الصفحة التالية                 

قانون المحبة وقانون العنف 1

 

ليف تولستوي

 

ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها؛ بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. (إنجيل متّى: 10، 28)

من جرَّاء تحريف المسيحية أصبحت حياة الشعوب المسيحية أسوأ من الحياة الوثنية. ولا يمكن البدء بإصلاح شرِّ الحياة الكائن من شيء آخر إلا عبر فضح النفاق الديني، وأن يعمل كل فرد على ترسيخ الدين الحقِّ في نفسه.

تقود آلام الحياة المنافية للعقل إلى إدراك ضرورة الحياة العقلانية.

إنَّ بؤس البشرية برمَّتها، وكذلك بؤس الأفراد، ليس عديم النفع وإنما يقود البشرية، وإن عبر طريقٍ عوجاء، دائمًا إلى العمل الوحيد المقدَّر للبشر: بلوغ الكمال.

مقدمة

وهذه هي الدينونة: إنَّ النور قد جاء إلى العالم، وأحبَّ الناس الظلمة أكثر من النور، لأنَّ أعمالهم كانت شريرة. لأنَّ كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلاَّ تُوبَّخ أعماله. وأمَّا من يفعل الحقَّ فيُقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنَّها بالله معمولة. (إنجيل يوحنّا: 3، 19-21)

ما من بؤسٍ أشدَّ من شعور الإنسان بالخوف من الحقِّ حتى لا يفضحه. (باسكال)

أقوال الأبرار في ضمائرهم، لا على شفاه الناس.

أكتب ما أكتب فقط لأنني – إذ أعرف الشيء الوحيد القادر على تحرير بشر العالم المسيحي من تلك الآلام الجسدية المخيفة، ومن الفساد الروحي الذي يغرقون فيه أعمق فأعمق – واقف على حافة القبر، لا يمكنني أن ألوذ بالصمت.

في وقتنا الراهن لا يمكن ألا يكون واضحًا لكلِّ الناس المفكِّرين أنَّ حياة البشر، ليس الروس فقط بل كافة شعوب العالم المسيحي، مع ازدياد احتياج الفقراء وازدياد ترف الأغنياء، مع صراعات الكلِّ فيما بينهم: صراع الثوريين ضدَّ الحكومات والحكومات ضدَّ الثوريين؛ صراع المستعبَدين من أبناء الشعب ضدَّ المستعبِدين؛ صراع الدول فيما بينها؛ الصراع بين الغرب والشرق مع تنامي التسلُّح الذي يستنفذ قوى الشعوب – أنَّ حياةً كهذه، بتأنقها وفسادها، لا يمكن لها أن تستمر، وأنَّ حياة الشعوب المسيحية، إذا لم تتغير، ستغدو حتمًا أشدَّ بؤسًا.

وهذا واضح لكثيرين لكن، للأسف، لا يرى البشر أسباب هذا الوضع البائس، وبدرجةٍ أقل يرون سبيل الخلاص. ويُقرُّ البشر بشروطٍ، هي الأكثر اختلافًا، كأسبابٍ لتردِّي الوضع، ويقترحون وسائل للخلاص، هي الأكثر اختلافًا، في حين أنَّ هناك سببًا وحيدًا لذلك، وسبيلَ خلاصٍ وحيد كذلك.

إنَّ سبب بؤس حال الشعوب المسيحية هو عدم وجود فهمٍ سامٍ ومشترك بين جميع الشعوب المسيحية لمعنى الحياة، وانعدام الإيمان ومُرشد السلوك المنبثق عنه. وإنَّ وسيلة الخلاص من هذا الوضع البائس، الوسيلة الطبيعية لا الوسيلة الفنطازية أو المختلقة، تكمن في استيعاء بشر العالم المسيحي معنى الحياة، المكتشف من قِبلهم قبل تسعة عشر قرنًا، الملائم لعمر البشرية الحالي، واستيعاء مرشد السلوك المنبثق عنه، أي التعليم المسيحي في جوهره الحقيقي.

I

إنَّ إحدى أكثر الخرافات سماجةً هي خرافة الناس المتعلمين القائلة بأنَّ في مقدور الإنسان العيش دون عقيدة دينية.

الدين الحقُّ هو العلاقة التي يقيمها الإنسان مع الحياة اللامتناهية التي تحيط به؛ العلاقة التي تربط حياته بهذه الأبدية، وتوجِّه أفعاله. وإذا كنتَ تدرك أنْ لا إيمان لديك فاعلم أنك في أخطر وضع يمكن أن يتواجد فيه إنسان في هذا العالم.

يمكن للبشر أن يعيشوا، وهم يعيشون، حياةً منسجمةً وعقلانيةً تلائم البشر فقط عندما يتَّحدون من خلال فهم معنى الحياة، أي الإيمان بالشيء ذاته، فهم معنى الحياة الذي يُرضي الأكثرية بشكلٍ متساوٍ، وفهم مرشد الأفعال المنبثق عن هذا الفهم. وعندما يحدث ما لا يمكنه إلاَّ أن يحدث، إذ إنَّ بيان معنى الحياة ومرشد السلوك المنبثق عنه لا يكون نهائيًا أبدًا بل ينجلي أكثر فأكثر باستمرار، عندما يحدث أنَّ فهم معنى الحياة، الذي يصبح أكثر دقَّةً وتحديدًا، يتطلَّب مرشدًا للسلوك منبثقًا عنه، مختلفًا عمَّا سبق، وحياة الشعب أو الشعوب تواصل السير وفق القديم، فإنَّ حياة تلك الشعوب تغدو مفكَّكةً وبائسةً كذلك. وهذا التفكُّك والبؤس يزدادان، باستمرار، بحسب درجة استمرار البشر – الذين لم يستوعبوا الفهم الديني الملائم للعصر ومرشد السلوك المنبثق عنه – بالحياة تبعًا لمرشد السلوك المنبثق عن فهم الحياة الذي ولَّى زمانه، عدا عن أنهم، لكي يستوعبوا الدين الملائم لعصرهم، يحاولون اختلاق فهم للحياة يبرِّر نظام حياتهم، والذي لم يعد يناسب المتطلبات الروحية لمعظم البشر.

لقد تكرَّر هذا الأمر كثيرًا في التاريخ، ولكني أعتقد أنَّ عدم التوافق هذا بين أنماط حياة البشر، المتخلِّفين عن استجلاء معنى الحياة ومرشد السلوك المنبثق عنه، لم يكن قط هائلاً إلى هذا الحدِّ، كما هو الآن بين الشعوب المسيحية التي لا تدين بالمسيحية المكتشفة من قِبلهم بمعناها الحقّ، ولا بتعليم مرشد السلوك المنبثق عنه، والتي تعيش، وتواصل حياتها السابقة، الحياة الوثنية.

هذا الاختلال في حياة الشعوب المسيحية هائل بصورة خاصة لأنَّ – حسب اعتقادي – تفسير معنى الحياة الذي أدخلته المسيحية في وعي الشعوب ذهب بعيدًا جدًا في تحديد طبيعة حياة الشعوب التي دانت بها، لذا فإنَّ مرشد السلوك المنبثق عنه كان مناقضًا جدًا، ليس لعادات الناس الشخصية فقط، بل لمجمل طبيعة حياة الشعوب الوثنية التي دخلت الدين المسيحي. من هنا حدث التفكك المذهل ولاأخلاقية وبؤس ولامعقولية حياة الشعوب المسيحية.

وقد حدث هذا لأنَّ بشر العالم المسيحي الذين اعتنقوا، على مرأى من المسيحية، العقيدة المسيحية المختلفة في دوغماتها عن الوثنية فقط بعدم صدقها وتصنُّعها، سرعان ما كفُّوا عن الإيمان بهذه العقيدة، دون استبدالها بأية عقيدة أخرى. وهكذا؛ فإنَّ بشر العالم المسيحي، المتحررين أكثر فأكثر من الإيمان بالعقيدة المسيحية المحرَّفة، وصلوا، في نهاية المطاف، إلى الحال التي هم عليها في الوقت الراهن، بحيث أنْ ليس لدى معظمهم أي تفسير لمعنى حياتهم، أي ليس لهم أي دين أو إيمان، أي مرشد للسلوك يكون مشتركًا. معظم البشر، البشر الكادحين، رغم أنهم يتشبَّثون بالعقيدة الكنسية القديمة ظاهريًا، لم يعودوا يؤمنون بها، وهي لا توجِّه حياتهم، ويحافظون عليها بحكم العادة والتقليد، ومن باب اللباقة فحسب. أما الأقلية، التي تسمَّى الشرائح المثقفة، فمعظمها لم تعد تؤمن، بوعي، بأي شيء، وفقط لغايات سياسية يتظاهر بعضهم بأنهم مازالوا يؤمنون بالمسيحية الكنسية، وأما أقلية الأقلية، فيؤمنون بصدق بالعقيدة التي تتنافى مع الحياة وتتخلَّف عنها، ويحاولون تسويغ عقيدتهم عبر مختلف السفسطات المعقَّدة.

هذا هو السبب الرئيس والوحيد للوضع البائس الذي تعيشه الشعوب المسيحية في وقتنا الراهن. وهذا الوضع البائس يزداد سوءًا بسبب أنَّ حالة اللاإيمان هذه مستمرة منذ وقت طويل، مما جعل المنتفعين من حالة اللاإيمان هذه، بين سكان العالم المسيحي، أي كل الفئات المتسلِّطة، إما أن يتظاهروا، بمنتهى انعدام الضمير، بأنهم يؤمنون بما لا يؤمنون به، وبما لا يمكنهم أن يؤمنوا به، وإما أنهم، وخاصةً المتعلِّمين الأكثر فسقًا، يقولون، دون مواربة، إنَّ بشر زماننا لا يحتاجون مطلقًا أيَّ تفسير لمعنى الحياة، أي الإيمان، ولا لأيِّ مرشد نابع عن الدين للأفعال، وأنَّ القانون الأساسي الوحيد لحياة البشرية هو قانون التطور والصراع من أجل البقاء، وأنه، لهذا السبب، يمكن لحياة البشر، ويجب، أن تُقاد بالرغبات والشهوات الدنيوية فحسب.

يكمن سبب بؤس هذا العالم في كُفر الشعب اللاشعوري هذا، ونفي الإيمان المتعمَّد من قِبل من يُسمَّون مثقفي العالم المسيحي.

II

يتمتَّع الإنسان بميلٍ قاهر لتصديق أنه ليس مرئيًّا عندما لا يرى هو شيئًا، مثل الأطفال الذين يغلقون عيونهم حتى لا يراهم أحد. (ليختِنبِرغ)

يعتقد بشر زماننا بأنَّ عبثية وقسوة حياتنا، مع ثراء الأقلية اللامعقول، ومع الفقر الحسود والحاقد للأكثرية، مع العنف والتسلُّح والحروب، ليست مرئية لأحد، وأن لا شيء يمنعنا عن مواصلة عيش حياةٍ كهذه.

إنّ الضلال لا يتوقّف عن كونه ضلالاً إذا ما تشاركته الأكثرية. وإنَّ بشر العالم المسيحي الذين اعتنقوا، على مرأى من الدين المسيحي، تحريفًا ابتدعته الكنيسة حلَّ محلَ الوثنية، وأقنع البشر جزئيًا، في البداية، بصيغة جديدة، كفّوا، مع مرور الوقت، عن الإيمان حتى بهذا التحريف الكنسي للمسيحية، ووصلوا، في نهاية المطاف، إلى أنهم أصبحوا دون أيِّ فهم ديني للحياة، ودون أيِّ مرشد نابع عنه للسلوك. وبما أنَّ هذا الفهم المشترك بين الجميع، أو على الأقل بين أكثرية الناس، لمعنى حياة البشر، وللمرشد المشترك النابع عنه للأفعال، لا يمكن إلاَّ أن يوجد، وأمرٌ غير معقول وبائس، فكلَّما استمرَّت حياة بشر العالم المسيحي هذه أكثر كلَّما أصبحت غير معقولة وبائسة أكثر. وفي وقتنا الراهن، بلغت هذه الحياة إلى درجة من اللامعقولية والبؤس بحيث لم يعد بإمكانها أن تستمر بالأشكال القديمة.

إنَّ أكثرية الشعب الكادح، المحرومة من ملكية الأرض وبالتالي من إمكانية الانتفاع من نتاج عملها، تكره ملاَّك الأراضي والرأسماليين الذين يبقونها قيد العبودية. وملاَّك الأراضي والرأسماليون، إذ يعلمون مشاعر العمَّال تجاههم، يخشونهم ويكرهونهم، ويبقونهم في العبودية عن طريق عنف الدولة المنظَّم. وبصورةٍ منتظمة، يسوء وضع العمال دون توقَّف، وتزداد تبعيتهم للأغنياء، وكذلك بانتظام تزداد ثروة الأثرياء باستمرار، وسلطتهم على الشعب العامل، وخوفهم وكراهيتهم. وكذلك يزداد انتظام، دون أن يكون قادرًا على الانتهاء، تسلُّح الشعوب ضدَّ الشعوب، التسلُّح الذي يهدر أكثر فأكثر جهود العمَّال-العبيد على الأسلحة البرية والبحرية والغواصة والجوية، التي هدفها الوحيد هو التجهُّز لمقتلة عالمية شاملة. وهذه الجرائم ارتُكبت، وتُرتكب، ولا يمكنها إلاَّ أن تُرتكب ما دامت الشعوب المسيحية (ليس كبشر بل كشعوب)، المتَّحدة في دول، تكره بعضها بعضًا، وتكره الآخرين، أي الدول غير المسيحية، وهي مستعدة للانقضاض على بعضها بعضًا في أيَّة لحظة. عدا عن أنَّ ما من دولة مسيحية كبيرة، بذرائع وطنية لا يحتاجها أحد، إلا وتُخضع لسلطتها شعبًا أو عدة شعوب صغيرة رغمًا عنها، والمجبرة على المشاركة في حياة الشعب الكبير الذي تكرهه: النمسا، بروسيا، روسيا، فرنسا، مع الشعوب الخاضعة لها: بولونيا، إيرلندة، الهند، فنلندة، القفقاس، الجزائر وغيرها. وهكذا؛ فعدا عن الكراهية المتنامية للفقراء تجاه الأغنياء، وكراهية الشعوب الكبيرة تجاه بعضها بعضًا، تتنامى أكثر فأكثر كراهية الشعوب المضطهَدة تجاه المضطهِدين. والأسوأ هو أنَّ كل هذه الكراهية، المناقضة لطبيعة الإنسان، سواء كراهية الشعوب الكبيرة تجاه بعضها بعضًا أم كراهية الشعوب المقهورة تجاه قاهريهم وبالعكس، ليست فقط لا تُدان كأيِّ شعور عدائي بين البشر، وإنما، على العكس، تُمتدح، وتُرقَّى إلى درجة المأثرة والفضيلة. تمتدح كراهية العمال المقموعين تجاه الأثرياء والمتسلِّطين باعتبارها محبة تجاه الحرية والأخوة والمساواة. وكراهية الألمان للفرنسيين، والإنكليز لليانكي، والروس لليابانيين، وهلمَّ جرَّا، وبالعكس، تُنسب إلى فضيلة الوطنية. كذلك، بل وأكثر، تُثمَّن الكراهية الوطنية للبولونيين تجاه الروس، وكراهية البروس والبروساك تجاه البولونيين والفنلنديين وبالعكس.

ناهيكم عن أنَّ كل هذه الكوارث لم تُظهر كذلك أنَّ حياة الشعوب المسيحية لا يمكنها أن تستمر في الاتجاه نفسه، إذ كان يمكن لهذه الكوارث أن تكون عَرَضية، أن تكون ظواهرَ مؤقَّتة، لو كان هناك مبدأ دينيٌّ موجِّه ما يكون مشتركًا بين هذه الشعوب. لكن هذا غير موجود، ولا وجود لشيء من قبيل المبدأ الديني الموجِّه المشترك بين شعوب العالم المسيحي. هناك كذب ديني، كنسي، وليست كذبة واحدة، بل عدة كذبات مختلفة، معادية لبعضها بعضًا: الكاثوليكية والأرثوذكسية واللوثرية وغيرها، وهناك الكذبة العلمية، الكثيرة التنوُّع، والمعادية لبعضها بعضًا كذلك. وهناك أكاذيب سياسية ودولية وحزبية، وهناك أكاذيب الفنِّ، وأكاذيب العادات والتقاليد - هناك الكثير من الأكاذيب المتنوعة ولكن لا وجود لأي مرشد، مرشد أخلاقي، نابع عن العقيدة الدينية. وبشر العالم المسيحي يعيشون، مثل الحيوانات، منقادين في حياتهم بالمصالح الشخصية فقط، وبالصراع فيما بينهم، ويختلفون عن الحيوانات فقط بأنَّ الحيوانات ظلَّت، منذ سحيق القدم، بالمعدة والمخالب والأنياب ذاتها، في حين أنَّ البشر ينتقلون، أسرع فأسرع، من الطرق الترابية إلى سكك الحديد، ومن الخيول إلى القطار البخاري، ومن الدعاية الشفهية والرسائل إلى الطباعة والبرقيات والهواتف، ومن القوارب الشراعية إلى السفن التي تمخر عباب المحيط، ومن السلاح الأبيض إلى البارود والمدافع والمسدسات والقنابل والطائرات. والحياة، مع البرقيات والهواتف والكهرباء والقنابل والطائرات، ومع كراهية الجميع للجميع، والتي لا تهتدي بمبدأ روحيٍّ موحِّد للبشر وإنما، على العكس، تسترشد بالغرائز الحيوانية التي تُفرِّق بين الجميع، والذين يستخدمون القدرات العقلية لكي يُشبعوا شهواتهم - هذه الحياة تغدو أكثر فأكثر لامعقوليةً وبؤسًا.

III

الذين يعتقدون بأنه يستحيل قيادة البشر إلا عن طريق العنف، مزدرين عقولهم، يعاملون البشر كما تُعامَل الخيول حين تُعصب عيونها لكي تسير في دائرة بوداعة أكثر. فما حاجة البشر إلى العقل إذا كان بالإمكان إخضاعهم فقط عن طريق العنف. ولكنَّ حقَّ القوي ليس حقًا، إذ الحقُّ الصريح، الذي هو حقٌّ فعلاً، هو الحقُّ الذي لا يلقى أية معارضة ومقاومةً أينما كان. فحقُّ القوي مثل البرد والعتمة والثِّقل، مما يجب تحمُّله إلى أن تجد، في مكانٍ ما، الدفء والنور والعَتَلة. الصناعة البشرية بمجملها عبارة عن تحرير من هيمنة الطبيعة الفظَّة؛ أما تقدُّم العدالة فليس سوى مجموعة من القيود التي تلجم عملقة القوي. فكما أنَّ الطب يكمن في قهر المرض، كذلك الخير يكمن في قهر الوحشية العمياء للإنسان الوحش وشهواته الجامحة. وبالتالي؛ فإني أرى دائمًا ذلك القانون ذاته الذي ينمِّي تحرير الإنسان الفرد، ألا وهو ارتقاء جميع الكائنات في الحياة نحو الخير، نحو العدل، نحو الحكمة. البخل الجشِع هو نقطة الانطلاق، والنزاهة الحصيفة هي نقطة الوصول. (أمييل)

إذا كان بالإمكان تحقيق العدل بين البشر عن طريق العنف؛ فهذا لا يعني، على الإطلاق، أنَّ إخضاع البشر عن طريق العنف عادل. إذ العنف يخلق ما يشبه العدالة وحسب، ولكنه يُبعد البشر عن إمكانية العيش بعدالة دون عنف. (باسكال)

يشعر معظم الناس في العالم المسيحي ببؤس وضعهم الذي يتفاقم أكثر فأكثر، ولإنقاذ أنفسهم يستخدمون الوسيلة التي يعتبرونها - حسب اعتقادهم - الوسيلة الوحيدة الفعَّالة، وتلك الوسيلة هي: عنف بعض الناس تجاه الآخرين. ويحاول بعض الناس، الذين يعتبرون النظام القائم مفيدًا لهم، الحفاظ على هذا النظام عن طريق العنف، ويحاول آخرون، كذلك عن طريق عنف العمل الثوري، تقويض النظام القائم، وإقامة نظام أفضل مكانه.

الثورات، وقمع الثورات، كانت كثيرة في العالم المسيحي. والأشكال الخارجية تغيَّرت لكنَّ جوهر نظام الدولة بقي على حاله: هيمنة أقلية على الأكثرية، والفساد، وكذب الطبقات الحاكمة على المضطهَدين وخوفها منهم، والقمع والاستعباد، وتبلُّد وحقد الجماهير وإن تغيَّرا من حيث الشكل ولكنهما، من حيث المضمون، ليس فقط لم يقلاَّ بل ازدادا، ويزدادان، بصورةٍ ملحوظة. وما يحدث في روسيا يُظهر، بجلاء، ليس فقط عبثية وإنما الضرر الواضح لاستخدام العنف كوسيلة لتوحيد البشر.

في الآونة الأخيرة، وفي كل جريدة هناك أخبار أقلُّ فأقل عن: أين، وكيف، سُرقت خزينة ما. أين قُتل دَرَكي أو ضابط أو شرطي ما. أين اكتُشفت محاولة اغتيال. وفي كل الصحف هناك المزيد والمزيد من الأخبار عن الإعدامات وأحكام الإعدام. فمنذ أكثر من عامين يتمُّ إعدام الناس رميًا بالرصاص أو شنقًا، والذين يتعرَّضون للتعذيب والقتل صاروا بالآلاف. كذلك قُتل وفُجِّر الآلاف بقنابل الثوريين، ولكن بما أنَّ القتلى بأيدي المتسلِّطين يزدادون أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة، بينما القتلى بأيدي الثوريين يقلُّون أكثر فأكثر، فإنَّ الطبقات الحاكمة تحتفل، ويتهيَّأ لها بأنها قد انتصرت، وأنها سوف تواصل الآن حياتها المعتادة، داعمةً أكاذيبها بالعنف وعنفها بالأكاذيب.

إنَّ جوهر ضلال كافة العقائد السياسية الممكنة، سواء الأكثر رجعيةً أم الأكثر تقدميةً، والتي تؤدي بالبشر إلى وضعهم البائس هذا، يكمن في أنَّ بشر هذا العالم كانوا، وما زالوا، يعتقدون بإمكانية توحيد البشر عن طريق العنف، بحيث يتمُّ إخضاعهم، دون مقاومة، لنظام حياة وحيد، ولمرشدٍ وحيد للسلوك نابع عنه. من المفهوم أنَّ الناس المستسلمين لشهواتهم قادرون، عن طريق العنف، على إرغام المخالفين لهم على تنفيذ مشيئتهم. إذ يمكن دفع إنسان أو جرِّه إلى حيث لا يريد الذهاب (فكما الحيوانات، كذلك البشر يتصرَّفون دائمًا على هذا النحو تحت تأثير الخوف). حتى هذا مفهوم، ولكن ما ليس مفهومًا على الإطلاق فكرة أنَّ العنف يمكنه أن يكون وسيلةً لحثِّ البشر على القيام بالأفعال التي نرغب فيها.

العنف، أيًّا كان، يكمن في أنَّ بعض الناس يرغمون الآخرين، تحت تهديد التعذيب أو الموت، على القيام بما لا يريد المعنَّفون القيام به. لذا فإنَّ المعنَّفين يفعلون ما لا يريدون فعله فقط ماداموا أضعف من العنيفين، ولا يستطيعون تخليص أنفسهم من كونهم مهدَّدين إذا لم ينفذوا المطلوب منهم. ولكن ما أن يصبحوا أقوى فإنهم، بطبيعة الحال، لن يتوقَّفوا عن فعل ما لا يريدون فحسب وإنما، بتحريض من صراعهم مع العنيفين وبسبب كل ما احتملوه منهم، يتحررون من العنيفين في البداية، وبعد ذلك يجبرون، بدورهم، المخالفين لهم على القيام بما يعتبرونه جيدًا وضروريًا لهم. ولهذا، من المفروض أن يكون واضحًا أنَّ الصراع بين ممارسي العنف والمتعرِّضين له لا يمكنه أبدًا أن يوحِّد البشر، وإنما، على العكس من ذلك، يفرِّق بينهم أكثر كلما طال أمده. من المفروض أنَّ هذا الأمر من الوضوح بمكان بحيث ما كانت لتكون هناك حاجة للحديث عن ذلك لو أنَّ كذبة أنَّ عنف بعض الناس تجاه الاخرين يمكنها أن تكون مفيدة للبشر، ويمكنها أن توحِّدهم، لم تنتشر منذ القدم، ولم يتمّ تقبُّلها بموافقةٍ صامتة كحقيقةٍ لا ريب فيها أبدًا، ليس فقط من قِبل المستفيدين من العنف، وإنما كذلك من قِبل معظم الذين عانوا ويعانون من العنف أكثر من أي شيء آخر. هذه الكذبة موجودة منذ زمنٍ بعيد، قبل المسيحية وبعدها، وظلَّت، وما زالت، قائمة بكلِّ قوتها في العالم المسيحي برمَّته.

الفرق بين ما كان في القِدم، قبل ظهور المسيحية، وبين ما هو قائم الآن في العالم المسيحي يكمن فقط في انعدام أساس الفرضية القائلة إنَّ عنف بعض الناس تجاه الآخرين يمكن أن يكون مفيدًا للبشر، وأن يوحِّدهم. ففي القِدم، كانت حقيقة أنَّ عنف بعض الناس تجاه الآخرين لا يفرِّق بين الناس فحسب بل ولا يمكنه توحيدهم، محجوبة عن البشر في الماضي، في حين أن تعليم المسيح يعبِّر عنها بوضوح، وهي تتضح أكثر فأكثر. وما أن يفهم البشر، الذين كانوا يحتملون العنف بهدوء فيما سبق، أنَّ عنف بعض الناس تجاه الآخرين، عدا عن أنه مؤلم لهم، فهو ليس معقولاً كذلك؛ حتى ينتفضوا ويحقدوا عليه، من فورهم.

هذا ما يحدث الآن بين المعنَّفين لدى الشعوب كافة. ففضلاً عن أنَّ المعنَّفين باتوا يدركون هذه الحقيقة أكثر فأكثر؛ فإنَّ العنيفين أيضًا باتوا يدركونها في الوقت الراهن. بل حتى لدى أشدِّ الناس عنفًا لم تعد هناك ثقة في أنهم يتصرَّفون بشكل جيد وعادل حين يمارسون العنف ضدَّ البشر. هذه الضلالة تنهار، سواء بالنسبة للحكَّام أم للذين يحاربونهم. هؤلاء وأولئك - منهمكين في أحوالهم، ورغم أنهم يحاولون بشتَّى القناعات، الكاذبة في معظمها، أن يقنعوا أنفسهم بأنَّ العنف مفيد وضروري - باتوا يعلمون، في قرارة أنفسهم، بأنهم، عبر قيامهم بأفعالهم القاسية، يحققون ما يشبه رغبتهم فحسب، ومؤقتًا فقط، الأمر الذي، في الحقيقة، يبعدهم عن أهدافهم، ولا يُقرِّبهم إليها.

هذا هو الإدراك الذي بات يلج وعي بشر العالم المسيحي أكثر فأكثر، وسوف يقودهم حتمًا إلى المخرج الوحيد القادر على إخراجهم من وضعهم البائس الحالي. وهذا المخرج يكمن في أمرٍ واحد: في اعتناق البشرية دين المسيح - الذي كان محجوبًا عن البشر - بمعناه الحقيقي، والذي ما زال مجهولاً لمعظم البشر، وقبول مرشد السلوك النابع عنه، والنابذ للعنف.

IV

عندما يحكم فردٌ واحد، من بين مائة شخص، 99 شخصًا؛ فهذا ظلم، بل إنه استبداد. وعندما يحكم 10 أشخاص 90 شخصًا؛ فهذا ظلمٌ أيضًا، إنه حكم طغمة (أوليغارشية). وعندما يحكم 51 شخصًا 49 شخصًا (وهذا في الخيال فقط، إذ من حيث الجوهر هذه مرة أخرى سلطة 10 أو 11 من هؤلاء على الـ51) حينذاك، هذا عادل تمامًا؛ إنها حرية! فهل هناك ما هو أكثر إثارةً للسخرية، من حيث سخفه الواضح للعيان، من هذه الفكرة، ومع ذلك فإنَّ هذه الفكرة ذاتها تشكِّل أساس عمل جميع مُحسنِّي نظام الدولة.

شعوب الأرض ترتعد وترتجف. ففي كل مكان هناك شعور بوجود قوى ما تعمل وكأنها تتجهَّز لزلزال. لم يحمل الإنسان من قبل قط مسؤولية كهذه على عاتقه؛ فكلُّ لحظة تجلب معها مشاغل أهم فأهم. هناك شعور بأنَّ أمرًا عظيمًا سوف يحدث، لكن العالم كان ينتظر أحداثًا عظيمةً قبل مجيء المسيح ولم يقبله عندما جاء. كذلك الآن، يمكن للعالم أن يعاني آلام المخاض التي تسبق مجيئه الجديد دون أن يفهم، رغم ذلك، ما الذي يجري. (لوسي مالوري)

ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنّ النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنّم. (إنجيل متّى: 10، 28)

لم تبلغ دول العالم المسيحي في وقتنا الراهن الحدَّ الذي بلغته دول العالم القديم قبل سقوطها، وإنما تجاوزته. ومن الواضح جدًا للعيان أنَّ كل خطوة إلى الأمام، في زماننا، في مجال المنجزات التقنية، ليست فقط لا تفيد الخير العام بل، بالعكس، بمزيدٍ من الوضوح تُظهر أنَّ كل هذه المنجزات قادرة فقط على مفاقمة مصائب البشر، وليس التخفيف منها على الإطلاق. يمكن اختراع المزيد من الآلات الجديدة: تحت مائية وتحت أرضية وجوية وفوق جوية، من أجل نقل البشر من مكان إلى آخر بسرعة أكبر، واختراع آلات جديدة من أجل نشر أقوال البشر وأفكارهم، ولكن بما أنَّ البشر، الذين يتمُّ نقلهم من مكان إلى آخر، لا يريدون، وليس في مقدورهم، فعل شيء سوى الشر، وهم لا يفعلون سواه؛ فكذلك أقوالهم وأفكارهم، التي يتمُّ نشرها، لا تستطيع دفع الناس نحو شيء آخر سوى الشرِّ. وكذلك وسائل إبادة البشر بعضهم بعضًا، والتي يتمُّ تطويرها أكثر فأكثر، وتزيد من إمكانية القتل دون تعريض الذات للخطر، تُظهر وحسب، بمزيدٍ من الوضوح، استحالة سير الشعوب المسيحية في الاتجاه الذي تسير فيه الآن.

إنَّ حياة الشعوب المسيحية في الوقت الراهن مرعبة، وخصوصًا بسبب عدم وجود أي مبدأ أخلاقي يوحِّدها، وبسبب لاعقلانيتها التي تحطُّ من قيمة الإنسان، بغضِّ النظر عن إمكاناته العقلية، من الناحية الأخلاقية إلى أدنى من مستوى الحيوان، والأكثر أهميةً بسبب تعقيد الخرافة السائدة التي تحجب أكثر فأكثر عن البشر كل بؤس وقسوة حياتهم. الكذب يؤازر قسوة الحياة، وقسوة الحياة تحتاج إلى المزيد فالمزيد من الكذب، ومثل كرة ثلج، كلاهما يتفاقمان دون ردع. لكن لكل شيءٍ نهاية، وأعتقد أنَّ نهاية بؤس شعوب العالم المسيحي قد حلَّت.

إنَّ وضع البشر في العالم المسيحي مرعب، ولكن هذا الوضع، إضافةً إلى ذلك، وهو الأمر الذي يجب أن يحدث وليس له إلاَّ أن يحدث، هو الذي يجب حتمًا أن يوصل هذه الشعوب إلى الخلاص. فالآلام التي يعانيها البشر في العالم المسيحي، والناتجة عن عدم وجود عقيدة دينية ملائمة لعصرنا، هي شروط حتمية للتطور، ويجب أن تنتهي حتمًا عبر اعتناق البشر عقيدةً دينيةً ملائمة لعصرهم. والعقيدة الدينية الملائمة لعصرنا هي إدراك معنى الحياة الإنسانية، وإدراك مرشد السلوك النابع عنه؛ المعنى الذي كشفه الدين المسيحي بمعناه الحقِّ، قبل 1900 سنة، ولكنه حُجب عن البشر عن طريق التحريف الكنسي المختلق والباطل.

V

منذ اللحظة التي قال فيها رعايا الكاتدرائيات لأول مرة: "من أجلنا ومن أجل الروح القدس"، أي منذ أن جعلوا السمعة الخارجية أعلى من الهيبة الداخلية، أقرُّوا بأنَّ مجمل الأفكار البشرية البائسة في الكاتدرائية أكثر أهميةً وقدسيةً من الحقيقة المقدَّسة الوحيدة الكامنة في الإنسان: عقله وضميره. ومنذ تلك اللحظة بدأت الكذبة التي تُهدهد أجساد البشر وأرواحهم، والتي أهلكت الملايين من الكائنات البشرية، وما زالت تواصل عملها المرعب حتى هذه اللحظة. ففي عام 1682، في إنكلترة، الدكتور لايتون، الإنسان الموقَّر الذي كتب كتابًا ضد "الأسْقَفة"، أُدين وحُكم عليه بالعقوبة التالية، والتي نُفِّذت بحقه: جلدوه بقسوة، ثم قطعوا أذنه وشقُّوا أحد منخريه، ثم دمغوا خدَّه بحديدة محمَّاة، بحرفي S.S.: زارع الفِتَن. وبعد سبعة أيام قاموا بجلده ثانيةً، رغم أنَّ الندوب على ظهره لم تكن قد التأمت بعد، ثمَّ شقُّوا منخره الآخر، وقطعوا أذنه الأخرى، ودمغوا وصمةً بالنار على خدِّه الأخرى. وكل هذا صُنع باسم المسيحية. (موريسون ديفيدسون)

لم يُنشئ المسيح أية كنيسة، ولم يُقم أية دولة، ولم يقدِّم أية شرائع، ولم يشكِّل أية حكومة، ولا الطقوس الخارجية، إلا أنه حاول كتابة قانون الله في قلوب البشر لكي يقودوا أنفسهم بأنفسهم. (هِربِرت نيوتُن)

تكمن خصوصية وضع الشعوب المسيحية في وقتنا الراهن في أنَّ هذه الشعوب أسست حياتها على الدين الذي، بمعناه الحقِّ، يقوِّض هذه الحياة، وهذا المعنى السابق المحجوب قد بدأ يتجلَّى. لم تبنِ الشعوب المسيحية بيتها حتى على الرمل، وإنما على جليدٍ ذائب. والجليد بدأ بالذوبان، وقد ذاب، والبيت ينهار.

ما دام معظم البشر، المخدوعين بالعقيدة الكنسية، لديهم مفهومهم المبهم حول المعنى الحقيقي لدين المسيح، وبدلاً من الأوثان السابقة يؤلِّهون المسيح - الإله وأمه وحوارييه، ويسجدون للأضرحة والأيقونات، ويؤمنون بالمعجزات والأسرار، ويؤمنون بالغفران، وبطهارة المراتبية الكنسية - كان يمكن للنظام الوثني للعالم أن يستمرَّ، وأن يُرضي البشر. فقد آمن البشر، بصورة متماثلة، كذلك بتفسير معنى الحياة الذي قدَّمته لهم الكنيسة، وبمرشد السلوك النابع عنه، وهذا الإيمان كان يُقرِّب البشر إلى بعضهم بعضًا. وكان الأمر على هذا النحو مادام البشر لم يكونوا يرون ما الذي يختبئ وراء هذه العقيدة الكنسية التي قُدِّمت لهم على أنها الحقيقة. لكن سوء حظ العقيدة الكنسية كان يكمن في وجود الأناجيل التي اعتبرت مقدَّسة حتى من قِبل الكنائس ذاتها، ومهما حاول الكنسيون حجب جوهر الدين الوارد في الأناجيل عن البشر - سواء عن طريق منع ترجمة الأناجيل إلى لغةٍ تكون مفهومةٍ للجميع، أو بتفسيرها تفسيرًا باطلاً - لم يكن بمقدور أي شيء إطفاء النور الذي كان يخترق الأكاذيب الكنسية، ويُنير أنفس البشر الذين باتوا يعون، بمزيدٍ من الوضوح، الحقيقة العظيمة الكامنة في هذا الدين.

وما إن تعرَّف البشر إلى الأناجيل، مع انتشار القراءة والكتابة والطباعة، وفهموا ما كان مكتوبًا فيها، لم يعودوا قادرين، رغم خدع الكنيسة كلها، على عدم رؤية التناقض - الذي يسفع العيون - القائم بين نظام الدولة، المؤيَّد من قِبل الكنيسة، وبين تعليم الإنجيل؛ فالإنجيل يرفض، بشكل صريح، الكنيسة والحكومة مع سلطاتها. وهذا التناقض، الذي أصبح جليًا أكثر فأكثر، جعل البشر يكفُّون، أخيرًا، عن الإيمان بالعقيدة الكنسية، ومعظمهم استمرَّ، بسبب التقاليد أو لأجل اللباقة من جهة، أو بسبب الخوف من السلطة، بالحفاظ على الشكل الخارجي (الطقوس) للعقيدة الكنسية بصورة متماثلة، سواء الكاثوليكية أم الأرثوذكسية أم البروتستانتية، ولم يعودوا يعترفون بقيمتها الدينية الداخلية.

هذا ما حدث مع أكثرية الشعب العامل. (ولست أتحدث عن الفئات القليلة العدد التي رفضت العقيدة الكنسية صراحةً، والتي أنشأت عقائدها الأقرب إلى المسيحية بمعناها الحقِّ إلى حدٍّ ما. ولست أتحدث عنهم لأنَّ عدد هؤلاء الناس ضئيل جدًا مقارنةً بحشدٍ هائل من البشر الذين تحرروا أكثر فأكثر من كافة أشكال الوعي الديني). والأمر ذاته يحدث مع غير العمال، مع متعلِّمي العالم المسيحي. فقد رأى هؤلاء الناس، بوضوح أكثر من الناس البسطاء، بطلان العقيدة الكنسية وتناقضاتها الداخلية، ونبذوا هذه العقيدة بطبيعة الحال، لكنهم، عدا عن ذلك، عجزوا عن إدراك التعليم الحقيقي للمسيح، وذلك لأنَّ هذا التعليم كان نقيض النظام القائم برمَّته، والأهم هو أنه كان يتعارض مع وضعهم المفيد جدًا لهم فيه.

وهكذا؛ ففي وقتنا الراهن، يعيش بعض الناس، الأكثرية الهائلة، في عالمنا المسيحي، قائمين - ظاهريًا فقط - بالطقوس الكنسية بموجب العادة، ولأجل اللباقة والتكيُّف، أو بسبب الخوف من السلطات، أو حتى لغاياتٍ مغرضة، لكنهم لا يؤمنون، ولا يمكنهم أن يؤمنوا بعقيدة هذه الكنيسة إذ باتوا يرون تناقضاتها الداخلية بوضوح. أما القسم الآخر من السكَّان، والذي يكبر أكثر فأكثر، فليس فقط لم يعد يعترف بهذا الدين القائم فحسب، وإنما بات يعتبر شتَّى الأديان، بتأثيرٍ من الدين المدعو بـ"العلم"، بقايا خرافات، ولا يهتدي في حياته بشيء سوى بقناعاته الشخصية.

وقد حدث لمعتنقي الدين المسيحي، الذي يتجاوز قدراتهم - هكذا كان الدين المسيحي بالنسبة للوثنيين الذين اعتنقوه في وقتٍ كانت فيه الحياة الاجتماعية بصيغة نظام الدولة القسري قد تجذَّر بعمق في أخلاق البشر وعاداتهم - ما بدا تناقضًا في البداية، ناهيكم عن أنَّ شيئًا من هذا القبيل ما كان له إلاَّ أن يحدث، وبالتحديد هو أنَّ هؤلاء الناس، نتيجة اعتناقهم الدين الأسمى في حينه، فقدوا كافة أشكال الدين، وانحطُّوا، من حيث وضعهم الديني والأخلاقي، إلى مستوى أدنى من مستوى الذين كانوا يعتنقون أديانًا أخرى، بما فيها الأديان الأكثر فظاظةً.

إنَّ التحريف الكنسي للمسيحية أبعدنا عن تحقيق ملكوت الله لكن المسيحية الحقَّ، مثل نارٍ في الهشيم، أحرقت قشرتها، وشقَّت طريقها نحو الخارج؛ فصار معنى المسيحية مرئيًا للجميع، وبات تأثيرها أقوى من الباطل الذي يحجبها.

VI

إني أرى دينًا جديدًا، مبنيًا على الثقة بالإنسان، يدعو إلى الأعماق اللاممسوسة التي تكمن فينا، ويؤمن بأنه قادر على حبِّ الخير في منأىً عن فكرة الثواب، وبأنَّ المبدأ الإلهي يقيم في الإنسان. (فولتير)

ما يلزمنا، ما يلزم شعبنا، وما يتطلَّبه عصرنا من أجل إيجاد مخرج من قذارة الأنانية والشكِّ والإنكار هذه التي ينوء تحت ثقلها، هو الإيمان الذي بموجبه تستطيع نفوسنا التوقُّف عن الضلال في بحثها عن أهدافها الشخصية، وتكون كلها قادرة على السير معًا، معترفةً بمنشأ واحد، بقانونٍ واحد، بهدفٍ واحد.

إنَّ أية عقيدة قوية، تنشأ على أنقاض العقائد القديمة البالية، تغيّر النظام الاجتماعي القائم، وذلك لأنّ أية عقيدة قوية تستند، حتمًا، إلى كافة فروع النشاط الإنساني.

تُكرِّر البشرية، بصيغٍ مختلفة، كلمات الدّعاء إلى الله: ليأتِ ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض... (مادزيني)

لا يمكن وزن، ولا قياس، الضرر الذي أحدثته، وتحدثه العقيدة الباطلة.

الدين هو العلاقة التي يقيمها الإنسان بالإله والعالم، وتحديده مهمَّته النابعة عن هذه العلاقة. فكيف، إذًا، ستكون حياة الإنسان إذا كانت هذه العلاقة، والرسالة النابعة عنها، باطلتين؟

لا يكفي نبذ العقيدة الباطلة، أي العلاقة الكاذبة مع العالم، بل يجب أيضًا تحقيق الحقِّ.

إنَّ مأساوية وضع البشر في العالم المسيحي تكمن في اعتناق الشعوب المسيحية - بسبب خطأ لم يكن منه بدٌّ - ذلك الدين الذي، بمعناه الحقيقي، ألغى، بمنتهى التحديد، وهدم مجمل نظام الحياة الاجتماعية الذي كانت هذه الشعوب تعيش بموجبه، والذي لم تكن قادرة على تصوُّر الحياة من دونه، وقد اعتنقته كدينٍ ملائمٍ لها. ها هنا تكمن مأساوية الوضع، وفي هذا كذلك يكمن خير الشعوب المسيحية العظيم والاستثنائي.

في تلك الصورة المشوَّهة التي قُدِّم فيها الدين المسيحي للشعوب المسيحية، بدا لهم الدين المسيحي فقط كتلطيف ما لفجاجة مفهوم الألوهة، كمفهوم أعلى لمهمة الإنسان، ولمتطلبات الأخلاق. في حين أنَّ المعنى الحقيقي للدين حُجب عنهم عن طريق دوغما معقَّدة وطقوس جذَّابة مُلهمة إلى درجة أنهم لم يرتابوا حتى بوجوده. رغم أنَّ هذا الدين، بمعناه الحقيقي، عُبِّر عنه بوضوح ليس فقط فيما اعترفت به الكنائس وحيًا إلهيًا، أي الأناجيل التي لم تكن منفصلة عن العقيدة المحرَّفة، بل إنَّ هذا الدين كان ملائمًا وقريبًا للنفوس البشرية إلى درجة أنَّ البشر الأكثر رهافةً تجاه الحقيقة، رغم كلِّ حشو الدين وتحريفه بالدوغما الباطلة، كانوا يتقَّبلون الدين أكثر فأكثر بمعناه الحقيقي، وكانوا يرون بوضوحٍ أكثر فأكثر التناقض بين نظام العالم والدين المسيحي الحقِّ.

ناهيكم الحديث عن معلِّمي الكنيسة في العالم القديم: تاتيانوس[1]، كليمنت الاسكندراني[2]، أوريجين[3]، تيرتوليانوس[4]، كيبريانوس[5]، لاكتانتسيوس، وغيرهم، فقد وُعي هذا التناقض حتى في القرون الوسطى، في حين أنَّه يتجلَّى أكثر فأكثر في العصر الحديث، ويتجلَّى لدى طوائف كثيرة جدًا، والتي تنبذ نظام الدولة المناقض للمسيحية مع الشرط الضروري لوجوده: أي العنف، وكذلك في العقائد الإنسانية شديدة التنوُّع، حتى التي لا تعتبر نفسها مسيحيةً، مثل العقائد الاشتراكية والشيوعية والأنارخية التي انتشرت في الآونة الأخيرة، والتي هي، في جوهرها، ليست سوى مظاهر محدَّدة للوعي المسيحي بمعناه الحقيقي، الرافض للعنف.

يكمن سبب معاناة شعوب العالم المسيحي في أنها اعتنقت، بشكله المحجوب والمحرَّف، ذلك الدين الذي، بمعناه الحقيقي، لا بدَّ من أن يهدم نظام الحياة الذي تعيشه، ولا تريد الانفصال عنه. أما خيرها العظيم فيكمن في أنها، بعد اعتناق المسيحية بصورتها المحرَّفة، المشتملة على الحقيقة المحجوبة عنها، قد وصلت حتمًا الآن إلى حتمية اعتناق الدين، ولكن ليس بصورته المحرَّفة وإنما بمعناه الحقيقي الذي يتجلَّى فيه أكثر فأكثر، بل بات يتجلَّى فيه كليًا الآن، والوحيد القادر على إنقاذ البشر من الوضع البائس الذي يعيشونه في الوقت الراهن.

VII

إنَّ السبب الرئيسي لنظام الحياة السيئ هو الدين الباطل. يجب أن نتعامل مع قضايانا الاجتماعية بحرصٍ بالغ، ويجب أن نكون مستعدين لتغيير آرائنا، والتخلِّي عن الآراء القديمة وهضم الجديدة. يجب أن نتخلَّى عن الآراء المسبقة، وأن نفكِّر بعقلٍ حرٍّ تمامًا. فالبحَّار الذي يستخدم الأشرعة ذاتها، بغضِّ النظر عن تغيُّر اتجاه الريح، لن يبلغ مرافئه أبدًا. (هنري جورج)

يكفي أن نفهم، ببساطة وبشكل مباشر، تعليم المسيح حتى يتَّضح ذلك الكذب المرعب الذي نعيشه جميعنا، ويعيشه كلٌّ منا.

الدين المسيحي بكلِّ معانيه الحقيقية، حسبما يزداد وضوحًا أكثر فأكثر في وقتنا الراهن، يكمن في أنَّ جوهر الحياة الإنسانية هو المزيد فالمزيد من التجلِّي الواعي لمبدأ كلِّ الأشياء، وعلامة هذا التجلِّي فينا هي المحبة. لذا؛ فالمحبة هي جوهر الحياة الإنسانية والقانون الأعلى الذي يجب أن يقودها.

ولأنَّ المحبة شرطٌ ضروري وصالح للحياة الإنسانية؛ فقد اعترفت به كافة التعاليم الدينية القديمة. ففي كلِّ تعاليم الحكماء المصريين والبراهمانيين والرواقيين والبوذيين والطاويين وغيرهم، اعتُرف بالمودَّة والعطف والرحمة والإحسان، والمحبة عمومًا، كفضائل رئيسية. والاعتراف الأسمى بين هذه التعاليم بلغ درجة أنَّ محبة الكلِّ، بما في ذلك مجازاة الشرِّ بالخير، امتُدحت، وخاصةً في مواعظ الطاويين والبوذيين. لكن أيًّا من هذه التعاليم لم تجعل من هذه الفضائل أساسًا للحياة، وقانونًا أعلى يجب ألا يكون رئيسيًا فحسب بل والمرشد الوحيد لأفعال البشر، كما فعل الدين الأحدث بين كافة التعاليم الدينية: أي المسيحية. ففي كافة الأديان السابقة على المسيحية تمَّ الاعتراف بالمحبة كإحدى الفضائل، لكن ليس كما أقرَّها الدين المسيحي: ميتافيزيقيًا-أساس كلِّ شيء، وعمليًا-القانون الأعلى للحياة الإنسانية، أي القانون الذي لا يُجيز أية استثناءات بأي حال من الأحوال. الدين المسيحي ليس دينًا جديدًا ومتميِّزًا بالنسبة للأديان القديمة كافة، وإنما فقط هو تعبير أكثر وضوحًا وتحديدًا عن أساس الحياة الإنسانية الذي كانت التعاليم الدينية السابقة تشعر، وتُبشِّر، به بصورةٍ مبهمة. وفيما يتعلق بهذا، تكمن خصوصية الدين المسيحي فقط في أنه، كدينٍ أحدث، عبَّر، بشكلٍ أكثر دقَّة وتحديدًا، عن جوهر قانون المحبة، وعن مرشد الأفعال المنبثق عنه حتمًا. وبالتالي، فإنَّ التعليم المسيحي حول المحبة ليس عبارة عن تبشيرٍ بفضيلة معروفة، كما هي الحال في الأديان السابقة، وإنما هو تحديدٌ للقانون الأعلى للحياة الإنسانية، ومرشدُ السلوك المنبثقُ عنه حتمًا. إذ إنَّ تعليم المسيح يوضِّح سبب كون هذا القانون هو القانون الأعلى للحياة الإنسانية، ومن جهة أخرى يشير إلى مجموع الأفعال التي على الإنسان، أو لا يجب عليه، القيام بها تبعًا لاعترافه بحقَّانية هذا التعليم. وبوضوح وتحديد خاصين يتجلَّى في التعليم المسيحي أنَّ تطبيق هذا القانون، باعتباره قانونًا أعلى، لا يسمح، كما كانت تفعل الأديان السابقة، بأية استثناءات، وأنَّ المحبة، محدَّدةً بهذا القانون، هي محبة فقط عندما لا تسمح بأية استثناءات، وتُوجَّه نحو الغرباء والمختلفين بالدين ونحو الأعداء الذين يكرهوننا ويسيئون إلينا، سواءً بسواء.

في هذا البيان، بيان سبب كون هذا القانون هو القانون الأعلى لحياة البشر، وفي التحديد الدقيق لمرشد السلوك النابع عنه حتمًا، تكمن تلك الخطوة إلى الأمام التي قام بها الدين المسيحي، وفي هذا تكمن قيمته الرئيسية وفضيلته. وإنَّ بيان سبب كون هذا القانون هو القانون الأعلى للحياة يظهر، بوضوحٍ خاص، في رسائل يوحنا الرسول:

أيها الأحبَّاء، لنحبَّ بعضنا بعضًا لأنَّ المحبة هي من الله... ومن لا يحبُّ لم يعرف الله لأنَّ الله محبَّة... الله لم ينظره أحد قط، إن أحبَّ بعضنا بعضًا، فالله يثبت فينا. [...] الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه. [...] نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحبُّ الإخوة. ومن لا يحبُّ أخاه يبقَ في الموت. (رسالة يوحنا الرسول الأولى: 4، 7-8-12-16، و30، 14)

يكمن الدين كلُّه في أنَّ ما نسمِّيه أرواحنا إنما هو المبدأ الإلهي فينا، المحدود بأجسادنا، والذي يتجلَّى فينا عبر المحبة، وأنَّ لهذا السبب تتجلَّى الحياة الحقيقية لكلِّ إنسان، التي هي حياة إلهية حرَّة، في المحبة. أما مرشد السلوك النابع عن إدراكٍ كهذا لقانون المحبة الذي لا يجيز أية استثناءات؛ فيظهر في مواضع كثيرة في الإنجيل، وبدقة وصراحة وتحديد متميِّز، في الوصية الرابعة من موعظة الجبل:

سمعتم أنه قيل: عينٌ بعين وسنٌّ بسنّ (سفر الخروج: 12، 14)، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرَّ. (إنجيل متّى: 5، 38).

أما الآيتين 39 و40، وكأنَّ هناك تنبُّؤ بالاستثناءات التي قد تبدو ضروريةً عند تطبيق قانون المحبة في الحياة، فيرد بوضوح ودقة بأنه لا توجد، ولا يمكن أن توجد، الظروف التي بموجبها يجوز التنازل عن المطلب الأول والأبسط للمحبة: عدم الفعل بالآخرين ما لا تريد أن يفعلوه بك، حيث يرد:

بل من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا.

أي إنَّ العنف الممارس عليك يجب ألاَّ يكون ذريعةً للعنف من قِبلك. وإنَّ منع تبرير التنازل عن قانون المحبة بسبب أفعال الآخرين أيًا كانت؛ هذا المنع يتجلَّى، بوضوح أكثر ودقَّة أكبر، في الوصية الأخيرة التي تشير، بصريح العبارة، إلى تلك التفاسير الباطلة المعتادة التي يبدو خرق القانون، تبعًا لها، جائزًا:

سمعتم أنه قيل تحبُّ قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبُّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يُحبُّونكم، فأيُّ أجرٍ لكم؟ أليس العشَّارون أيضًا يفعلون ذلك؟ وإن سلَّمتم على إخوتكم فقط، فأيُّ فضلٍ تصنعون؟ أليس العشَّارون أيضًا يفعلون هكذا؟ فكونوا أنتم كاملين كما أباكم الذي في السماوات هو كامل. (متّى: 5، 43-46)

إنَّ هذا الاعتراف بقانون المحبة قانونًا أعلى للحياة الإنسانية، وبمُرشد السلوك المعبَّر عنه بوضوح، والنابع عن التعليم المسيحي المتعلِّق بالمحبة؛ محبة الأعداء الذين يكرهوننا ويسيئون إلينا ويلعنوننا، هو ما يشكِّل خصوصية تعليم المسيح الذي، إذ أعطى للتعليم المتعلِّق بالمحبة ولمرشد السلوك المنبثق عنها معنىً دقيقًا ومحددًا، لا بدَّ أن يجرَّ خلفه تغييرًا كليًا يُنشئ نظام حياةٍ لشعوب العالم كافة، لا للشعوب المسيحية فقط.

ها هنا يكمن تميُّز الدين المسيحي عن الأديان السابقة عليه، ومعناه الرئيسي في جوهره الحقِّ؛ في هذه الخطوة إلى الأمام في وعي البشرية التي قام بها الدين المسيحي. وهذه الخطوة تكمن في أنَّ التعاليم الدينية والأخلاقية السابقة حول المحبَّة، باعترافها - وما كان للأمر أن يكون على غير هذا النحو - بفضيلة المحبة لأجل حياة البشرية، سمحت، فضلاً عن ذلك، بإمكانية وجود ظروف يغدو فيها تطبيق قانون المحبة ليس إلزاميًا، ويمكن تجاوزه. وما إن يكفَّ قانون المحبة عن أن يكون القانون الأعلى والثابت لحياة البشر، حتى يُقضى على فضيلة القانون، وليقتصر التعليم المتعلِّق بالمحبة على مواعظ وخطب نارية لا تفرض أية واجبات، وتُبقي على نظام حياة الشعوب برمَّته كما كان قبل التعليم المتعلِّق بالمحبة، أي القائم على العنف وحده. أما الدين المسيحي، في جوهره الحقِّ، إذ يُقرُّ قانون المحبة قانونًا أعلى، ويُقرُّ تطبيقه في الحياة دون أية استثناءات، فقد قضى بذلك على الاعتراف بالعنف أيًّا كان، وبالتالي كان قادرًا على رفض نظام العالم القائم على العنف برمَّته. هذا هو المعنى الرئيسي للدين الذي حُجب عن الناس عن طريق مسيحية باطلة لم تعترف بالتعليم المتعلِّق بالمحبة كقانونٍ أعلى للحياة الإنسانية، وإنما فقط، كما في التعاليم السابقة على المسيحية، كإحدى قواعد السلوك التي من المفيد الالتزام بها عندما لا يوجد ما يمنع ذلك.

VIII

إنَّ ويلات الحروب والإعدادات لها ليست فقط لا تتناسب مع الأسباب التي تُقدَّم لتبريرها، بل إنَّ هذه الأسباب في معظمها تافهة إلى درجة لا تجدر مناقشتها، وهي مجهولة تمامًا للذين يُقتَلون في الحروب.

لقد اعتاد البشر على الحفاظ على نظام الحياة الخارجي عن طريق العنف إلى درجة أنهم يتصوَّرون حياة البشر من دون عنف أمرًا مستحيلاً. في حين أنَّ البشر، إذا أقاموا حياةً عادلةً (في الظاهر) عن طريق العنف، فإنَّ الذين يقيمون حياةً كهذه يجب أن يعرفوا فيمَ تكمن العدالة، وأن يكونوا - هم أنفسهم - منصفين. وإذا كان بعض الناس قادرين على معرفة فيمَ تكمن العدالة، وقادرين على أن يكونوا منصفين؛ فلماذا، إذًا، لا يمكن لكلِّ البشر أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا منصفين؟

لو أنَّ البشر كانوا محسنين تمامًا لما تخلُّوا عن الحقِّ قط؛ فالحق يؤذي فاعل الشرَّ فقط، في حين أنَّ فاعل الخير يحبُّ الحقَّ.

غالبًا ما يغدو الفكر عبدًا للخطيئة: إنه يميل إلى تبريرها.

إنك تشعر بالدهشة أحيانًا: لماذا يدافع الإنسان عن مبادئ دينية أو سياسية أو علمية مخيفة وغير معقولة كهذه. ابحث، وستجد أنه يدافع عن مبدئه الخاص.

يكمن تعليم المسيح، بمعناه الحقّ، في إقراره قانون المحبة قانونًا أعلى للحياة، ولهذا فهو لا يستطيع السماح بأية استثناءات. المسيحية، أي دين المحبة، التي تسمح باستثناءات من قبيل العنف لصالح قوانين أخرى، لهي تناقض داخلي من مثل: نار باردة أو جليد ساخن.

المفروض أن يكون واضحًا أنه، إذا كان بعض الناس قادرين، رغم اعترافهم بفضل المحبة، ولأجل أهداف خيِّرة ما في المستقبل، على السماح بضرورة تعذيب أو قتل بعض الناس؛ فيمكن لآخرين كذلك، أيضًا يعترفون بفضل المحبة، ومن منطلق هذا الحقِّ ذاته بالضبط، أن يسمحوا، كذلك لأجل أهداف مستقبلية، بضرورة تعذيب وقتل الآخرين. وبالتالي؛ فمن المفروض أن يكون واضحًا أنَّ السماح بأية استثناءات، أيًّا كانت، خارج متطلبات تطبيق قانون المحبة يقضي على كل معنى، وكل مغزى، وكل فضيلة، قانون المحبة الكامن في أساس كل التعاليم الدينية، وكل التعاليم الأخلاقية. من المفروض أن يكون هذا واضحًا إلى درجة أنَّ من المخجل إثباته، ومع ذلك، فإنَّ البشر في العالم المسيحي - سواء الذين يعتبرون أنفسهم متدينين، أم الذين يعتبرون أنفسهم غير متدينين لكنهم يعترفون بالقانون الأخلاقي - ينظرون إلى التعليم المتعلِّق بالمحبة، الرافض لكافة أشكال العنف، وخصوصًا إلى المبدأ النابع عن هذا التعليم، والمتعلِّق بعدم مقاومة الشرِّ بالشرِّ، كشيء فنطازي، مستحيل، وبعيد كليًا عن الحياة.

مفهومٌ أنَّ الناس المتسلِّطين يمكنهم أن يقولوا: «من دون العنف لا يمكن أن يكون هناك أي نظام، وأية حياة صالحة»، قاصدين بكلمة "نظام" ذلك البنيان الذي، في ظلِّه، يمكن لأقلية مُسرِفة استغلال جهود الآخرين، وبكلمة "صالحة" يقصدون حرية إدارة حياة كهذه دون عوائق. ولكن، وبقدر ما هو جائر قولهم، فمن المفهوم أنهم يستطيعون قول هذا الكلام لأنَّ القضاء على العنف لا يحرمهم من إمكانية العيش كما يعيشون فحسب، وإنما يفضح كل جور وقسوة حياتهم القديمة. لكن المفروض أنَّ الكادحين من البشر لم يعودوا بحاجة إلى ذلك العنف الذي - كم يثير هذا الكلام الدهشة! - يمارسونه في حقِّ أنفسهم بمنتهى العناد، والذي يعانون من جرَّائه كثيرًا. إذ إنَّ عنف المتسلِّطين تجاه الخاضعين ليس مباشرًا، إنه ليس العنف المباشر لشخصٍ قويٍّ تجاه شخصٍ ضعيف، أو لأكثرية تجاه أقلية، أو لمائة تجاه عشرين، الخ. حيث يقوم عنف المتسلِّطين، كما يمكن أن يقوم عنف الأقلية تجاه الأكثرية، فقط على الكذبة التي أوجدها أناسٌ دهاةٌ ماكرون منذ زمنٍ بعيد، والتي، بنتيجتها، ومن أجل منافعهم الآنية والواضحة والجشعة، لا يُحرم البشر من أعظم المنافع فحسب بل ويفقدون حريتهم، ويتعرَّضون لأقسى الآلام. وقد أفصح عن جوهر هذه الكذبة، قبل أربعمائة عام، الكاتب الفرنسي لا بوايتيه، في مقاله العبودية الطوعية. إليكم ما كتب حول ذلك:

لا الأسلحة، ولا المسلَّحين - الخيالة والمشاة - هم الذين يحمون الطغاة، وإنما - كم يصعب تصديق هذا - ثلاثة أو أربعة أشخاص يدعمون الطاغية، ويُبقون البلد في العبودية لأجله. دائمًا كانت حلقة المقرَّبين إلى الطاغية تتألف من خمسة أو ستة أشخاص. وهؤلاء الناس إما يتقرَّبون إليه لثقتهم فيه، أو أنه قرَّبهم إليه ليكونوا شركاءَ قسوته، ورفاقَ شبقه، ومدبِّري مُتَعه، وشركاءَه في سلبه ونهبه. هؤلاء الستة لديهم ستمائة تحت إمرتهم ويعاملون الستَّةَ كما يعامل الستةُ الطاغية. والستمائة لديهم تحت إمرتهم ستة آلاف من الذين يقومون بترقيتهم في المناصب، ويعطونهم إدارة الأقاليم والشؤون المالية لكي يُشبعوا جشعهم وقسوتهم. وخلف هؤلاء هناك حاشية كبيرة. ومن يرغب في استجلاء هذه الشبكة فسوف يرى أنْ ليس فقط ستة آلاف بل مئات الألوف، الملايين، مرتبطين بهذه السلسلة مع الطاغية. ولهذا تتضاعف المهام التي كل جوهرها هو المحافظة على الطغيان. وكلُّ الذين ينفِّذون هذه المهام لهم مصالحهم، وهم مرتبطون مع الطغاة بسبب هذه المصالح. والناس المنتفعون من الطغيان عددهم كبير، وتقريبًا بعدد الذين تكمن سعادتهم في الحرية. وكما يقول الأطباء، بأنه إذا مرض عضو ما في الجسد فسرعان ما تنسكب كل العصائر الرديئة إلى الموضع المريض، والأمر نفسه تمامًا مع الملك؛ فما إن يتحوَّل إلى طاغية حتى يتجمَّع حوله كلُّ ما هو رديء، كل حثالة الدولة، حشدٌ من اللصوص والأنذال، غير المؤهلين لشيء، لكنهم طمَّاعون وجشعون: يتجمَّعون للمشاركة في الغنيمة، وليصبحوا طغاةً صغارًا تحت سلطة الطاغية الكبير. وهكذا، يُخضع الطاغية بعض الأتباع بوساطة آخرين، ويكون محروسًا من قِبل أولئك الذين، لو لم يكونوا أنذالاً لوجب عليه الحذر منهم. ولكن، كما يُقال: «الأسافين اللازمة لِفلْع الحطب تُصنع من الشجرة نفسها»، وكذلك حرَّاسه الشخصيون يشبهونه. وقد يحدث أن يعانوا منه، لكن هؤلاء الناس الضالِّين، الذين هجرهم الله، مستعدُّون لتحمُّل الأذى فقط لكي يكون في مقدورهم أن يسبِّبوا الأذى، ليس لمن يؤذيهم، وإنما للذين لا حول لهم سوى أن يتحمَّلوه.

من هذه الكذبة، التي تجذَّرت لدى الشعب إلى درجة أنَّ نفس الناس الذين يعانون وحسب من استخدام العنف يقومون بتبريره، بل ويطلبونه لأنفسهم كشيء لا بدَّ منه، ويمارسونه ضد بعضهم بعضًا. من هذه العادة التي أصبحت طبيعة ثانية للبشر ينتج ضلالهم المثير للدهشة، والذي بنتيجته يقوم البشر، الأشدُّ معاناةً من جرَّاء تلك الكذبة، بمؤازرتها.

المفروض أنَّ الكادحين من الناس، الذين لا يجنون أية فائدة من العنف الممارَس عليهم، يمكنهم، في نهاية المطاف، رؤية الكذبة التي أشكلت عليهم، والمفروض أنهم، بعد أن يروا الكذبة، أن يتحرروا منها بأبسط السُّبل وأيسرها: الكفُّ عن المشاركة في العنف الذي يمارَس ضدهم فقط بسبب مشاركتهم فيه.

المفروض أخيرًا - وما الذي قد يكون أكثر بساطةً وبداهةً من هذا؟ - أن يفهم الناس الكادحون، وخصوصًا فلاحو روسيا، بل ومعظم البشر في العالم أجمع، الذين عانوا لقرون من العنف الذي يمارسونه في حقِّ أنفسهم دون أية منفعةٍ يجنونها لأنفسهم؛ المفروض أن يفهموا أنهم إنما يعانون من جرَّاء أنفسهم، وأنَّ مُلكية الأرض العائدة لملاَّك متبطلين، والتي يعانون منها أكثر من أي شيء آخر، تتمُّ حمايتها من قِبلهم، هم أنفسهم، كحرَّاس أو شرطة أو جنود؛ وكذلك تمامًا أنَّ كل الضرائب - المباشرة وغير المباشرة - هم الذين يجبونها من أنفسهم كعرفاء أو معاوني شرطة الريف[6] أو جباة ضرائب، وثانيةً كشرطة وجنود.

المفروض أن يكون هذا الأمر مفهومًا بسهولة لكلِّ الناس الكادحين، وأن يقولوا، أخيرًا، لأولئك الذين يعتبرونهم رؤساءهم: "دعونا وشأننا. فإذا كنتم - كأباطرة ورؤساء وجنرالات وقضاة ورجال دين وأساتذة جامعات، وكلِّ الناس المتعلِّمين - بحاجة إلى الجيوش والأساطيل والجامعات ودور الباليه والمجامع الكنائسية (سينودِس) والمعاهد الموسيقية العالية والسجون والمشانق والمقاصل؛ فقوموا أنتم بإنشاء هذا كله، قوموا بتحصيل الضرائب من أنفسكم بأنفسكم، قوموا بإدانة وسجن بعضكم بعضًا، أعدِموا واقتلوا الناس في الحروب، ولكن قوموا بذلك بأنفسكم. أما نحن؛ فدعونا وشأننا لأننا لسنا بحاجة إلى أيِّ شيء من هذا، ولم نعد نريد المشاركة في كلِّ هذه الأعمال غير المفيدة لنا، والأهمُّ هو أنها أعمال شريرة".

ما الذي يمكن أن يكون أكثر بداهةً من هذا؟ لكنَّ الناس الكادحين، وخاصةً الفلاحين، الذين لا يحتاجون إلى أيِّ شيء من هذا، ليس في روسيا وحدها بل في كل البلدان، لا يفعلون ذلك. بل إنَّ قسمًا منهم - الأكثرية - يواصلون تعذيب أنفسهم، حيث ينفِّذون أوامر القيادة الموجَّهة ضدهم، ويلتحقون من تلقاء ذاتهم بالشرطة وتحصيل الضرائب والجندية، بينما آخرون - الأقلية - لكي يتخلَّصوا من العنف، يقومون، عندما يكونون قادرين على ذلك، وفي أزمنة الثورة، بممارسة العنف تجاه الذين عانوا من جرَّاء عنفهم، أي أنهم يطفئون النار بالنار، وبهذا يضاعفون العنف ضدَّ أنفسهم ليس إلا.

لماذا يتصرَّف البشر بهذه الحماقة؟ لأنهم، بسبب الكذب الطويل المدى، لم يعودوا يرون العلاقة بين الاضطهاد الذي يتعرَّضون له وبين مشاركتهم في العنف.

ولماذا لا يرون هذه العلاقة؟ للسبب ذاته الذي يسبِّب مصائب البشر. لأنَّ هؤلاء البشر لا إيمان لهم، ومن دون الإيمان ينقاد البشر لمنافعهم فقط، والإنسان المنقاد لمنفعته فقط لا يمكنه إلاَّ أن يكون كاذبًا أو مكذوبًا عليه.

من هنا تنشأ تلك الظاهرة التي تبدو مثيرة للدهشة، ظاهرة أنَّ الناس الكادحين، وهم معظم البشر، رغم عدم فائدة العنف الواضحة بالنسبة لهم، رغم كل وضوح الكذبة التي يتخبَّط فيها الناس الكادحون في وقتنا الراهن، ورغم كلِّ الثورات التي تهدف إلى الخلاص من العنف، يستمرِّون، ليس فقط بالخضوع للعنف بل وبتأييده، وفي تناقضٍ مع العقل السليم، ومع مصلحتهم الخاصة، يمارسون العنف ضدَّ أنفسهم بأنفسهم.

بعض العمال، عدد كبير منهم، يتمسَّكون بالعقيدة المسيحية الكنسية الباطلة بحكم العادة، دون أن يؤمنوا بها، ولكنهم يؤمنون بالقاعدة القديمة «العين بالعين»، وبنظام الدولة القائم عليها. أما القسم الآخر، وهم العمال الذين لامسوا الحضارة (خصوصًا في أوروبا)، فرغم أنهم يرفضون الأديان كلها، إلا أنهم في أعماقهم يؤمنون لاشعوريًا بالقانون القديم «العين بالعين»، ويتَّبعونه عندما لا يكون في مقدورهم سوى ذلك، ويخضعون للنظام القائم وهم له كارهون، أما حين يستطيعون القيام بسوى ذلك؛ فبشتَّى أنواع الوسائل العنفية يحاولون القضاء على العنف. الأولون، القسم الأكبر من العمال، عاجزون عن تغيير وضعهم لأنهم لا يستطيعون، بسبب إيمانهم بالنظام الدولتي، الامتناع عن الاشتراك في العنف. أما الذين لا إيمان لهم، إذ يتَّبعون شتى أنواع العقائد السياسية فقط؛ فلا يستطيعون التحرُّر من العنف لأنهم يحاولون القضاء على العنف عن طريق العنف.

IX

لقد غُرست غريزة القتل في الحرب وشُجِّعت، على امتداد آلاف السنين، بعنايةٍ شديدة إلى درجة أنها تأصَّلت في دماغ الإنسان. غير أنَّ على المرء التمتُّع بالأمل في أنَّ إنسانية أفضل من إنسانيتنا سوف تتمكَّن من التحرر من هذه الجريمة المرعبة. فماذا سيكون رأي تلك الإنسانية الأفضل حينذاك فيما نسمِّيه "الحضارة الأنيقة"، التي نفخر بها إلى هذه الدرجة؟ تقريبًا مثل رأينا في شعب المكسيك القديمة و"كانيباليته"[7] الحربية، الورِعة والبهيمية في الآن ذاته. (ليتورنو)

اسألوا معظم المسيحيين: ما الشرُّ الرئيسي الذي خلَّص المسيح البشرية منه، وسيقولون: جهنَّم، النار الأبدية، العقاب في الآخرة. وهم، تبعًا لذلك، يعتقدون أنَّ الخلاص هو شيء يمكن لشخص آخر تحقيقه لنا. لكن كلمة "جهنَّم" يندر ذكرها في الكتاب المقدَّس، وبسبب التفاسير الباطلة التي ألحقت ضررًا كبيرًا بالمسيحية، يفرُّ البشر من الجحيم الخارجي الذي يخشونه أكثر من أي شيء آخر، في حين أنَّ الخلاص الذي يحتاجه الإنسان أكثر من أي شيء آخر، والذي يحرِّر الإنسان، هو الخلاص من الشرِّ الذي في نفسه. هناك ما هو أسوأ من العقاب الخارجي بكثير؛ إنه الخطيئة: حال النفس العاصية لله؛ حال النفس الموهوبة قدرةً إلهيةً لكنها تسلِّم نفسها للرغبات البهيمية؛ النفس التي، رغم أنها على صورة الله، تخشى تهديد الإنسان وغضبه، وتُفضِّل المجد الإنساني على إدراكها المطمئن للإحسان. ما من هلاكٍ أسوأ من هذا، وهو ما يحمله الإنسان غير التائب معه إلى القبر: هذا ما يجب أن يُخشى. الخلاص يعني، بالمعنى الأسمى لهذه الكلمة، ارتقاء النفس الساقطة، شفاء النفس المريضة، وإعادة حرية الفكر والضمير والمحبة إليها: ها هنا يكمن الخلاص الذي مات المسيح في سبيله.

من أجل هذا الخلاص أُعطيت لنا الروح القدس، ونحو خلاصٍ كهذا موجَّهٌ تعليم المسيحية الحقُّ برمَّته. (تشانّينغ)

كم يبدو قول الحقِّ سهلاً، وكم هو كثيرٌ العمل الداخلي اللازم لبلوغه. إنَّ درجة صدق الإنسان دليلٌ على درجة كماله الأخلاقي.

هكذا كانت الحال لأمدٍ طويل، وهي مستمرِّة الآن في العالم برمَّته، المسيحي وغير المسيحي. لكني أعتقد الآن، خصوصًا الآن، بعد الثورة الروسية الغبية المثيرة للشفقة، وبشكل خاص بعد القسوة الغبية، المرعبة في وقاحتها وقمعها، أنَّ الروس الأقلَّ تحضُّرًا من الآخرين، أي الأقل فسادًا فكريًا، الذين مازالوا محافظين على تصوُّرٍ غامض لجوهر الدين المسيحي؛ الروس الذين أغلبيتهم من الفلاحين، سوف يفهمون أخيرًا أين تكمن وسيلة الخلاص، وسيكونون أول من يستخدمها. يشعر البشر بوسيلة الخلاص هذه منذ زمنٍ بعيد، وهي تجذبهم إليها، وفي الآونة الأخيرة هي تلج وعي البشر أكثر فأكثر، وبدأت تُستخدم.

في مركز المقاطعة انعقدت محكمة عسكرية. كانت هناك طاولة، وعلى الطاولة لافتة عليها نسر ذو رأسين في الأعلى، وفي الأسفل كلمات مطبوعة، وكذلك كتب قانون، وأوراق مليئة بالكامل بالكتابة مع عناوين مطبوعة، موضوعة بشكل مرتَّب. يجلس إلى الطاولة في المكان الأول رجل بدين، يرتدي بزَّةً عسكرية ذات شريطٍ مقصَّب، وعلى كتفيه صليب. ملامحه الذكية تعكس دماثة خلقه، وكان لطيفًا بشكل خاص الآن لأنه أفطر جيدًا، وتلقَّى أنباء مطمئنة عن صحة طفله الأصغر. يجلس إلى جانبه ضابط آخر ألماني الأصل، غير راضٍ عن مهمَّته، ويفكِّر الآن بالتقرير الذي سيقدِّمه لرئيسه. وفي المكان الثالث يجلس ضابط فتيٌّ تمامًا، "غندور" ومرح، أطلق لتوِّه نكتة طريفة على الفطور عند العقيد أبهجت الجميع. وهو يتذكَّر الآن تلك النكتة، ويُلحَظ أنه يبتسم بعض الشيء. إنه يرغب في التدخين بإلحاح، وينتظر الاستراحة بفارغ الصبر. وإلى طاولة منعزلة يجلس أمين السرِّ، وأمامه كومٌ من الأوراق، وهو منهمِّك بكليته بأن يكون جاهزًا لتقديم الورقة المطلوبة فورًا حسب أوامر القيادة.

وكان هناك شابَّان: أحدهما فلاح من مقاطعة بِنزِن، والآخر برجوازي صغير من مدينة لُوبيم، يرتدي زيَّ الجنود. تمَّ إدخال شخص ثالث، صغير السنِّ تمامًا، يرتدي كذلك معطف الجنود. كان هذا الشاب شاحبًا، ونظر إلى القضاة مرَّة واحدة، ثم راح ينظر قدَّامه بتركيز. صار لهذا الشاب ثلاث سنوات في السجن بسبب رفضه أداء اليمين، ورفضه أداء الخدمة العسكرية. ولكي يتخلَّصوا منه، بعد ثلاث سنوات في السجن، عرضوا عليه أن يؤدِّي اليمين وحينها، كجندي قضى ثلاث سنوات في الخدمة، ولو في السجن، يمكن إخلاء سبيله. لكن الشاب قال في المقابلة ما قاله في الكنيسة من قبل، حيث قال إنه كمسيحي لا يمكنه لا أن يؤدي اليمين، ولا أن يقتل. وها هو يُحاكَم الآن بسبب هذا الرفض.

راح أمين السرِّ يقرأ ورقة تدعى قرار الاتِّهام، يرد فيها أنَّ الشاب رفض استلام راتبه، وأنه يعتبر الخدمة العسكرية خطيئة. سأله الرئيس اللطيف:

-       هل تعتبر نفسك مذنبًا؟

-       كل ما قيل هنا، كله فعلته وقلته، لكني لا أعترف بأني مذنب. قال الشاب بصوتٍ مرتعش، متلعثمًا في كلامه.

هزَّ الرئيس رأسه في إشارةٍ إلى أنَّ الجواب سليم، وسأل وهو ينظر إلى الورقة:

-       ما الذي يمكنك قوله لتفسير رفضك؟

-       لقد رفضت، وأرفض الآن، لأني أعتبر الخدمة العسكرية خطيئة (كان يتعثر في كلامه)... إنها تناقض تعاليم المسيح.

كان المحقق راضيًا عن هذا أيضًا، وهزَّ رأسه موافقًا. كل شيء على ما يرام.

-       هل لديك ما تعلنه أيضًا؟

راح الشاب، وفكُّه السفلي يرتعش، يقول إنَّ الإنجيل لا يمنع القتل فحسب، بل كذلك الشعور العدائي تجاه الأخ.

ويوافق الرئيس على هذا أيضًا. الألماني يعبس مستاءً، والضابط الشاب، رافعًا رأسه وحاجبيه، يصغي بانتباه كشيءٍ جديد ومثير للاهتمام.

المتَّهم، قلقًا أكثر فأكثر، راح يقول إنَّ القسَم ممنوع منعًا صريحًا، وإنه سيعتبر نفسه مذنبًا لو أنه لم يرفض أداء اليمين، وأنه مستعد الآن أيضًا...

أوقفه الرئيس عن الكلام لأنه وجد أنه يقول ما لا علاقة له بالقضية، وبالتالي ما لا لزوم له.

بعد ذلك تمَّ استدعاء الشهود: قائد الفوج والعريف. قائد الفوج، شريك الرئيس المعتاد في شرب الخمر، وصيَّاد عظيم، ومحترف في لعب الورق. والعريف متسكِّع بولوني لبق ووسيم وخدوم، ومحبٌّ كبير لقراءة الروايات. ثم دخل القسُّ أيضًا، وهو شيخ هرم، ودَّع للتو ابنته وصهره وأحفاده الذين جاءوا لزيارته، وكان منزعجًا بسبب شجاره مع الأم لأنه أعطى لابنته سجادة لم تكن الأم ترغب في إعطائها لها.

-       اِحرص، يا أبتِ، على أن يؤدِّي الشهود القسَم، وذكِّرهم بأنَّ شهادة الزور خطيئة أمام الله. وجَّهَ الرئيس الكلام إلى القسِّ.

كان الأب يرتدي رداء الكهنوت، فتناول الصليب والإنجيل، وراح يقول كلمات الموعظة المعتادة، ثم قاد العقيد لأداء القسم. العقيد، بحركةٍ سريعة، رافعًا أصبعين نظيفتين يعرفهما الرئيس جيدًا حين يراقبهما أثناء لعب الورق، راح يكرِّر وراء القسِّ كلمات القسم، ثم قبَّل، كأنما بسرور، الصليب والإنجيل ماطًّا شفتيه. في إثر العقيد دخل القسُّ الكاثوليكي، وبالسرعة نفسها ساق العريف الوسيم لأداء القسَم.

كان القضاة ينتظرون بهدوءٍ وجديَّة. خرج الضابط الشاب ليأخذ "نفَسًا" من سيجارته، وعاد أثناء إدلاء الشهود بشهاداتهم.

شهِد الشهود بما قاله الرافض نفسه، فعبَّر الرئيس عن موافقته، ثمَّ وقف الضابط الذي كان يجلس منفردًا: إنه المدَّعي. اقترب إلى المنضدة، وبدأ ينقل الأوراق الموضوعة عليها من مكان إلى آخر، وتحدَّث بصوتٍ عالٍ، مستعرضًا بترابط كل ما فعله الشابُّ، كل ما يعرفه القضاة، وكل ما أفصح عنه للتوِّ الشاب نفسه دون أن ينكر ما اتُّهِم به بل، بالعكس، عزَّز سبب الإدانة. راح المدَّعي يقول إنَّ المتَّهم، حسبما يقول هو نفسه، لا ينتمي إلى أية طائفة، وإنَّ والديه أرثوذكسيان، وبالتالي فالأساس الوحيد لرفضه أداء الخدمة العسكرية هو عناده. وإنَّ هذا العناد، سواء عناده أم عناد أمثاله من الضالِّين العُصاة، أدَّى بالحكومة إلى إقرار إجراءات عقاب قاسية ضدَّ هؤلاء، والتي، حسب رأيه، تناسب الحالة الراهنة. وبعد ذلك لم يكن المحامي بحاجة إلى قول أيِّ شيء. ثمَّ خرج الجميع، وبعد ذلك أُدخل المتَّهم ثانيةً، ودخل القضاة. جلس القضاة، ثمَّ وقفوا فورًا، وأعلن رئيس المحكمة، دون أن ينظر إلى المتَّهم، وبصوتٍ هادئٍ محايد، قرار المحكمة:

«المتَّهم، هذا الإنسان الذي عانى ثلاث سنوات حتى لا يعترف بنفسه جنديًا، أولاً، يُجرَّد من رتبته العسكرية ومن كل حقوقه وممتلكاته، ويُحكم عليه بأربع سنوات في سريَّة التأديب».

بعد ذلك، ساق الحرَّاس الشاب إلى الخارج، وجميع المشاركين ذهبوا إلى أعمالهم وتسلياتهم المعتادة، وكأن لا شيء مميَّز قد حدث. فقط الشاب، محبُّ التدخين، شعر بشعور غريب مُقلق، كان عاجزًا عن إبعاده بسبب تذكُّره المُلحِّ كلمات المتَّهم الأصيلة والقوية والدامغة، والتي عبَّر عنها بتوتُّرٍ شديد. وأثناء تداول الحُكم، كان الضابط الشاب راغبًا في عدم الموافقة على قرار الأقدم سنًّا لكنه تردَّد حائرًا، وابتلع ريقه، ووافق.

في المساء، عند قائد الفوج، حيث اجتمع الجميع حول طاولة الشاي في الفترة الفاصلة بين لعبتي ورق، دار الحديث عن الجندي الرافض. وقد عبَّر قائد الفوج عن رأيه بصراحة، بأنَّ سبب كل شيء هو الأميَّة، حيث يتمُّ التشبُّث بشتَّى المفاهيم دون أية معرفة، فتنتج جهالات كهذه.

"لا يا عمي، أنا لا أتفق معك". انخرطت في الحديث الطالبة المستمعة في مدرسة البنات العليا، الاشتراكية الديمقراطية، ابنة أخ قائد الفوج "إنَّ حيوية وحزم هذا الإنسان أمرٌ جدير بالاحترام". أضافت، وهي تفكِّر بأنَّ هؤلاء الحازمين كم كانوا سيكونون مفيدين لو أنهم فقط لم يستندوا إلى الخرافات الدينية البالية، وإنما إلى حقائق الاشتراكية العلمية.

-       آه، أجل! أنتِ ثورية معروفة. قال العم مبتسمًا.

-       لكن يبدو لي - مُدخِّنًا دون توقُّف، قال الطالب الشاب - أن لا شيء يمنعه عن الرفض من وجهة النظر المسيحية.

-       لا أعرف من أية وجهة نظر، - قال الجنرال القديم بصرامة - أعرف فقط أنَّ الجندي يجب أن يكون جنديًا، وليس واعظًا.

-       أما برأيي؛ فالأمر الأكثر أهميةً - قال رئيس المحكمة مبتسمًا بعينيه - هو أننا، إذا كنَّا نريد إكمال اللعب، علينا ألاَّ نهدر الوقت الذهبي.

-       من لم يُنهِ شرب الشاي فسأقدِّمه له على طاولة لعب الورق. قال صاحب البيت المضياف، ورمى ورق اللعب لأحد اللاعبين الماهرين الدائمين بحركةٍ مروحية. وجلس الجميع في أماكنهم.

في ممرَّات السجن، حيث كان الحرَّاس مع رافض الخدمة ينتظرون أمر القيادة، جرى الحديث التالي:

-       كيف ما بيعرفوا خيّو؟[8] قال أحد الحرَّاس.

-       ربما لا يفهمون - أجاب الرافض - فلو أنهم كانوا يفهمون لقالوا الشيء ذاته. المسيح أمر بالمحبة، لا بالقتل.

-       خلِّي هيك، شي عجيب، وصعبة كمان.

-       ليس صعبًا على الإطلاق، فها أنا كنت سجينًا، وسأُسجن ثانيةً، وفي قلبي أشعر أني بحالٍ جيدة جدًا إلى درجة أني لا أهتم بما قدَّر الله لي.

اقترب منهم ضابط صف من سرِّية غير قتالية، لم يعد شابًا.

-       ماذا يا سيميونيج - توجَّه بكلامه إلى السجين باحترام - هل أدانوك؟

-       أدانوني.

هزَّ ضابط الصفِّ رأسه: "هكذا إذًا، يصعب التحمُّل".

-       ربما هذا ما يجب. أجاب المعتقل مبتسمًا، إذ شعر بالتعاطف.

-       فليكن. لقد صبر الرب، وأمرنا بالصبر، ولكنه صعب.

مع هذه الكلمات دخل العريف البولوني الوسيم الممر بخطوات حيوية سريعة:

-       لا داعي للكلام. إلى السجن الجديد: سِرْ.

كان العريف صارمًا بشكل خاص لأنه أُمِر بمراقبة المعتقل حتى لا يتحدث إلى الجنود، لأنه، خلال العامين اللذين قضاهما هنا، أغوى أربعة أشخاص فرفضوا كذلك أداء الخدمة، وتمَّت محاكمتهم، وهم معتقلون في سجون مختلفة الآن.

ترجمة: هفال يوسف

*** *** ***

 


 

horizontal rule

[1]  تاتيانوس السوري من مواليد الجزيرة السفلى في سوريا (110-180). تتلمذ على يد يوستينيوس، من آباء الكنيسة. بعد استشهاد معلمه أنشأ مدرسة في روما، كما قام بشرح الأسفار.

[2]  كليمنت الاسكندراني (توفي قبل عام 215). أديب ولاهوتي مسيحي عمل على الجمع بين الثقافة اليونانية والدين المسيحي.

[3]  أوريجين (185-253م): لاهوتي وفيلسوف مسيحي من "آباء الكنيسة". جمع بين الأفلاطونية والمسيحية، وطرح عددًا من العقائد نُسبت لاحقًا إلى الهرطقة.

[4]  تيرتليانوس (160-220). لاهوتي مسيحي. أكَّد على الهوة الفاصلة بين الكتاب المقدَّس وبين الفلسفة اليونانية، وعلى الإيمان مقابل العقل. قال بجسمية الموجودات، بما فيها النفس، وحتى الله.

[5]  كبريانُس: من مواليد الاسكندرية (190م). طالب بالموافقة على معمودية الهراطقة.

[6]  سوتسكي، بالروسية: وهو فلاح كان يُعيَّن لمساعدة الشرطة في الريف، في العهد القيصري.

[7] Cannibalism: أكل الإنسان لحم أبناء جنسه من البشر. وقد شاعت لدى الشعوب البدائية، وكانت تُمارس كأحد عناصر الطعام، أو انتقامًا من العدو، أو اعتقادًا بإمكانية اكتساب قوة الضحية، وغير ذلك. توسعًا: الوحشية.

[8]  كما أشار تولستوي في البداية، هذا الحارس فلاح أمِّي، ولذلك فقد أورد كلامه بلهجة عامية.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني