخصوم – لكن ذلك نادر. والأغلب هو إحراز نجاح جزئي عبر التسوية (كسب المرء جزءًا من أهدافه وتخليه عن جزء آخر). ولقد أظهرت الاستراتيجيا اللاعنفية قدرتها على إحداث إكراه لاعنفي للخصم (بحيث لا يبقى له من بديل سوى الاستسلام). وفي بعض الحالات قد يحدث حتى أن يتفكك نظام الخصم في وجه النبذ واللاتعاون الحاشد الشال، كما في حالة سقوط نظام ماركوس في الفيليبين في الثمانينات. كما شُنَّتْ الاستراتيجيا اللاعنفية في السنوات الأخيرة في أصقاع عديدة من العالم، بما فيها تشيلي، جنوب أفريقيا، بولونيا، المجر، بورما، وفلسطين نفسها إبان مستهل الانتفاضة الأولى. كذلك استُعمِل اللاعنف لإنهاء نظام ميلوشيفتش في صربيا. وقد مارست الاستراتيجيا اللاعنفية تاريخيًّا قوة لا يستهان بها في النزاعات عندما طُبِّقتْ ببراعة، وكثيرًا ما جابهها الخصوم بقمع جديٍّ. وردَّة الفعل تلك تكشف عن قوة اللاعنف. وفي الواقع فإن قسوة القمع ضد المقاومين اللاعنفيين تطلق عملية "جيوجيتسو*** سياسي" تزيد من المقاومة وتبذر المشكلات في معسكر الخصوم نفسه وتستنفر جهات ثالثة مناصَرةً للمقاومين اللاعنفيين.

 مبارك عوض وروث كسّل

مبارك عوض مع روث كِسِّل

اللاعنف يتوافق مع الإسلام. اللاعنف في الإسلام متصل بمفهوم القوة: فإلهيات الإسلام ترى أن الخالق وحده مالك القوة، إذ لا حول ولا قوة إلا به. والأنثروبولوجيا الإسلامية الأساسية تقوم على قناعة مفادها أن وظيفة المخلوقات هي خدمة القصد الإلهي من الخلق. فالجهاد من أجل التحرُّر، بحسب الإسلام، شكل من أشكال طاعة الخالق، بما أنه جاء في الحديث: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق." من ذلك المنظور تصير مكافحة الظلم ركنًا هامًا من أركان الإسلام. فالجهاد يمكن إعلانه بالقلب وباللسان وباليد. ولقد جاء في الحديث أيضًا: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه، والمجاهد من انتهى عن منكر حرَّمه الله." و"الجهاد" من "الجهد": هو نضال من أجل العدل والحق ليس عنيفًا بالضرورة.

وفي العالم العربي استعملت اللاعنف غالبيةٌ عظمى من حركات التحرُّر العربية ضد الاستعمار الأوروبي. ففي المغرب، على سبيل المثال، استعملت الحركة الوطنية دعاء "اللطيف" أداةً لمقارعة الفرنسيين إبان الخمسينات – وقد حرَّمه الفرنسيون. وجوهر دعاء "اللطيف" ذكرُ صفات اللطف والرحمة. وهذا مثال واحد من أمثلة ممكنة عديدة.

*** *** ***


* د. مبارك عوض هو مدير منظمة اللاعنف الدولية، واشنطن، دي سي، الولايات المتحدة الأمريكية.

** د. عبد العزيز سعيد هو مدير مركز السلام العالمي، الجامعة الأمريكية، واشنطن، دي سي، الولايات المتحدة الأمريكية.

*** من الفنون القتالية الشرقية التي تعتمد على استعمال قوة الخصم ضده، بحيث لا يلاقي في هجومه إلا الفراغ، فيسقط على الأرض. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود