الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

جوهر الحكمة الإلهية 3

 

تشارلز ويبستر ليدبيتر

 

العوالم المتداخلة لكوكب الأرض

 

وقد أُطلق على المرحلة التالية من الوجود اسم "المجال النفسي" من قبل الخيميائيين[1] في القرون الوسطى (وكانوا مُدركين تمامًا لوجوده)، ونحن تبنَّينا مصطلحهم. ويشمل المجالين السابقين عالم آخر من مادة أكثر شفافية، نُسمِّيه "المجال العقلي"، لأن من مادته يتكوَّن ما يُعرف عادة عند الإنسان بالعقل. ولا يزال هناك مجالات عليا أُخرى، لا حاجة لإرباك القارئ بأسمائها، بما أننا نتعامل حاليا مع تجسدات الإنسان في العوالم الدنيا فقط.

ولابد أن نتذكر دائمًا أن كل هذه العوالم ليست بعيدة عنا مكانيًا على الإطلاق. إنها في الواقع تحتل جميعًا الفضاء ذاته بالضبط، وتحيط بنا على حد سواء طوال الوقت. إن وعينا يتركَّز حاليًا في الدماغ المادي ويعمل بواسطته، ولهذا السبب فنحن لا ندرك سوى العالم المادي، لكن ليس بأكمله. وما علينا سوى أن نُركِّز هذا الوعي في واحد من تلك الأجساد العليا، وفي الحال سيختفي العالم المادي من أمامنا، وسنرى بدلاً عنه عالم المادة المُناظرة للجسد الذي يستخدمه الوعي.

تذكَّروا أن كل أنواع المادة متماثلة في الجوهر. فالمادة النفسية لا تختلف في طبيعتها عن المادة الصلبة مثل عدم اختلاف الثلج في طبيعته عن البخار. إنها المادة ذاتها ولكن في حالة مختلفة. فالمادة الصلبة قد تصبح نفسية، والنفسية قد تصبح عقلية، إنْ فُصِلت جُزيئاتها عن بعضها فحسب على نحو ملائم، وتم رفع مستوى ذبذباتها إلى السرعة المناسبة.

الجسد النفسي للإنسان

10- الإنسان الحقيقي

من هو إذن الإنسان الحقيقي؟ إنه في الحقيقة انبثاق عن العقل المُدبِّر الشمسي (المَلك المُوكل بالنظام الشمسي)، وقبسٌ من ناره القدسية. وجوهر الإنسان هو من أصل جوهر المُدبَّر، ويتخذ هذا الجوهر من الذات رداءً له - رداء يُحيطه ويمنحه فرديته، ويبدو لنظرنا المحدود أنه يفصله لفترة عن سائر الحياة الربانية. وقصة التشكُّل الأصلي لذات الإنسان، وتغليفها للجوهر، لطيفة وممتعة، لكنها أطول من أن يسعها مجرد عمل أولي كهذا. ويمكن العثور عليها بكامل تفاصيلها في كتبنا التي تتعامل مع هذا الجانب من الحكمة الإلهية.

ويكفي القول هنا إن الأركان الثلاثة للحياة القدسية تُشارك في نشأت الذات، وإن تكوينها هو ذروة التضحية العظمى للمدبر الشمسي في نزوله إلى المادة، وهي العملية التي سُمِّيت بالتجسد. على هذا النحو تولد ذات الطفل؛ فكما أنها خُلقت على هيئة المدبر - ثلاثية التركيب وثلاثية التجسد مثله - كذلك فإن منهجها في التطور يماثل نزوله في المادة. إن القبس القدسي يتضمن في داخله كل الإمكانيات، غير أنها لا يمكن إن تتحقق إلا عبر عصـور طويلة من التطور.

ويبدو أن المنهج المُقرر لتطوير صفات الإنسان الكامنة يتمثل بتعلُّم أجساده الاستجابة للتأثيرات الخارجية. لكن الذبذبات في المستوى الذي يجد فيه الإنسان ذاته (وهو المجال العقلي الأعلى) تكون أكثر لطافة بكثير من أن توقظ فيه هذه الاستجابة في الوقت الحاضر. فعليه أن يبدأ مع تلك الذبذبات القوية والخشنة المتوفرة في المجالات الدنيا، وبعد أن يُوقظ بواسطتها حساسيته الكامنة يغدو تدريجيًا أكثر فأكثر انتباهًا، إلى أن يصبح قادرًا على الاستجابة الكاملة لكل الذبذبات المُتيسَّرة في جميع المستويات.

ذلك هو الجانب المادي من تقدمه. فإذا نظرنا إليه من الجانب الإدراكي، فإن القدرة على الاستجابة لكل الترددات تعني أن يبلغ الإنسان حدَّ الكمال في التعاطف والرأفة. تلك هي حالة الرجل المتطور - الحكيم، المعلم الروحي، المُخلَّص. ويتطلب ذلك أن يطوِّر في نفسه كل الصفات التي تُمثل الإنسان الكـامل؛ وهذا هو الإنجاز الحقيقي لحياتـه الطويلة في المادة. لقد تطرقت بسرعة في هذا الفصل إلى العديد من المواضيع ذات الأهمية البالغة. وسيجد الراغبون بالتعمُّق في دراستها العديد من كتب الحكمة الإلهية لمساعدتهم.

إنني أُحيل القراء، حول موضوع تركيب الإنسان، إلى أعمال بيسنت: الإنسان وأجساده، النفس وأغلفتها، الأجساد السبعة للإنسان، وكذلك إلى كتابي، المرئي واللامرئي في الإنسان، والذي يتوفر فيه العديد من الرسومات لأجساد الإنسان المختلفة كما تبدو لنظر المُستبصر. وحول استخدام القدرات الباطنية يمكن الرجوع إلى كتابي الاستبصار.

وبشأن تكوين وتطور الذات يمكن العودة لكتاب بيسنت ولادة وتطور الذات، وكتاب سينت تطور الذات، وإلى اثنين من كتبي: العقيدة المسيحية، والمرئي واللامرئي في الإنسان.

وعن التطور الروحي للإنسان، كتاب بيسنت في البلاط الخارجي، وكذلك طريق المُريد، والفصول الختامية لكتابي الصغير المُساعدون الخفيُّون.

11- التقمُّص

حيث أن الترددات اللطيفة لا تتمكن في البداية من التأثير في الذات، توجَّب على الإنسان أن يضع حول نفسه أجسادًا من مادة أكثر خشونة تستطيع الذبذبات الكثيفة التأثير فيها؛ لذا فهو يتَّخذ على التوالي جسدًا عقليًا وجسدًا نفسيًا وجسدًا ماديًا. هذه هي الولادة أو التقمُّص - بداية حياة مادية. وسيحظى من خلال جسمه المادي بجميع أنواع التجارب في هذه الحياة، ولا بد أن يتعلم منها بعض الدروس ويطوِّر في شخصه بعض الخصال.

بعد مُدَّة سيشرع بالانسحاب إلى ذاته، ويترك تدريجيًا الأجساد التي كان قد اتخذها. والجسم المادي هو أول ما يتم التخلِّي عنه، وانسحابه منه هو ما نسميه الموت. إنه ليس نهاية نشاطاته، كما نعتقد عن جهل؛ فذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. فهو ينسحب فحسب من محاولة واحدة حاملاً معه نتائجها؛ وبعد فترة محددة من الراحة النسبية سيقوم بمحاولة أخرى من النوع ذاته.

وكما قيل سابقًا، فإن ما نطلق عليه عادة اسم الحياة هي مجرد يوم واحد في حياته الحقيقية الأوسع - يوم في المدرسة، يتعلم فيه دروسًا معينة. ولأن حياة قصيرة واحدة تدوم في الغالب سبعين أو ثمانين سنة غير كافية لمنحه فرصة تعلُّم كل الدروس التي يقدمها هذا العالم المدهش الرائع، ولأن الإله أراده أن يتعلمها جميعًا خلال أبديَّته الكاملة، فمن الضروري أن يعود للتجسُّد مرات عديدة، ويعيش الكثير من هذه الأيام الدراسية التي نسمي كل منها حياة، في صفوف مختلفة وفي ظروف مُتباينة، حتى يتم تعلُّم كل الدروس. عندئذٍ سينتهي هذا العمل الدراسي الأدنى، ويرتقي الإنسان إلى عمل أسمى وأكثر عظمة - هو الحياة الربانية الحقيقية التي أعدته لها كل هذه الحيوات المدرسية الأرضية.

هذا ما يُطلق عليه مبدأ التقمُّص أو الولادة من جديد - وهو معروف على نطاق واسع في الحضارات القديمة، وتؤمن به غالبية الجنس البشري حتى في العصر الحديث.

وعنه كتب هيوم[2]:

ما لا يُمكن أن يفنى لا يُمكن أن يُستحدث. فإذا كانت الذات خالدة، إذن فهي موجودة قبل ولادتنا... وبناءً على ذلك فالتقمص هو النظام الوحيد الذي يمكن للفلسفة أن تستأنس به. (هيوم، مقالة عن الخلود، لندن، 1875)

وقد قال ماكس مولر[3]، حين كتب عن نظريات التقمص في الهند واليونان:

إنها تتضمَّن جميعًا منطقًا يمكن أن يصمد لأشد اختبارات النقد الفلسفي، وذلك في حال تمَّ التعبير عنه بلغة بعيدة عن الخرافات. (ماكس مولر، حكمة إلهية أم عقيدة نفسية، ص 2، طبعة 1895)

وقد أشار هذا المستشرق الكبير مجددًا إلى هذا المبدأ في كتابه الأخير والمنشور بعد وفاته، حيث عبَّر عن إيمانه الشخصي به.

وكتب هكسلي[4] قائلاً:

ومثل مذهب التطور، فإن مبدأ التقمص يضرب بجذوره في عالم الحقيقة؛ وهو يستند إلى أعظم الحجج التي يمكن لمنهج القياس أن يقدمها. (هكسلي، التطور والأخلاق، ص 61، طبعة 1895)

وهكذا نرى إن الكتاب المعاصرين، بالإضافة إلى القدماء، ينظرون لهذه الفرضية بوصفها تستحق جديًّا الأخذ بنظر الاعتبار.

ولا يجب خلط التقمص مطلقًا مع النظرية التي يؤمن بها الجهلة، والتي تقول إن من الممكن لذاتٍ بلغت درجة الإنسانية في تطورها أن تتجسد كحيوان؛ فلا يوجد أي احتمال لمثل هذا الانتكاس. فذات إنسانية، تسكن ما نسميه في كتبنا بالجسد السببي، لا يمكن أن تتراجع إلى ما هي في الحقيقة مملكة أدنى من ممالك الطبيعة؛ مهما كانت الأخطاء التي اقترفتها، ورغم فشلها في الاستفادة من فرصها. وإذا كان الإنسان كسولاً في مدرسة الحياة، فربما يحتاج إلى أخذ الدرس مرات عدة قبل أن يفهمه حقًا، ويبقى سير عملية الارتقاء بشكل عام منتظمًا، رغم أنه قد يكون على العموم بطيئًا.

وقد نشرت إحدى المجلات قبل بضع سنوات جوهر مبدأ العودة للتجسد على شكل حكاية لطيفة تقول:

ذهب صبي صغير إلى المدرسة. وكان كل ما يعـرفه قد تعلمه من أمه. فوَضَعه مُدرِّسُهُ (وكان المدرس هو الرب) في الصف الأدنى، وأعطاه هذه الدروس ليتعلمها: لا تقتل. لا تؤذِ أي كائن حي. لا تسرق. وهكذا لم يقتل الرجل؛ لكنه كان قاسيًا، وقد سرق. في نهاية اليوم (كانت لحيته قد خطها المشيب - والليل قد حل) قال له مدرسه (وكان هو الرب): لقد تعلمت أن لا تقتل، لكنك لم تتعلم بقية الدروس. عُدْ غدًا.

عاد في اليوم التالي، كصبيٌّ صغير، فوضعه مُدرسه (ربُّهُ) في صف أعلى بقليل، وأعطاه هذه الدروس ليتعلمها: لا تؤذِ أي كائن حي. لا تسرق. لا تغش. وهكذا لم يؤذِ الرجل أي كائن حي؛ لكنه سرق وغش. في نهاية اليوم - وقد شابت لحيته - وحلَّ الليل، قال معلمه (ربُّهُ): لقد تعلمت أن تكون رحيمًا. لكنك لم تتعلم بقية الدروس. عُدْ غدًا.

عاد مرة أُخرى في الغد، كصبيٌّ صغيرٌ. فوضعه مدرسه في صف أعلى، وأعطاه هذه الدروس ليتعلمها: لا تسرق. لا تغش. لا تشتهي ما يملكه غيرك. وهكذا لم يسرق الرجل؛ لكنه غشَّ واشتهى ما لغيره. في نهاية اليوم (وقد شابت لحيته - وحلَّ الليل) قال مدرسه: لقد تعلمت أن لا تسرق. لكنك لم تتعلم بقية الدروس. عُد غدًا يا صغيري.

هذا ما قرأتُهُ على وجوه الرجال والنساء، ضمن كتاب العالم، في مخطوطة السماء، وكان مكتوبًا على صفحة النجوم. (كتبها: باري بنسن، في مجلة القرن، أيار 1894)

لن أملأ صفحاتي بالحجج الكثيرة الدامغة والمؤيدة لمبدأ التقمص هذا؛ فقد تم استعراضها كلها في أدبياتنا من قِبل كُتَّاب أفضل مني. وسأكتفي هنا بالقول: إن الحياة تواجهنا بالعديد من المعضلات التي تبدو مُستعصية الحل إذا ما اعتمدنا أية فرضية أخرى غير التقمص. وهذا المبدأ يُفسَّرها فعلاً، لذا فهو يتصدَّر هذا المجال إلى أن نجد فرضية أخرى أكثر إقناعًا. ومثل بقية تعاليمنا فالتقمص ليس فرضية بل معرفة مباشرة بالنسبة للعديد منا؛ لكن معرفتنا ليست بالطبع أدلة قاطعة بالنسبة للآخرين.

رغم ذلك فقد اضطر رجال صالحون وصادقون للاعتراف الأليم بأنهم عاجزون عن التوفيق بين الوضع الراهن في العالم حولنا وبين الرأي القائل إن الإله قدير ورءوف. لقد شعروا، عندما نظروا إلى كل الأحزان والمعاناة المؤلمة، بأن الإله إمَّا أن يكون غير قدير فلا يستطيع منعها، أو أنه غير رءوف فلا يبالي بها. وترى الحكمة الإلهية باقتناع راسخ أن الإله قدير ورءوف، وبهذا اليقين توَّفق من خلال مبدأ التقمص هذا بين الوقائع المُعاشة للحياة. إن الفرضية التي تسمح لنا بالتعرُّف عقلانيًا على كمال القدرة والرأفة عند الإله تستحق منَّا بكل تأكيد دراسة متأنية.

ذلك إننا نفهم أن حياتنا الحالية ليست الأولى، وان لكل منَّا سلسلة طويلة من الحيوات السابقة، تطورنا عن طريقها من منزلة الإنسان البدائي إلى وضعنا الراهن. ومن المؤكد أننا اقترفنا في هذه الحيوات أفعالاً خيِّرة وشريرة، ويترتب على كل واحد منها بالتأكيد عاقبة محددة وفقًا لقانون العدالة الثابت. فعن الخير ينتج دومًا السعادة والمزيد من الفرص؛ وعن الشر ينتج دومًا الحزن والضيق.

فإن وجدنا أنفسنا بالتالي في ضيق من أي نوع، فذلك من صنع أيدينا، أو يعود السبب ببساطة لحداثة سن الذات. ولو كنَّا نعاني الحزن والألم، فإننا وحدنا المسؤولون. فالأقدار المعقدة والمتشعبة للناس إنما هي عواقب صارمة الدقة لميزان أفعالهم السابقة الخيرة والشريرة. وفي ظل النظام الإلهي، سيمضي الجميع قُدُمًا لنيل مجدهم الختامي.

ولعل التقمص من أكثر تعاليم الحكمة الإلهية تعرُّضًا للرفض الشديد، مع ذلك فهو في الحقيقة مبدأ مُريح إلى أبعد الحدود. ذلك أنه يمنحنا الوقت من أجل التطور الذي ينتظرنا - الوقت والفرصة لبلوغ الكمال. ويحتج المعترضون بشكل خاص على حقيقة أنهم قد عانوا الكثير من المتاعب والأحزان في هذه الحياة لدرجة أنهم لن يصغوا إلى أي اقتراح يوحي بضرورة تكرار ذلك مرة أخرى. ومن الواضح أن هذه ليست حجة؛ فنحن في بحث عن الحقيقة، وعندما نجدها يجب أن لا نرتد عنها، سواء كانت مستساغة من قِبلنا أم لا. مع أن التقمص، إذا ما فُهِم بشكل صحيح، يمنحنا في الحقيقة، وكما قيل سابقًا، عزاءً عميقًا.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن الناس غالبًا ما يتساءلون، إن كان لديهم العديد من الحيوات السابقة فلماذا لا يتذكرون أيًّا منها. والجواب باختصار هو أن بعض الناس يتذكـرها؛ والسبب في أن الغالبية لا تتذكرها هو أن وعيهم لا يزال مُركَّزًا في أحد الأجساد الدنيا. وذلك الجسد لا يمكنه تذكر التجسدات السابقة، لأنها ليست محفوظة فيه. والذات التي تحتفظ بهذه التجسدات ليست واعية بعد بشكل كامل ضمن عالمها نفسه. إن ذكريات الماضي بأكمله مُخزونة في الذات، حيث تتجسَّدُ هذه الذكريات ضمن هذا العالم في الصفات الفطرية التي يُولد بها الطفل. وعندما يتطور الإنسان كفاية ليستطيع تركيز وعيه في الذات بدلاً من الأجساد الدنيا فحسب، فإن مجمل تاريخ تلك الحياة الحقيقية الشاملة سينفتح أمامه مثل كتاب.

لقد عولجت هذه المسالة بشكل رائع ومتكامل في كراس بيسنت عن التقمص، وكذلك في كتاب د. جيروم اندرسون التقمص، وفي الفصول المتعلقة بهذا الموضوع في كتاب الحكمة العريقة، والذي أوجه إليه عناية القارئ بشكل خاص.

12- نظرة شاملة

إن القليل من التفكير يكشف لنا في الحال أي تغيير جذري يطال حياة الإنسان الذي يدرك أن هذه الحياة المادية ليست سوى يوم دراسي، وأن هذا الجسم المادي مجرد رداء مؤقت نتخذه بهدف التعلم من خلاله. وسيرى في الحال أن غاية (تعلُّم الدروس) هذه هي الوحيدة ذات الأهمية، وأن الإنسان الذي يسمح لنفسه بالانحراف عن هذه الغاية لأي اعتبار إنما يتصرف بحماقة غريبة.

إن حياة الإنسان العادي المُكرَّسة حصرًا للأهداف المادية، والسعي وراء الثروة والسمعة، تبدو لذلك الذي يعرف الحقيقة مجرد لهو أطفال - تبذير سفيه بكل ما يَجدُر امتلاكه حقًا من أجل لحظات إشباع قليلة للشهوات الدنيا في طبيعة الإنسان. إن طالب الحكمة يولع بالمفاهيم العليا لا بالأمور الدنيوية، ليس لأنه يرى أن ذلك هو النهج السليم فحسب، بل لأنه يدرك بوضوح تام تفاهة هذه الأمور الدنيوية. إنه يحاول على الدوام اتخاذ وجهة النظر العليا، لأنه يرى الدنيا غير جديرة بالثقة على الإطلاق - فالرغبات والمشاعر السفلية تتجمع حوله مثل ضباب كثيف، وتجعل من المستحيل عليه رؤية الأمور بوضوح من ذلك المستوى المُتدني.

وحتى عندما يكون مقتنعًا كلِّيًّا بان المسار الأعلى هو الصحيح، ومصمِّمًا تمامًا على انتهاجه، فإنه سيواجه رغم ذلك إغراءات قوية جدًا تدفعه في بعض الأحيان لإتباع المسار الأدنى، وسيشعر بصراع شديد في دخيلة نفسه. وسيكتشف، كما يقول القديس بولص، أن هناك "سلطة لأعضاء الجسد تحارب ضد سلطة العقل"، وهكذا فإن" تلك الأمور التي ينصح بها، لا يفعلها، والأمور التي ينصح بتجنبها، يفعلها".

إن الناس المتدينين الصالحين يبالغون في أغلب الأحيان بإساءة فهم هذا الصراع الداخلي الذي نعانيه جميعًا بدرجات متفاوتة. فهم يتقبَّلون في العادة تفسيرًا أو اثنين حـول الموضوع: إما أن يفترضوا أن الوساوس السفلية تأتي من شياطين الإغواء الخارجية، أو يحزنوا لشدة خبث قلوبهم وسوادها، وتواجد مثل هذا الشر العميق فيها. والحقيقة أن العديد من خيرة الرجال والنساء يعانون من جراء ذلك آلامًا كثيرة وغير ضرورية على الإطلاق.

والنقطة الأولى التي يجب أن تكون واضحة في ذهن من يرغب في فهم هذه المسالة هي أن الرغبات المُنحطَّة ليست في الحقيقة رغباتنا على الإطلاق؛ ولا هي من عمل شيطان يحاول أن يفسد نفوسنا. إن وجود كائنات شريرة هو أمر حقيقي في بعض الحالات، وهي تنجذب إلى الإنسان بواسطة أفكاره السفليَّة، فتزيد هذه الأفكار قوة من خلال نشاطها. لكن جميع هذه الكائنات المؤقتة هي من صنع الإنسان. فهي مجرد كيانات مُصطنعة يتم استدعائها إلى الوجود بفعل أفكار أُناس خبيثي النفوس، وتعيش لفترة من الزمن حياة خاصة بها، وتزداد مُدَّة حياتها مع ازدياد قوة الأفكار التي خلقتها.

غير أن الدوافع المستهجنة في سرائرنا تأتي عادة من مصدر مختلف تمامًا. وقد سبق أن ذكرنا كيف يلف الإنسان حول نفسه أغلفة مادية من مستويات مختلفة، لكي يدخل في التجسد. وهذه ليست مادة ميتة (والحقيقة أن العلوم الباطنية[5] تُخبرنا بأن ليس هناك مادة ميتة في الكون)، لكنها مفعمة بالحياة؛ رغم أنها حياة في مرحلة تطور مبكرة قياسا بمرحلتنا - حتى إنها لا تزال تتحرك في المسار النازل نحو التجسد في مادة أدنى، بدلاً من الارتقاء مجددًا خارج المادة الدنيا نحو مستوىً أعلى.

وكنتيجة لذلك فإن نزعتها تدفعها دومًا نحو الأسفل، باتجاه التجسد في مادة أكثر خشونة وذبذبات أكثر شِدَّة، الأمر الذي يعني تطورًا بالنسبة لها، في حين أنه تراجع بالنسبة لنا؛ وهكذا يتضح أن مصلحة الإنسان الحقيقي (الذات) تصطدم أحيانًا مع مصلحة المادة الحية في بعض أجساده.

إن ما سبق عرضه هو تفسير موجز وبسيط للصراع الداخلي الغريب الذي نشعر به أحيانًا - صراع أوحى للعقول الشعرية بفكرة نزاع ملائـكة الخير والشر للسيطرة على نفس الإنسان. ويمكن العثور على وصف أكثر تفصيلاً لهذا الموضوع في كتابنا المجال النفسي (ص 40). لكن من المهم أن يدرك الإنسان، في خِضم ذلك، أنه هو القوة العلوية، التي تتحرك دومًا باتجاه الخير وتقاتل في سبيله، في حين أن تلك القوة السفلية ليست هو على الإطلاق، بل هي جزء غير منضبط من أحد أجساده الدنيا. ولا بد أن يتعلم التحكم فيه، وبسط نفوذه عليه، وإبقائه في وضع لائق. ولا يُفترض به أن يعتقد نتيجة لذلك أن هذا الجزء شرير، بل هو أيضًا فيض من القدرة الربانية يتحرك في مساره النظامي، رغم أن ذلك المسار في هذه الحالة يتجه نحو الأسفل عميقًا في المادة، بدلاً من الاتجاه نحو الأعلى بعيدًا عنها، كما هو الحال مع مسارنا.

13- الموت

إن أحد أهم النتائج العملية للفهم التام لحقيقة الحكمة الإلهية هو التغيير الكامل والمنشود الذي تُحدثه في موقفنا من الموت. إذ من المستحيل علينا تخمين المقدار الهائل، وغير الضروري على الإطلاق، من الحزن والرعب والبؤس الذي يعانيه الجنس البشري إجمالاً بسبب جهله وخرافاته بخصوص مسألة الموت هذه وحسب. فقد انتشر فينا بهذا الخصوص ورم من المعتقدات السخيفة والزائفة، مُحدثًا في الماضي فواجع لا حصـر لها ومُسببًا في الحاضر معاناة تفوق الوصف، وسيكون استئصاله واحدًا من أهم المنافع التي يمكن تقديمها للجنس البشري.

وتوفر تعاليم الحكمة الإلهية هذه المنفعة على الفور لأولئك الذين يجدون في أنفسهم القدرة على تقبُّلها في حياتهم الحالية، وذلك لأنهم اهتموا بالفلسفة خلال حيوات سابقة. فهي تسلب من الموت حالاً كل أهواله ومعظم أحزانه، وتُمكِّننا من رؤية إبعاده الحقيقية وفهم موقعه في مخطط تطورنا.

ولما كان الموت يُعدُّ نهاية الحياة، وبوابةً لعالم مظلم لا بل مجهول ومخيف، فليس غريبًا التفكير فيه بكثير من التوجس، إن لم يكن برعب حقيقي. وقد انتشرت وجهة النظر هذه في عموم العالم الغربي، رغم كل التعاليم الدينية التي تشير إلى نقيض ذلك، ونشأت حولها قصص رعب مُروِّعة؛ ثم أصبحت عادة ينساق لها دون تفكير العديد ممن يُفترض بهم أن يكونوا أفضل إطلاعًا في هذه المسألة.

إن كل التجهيزات المقيتة لفاجعة الموت - المُعزَّين المُستأجَرين[6]، مظاهر الوجاهة، المخمل الأسود، الشريط الحريري الأسود، ملابس الحداد، ورق الرسائل ذو الحافة السوداء - كلها ليست سوى ترويج للجهل من قِبَل الذين يستخدمونها. فالإنسان الذي يبدأ بفهم حقيقة الموت يستغني في الحال عن هذه الحفلة التنكرية بوصفها سذاجة أطفال؛ مُدركًا أن الحِداد على وفاة صديقه، لمجرد أن الأمر سبَّب له أَلم الفراق الظاهري عنه، إنما هو استعراض مبتذل للأنانية الشخصية.

إنه لا يستطيع تحاشي الإحساس بعذاب الفراق المؤقت، غير أن بإمكانه تجنب السماح لألمه الخاص بالتحوُّل إلى عائق يمنع صديقه المتوفى من الانطلاق إلى الملأ الأعلى. وهو يعلم بأن ليس هناك ضرورة للخوف أو الحزن بشأن الموت، سواء حلَّ به أو بأحبابه. فلقد أصابهم جميعًا مرات عديدة من قبل، في حيوات سابقة، لذا فهو مألوف عندهم. وبدلاً من تقديم الموت بصفته ملك الرعب المهول، سيكون أكثر دقة وعقلانية تصويره كملاك يحمل مفتاحًا ذهبيًا يسمح لنا بدخول الممالك الرائعة للحياة العليا.

إنه يدرك بكل تأكيد أن الحياة مستمرة، وأن فقدان الجسم المادي ليس إلاَّ عملية خلع لرداء مؤقت، وهو فعلٌ لا يغير مطلقًا من الإنسان الأصلي الذي يلبس هذا الرداء. وهو يعرف أن الموت مجرَّد ترقية من حياة شبه مادية إلى أُخرى نفسية بالكامل، ولذلك فهي أرقى بكثير. لهذا السبب، فهو يرحب بالموت دون تصنُّع حين يحلُّ به، وعندما يصيب الناس الذين يحبهم، فانه يعلم في الحال الفائدة الكبيرة التي يجنونها، حتى وإن أحسَّ بقدر معين من الحسرة الأنانية لاضطراره الانفصال المؤقت عنهم.

لكنه يدرك كذلك أن هذا الانفصال في حقيقته ظاهري فقط، وغير حقيقي. وهو يعلم أن من يُسمون بالأموات لا يزالون قريبين منه، وما عليه سوى أن يضع جسده المادي مؤقتًا في حالة نوم، حتى يكون إلى جانبهم ويتواصل معهم كما في السابق. إنه يرى بوضوح أن العالم واحد وأن القوانين الإلهية ذاتها تسيِّره بأكمله، سواء أكان مرئيًا أم غير مرئي للبصر المادي. لذا فهو لا يشعر بأي اضطراب أو غرابة عند العبور من جزء منه إلى الآخر، ولا بأي نوع من الشك حول ما سيجده على الجانب الآخر من الحجاب.

لقد تم من خلال جهود الباحثين في الحكمة الإلهية شرح مجمل العالم غير المرئي بوضوح وتكامل حتى أصبح معلومًا له كالحياة المادية، لذا فهو مستعد لدخوله دون تردد حالما يصبح ذلك أفضل لتطوره. وللحصول على تفاصيل كاملة عن المراحل المختلفة لهذه الحياة العليا فلا بد من إحالة القارئ إلى كتب مُكرَّسة خصيصًا لهذا الموضوع. ويكفي القول هنا أن الظروف التي سيمر فيها الإنسان بعد الموت هي بالتحديد تلك التي هيَّئها لنفسه قبله. فالأفكار والرغبات التي غرسها في نفسه خلال حياته الأرضية تتخذ بعد الموت شكل كائنات حيَّة مُجسَّمة تحوم حوله وتؤثر عليه إلى أن تستهلك الطاقة التي وضعها فيها.

وعندما تكون مثل هذه الأفكار والرغبات قوية وشريرة لفترة طويلة، فإن الكيانات المتولدة عنها ستكون رهيبة حقًا؛ لكن مثل هذه الحالات تشكل لحسن الحظ نسبة ضئيلة جدًا من بين المقيمين في العالم النفسي. فأسوءُ ما يجلبه الإنسان العادي على نفسه بعد الموت عادة هو وجود ممل بشكل لا يوصف، عديم الجدوى، وخال من أية اهتمامات عقلية - وهو المحصلة الطبيعية لحياة تم هدرها هنا على الأرض بالانغماس في الملذات والتفاهات والنميمة.

ويمكن في حالات معينة أن يُصاحب هذا الملل معاناة شديدة. فلو سمح إنسان لرغبات جسدية قوية بأن تُسيطر عليه خلال حياته الأرضية - إذا أصبح، على سبيل المثال، عبدًا لرذائل كالبخل والشهوانية وإدمان الخمر - يكون قد جلب على نفسه بعد الموت الكثير من العذاب التطهيري. ذلك أنه بفقدانه الجسد المادي لا يتخلص أبدًا من هذه الرغبات والشهوات؛ فهي تبقى قوية كما كانت - لا بل تكون أكثر نشاطًا لأنها لم تعد مضطرة الآن لتحريك الخلايا الثقيلة للجسد المادي. إن ما يفقده هو القدرة على إشباع هذه الشهوات؛ لذا تستمر في مضايقته وتعذيبه، لأنها غير مُتحققة ولا يمكن إشباعها. ويخلق ذلك، كما يمكن أن نرى، جحيمًا حقيقيًا للإنسان البائس، رغم أنه بالطبع جحيم مؤقت، بما أن مثل هذه الرغبات تستهلك نفسها حتمًا بمرور الوقت، مُستنزفة طاقتها في المعاناة ذاتها التي تُسبَّبها له.

إنه قدر رهيب حقًا، إلاَّ أن ثمة نقطتين بشأنه لا بد من تذكرهما: الأولى، هي أن الإنسان لم يسبب هذا العذاب لنفسه فحسب، بل حدد شدَّته ومدَّته. لقد سمح لهذه الرغبة بان تبلغ خلال حياته الأرضية درجة معينة من القوة، وعليه الآن أن يواجهها ويسيطر عليها. فإذا كان خلال حياته المادية قد قام بجهود لتطويعها وضبطها، فسيواجه حاليًا صعوبة أقل في التغلب عليها. لقد خلق لنفسه الوحش الذي عليه أن يصارعه الآن؛ ومهما تكن القوة التي يمتلكها خصمه فإنها بالضبط تلك التي وفرها هو له. إن قدره إذن ليس مفروضًا عليه من الخارج، بل هو ببساطة من صنع يديه.

والثانية، إن العذاب الذي جلبه على نفسه بهذه الطريقة هو وسيلته الوحيدة للخلاص. فلو كان ممكنًا بالنسبة إليه تجنب هذا العذاب، وعبور الحياة النفسية دون هذا الاضمحلال التدريجي للرغبات السفلية، فماذا ستكون النتيجة؟ من الواضح أنه سيدخل حياته المادية التالية وهو تحت السيطرة التامة لهذه الرغبات. سيولد مدمنًا بالفطرة، شهوانيًّا، وبخيلاً. وقبل أن يكون ممكـنًا بفترة طـويلة تعليمه ضرورة محاولة السيطرة على مثل هذه الشهوات ستصبح أقوى من أن يُسيطر عليها؛ وتكون قد استعبدته جسدًا ونفسًا. وهكذا تكون حياة أخرى قد تم تبديدها، وفرصة أخرى تم تضييعها. حينئذ سيدخل في حلقة مفرغة لا يلوح منها خلاص، ويتأخر تطوره لأجل غير مسمى.

ومن ثمَّ لا عيب في مُخطَّط المُدبر الشمسي. فالرغبة تستهلك نفسها خلال الحياة النفسية، ويعود الإنسان إلى وجوده المادي من دونها. حقًا إن ضعف العقل الذي سمح للرغبة بالسيطرة عليه لا يزال موجودًا. كما أنه قد صنع لنفسه في هذه الحياة الجديدة جسدًا نفسيًا مؤهلاً للتجسيد الكامل للرغبات ذاتها كما في السابق، فلن يكون صعبًا عليه لذلك استئناف حياته الأثيمة السالفة. غير أن الذات، الإنسان الأصلي، قد تعلَّمت درسًا شاقًا، وستبذل كل جهودها بالتأكيد لمنع تجلِّيها الأدنى (الشخصية) من تكرار الغلطة نفسها، بالوقوع مرة أخرى تحت هيمنة تلك الرغبة.

إنه لا يزال يحتفظ في دخيلته ببذور تلك الرغبة، لكنه إذا استحق أبوين صالحين وحكيمين فسوف يُعينانه على تنمية الفضيلة في نفسه وكـبح الرذيلة. عندئذ ستبقى البذور غير مثمرة وتموت، ولن تظهر أبدًا في الحياة التي تعقبها. وهكذا يتغلَّب الإنسان بالتدريج البطيء على صفاته الذميمة، ويطوِّر الفضائل بدلا عنها.

من ناحية أخرى، فإن الإنسان الذكي والميَّال لمساعدة الآخرين، ذلك الذي يفهم ظروف هذا الوجود غير المادي (النفسي) ويتحمَّل عناء التأقلم معها ويستفيد منها إلى أقصى حد، يفتح أمامه آفاقًا رائعة من الفرص لاكتساب معرفة جديدة والقيام بإعمال نافعة. انه يكتشف أن للحياة، بعيدًا عن هذا الجسم المادي الكـثيف، إشراق وتألُّق تبدو بالمقارنة معها كل الملذات الأرضية كضوء القمر بالنسبة لضوء الشمس، وإنه من خلال معرفته الصافية وثقته الهادئة سيشع منه على كل من حوله نور الروح الأبدية.

وقد يصبح مصدرًا لسلام وبهجة يفوقان الوصف بالنسبة لمئات من أقرانه، ولعله يقوم بأعمال خير في سنوات قليلة من وجوده النفسي أكثر مما استطاع القيام به في حياته المادية الطويلة. كذلك فهو مدرك تمامًا بأن أمامه مرحلة أخرى أكثر سموًا ضمن حياة ما بعد الموت الرائعة هذه. فكما أوجد بيئة حياته النفسية برغباته وأفكاره الدنيا، كذلك سيهيِّئُ لنفسه بأفكاره العليا وتطلعاته النبيلة حياةً في المجال العقلي - الفردوس.

ذلك أن الفردوس ليس حلمًا، بل واقع رائع ومفعم بالحياة. وليس مدينة بعيدة فيما وراء النجوم، ذات بوابات من لؤلؤ وشوارع من ذهب، محجوزة لإقامة الأقلية ذات الحظوة، بل حالة وعي سيجتازها كل إنسان في الفترة الممتدة بين حياتين على الأرض. إنها ليست حقًّا مكان إقامة أبدي، بل حالة غبطة روحية تفوق الوصف وتدوم عدة قرون. ليس هذا فقط، إذ رغم كونها تُجسِّد الحقيقة التي تشكل الأساس لأروع الأفكار التي طرحتها مختلف الأديان عن الفردوس وأكثرها روحانية، فلا يجب أبدًا النظر إليها من هذه الزاوية فحسب.

إنها مجال حيوي بالغ الأهمية بالنسبة لنا - عالم شاسع مذهل ومُفعم بحياة زاهية نحيا فيها الآن من خلال جسدنا العقلي، مثلما نفعل كذلك في الفترات الفاصلة بين التجسدات الأرضية. وحده نقص تطوُّرنا، والقيود المفروضة علينا من رداء البدن هذا، هو ما يمنعنا من الإدراك الكامل بأن إشراق أكثر الجنان تألقًا موجود حولنا هنا والآن، وأنَّ التأثيرات المتدفقة من ذلك العالم تُداعبنا طوال الوقت، وأننا لو رفعنا وعينا فحسب إلى مستوى جسدنا العقلي لأحسسنا بها واستوعبناها.

قد يبدو ذلك مستحيلاً للإنسان العادي، لكنه من أكثر الوقائع بساطة للعرفاني. وليس بوسعي، بالنسبة لأولئك الذين لم يستوعبوا هذه الحقيقة الأساسية، سوى تكرار النصيحة التي قدَّمها معلم البوذية[7]:

لا تتذمَّر ولا تنتحب ولا تتضرع، بل افتح عينيك وسترى. النور مُحيط بك، لو أزحت العصابة عن عينيك فحسب ونظرت. إن ما ستبصره لأكثر روعة وجمالا وأسمى مما حَلُمَ به أو ابتهل لأجله أي إنسان، وهكذا هو الحال إلى الأبد. (من كتاب روح شعب[8]، ص 163).

وعند استهلاك الجسد النفسي تدريجيًا، وهو مركبة الأفكار والرغبات الدنيا، وحالما يتم التخلُّص منه، يجد الإنسان نفسه مقيمًا في تلك المركبة العليا المُكوَّنة من مادة أرقى، والتي نطلق عليها الجسد العقلي؛ حيث يكون قادرًا في هذا الجسد على الاستجابة للذبذبات التي تصله من المادة المُرادفة في العالم الخارجي - مادة المجال العقلي. فلقد انتهت فترة التطهير بالنسبة إليه، وتم إتلاف الجزء السفلي من طبيعته، ولم يتبقى الآن سوى الأفكار والتطلعات السامية التي جالت بخاطره خلال حياته الأرضية.

الجسد العقلي للإنسان

وتتجمع هذه الأخيرة حوله، حيث يكون قادرًا من خلالها على الاستجابة لأنواع معينة من الذبذبات ضمن تلك المادة النقيَّة. وهذه الأفكار التي تحيطه هي القدرات التي يحصل بواسطتها على ثروات عالم الفردوس. فالمجال العقلي نسخة عن عقل المُدبر - وهو مستودع ذو امتداد لانهائي، منه يستطيع الإنسان الذي يعيش هناك أن يستمد ما تؤهله له بالضبط قوة أفكاره وتطلعاته التي أبدعها خلال حياته المادية والنفسية.

لقد تحدثت كل الأديان عن نعيم الفردوس، إلاَّ أنَّ القليل منها قدَّم بوضوح كاف هذه الفكرة الأساسية، التي توضح بشكل عقلاني دون غيرها كيف أن مثل هذا النعيم يُمكن نيله من قبل الجميع على حد سواء، وهي أن كل إنسان يخلق فردوسه بالانتقاء من روائع فكر المُدبر ذاته والتي تجلُّ عن الوصف. وهذه الفكرة هي الركيزة الأساسية لحياة ما بعد الموت. فالإنسان يُحدد لنفسه مدة وطبيعة حياته في الفردوس من خلال سمو أفكاره وعواطفه خلال حياته الأرضية؛ لذلك فهو لا يستطيع التمتع إلا بالسعادة التي استحقها بدقَّة كمًّا ونوعًا، والتي تناسب خصوصياته على أفضل وجه.

إنَّ هذا عالم يتمتع فيه حتمًا كل كائن، حسب مستوى وعيه، بأفضل سعادة روحية يمكنه بلوغها - عالم لا يَحِدُّ قدرتَهُ على الاستجابة لأماني الإنسان سوى قابلية الأخير على التمني. وهناك المزيد من التفاصيل عن الحياة النفسية في كتابي المجال النفسي؛ وحياة الفردوس موصوفة في كتابي المجال العقلي، وثمة معلومات عن كليهما في اثنين من كتبي: الموت وما بعده، والجانب الآخر من الموت.

ترجمة: حكيم رشيد

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  الخيمياء هي علم الكيمياء القديم، الذي يجمع بين التفاعلات الكيميائية والممارسات الروحية. وقد انقسم الخيميائيون، وهم المشتغلون بالخيمياء، إلى فئتين: اشتغلت الأولى بالبحث عن إكسير الحياة المادي - حجر الفلاسفة، وذلك لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب؛ واشتغلت الثانية بالبحث عن إكسير الحياة الروحي، وذلك لترقية الإنسان إلى كائن روحاني.

[2]  كان ألن اوكتافيان هيوم (1829-1912)، الانكليزي الأصل، موظف خدمة مدنية في الهند البريطانية، وهو من مؤسسي المؤتمر الوطني الهندي، وقد أبدى اهتمامًا بالحكمة الإلهية لفترة من الزمن، وله مراسلات مع السيدة بلافاتسكي وسينت وكذلك مع الحكيمين موريا وكوثومي. كتب بضع مقالات عن الحكمة الإلهية تحت عنوان لمحات عن الحكمة الإلهية الباطنية.

[3]  ماكس مولر (1823-1900) عالم لغة ألماني ومستشرق، وأحد مؤسسي علم الأديان المقارن وميدان الدراسات الهندية. اهتم كثيرًا بالأديان والفلسفات الهندية وألَّف فيها بضعة كتب. أصدر في عام 1893 كتابًا عن الحكمة الإلهية بعنوان حكمة إلهية أم عقيدة نفسية.

[4]  كان توماس هنري هكسلي (1825-1895) عالم أحياء انكليزي وكذلك مختصًا بالتشريح. عُرِفَ عنه مُناصرته الشديدة لنظرية تشارلس داروين في التطور. وقد نُشر كتابه التطور والأخلاق في سنة 1894. وهو جدُّ كل من:1- السير جوليان هكسلي، عالم الأحياء الشهير، وزميل الجمعية الملكية، وأول مدير لمنظمة اليونسكو. 2 - الروائي الشهير الدوس هكسلي. 3 - السير اندرو هكسلي، زميل الجمعية الملكية، والحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1963.

[5]  إن العرفانية occultism هي دراسة نواميس وكائنات العوالم الأثيرية والنفسية والعقلية وغيرها، والاستخدام التطبيقي لهذه النواميس. وتشمل العرفانية، وتسمى كذلك العلوم الباطنية والعلوم الهرمسية، كل المناهج التي تَدرُس التأثيرات التي تمارسها هذه العوالم على الحياة والطبيعة في كوكبنا. وتُعد الخيمياء واستحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي من هذه العلوم. ويُسمَّى (العرفاني) كل من درس هذه العلوم ومارسها.

[6]  كانت عادة استئجار أشخاص لكي يلعبوا دور المُعزِّين منتشرة في المجتمع البريطاني. وتعليل ذلك هو أن كثرة المُعزين تدل على أهمية الميت وكثرة معارفه. والأمر كله نفاق ومظاهر وجاهة كاذبة.

[7]  هو غوتاما سيدهارتا (501-581 ق.م)، المؤسس التاريخي للبوذية، وقد اشتهر باسم (بوذا). كان ولي عهد الملك سودهودنا وابنه الأكبر. زَهد في المُلك وحياة الترف في سن التاسعة والعشرين، فغادر المملكة تاركًا زوجته وولده؛ وتفرَّغ لحياة الزهد والتقشُّف، ثم التأمُّل والتدريب الروحي. وقد بلغ الاستنارة الروحية في سن الخامسة والثلاثين؛ ثم قضى بقية حياته في نشر مبادئ البوذية؛ حتى واتته المنية في سن الثمانين.

[8]  صدر هذا الكتاب للمؤلف فيلدنغ في عام 1898. ويتحدث فيه عن تجربته مع شعب بورما، وعن التأثير السامي للبوذية في سلوك وأخلاقيات ذلك الشعب.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني