|
أنا وأنت
تلتقي الخطوط الممتدة للعلاقات في الـأنت الأزلية. لأن كل أنت تحديدًا هي نظرة خاطفة ومباشرة للـأنت الأزلية. وعن طريق كل أنت محددة تخاطب الكلمة الأساسية الـأنت الأزلية. وعن طريق أنت كلِّ الكائنات تتحقق، أو لا تتحقق، العلاقة معها: فالـأنا الفطرية تتحقق في كل علاقة وتُستهلك في العدم. وهي تتحقق فقط عن طريق العلاقة المباشرة مع الـأنت التي لا يمكن أن تتحول إلى هو. * توجَّه البشر إلى الـأنت الأزلية الخاصة بهم بأسماء متعددة. وكانت الـأنت دائمًا في أذهانهم حين كانوا ينشدون لمن كان يسمى هكذا: فالأساطير الأولى كانت ترانيم للتهليل. ثم لجأت الأسماء إلى لغة الـهو؛ فالبشر كانوا مندفعين بقوة لأن يتفكروا ولأن يخاطبوا الـأنت الأزلية الخاصة بهم كـهو. كلُّ أسماء الآلهة مقدسة، لأنه من خلال هذه الأسماء لا يجري الحديث عن (الله)، إنما يكون التوجُّه إليه. يتمنى الكثير من البشر نبذ لفظ كلمة الله من الاستخدام الشائع، فقد أسيء استعمالها كثيرًا. إنها فعلاً الكلمة الأكثر ثقلاً من بين تلك التي يستخدمها البشر. لهذا السبب تراها الكلمة الأكثر خلودًا والتي لا يمكن الاستغناء عنها. فما أهمية كلِّ الأحاديث والأفعال الخاطئة عن الكيان الإلهي (ولو أنه لم يكن هناك، ولا يمكن أن يكون، حديث آخر حوله) مقارنة بحقيقة أن كل البشر الذين يتوجهون إلى الله إنما يقصدونه تحديدًا؟ لأن من يلفظ فعلاً كلمة الله وكانت الـأنت التي في ذهنه حقيقيةً (وأيًّا كان الخداع الذي في داخله)، إنما يتوجه إلى الـأنت الحقيقية التي في حياته، تلك التي لا يمكن حدُّها بأخرى ويقيم معها علاقة تجمع بين ما يتصل به وتشمل الآخرين. وأيضًا، حين يقوم من يكره الاسم، ويعتقد بأنه بلا إله، بتقديم كلِّية كيانه متوجهًا إلى أنت حياته، وبما أنه لا يمكن حدُّ تلك الـأنت بأخرى، فإنه يخاطب الله. * عندما نسير على دربنا، ونلتقي بشخصٍ يسير على دربه ويتقدم نحونا، فإننا نعرف فقط ذلك الجزء من الدرب الذي يخصنا، ولا نعرف ذلك الذي يخصه – فنحن نختبر ما يخصه أثناء اللقاء فقط. من كامل الحدث العلائقي، وبمعرفة الحياة التي عشناها، نفهم توجهنا نحو العلاقة، وإلى ذلك القسم من الدرب الخاص بنا. أما القسم الآخر من الدرب فإنه يأتي إلينا، عن طريق اللقاء. لكننا نجهد أنفسنا فيما يتعلق به حين نتحدث عنه وكأنه شيء يتجاوز اللقاء. علينا أن نهتم، وأن ننفعل، ليس بذلك الذي هو على الجانب الآخر إنما بما هو على جانبنا، وليس من خلال الرغبة وإنما من خلال التصميم. فالرغبة تعنينا طالما نحن نتوجه إليها ونثابر عليها؛ لكنها ليست الهدف. وما نعرفه عن درب الحياة التي عشناها، وما نعرفه من حياتنا، ليس انتظارًا ولا كينونةً مكشوفة. تواجهني الـأنت، لكني أتوجه إلى علاقة مباشرة معها. من هنا، فإن العلاقة تعني أن نَختار وأن نُختار وأن نعاني وأن نفعل معًا؛ وكما يعني أي فعل كلِّي للكيان تجميد كل الأفعال الجزئية، فإن كل شعور بأحاسيس تنبثق فقط من محدوديتها الخاصة يشبه المعاناة حتمًا. هذه هي فعالية الإنسان حين يتحول إلى كائنٍ كلِّي، فعالية وصفت بأنها لا تفعل شيئًا: لأنه لم يعد هناك بعد الآن أي شيء منفصل أو جزئي يحرِّك الإنسان، وبالتالي فإنه لا يتدخل في العالم. إنه الإنسان الكامل، ذلك الإنسان المنطوي والمستريح في كلِّيته، وهذا صحيح – لقد أصبح كلاً حقيقيًا. أن تحوز على الاستقرار في هذه الحالة يعني أن تكون قادرًا على التوجه إلى اللقاء الأسمى. ولا حاجة، من أجل هذا الهدف، لأن نضع العالم الحسِّي جانبًا وكأنه عالم وهمي. لأنه لا يوجد عالم وهمي، إنما هناك فقط عالم قائم بذاته – أي هذا (العالم) الذي يبدو لنا ثنائيًا الأمر الذي يتفق مع موقفنا الثنائي. وما يجب إزالته هو فقط الجدار الفاصل. لأن كل تجربة، حتى تلك الأكثرها روحانيةً، يمكن أن تسفر عن هو. وبالتالي، ليس هناك بالضرورة ملاذ في عالم أفكارٍ وقيم؛ فهذه لا يمكن أن تكون حاضرةً بالنسبة لنا. ولا شيء منها ضروري. هل بوسعنا بالتالي أن نحدد ما هو الضروري؟ - طبعًا ليس بمعنى الإدراك. لأن أيَّ شيء في زمن الروح الإنسانية قد جزِّئ واستنبط فيما مضى كإدراك، أو كانفصال مزعوم، أو كممارسة، أو كتأمل لا علاقة له بالبدئي، إنما كحالة بسيطة من حالات اللقاء. وأيًّا كانت ميزات المعرفة أو ممارسة السلطة التي من واجبنا أن نشكرها على هذه الممارسة أو تلك، فإنه لا شيء من هذا كله يؤثر على اللقاء الذي تحدثنا عنه؛ فلكلٍّ من هذه الأمور موقعه في عالم الـهو ولا يقدِّمنا خطوة واحدة للخروج من هذا العالم. والخروج من العلاقة لا يمكن أن يلقَّن كما تلقَّن التعاليم. إنما يمكن تحديده فقط بواسطة دائرة مرسومة تستثني كل ما ليس خارجها. بعد هذا يصبح الشيء الوحيد المهم مرئيًا، هو القبول الكامل بالحاضر. وللتأكد، يفترض هذا القبول أنه كلما زاد طواف الإنسان في قلب الكيان المنفصل صعبت المغامرة وكان الانعكاس أوليًا. لكن هذا لا يعني، على سبيل المثال، التخلِّي عن الـأنا، كما تفترض عادةً الكتابات الباطنية: فالـأنا لا يستغنى عنها حين يتعلق الأمر بذلك الأسمى، كما لا يستغنى عنها بالنسبة لكلِّ علاقة، وذلك من منطلق أن العلاقة ممكنة فقط بين أنا وأنت. ما يعني أنها ليست الـأنا التي تستسلم، إنما هي تلك الغريزة الواثقة من نفسها والتي تجعل الإنسان يهرب من العالم غير الموثوق والمحفوف بالمخاطر للعلاقة، إلى ذلك العالم الذي لا كثافة له ولا استمرارية، والذي ليس بالإمكان معاينته، ألا وهو عالم تملك الأشياء. * كل علاقة حقيقية، مع أي كائن أو مع أية حياة في العالم، حصرية. حيث تتحرر الـأنت الخاصة بها، فتتجاوزها، وحيدةً، وتواجهك. إنها تملأ السماوات. لكن هذا لا يعني أن لا وجود لشيء سواها؛ إنما يعني أن كل الآخرين يحيون في نورها. وطالما استمرت العلاقة، فإن نطاقها الكوني لا ينتهك. لكن بمجرد أن تتحول الـأنت إلى هو، فإن النطاق الكوني للعلاقة يصبح مهينًا للعالم، كما تصبح خصوصيتها اقصاءً من الكون. الخصوصية غير المشروطة والشمولية غير المشروطة هما شيء واحد فيما يتعلق بالعلاقة مع الإله. فمن يدخل العلاقة المطلقة لا يبقى مهتمًا بأية أشياء منعزلة، سواء أكانت هذه أشياء أو كانت كائنات، سواء أكانت أرضًا أو كانت سماء؛ فكل شيء يلتقي في قلب العلاقة. لذلك فإن الدخول في علاقة لا يعني تجاهل كل شيء إنما رؤية كل شيء في الـأنت، كما لا يعني نبذ العالم إنما تقويم كل الأشياء بشكل صحيح. فالنظر بعيدًا في العالم، أو التحديق فيه، لا يساعد الإنسان على الوصول إلى الله. إنما من يرى العالم فيه يقف في حضرته. "العالم هنا، والله هناك" هي لغة الـهو. و"الله في العالم" هي لغةٌ أخرى للـهو. لكن أن لا تلغي وأن لا تدع وراءك أي شيء على الإطلاق، وأن تشمل العالم بكلِّيته في الـأنت، وأن تعطي العالم حقَّه وحقيقته، وأن لا تشمل شيئًا إلى جانب الله إنما كلُّ شيء فيه – هذه هي العلاقة الكلِّية والكاملة. لا يجد البشر الله إن بقوا في هذا العالم. ولا يجدونه إن تركوا العالم. إنما ذلك الذي يتجه بكلِّية كيانه لملاقاة الـأنت ويحمِّلها كلَّ كائنات العالم يجده حيث لا يخطر له بال. وطبعًا فإن الله هو "الآخر المقدَّس"؛ لكنه أيضًا المقدَّس بحد ذاته، إنه الحاضر المقدَّس. وطبعًا إنه السرُّ المخيف Mysterium Tremendum الذي يظهر ويطيح؛ و لكنه أيضًا سرُّ البداهة، الأقرب إليَّ من أناي. فإن سبرت حياة الأشياء وحياة الكائنات المشروطة وصلت إلى من لا يمكن سبر أغواره، وإن تنكرت لحياة الأشياء والكائنات المشروطة وجدت نفسك تواجه العدم، وإن قدَّست هذه الحياة وجدت الإله الحيَّ. * إن إحساس الإنسان بالـأنت، ذلك الإحساس الذي نختبره عن طريق العلاقة مع كلِّ أنت خاصة هو خيبة أمل تحوِّلها إلى هو تسعى، وإن لم تبتعد عن جميع العلاقات، إلى الـأنت الأزلية؛ ولكن ليس كشيء يتم السعي إليه: حيث لا يوجد حاليًا شيء يشبه السعي إلى الله، لأنه لا يوجد شيء لا نجده فيه. كم هو أحمق ويائس ذلك الإنسان الذي يتحول جانبًا عن مسار حياته من أجل البحث عن الله؛ فحتى وإن اكتسب كلَّ حكمة الوحدة وكلَّ قدرات الكائن المركز فإنه سيضيِّع الله. إنه يشبه ذلك الشخص الذي يذهب في حال سبيله ويتمنى بكل بساطة أن يكون على الطريق: لمجرد أنه من خلال قوة إيمانه يعبِّر عن سعيه. وكل حدث علائقي هو مرحلة تقدم له نظرة إلى الحدث المستهلِك. وهكذا إن كان لا يشارك في جميع الحالات، فإنه أيضًا (لأنه ينتظر) لا يشارك في أية حالة. فهو يسير على دربه ناطرًا، وليس ساعيًا؛ وبالتالي فإنه حين يتحقق قبل كل الأشياء، يحتك بها ويساعدها. لكنه حين يجدها، فإن قلبه لا يبتعد عنها، لأن كل ما يلتقيه الآن أصبح حدثًا فريدًا. حدث يبارك كلَّ خلية آوته، ويبارك كلَّ خلية سيتجه منذ الآن إليها. لأن هذا اللقاء ليس النهاية، إنما مجرد المتوسط الأزلي لدربه. إنه اكتشاف بلا سعي، اكتشاف للبدئي، واكتشاف للأصل. فإحساسه بالـأنت لا يمكن أن يشبع حتى يجد الـأنت اللامتناهية، هذه الـأنت المتواجدة في قلبه منذ البداية؛ فقط عليه أن يجعل هذا الوجود، وضمن واقع الحياة الفارغة لهذا العالم، حقيقيًا بالكامل. لأنه لا يمكن إدخال الله في كلِّ شيء – لنقل، في الطبيعة، كصانع لها، أو في التاريخ ككاتب له، أو في التابع وكأنه الذات المفكرة في داخله. كشيء آخر لا "يعطى" وينتزع الله منه عندئذٍ؛ فالله هو الكائن الذي يتجاوزنا مباشرةً، وليس تقريبًا، ولا دائمًا، إنما بالكامل، والله هو من يمكن التوجه إليه بشكل صحيح، ولا يمكن التعبير عنه. * يريد الإنسان التفكير بالشعور (سمِّه الشعور بالاعتماد، ومؤخرًا، الشعور بالكينونة الحيَّة) وكأنه العنصر الأساسي في العلاقة مع الإله. وهذا صحيح، فيما يتعلق بالعزلة وبتعريف هذا العنصر؛ إلا أن التشديد غير المتوازن يزيد من سوء فهم الطابع الكلِّي للعلاقة. وما سبق وقيل عن الحبِّ لا ريب فيه هنا. فالمشاعر هي مجرد شيء يلازم حقيقة العلاقة التي تتجاوز المادة والنفس، تلك التي تتحقق ليس في الروح وإنما ما بين الـأنا والـأنت. كما أن الشعور الذي يمكن حتى أن يعتبر أساسيًا دائمًا يبقى مع ذلك خاضعًا لديناميكية الروح، حيث يتم تجاوز شعور لشعور آخر والتغلب عليه وإلغاؤه. لتميزه عن العلاقة يتخذ الشعور مكانه وسط جدول. لكن، وقبل كل شيء، لكل شعور مكانه في قلب توتر متناقض، ما يجعله يكتسب لونه ومعناه ليس من ذاته فقط، وإنما من القطب المقابل: فكل شعور مشروط بالذي يقابله. وبالتالي، فإن العلاقة الكلِّية (التي تجمع ما يقع في الواقع الملموس كل ما هو قريب، ولم يعد جزءًا منها، إنما أصبح ذلك الكل الذي يكملها ويوحد فيما بينها جميعها)، تلك العلاقة التي انخفضت في الكائن إلى حالة الشعور المنعزل والمحدود، تتحول إلى مسألة نفسية. فإذا كانت الروح هي نقطة البداية التي نتطلع إليها، فإنه لا يمكن فهم العلاقة الكاملة كثنائية قطبية، وإنما فقط كوحدة أضداد coincidentia oppositorum، أي كمصادفة لتعارضات الشعور. وطبعًا، فإن القطب الواحد – المكبوت من قبل السلوك الديني الأساسي للشخص – غالبًا ما يختفي من الوعي الانعكاسي، ويصبح من الممكن فقط استعادته حين ننظر إلى أعماق الكائن بنقاء وبراءة كاملين. نعم؛ أنت في العلاقة الصرفة تشعر بنفسك تابعًا ببساطة، وكما ليس بوسعك أن تشعر في أية علاقة أخرى – و(تشعر بنفسك) أيضًا، حرًّا ببساطة، أكثر من أي وقت ومن أي مكان: فقد شعرت بنفسك في الوقت نفسه خلاَّقًا وذا كينونة حيَّة. وأيضًا لم يعد الشعور الواحد محدودًا بشعور آخر، إنما أصبح كلاهما معًا بلا حدود. وأنت تعرف دائمًا، في قلبك، أنك بحاجة إلى الله أكثر من أي شيء آخر؛ ولكن هل تعرف بأن الله بحاجةٍ إليك – هل تعرف أنه في سعة أبديته بحاجة إليك؟ كيف سيكون الإنسان، كيف ستكون، إن لم يكن الله بحاجةٍ إليه، إن لم يكن الله بحاجة إليك؟ أنت بحاجةٍ إلى الله كي تكون – والله بحاجةٍ إليك، وبحاجة إلى كل معنى من معاني حياتك. في التعليم وفي القصائد يكون البشر متألمين ويقولون الكثير، لا بل يفرطون في الحديث – كم هو طنَّان ومتغطرس الحديث عن "الإله الذي يتحقق"؛ لكننا بلا رياء نعلم في قلوبنا أن هناك تحققًا حاصلاً للألوهة. فالعالم ليس رياضة إلهية، إنما هو مصير إلهي. والعالم يعني أن هناك معنى إلهيًا لحياة العالم، والإنسان، والشخص، ولك ولي أنا. تتحقق الخليقة فينا، وتحترق فينا، وتعيد صياغتنا عن طريق احتراقها – ونحن نرتجف ونضعف، ونخضع. لأننا نساهم في الخليقة، ونلتقي بالخالق، ونتواصل معه، كمريدين وكرفاق. خادمان كبيران سبقانا عبر العصور، إنهما الصلاة والتضحية. فالإنسان الذي يصلي يفرِّغ نفسه باتكال غير محدود، ويعرف أن له – وبشكل لا يمكن فهمه – تأثيرًا على الله، ورغم أنه لا يحصل على شيء من الله، لكنه حين لا يعود بوسعه أن يشتهي أي شيء لنفسه فإنه سيرى لهيب تأثيره متوهجًا في الأعالي. – وماذا عن الإنسان الذي يقدِّم الأضاحي؟ أنا لا أستطيع الاستخفاف بذلك الخادم المستقيم من الأزمنة السالفة، ذلك الذي كان يؤمن بأن الله يتوق إلى الأريج المحترق للتقدمة. فبشكل جنوني وقوي نحن نعرف أنه بوسعنا لا بل من واجبنا أن نقدِّم للإله. وهذا يعرفه أيضًا من يقدِّم رغبته الصغيرة إلى الله ويلتقيه في المشيئة الكبرى. إنه يقول "فلتكن مشيئتك"، لا أكثر؛ لكن الحقيقة تضيف من أجله "عن طريقي أنا الذي أنت بحاجة إليه". ما الذي يميِّز الأضحية والصلاة عن السحر؟ - يريد السحر تحقيق تأثيره من دون الدخول في علاقة، فيمارس خدعه في الفراغ. أما الأضحية والصلاة فتقدمان في حضرة "الوجه" من أجل تحقيق الكلمة الأساسية المقدسة التي تعني فعلاً متبادلاً: إنهما تنطقان بالـأنت، وتستمعان. إن أردت فهم العلاقة الصافية كاتكال فإن هذا يعني أنك تريد إفراغ الشخص من جملة العلاقة، وبالتالي إفراغ العلاقة نفسها من الواقع. * يحدث الشيء نفسه إن ابتدأنا من الجهة المقابلة ونظرنا إلى الاستيعاب، أو ولوج الذات كعنصر أساسي في الفعل الديني (وذلك سواء نظرنا من منظور خلاص النفس من كل الأشياء التي تشترطها الـأنا، أو من منظور خلاص النفس من كيانها الذي ننظر إليه كجوهر أحادي التفكير). بالطريقة الأولى التي ننظر فيها إلى الفعل نتخيل وكأن الله يدخل قلب الكائن الذي تحرر من الـأنا، أو أن هذا الكائن قد توحَّد مع الإله؛ بالطريقة الثانية، نتخيل وكأن الكائن يتواجد مباشرة فيه وكأنما هو في قلب الكائن الإلهي. إنها، بالطريقة الأولى، انقطاع للفظ الـأنت في لحظة خارقة، لأنه لم يعد هناك كائنٌ ثنائي، وبالطريقة الثانية، لا يعود النطق بالـأنت موجودًا على الإطلاق، لأنه لم يبقَ هناك في الحقيقة أي كائن ثنائي: بالطريقة الأولى أنت تؤمن بالاتحاد، أما بالطريقة الثانية فأنت تؤمن بتطابق الإنسان مع الإله. وكلاهما يؤكد على حال تتجاوز فيها الـأنا والـأنت، الطريقة الأولى – كحال وجد – بمعنى ذلك الواحد المتحقق، والطريقة الثانية – كحال تأمل ذاتي لموضوع التفكير – بمعنى الواحد المتواجد والمعبِّر عن نفسه. وكلاهما يلغي العلاقة، الأول وكأنها تمت بشكل حيٍّ، عن طريق ابتلاع الـأنا للـأنت – التي، مع ذلك، لم تعد أنت، إنما أصبحت متواجدة لوحدها – والثاني وكأنها تمت بشكل ثابت من خلال تعرُّف الـأنت على الـأنا التي أعتقت فأصبحت ذاتًا، كتلك الموجودة لوحدها. فإن كانت عقيدة الاعتماد تعتبر أن الـأنا التي تتجاوز مدى العلاقة الخالصة في العالم ضعيفةً وفارغةً إلى حد كبير بحيث لم تعد قابليتها على التحمل موثوقة، فإن نظرية الاستيعاب تؤدي إلى اختفاء بعد العلاقة أثناء تحققها، في الوقت الذي تتعامل الأخرى معها كوهم يجب تجاوزه. تستنجد نظريات الاستيعاب بالأقوال العظيمة المتعلقة بالتماثل، وأولها ذلك القول المنسوب إلى يوحنا "أنا والآب واحد"، وتستند أيضًا إلى القول الآخر لتعاليم السانديالا: "من يحتضن الجميع، هو أنا المتواجد في كلِّ قلب". وتتصادم الطرق التي تقودنا إليها هذه الأقوال الواحدة بالأخرى. تظهر الأولى (بعد أن تغوص في الأعماق) في حياة الإنسان ذو الأبعاد الأسطورية والمتوجه نحو العقيدة، بينما تبرز الثانية في العقيدة ومن ثم فقط تقودنا إلى الحياة الأسطورية للشخص. وتتبدل طبيعة القول في هذه السطور. فالمسيح الذي وفق منقول يوحنا أصبح يومًا من لحم يقودنا إلى مسيح إيكهارت المستور على الدوام من قبل الله في قلب الروح الإنسانية. أما صيغة تتويج الذات في الأوبانيشاد، "هذا هو الحق، الذات، وأنت هي الذات"، فإنها تقودنا إلى طريق أقصر بكثير من ذلك الذي تقدمه الصيغة البوذية في الخلع من العرش، "لأنه من غير الممكن تثبيت عقد بين الذات وبين تعلق الذات بالحقيقة وبالواقع". لذلك فإن بداية ونهاية كل طريق تستوجب بحثًا مستقلاً. عندئذٍ تصبح المناشدة القائلة أني وأبي واحد[1]، والتي لا يمكن استبدالها، واضحة تمامًا لكل من يقرأ بإنصاف، الباب تلو الآخر، الإنجيل حسب يوحنا. لأنه فعلاً إنجيل العلاقة الحقة. وهي آية أصدق من تلك الآية الصوفية التي تقول: "أنا أنت وأنت أنا". فالآب والابن، في واقع الأمر – وبوسعنا حتى أن نقول الله والإنسان، في واقع الأمر – زوج حقيقي لا ينفصم، إنهما الاثنان الذان يحملان العلاقة البدئية، تلك التي حين تكون من الله إلى الإنسان تدعى رسالةً وأمرًا، ومن الإنسان إلى الله تدعى بحثًا واستماعًا، وما بين الاثنتين تدعى عرفانًا وحبًا. فالابن في هذه العلاقة، ورغم أن الآب يقيم ويفعل في قلبه، ينحني احترامًا أمام "الأكبر" ويصلِّي له. وتصبح كل المحاولات المحدثة لتفسير هذا الواقع البدئي للحوار كعلاقةٍ بين الـأنا والذات، أو لنقل – كحالة تحتويها الحياة الداخلية المكتفية ذاتيًا للإنسان – محاولات عقيمة: لأنها تتخذ مكانها في قلب التاريخ السحيق لتدمير الواقع. ما الصوفية إذن؟ أتراها لا تخبرنا كيف نختبر الوحدة من دون الثنائية؟ وهل بوسعنا التشكيك بالحقيقة في هذا المضمار؟ أنا لا أعرف حالةً واحدةً إنما أعرف حالتين لا يمكن عن طريقهما اختبار الثنائية. وهي من أزمنةٍ تشوش فيها الكلام الصوفي – لأني أنا أيضًا خلطت يومًا بين الحالتين. الحالة الأولى هي حينما تصبح الروح شاملةً. وهذا أمر لا يحصل بين الإنسان والله إنما في داخل الإنسان. حين تتركز الطاقة، ويصبح كل من يحاول حرفها متجهًا إلى فلك أسراره، حيث يصبح الكائن وحيدًا في قلب ذاته وسعيدًا بتساميه، كما قال باراقليسيوس. إنها اللحظة الحاسمة بالنسبة للإنسان. تلك التي من دونها يكون الإنسان غير مؤهلٍ لفعل الروح؛ أما معها، فهو يقرر، في طوية كيانه، إن كانت مجالاً لالتقاط النفس، أو نهايةً وافيةً لطريقه. ومركِّزًا على الشمولية، يكون بوسعه الخروج إلى اللقاء. ذلك الذي اقترب منه الآن إلى حدٍّ كبير، عن طريق السرِّ، وعن طريق الخلاص. لكن ذلك الذي بوسعه أيضًا الاستمتاع إلى الحد الأقصى بالتركيز الذي في كيانه، ومن دون أن يلج الواجب الأعلى يعود فيبدد هذا الكيان. – لأن كل شيء على دربنا يقتضي قرارًا، مفيدًا، خافتًا من حيث المنظور، وكلِّي الغموض: وهذا في طوية الكائن هو القرار السرِّي الأولي، والمنطوي على أقوى العواقب ذات العلاقة بمصيرنا. أما الحالة الأخرى فتكمن في الطبيعة المبهمة للفعل العلائقي بحد ذاته، حين يصبح الاثنان، كما نتخيلهما، واحدًا: "الواحد والواحد يتحدان، وهناك تتألق الحاجة في قلب الحاجة". الـأنا والـأنت تستوعبان بعضهما بعضًا، والإنسانية، التي كانت مباشرةً قبل ذلك تواجه الألوهة، يصبح بوسعها الاندماج معها – ويتحقق التمجيد، والتأليه وأحادية الكائن. لكن عندما يفشل الإنسان، المستنير والمنهك، فينشغل باهتمامات القضايا الدنيوية، ويتفكر في كلتا الحالتين بعرفان قلبه، أتراه غير ملزم بأن يكتشف أن كيانه قد قسِّم إربًا وأن قسمًا منه قد أصبح معرضًا للهلاك؟ ماذا يفيد نفسي إن كان بوسعها أن تنسحب مرةً أخرى من هذا العالم إلى الوحدة، حين لا يكون هذا العالم بحدِّ ذاته، وبالضرورة، جزءًا من تلك الوحدة – ماذا تفيد كل "المتعة الإلهية" حياةً تمزَّقت فأصبحت حياتين؟ إن لم يكن لهذه اللحظة الوفيرة الثراء والسماوية علاقة بلحظتي الدنيوية الفقيرة – ما علاقتها بي إذن، أنا الذي ما زال علي أن أعيش بكلِّ جدية على هذه الأرض؟ هذه بالتالي هي القضايا الرئيسية التي يتوجب علي فهمها والتي تخلَّت عن جدل "اتحادٍ" منتشٍ. ذلك الاتحاد الذي ليس اتحادًا: للتوضيح سآخذ البشر الذين في قلب شغف الإيروس المتضخم يبتهجون أمام معجزة العناق إلى حدٍّ تهلك فيه معرفتهم بالـأنا والـأنت في قلب الشعور بوحدة لم تتحقق ولا يمكن أن تتحقق. لأن ما يدعوه الإنسان الشاطح وحدةً ههنا ما هو إلا مجرد ديناميكية بهجة العلاقة بحد ذاتها، تلك التي من الممكن أن تتجاوز حامليها الذين يتواجهون باستمرار، ويحتمي بعضهم ببعض من خلال الشعور المبهج لكل واحد بالآخر. هنا، بعدئذ، وعند الحافة، يتجاوز الفعل العلائقي نفسه؛ ويتم الشعور بقسرية العلاقة بحدِّ ذاتها، وفي وحدتها الحيوية، إلى حدٍّ يجعل أجزاءها التي تبدو متلاشية أمامها، ومن خلال قوتها الحياتية، تنسى الـأنا والـأنت اللتين أقيمت العلاقة بينهما. وهذه هي إحدى ظواهر الحدِّ الذي نصل إليه ويخفت الواقع في داخله. لكن الواقع المركزي لكل ساعة من كل يوم على الأرض، والمقترنة بمسحة الشمس على غصين شجيرة، ومن منظورالـأنت الأزلية، يتجاوز بالنسبة لنا كل تلك الشبكات ذات العلاقة بحافة الكيان. وهذا يتعارض رغم ذلك مع ادعاء العقيدة الأخرى المتعلق بالاستيعاب والقائل بأن هذا الوجود الكوني والذاتي هما شيء واحد، ما يعني بالتالي أنه ليس بوسع النطق بالـأنت أن يلج الواقع النهائي. تجيب العقيدة نفسها على هذا الادعاء. حيث يحدثنا أحد الأوبانيشاد كيف أن إندرا، أمير الآلهة، أتى إلى براجاباتي، الذي هو الروح الخلاَّقة من أجل أن يتعلَّم كيف يكون اكتشاف الذات والتعرُّف عليها. فبقي لديه تلميذًا لمئة عام، صُرف خلالها مرتين بسبب النقص في معلوماته، حتى قدمت له في النهاية المعلومة الصحيحة التي تقول أنه: "إن غرق إنسان في ثبات عميق، وبقي تمامًا بلا أحلام، فإن هذه هي الذات السرمدية للكائن الكوني المتحقق." وغادر إندرا، لكنه سرعان ما راودته فكرة، فعاد ليسأل: "لكن في هذه الحالة، يا أيها المتعالي، لا يعرف الإنسان من نفسه سوى أنَّ هذا هو الأنا، وأنَّ هذه هي الكائنات. ولا يعرف أنه متجه إلى الفناء. ما يعني أني لا أرى أي شيء مشجع في ذلك القول". فأجابه البراباجاتي "الأمر فعلاً كذلك". فبمقدار ما تتضمن العقيدة تأكيدًا للوجود الحقيقي – وبأية طريقة يتم النظر فيها إلى المسألة وإلى ما تتضمنه من حقيقة، فإنه لا يمكن التحقق من هذه العقيدة في هذه الحياة – لأنه لا يوجد شيء مشترك بينها وبين ذلك الشيء الوحيد الذي هو الواقع المعاش؛ وهو ملزم بأن يُختَزَل مرة أخرى إلى عالم المظاهر. وأيضًا، طالما أن العقيدة كانت حتى الآن، تتضمن توجهًا للاندماج في الكيان الحقيقي، فإن هذا لا يؤدي إلى الواقع المعاش وإنما إلى "الفناء"، حيث لا سيادة للوعي ولا دليل للذاكرة؛ وبوسع الإنسان الخارج من هذا الفناء أن يقترح، كتعبيرٍ عن تجربته، هذه الكلمات المحددة التي هي "غياب الثنائية"؛ لأنه لا يجرؤ على تسمية تجربته بالوحدة. لكننا حين نسعى بمعونة المقدس إلى تعزيز الجيد في واقعنا، ذلك الذي قدم لنا في هذه الحياة التي ربما لا يوجد سواها، نكون أقرب إلى الحقيقة. وفي الواقع المعاش ليس هناك وحدة كيان. فالواقع موجود فقط من خلالي وفي العمل الفعَّال، وقدراته، والتعمق في قدارته، والتعمق في العمل الفعَّال. والواقع "الباطني" موجود أيضًا إن كان هناك عمل فعَّال. والواقع الأقوى والأعمق موجود حيث يدخل كل شيء في العمل الفعَّال، أي يدخل بلا تحفظٍ في الإنسان الكلِّي وفي الإله المحتضن لكل شيء – أي في الـأنا الواحدة وفي الـأنت التي بلاحدود. الـأنا الواحدة: لأنه في الواقع المعاش (كما قلت سابقًا) هناك وحدة الروح التي تتحقق، وتركيز الطاقة، تلك اللحظة الحاسمة بالنسبة للإنسان. لكن هذه لا تشتمل، كالاستيعاب، على غض النظر عن الشخص الحقيقي. فالاستيعاب يبغي الاحتفاظ فقط بما هو "نقي"، وحقيقي، ودائم، ويلقي بعيدًا كل شيء آخر؛ لكن في قلب هذا التركيز أليس الغريزي ملوثًا جدًا، والحسِّي غير بعيد جدًا عن المسار، كما أليس ما له علاقة بالعاطفة عابرًا: لأن كل شيء يجب أن يلتقي في المجال الذي يتفوق فيه. وهذا التركيز لا يشمل الذات التي توضع جانبًا، إنما كلِّية الإنسان غير الملوث، وما يسعى إليه، هو الواقع. تطالب نظرية الاستيعاب، وتعد، بملاذ في جوهر تفكير الواحد ("ذلك الذي عن طريقه يكون التفكير بالعالم")، وبملاذ في نقاء الموضوع. لكن في الحقيقة المعاشة لا يوجد شيء يفكِّر بمعزلٍ عن شيء يتم التفكير به، أو بالأحرى يكون التفكير أقل تبعيةً للشيء المفكَّر به من تبعية اللاحق للسابق. فالمسند المحروم من غايته يكون محرومًا من واقعه. والشيء الذي يفكِّر وحيدًا بحدِّ ذاته يكون موجودًا في الفكر: أولاً، بمقدار ما يثمر ويعارض كفكرة محددة من دون موضوع ممكن؛ وثانيًا، كتوقع، كما في حال تعريف الموت، الذي يمكن تشبيهه بالنوم العميق، والذي هو أيضًا غير قابل للاختراق؛ وأخيرًا، من خلال التأكيد على العقيدة ذات العلاقة بشرط للاستيعاب، الذي يشبه النوم العميق، والذي هو من حيث طبيعته بلا وعي ولا ذاكرة. وهذه هي أسمى قمم لغة الـهو. تلك التي يجب احترام القوة السامية لاستخفافها. وفي ومضة هذا الاحترام تحديدًا يجب علينا الاعتراف بها، على الأغلب، كشيء علينا تجربته، ولكن ليس عيشه. لم يقدِّم البوذا "المتحقق" والمحقق أي تأكيد حول هذه النقطة، فقد رفض تأكيد وجود أو عدم وجود الوحدة، ورفض أن يؤكد هل أن من مرَّ بعد مماته بكلِّ اختبارات الاستيعاب موجود في قلب الوحدة أو غير موجود فيها. ويفسر هذا الرفض، هذا "الصمت النبيل"، بطريقتين: الطريقة الأولى نظرية، لأن التحقق يتجاوز مستويات التفكير والتعبير؛ والطريقة الثانية عملية، لأن الكشف عن وجود التحقق لا يثبت حياة الخلاص الحقيقي. والجمع بين كلا التفسيرين يبين حقيقة أن من يتعامل مع ما هو موجود كغاية دافعة يقسِّمه، في قلب تناقض عالم الـهو، حيث لا حياة للخلاص؛ "أيا أيها الناسك، إن اعتقدت بأن الروح والجسد واحد، فليس هناك خلاص؛ وإن اعتقدت أيها الناسك، بأن الروح شيء والجسد شيء آخر فليس هناك خلاص". ففي السرِّ الذي يتم رصده كما في الواقع المعاش "الأمر هكذا" و"ليس هكذا"، كيان ولا كيان، لا يجتمعان؛ لكن هكذا وإلا، كيان ولا كيان مباشر، أي ما لا يسبر أغواره – فهو الذي يسود. والشرط الرئيسي للخلاص هو المواجهة المتماسكة للسرِّ الواحد، لأنه من المؤكد أن البوذا كان من بين أولئك الذين فهموا الأمر، وككل المعلِّمين الحقيقيين لم يرغب في أن يعطي رأيًا، إنما أراد تعليم الطريقة. وبالتالي فإن ما يرفضه هو دافع وحيد، إنه ذلك الذي يدعوه "المغفلون" باللاعمل، واللانشاط، واللاقوة، ذلك الذي "بوسع البشر السير على دربه". وما يدعو إليه هو دافع واحد حاسم يقول: "إن هناك، أيها الناسك، من لم يولده ولم يأت ولم يخلق ولم يتشكل بعد". فإن لم يكن هذا ليس هناك هدف؛ لكنه موجود، وبالتالي فإن للمسار هدفًا. أوفياء لحقيقة لقائنا، بوسعنا إلى حدٍّ ما مرافقة البوذا، لكن خطوة إضافية أخرى ستصبح خيانة لواقع حياتنا. لأننا نعلم، من الحقيقة ومن الواقع، أننا لا نستخلص من أنفسنا إلا ما أعطي لنا لكي نشارك به، فالهدف المحدد من قبل البوذا هو واحد من بين عدة أهداف، وبالتالي ليس بالإمكان أن يكون لنا. وإن كان هو الهدف، فقد عبِّر عنه زورًا؛ وأيضًا، إن كان هو أحد الأهداف، فإن الدرب، إلى حدٍّ ما، يمكن أن يؤدي إليه، وإن كان الهدف، فإن الدرب سيقود، على الأغلب، إلى ما هو قريب منه. يصف البوذا الهدف بأنه "التوقف التام للألم"، ذلك الذي يأتي ويرحل – أي الخلاص من دورة الولادات حيث "لا عودة من الآن فصاعدًا". وهي هدف الإنسان الذي حرر نفسه من شهوة الحياة وبالتالي من الحاجة لأن يتحقق دائمًا من جديد، فنحن لا نعلم إن كانت هناك عودة، ونحن لا نمدُّ إلى ما يتجاوز هذه الحياة خطوط ذلك البعد الزمني الذي نحيا فيه، ونحن لا نحاول أن نكشف ما سيكشف لنا في وقته وفي ظرفه. لكن أن كنا نعلم بأن هناك عودة فإننا لن نحاول الهروب منها، وإنما بعيدًا وليس فعلاً، ومن أجل ما يجري بشكل عام، وفي كل حياة بطريقتها وبلغتها، سننطق بالـأنا الخالدة التي زالت، وبالـأنت الخالدة التي لا تزول. لا نعرف إن كان البوذا يقودنا الآن إلى هدف الخلاص من الحاجة إلى العودة. لكنه بالتأكيد يقود إلى هدف أولي يتعلق بنا – ألا وهو أن نكون والروح واحد. لكنه من هذا المنظور يقودنا (وبمقدار ما هو ضروري) ليس فقط بعيدًا عن "شهادة الآراء"، إنما أيضًا بعيدًا عن "وهم الأشكال" – تلك التي هي ليست وهمًا بالنسبة لنا إنما هي عالم موثوق (وهذا رغم كل المفارقات الذاتية في الرصد الذي نحن على علاقة معه). فطريقه بالتالي ينطوي أيضًا على الاستخفاف؛ ما يعني أنه حين يتكلم عن صيرورتنا ويكون عارفًا بما يجري في داخل جسمنا وما يعنيه إلى حد ما هو حتمًا عكس تبصرنا الفيزيائي وما يتضمنه من حواس. وهو لا يقود إلى الكيان المتحد إضافةً إلى النطق الأسمى للـأنت التي أصبحت ممكنةً بالنسبة له. إنما يكون قراره الأعمق هو إخماد قابلية النطق بالـأنت. فالبوذا يعرف ما قالته الـأنت للبشر – كما ويشهد وصاله مع تلاميذه الذين، رغم أنه يتعالى فوقهم، يكلمهم بشكل مباشر – لكنه لا يبشر به؛ لأن مجرد مواجهة الكائن بالكائن غريب عن هذا الحبِّ حيث "كل ما تحقق مشمول إلى ما لا نهاية في الفؤاد". وهو أيضًا، يعرف حتمًا، في قلب سكون أعماق كيانه، ما قالته الـأنت للسبب البدئي – بعيدًا خلف كل هذه "الآلهة" التي يتعامل معها كتلاميذ. وهذا الفعل هو من صنع ينابيعه ومن حدث علائقي حققه وله علاقة بالجوهر؛ وهذا الفعل هو أيضًا جواب للـأنت، إلا أنه، فيما يتعلق بهذا الجواب، يحتفظ بصمته. لكن ترِكَتَهُ بين الشعوب، هذه "المركبة الكبرى"، تناقضه بشكل رائع. فقد توجهت إلى الـأنت الإنسانية الخالدة باسم البوذا شخصيًا. وهي تنتظر، كالبوذا أن يأتي في آخر الزمان، من ستتحقق المحبة عن طريقه. تستند كل عقيدة الاستيعاب على ذلك الوهم الكبير للروح الإنسانية المصممة على العودة إلى نفسها، بأن الروح موجودة في الإنسان. والروح في الحقيقة موجودة مع الإنسان كنقطة انطلاق – بين من هو إنساني وبين من ليس كذلك. حين ننفي أن هذا هو المعنى، حين ننفي ما تعنيه كعلاقة، فإن الروح العائدة لنفسها مضطرة لأن تُدخِل إلى داخل الإنسان ذلك الذي ليس إنسانًا، ومضطرة لأن تحول العالم والله إلى وظائف للروح. وهذا هو وهم النفس فيما يتعلق بالروح. يقول البوذا: "يا صديقي، أنا أعلن بأن هذا هو فهمي المتعالي للجسد الزاهد، المتأثر بالأحاسيس، فهناك يقيم العالم وبدايته وانقراضه وكذلك الدرب المؤدي إلى انقراض العالم". وهذا صحيح، ولكنه كملاذ أخير ليس صحيحًا. بالتأكيد "يقيم" العالم فيَّ كصورة، كما أقيم فيه كشيء. لكن هذا ليس بسبب وجوده فيَّ ولا بسبب وجودي فيه. فالعالم وأنا متضمن كل منا في الآخر بشكل متبادل. وهذا التناقض في التفكير، المتأصل في حال الـهو، محلول في حال الـأنت التي تجعلني حرًّا من العالم لكي تربطني بصلة تضامن لها علاقة به. فأنا أحمل في داخلي الإحساس بالذات التي ليس من الممكن أن يشملها العالم. والعالم يحمل في داخله الإحساس بالوجود الذي لا يمكن أن يكون متضمنًا في الصورة. لكن هذا الشعور بالوجود ليس "رغبة" يمكن التفكر بها، وإنما هو وبكل بساطة الحالة الكلِّية للعالم كعالم، تمامًا كما أن الإحساس بالذات ليس "موضوع إدراك" إنما هو بكل بساطة الحالة الكلية للـأنا كـأنا. وهنا لا مجال لأي "اختزال" آخر؛ لذلك فإن من لا يحترم التفاهمات الأخيرة يبطل معناها المدرك وليس معناها المفهوم. ليست بداية العالم ولا نهايته في داخلي؛ ولكنها ليست أيضًا خارجي؛ حيث ليس بوسعنا القول إنها موجودة كلِّيًا، لأنها تحقق مستمر متصل بي وخاضع لي، ولحياتي، ولقراري، ولعملي، ولخدمتي. لكنها لا تتعلق بـ"تأكيدي" ولا بـ"نفيي" للعالم في نفسي بل في كيف أجعل سلوكي النفسي في العالم يتحول إلى الحياة. إلى حياةٍ فاعلة في العالم، إلى حياةٍ حقيقية، ففي الحياة الحقيقية يمكن أن تتقاطع دروب مواقف مختلفة. لكن من "يجرب" فقط موقفه، ويحققه بكل بساطة في الروح، ومهما كانت تجربته مدروسةً، لا عالم له – وجميع الألاعيب، والفنون، والنشوات، والحماس، والأسرار، التي يملكها لا تخدش حتى قشرة هذا العالم. فطالما كان الإنسان حرًّا في ذاته فقط فإنه لا يستطيع أن يفعل في العالم لا في السراء ولا في الضراء؛ لأنه لا يعني للعالم شيئًا. فقط من هو في العالم يعطى ملكة التعامل معه، وإن كرَّس نفسه لهذه الغاية فإنه لا يستطيع أن يبقى بلا إله. إن كنا فقط نحب العالم الحقيقي، فإن هذا العالم لن يدع نفسه ينطفىء حقًا أمام الرعب، وإن غامرنا فقط وأحطناه بذراعي روحنا، فإن أيدينا ستلتقي بأيادٍ تتمسك بها. لا أعلم شيئًا عن "عالم" ولا عن "حياةٍ في العالم" بوسعها أن تفرق بين الإنسان وبين الإله. وما يوصف هكذا حاليًا هو حياة العالم المنفِّر للـهو، التي تجرِّب وتفعل. أما من يتوجه حقًا لملاقاة العالم فإنه يتوجه أيضًا لملاقاة الإله. والجمع والإقلاع كلاهما ضروريان، معًا في الحقيقة، ومباشرة الواحد والآخر، لأنهما واحد. فالله يشتمل الكون، لكنه ليس الكون. وبالتالي، أيضًا، يشتمل الله ذاتي، لكنه ليس ذاتي. على ضوء عدم ملاءمة أية لغة تتعلق بهذا الموضوع، أستطيع أن أقول أنت في لغتي كما يستطيع أي إنسان في لغته، وعلى ضوء هذا تحيا أنا وأنت، والحوار والروح واللغة (الروح كفعل بدئي)، والكلمة في الأزل. * يتميز الوضع الديني للإنسان، وكون أنه في الحضرة، بتناقض أساسي وسرمدي. وطبيعة كيانه تحدد سرمدية هذا التضاد. فمن يقبل الطريحة ويرفض النقيضة يسيء لمعنى الوضع. ومن يحاول أن يفكر بشميلة يدمر معنى الوضع. ومن يتوصل إلى خلق تضاد في قضية نسبية يبطل معنى الوضع. ومن يرغب في إكمال صراع الأضاد بغير حياته يتجاوز معنى الوضع. ومعنى الوضع أنه يعاش، فقط يعاش، وباستمرار، وأبدًا من جديد، من دون بصيرة، وبلا ترو، ومن دون فرض، في كلِّية تضاده. سنوضح الأمر من خلال مقارنة التضاد الديني بالتضاد الفلسفي. حيث بوسع كانط اختلاق صراعٍ فلسفيٍ بين الضرورة وبين الحرية في قضية نسبية فيكلِّف الأولى بعالم المظاهر واللاحقة بعالم الكيان، بحيث لا تعودان في الواقع، ومن حيث إعداداتهما، متعارضتان، وإنما بالأحرى متفقتان – تمامًا كما تتفق الكلمات التي تصلح لهما. لكن إن نظرت إلى الضرورة وإلى الحرية ليس في عوالم الفكر وإنما من منطلق واقع مثولي أمام الإله، وإن عرفت أني "مقدِم على الخلاص" وإن عرفت في الوقت نفسه "أن هذا يعتمد عليَّ"، عندها لن أحاول التهرب من المفارقة التي يجب أن تعاش بتحديد الافتراضات التي لا يمكن التوفيق بينها في عالمين شرعيين منفصلين؛ كما لن يكون بوسعي أن أساعد على مصالحة مثالية بأية وسيلة لاهوتية: إنما أجدني مضطرًا لأن أحمل الاثنان في نفسي، وأن أعيشهما معًا، وبمعيشتهما يتحولان إلى واحد. * لعين الحيوان القدرة على التعبير بلغة بليغة، بشكل مستقل، ومن دون الحاجة إلى مساعدة الأصوات والحركات، وغالبًا بشكل قسري. حين تعتمد بالكامل على وميضها، تعبِّر العين عن اللغز في سجنه الطبيعي، ذلك الذي هو القلق من الكيان. وحالة السرِّ هذه يعرفها الحيوان وحده، وهو وحده بوسعه أن يكشفها لنا – فقط هذا الشرط يسمح لنفسه بأن يكشف، وإن ليس بالكامل. واللغة التي ينطق بها هي تلك التي تعبر عن القلق، وعن حركة المخلوق بين عوالم الاطمئنان النباتي والمغامرة الروحية. وهذه اللغة هي النهاية الطبيعة حين تلامسها الروح للمرة الأولى، وقبل أن تخضع للمغامرة الكونية للروح والتي هي الإنسان. لكن ليس بوسع أي خطاب أن يكرر أبدًا مضمون هذه التمتمة ولا ما تنطق به. أنظر أحيانًا إلى عيني الهرِّ. فهذا الحيوان الأليف لا يملك ما يبدو وكأنه اكتسبه منا (كما نتخيل أحيانًا) موهبة ومضة "الحديث" الحقيقي، إنما فقط – وبفضل لامبالاته البدائية – يملك مقدرة أن يحول نظرته إلينا نحن الكائنات المذهلة. وفي هذا المقدرة تحديدًا تقدم النظرة، ببزوغها واستمراريتها في الشروق، شكلاً يعبر عن الدهشة والاستفسار المعدوم بالكامل في الومضة الأصلية مع كل ما تتضمنه من تلهف. فبداية نظرة القط الخاطفة هذه، والمضاءة بلمسة نظرتي، تسألني بالتأكيد: "هل من الممكن أن تهتم بي؟ هل أنت فعلاً لا تريدني فقط من أجل أن تتسلى؟ هل أنا مهم بالنسبة لك؟ هل لي وجود في نظرك؟ هل أنا موجود فعلاً؟ ما هذا الذي يصلني منك؟ ما هذا الذي يحيط بي؟ ما هذا الذي يصلني منك؟ ما هذا؟" (فالـ"أنا" هنا هي نسخ لكلمة، ما لا نملك، تلك التي تعبِّر عن ذات بلا غرور؛ وبـ"ها" علينا أن نتخيل النظرة الإنسانية المتدفقة بكامل قدرتها على الدخول في علاقة). إن نظرة الحيوان، كتعبير عن القلق، تزداد عظمة – وتحدد مباشرة. أما نظرتي التي كانت حتمًا أكثر تركيزًا فهي لم تعد تلك النظرة الإنسانية المتدفقة. ودوران العالم الذي أُدخل الحدث العلائقي تبعه مباشرةً تقريبًا ذلك الآخر الذي أنهاه، عالم الـهو المحيط بالحيوان وبي أنا، وللحظة ومضة أشرق عالم الـأنت من الأعماق، لينطفىء فورًا ويعود إلى عالم الـهو. لقد رويت هذا الفصل الصغير، الذي جربته مرارًا، لتبيان ذلك الخطاب الذي لا يمكن رصده تمامًا والذي يبين شروق الروح وغروبها. ولم أعرف في أي خطاب آخر مثل هذا العمق في الطبيعة المعبرة عن الواقع من خلال كلِّ علاقاته مع الكائن، مثل هذا الحزن الجليل لمصيرنا، مثل ذلك التبدل المثقل لقدر كلِّ أنت منعزلة في الـهو. فللحوادث الأخرى يومها ما بين الصباح وما بين المساء، رغم أنه قد يكون قصيرًا؛ أما هنا فإن الصباح والمساء يختلطان بلا شفقة، والـأنت المشرقة ظهرت واختفت. هل أزيل عبء عالم الـهو حقيقةً وللحظة من خلال ومضة نظرة من الحيوان ومنِّي؟ أنا شخصيًا بوسعي الاستمرار في التفكير بالأمر، لكن الحيوان سرعان ما يعود ليغرق خارج تمتمة نظرته في القلق حيث ينعدم الكلام وتنعدم الذاكرة تقريبًا. كم جبَّار هو العالم غير المنقطع للـهو، وكم رقيقة هي مظاهر الـأنت! ليس بوسع مثل هذا الشيء أن يخترق قشرة واقع الأشياء! يا شظيةً من الميكا، جعلتني أعرف، حين نظرت إليها لأول مرة، بأن الـأنا ليست شيئًا "في داخلي" – لأني معك كنت مع ذلك مقيدًا في نفسي؛ وفي الوقت نفسه كان الحدث يقع فقط في داخلي، وليس بيني وبينك. لكن حين يتعالى الواحد الحيُّ فوق الأشياء، ويصبح كائنًا على علاقة بي، كائنًا ينضم إلي عن طريق قربه وخطابه، ومهما كانت المدة قصيرة فإنه بالنسبة لي ليس سوى أنت! وهي ليست حتمًا العلاقة التي تضعف، إنما واقع فوريتها. وليس بوسع الحبِّ بحد ذاته أن يستمر خلال العلاقة الفورية؛ فالحب يتحمل، ولكن من خلال التبادل بين الكائن الفعلي والمحتمل. لأن كل أنت في هذا العالم مفروض عليها من حيث طبيعتها أن تصبح شيئًا بالنسبة لنا، أو أن تعيد في كل الأحوال وباستمرار الدخول إلى حالة الأشياء. فقط في علاقة واحدة تشمل الجميع تبقى الإمكانية فعلية. لأن هناك فقط أنت واحدة تبقى من حيث طبيعتها أنت بالنسبة لنا. ومن يعرف الله يعرف أيضًا وبشكل جيد جدًا البعد عنه، وعذاب الفراغ في القلب المعذب؛ لكنه لا يعرف ما يعنيه غياب الله: إنه حيث لا نكون دائمًا هناك. يقول عاشق الحياة الجديدة (بالإيطالية Vita nuova) بحقٍ وبشكل صحيح هي (بالإيطالية Ella) وأحيانًا فقط أنت (بالإيطالية Voi). ومشاهد الجنَّة (بالإيطالية Paradise) حين يقول هو (بالإيطالية Colui)، ويتحدث من منطلق الضرورة الشعرية، وهو يعرف ذلك. إذا خوطب الله كـهو أو كـهي، فإن الخطاب يكون مجازيًا دائمًا. لكن إن توجهنا إليه بـأنت، عندها يضع الإحساس البشري الحقيقة غير المنقطعة للعالم في قلب الكلمة. * كلُّ علاقة حقيقية في العالم حصرية، فالآخر يحطم واقعه وينتقم لاستبعاده. فقط في العلاقة مع الله هناك خصوصية واحدة غير مشروطة وشمولية واحدة غير مشروطة. والشيء نفسه، فيما يتعلق بذلك الذي يتضمن الكون كلَّه. كل علاقة حقيقية في العالم تستند على التمايز، وهذا سبب سعادتها – لأنه فقط بهذه الطريقة تكون المعرفة المتبادلة التي تكتسبها مختلف الكائنات – وهذا أيضًا سبب قيدها – لأنه بهذه الطريقة تضيِّع المعرفة المثالية والوجود الذي نعرف. لكن في المعرفة المثالية تدرك الـأنت التي تخصني أنها ليست نفسي، ومعرفتي المحدودة تتفتح نحو الخارج في حال كنت أنا فيها معروفًا بأني بلا حدود. كلُّ علاقة حقيقية في العالم تتم من خلال التبادل بين الكائن الفعلي والكائن الكامن، وكل أنت متوحدة ملزمة بالدخول في حال الخدر اليرقي للـهو كي تكتسب أجنحة جديدة. لكن في العلاقة الخالصة يكون الكائن الكامن ببساطة كائنًا فعليًا طالما أنه يتنفس، وطالما كانت الـأنت حاضرة فيه. ومن حيث طبيعتها تبقى الـأنت الأزلية أزليةً؛ هي فقط طبيعتنا التي تجبرنا بأن نلقي بها إلى العالم وأن نتحدث عن الـهو. * يمكن تحديد عالم الـهو في سياق المكان والزمان. أما عالم الـأنت فلا يمكن تحديده في كلا السياقين. لأن سياقه يقع في الوسط، حيث تلتقي خيوط العلاقات الممتدة – في الـأنت الأزلية. الميزة الكبرى للعلاقة الخالصة تنفي امتيازات عالم الـهو. وبفضل هذه الميزة يوجد العالم غير المنقطع للـأنت: واللحظات المنعزلة للعلاقات مقيدة باستمرارية ترابط العالم. وبحكم هذه الميزة تنتمي القوة المتكونة إلى عالم الـأنت حيث بوسع الروح أن تتغلغل وأن تحول عالم الـهو. وبحكم هذه الميزة نحن لا ندفع من قبل الـأنا إلى الاغتراب من العالم وإلى فقدان الواقع – إلى هيمنة الشبحي، بل بالعكس إنه الإدراك المركز والسعي من أجل التطرق إليه مجددًا. وفي هذا الفعل من قبل الكائن تظهر مجددًا القوة العلائقية المدفونة، وتتضخم الموجة التي تحمل كل ميادين العلاقة لتصب في جداول حية تقدم الحياة لعالمنا. وربما ليس فقط لعالمنا، لأن هذه الحركة المزدوجة للابتعاد عن هذا الينبوع الأولي، الذي بفضله ينبعث الكون في الكائن، يمكن أن نتلمسها في الشكل البدئي المتجاوز للكون Metacosmical والذي يقيم في العالم ككل من خلال علاقته بما هو ليس العالم – ذلك الذي تتبين طبيعته المزدوجة بين البشر بالطبيعة المزدوجة لمواقفهم، وكلماتهم الأساسية، وللجوانب التي ينظرون منها إلى العالم. ويتطور كلا قسمي هذه الحركة، المفعمين بالمصير، في الزمن، ويطوقان بنعمة الخليقة الخالدة التي تعني التحرر والإلزام. وتصمت معرفتنا بالطبيعة الثنائية أمام مفارقة السرِّ الأولي. * ثلاثة هي الصعد التي يبنى فيها عالم العلاقة. الصعيد الأول، هو علاقتنا في الطبيعة، حيث تلتصق العلاقة بعتبة الكلام. والصعيد الثاني، هو حياتنا مع البشر، حيث تتخذ العلاقة شكل الخطاب. والصعيد الثالث، هو حياتنا مع الأشكال الجلية، حيث وعلى الرغم من أن العلاقة بلا خطاب إلا أنها تولِّد الخطاب. في كل صعيد وبطريقته الخاصة، ومن خلال كل عملية تحقق تقدم لنا، تجدنا نتطلع إلى حدود الـأنت الخالدة؛ وفي كلِّ واحدة منها ندرك نفحةً من تلك الـأنت الخالدة؛ وفي كلِّ أنت نتوجه إلى الـأنت الخالدة. فالـأنت الخالدة تستوعب كل الصعد. أما الـأنت فليست مستوعبة فيها جميعها. ومن خلال كل صعيد يشع الواحد الحاضر. لكن بوسعنا، رغم ذلك، إزالة كل صعيد من الحاضر. من حياتنا في الطبيعة نستطيع أن نستخلص العالم "الفيزيائي"، عالم التماسك، ومن حياتنا مع البشر (نستطيع أن نستخلص) العالم "الفيزيائي" عالم الحساسية، ومن حياتنا مع الكائنات الروحية (نستطيع أن نستخلص) العالم "العقلي"، عالم الشرعية. لكن في هذه الحالة، ننتزع منها شفافيتها، وننتزع أيضًا معناها؛ فيصبح كل صعيد باهتًا ومن الممكن استخدامه – ويبقى باهتًا حتى وإن زينَّاه بتسميات الكوزموس والإيروس واللوغوس. فالكوزموس موجود بالنسبة للإنسان فقط حين يكون الكون منزله، مع موقده المقدس حيث تقدَّم له الأضاحي؛ والإيروس موجود بالنسبة للإنسان حين تصبح الكائنات بالنسبة له صورًا للخلود، فتكشف الجماعة معها؛ واللوغوس موجود بالنسبة للإنسان حين يتوجه فعلاً إلى السرِّ وإلى خدمة الروح. إن الأشكال الصامتة للتضرع، ذلك الخطاب المحبب عند الإنسان، وكذلك الإشهار الأبكم للكائنات، هي جميعها بوابات تؤدي إلى الحضور في العالم. لكن حين يأتي وقت تحقق اللقاء كاملاً وشاملاً، تتحد البوابات لتصبح بوابة واحدة هي الحياة الحقيقية، ولا يعود بوسعك أن تعرف من أية بوابة دخلت. * من الحلقات الثلاث التي نعرفها هناك واحدة مميزة، ألا وهي حياتنا مع البشر. هنا تتحقق اللغة كسياق، في الخطاب والخطاب المقابل. هنا فقط تتلقى الكلمة المتشكلة من خلال اللغة جوابها. هنا فقط تتقدم الكلمة الأساسية إلى الأمام وتتراجع إلى الخلف بالطريقة نفسها، فالكلمة الموجهة والكلمة التي تجيبها تعيشان في لغة الواحد، وتتخذ الـأنا والـأنت موقعهما ليس فقط من خلال العلاقة، وإنما أيضًا في الأخذ والعطاء المتين للكلام. فلحظات العلاقة موجودة هنا، وهنا فقط، ومرتبطتان معًا بمعاني عنصر الخطاب المغمورتان فيه. هنا يزدهر ما يواجهنا في الواقع الكلِّي للـأنت. وهنا فقط، بعدئذٍ، وكواقع لا يمكن أن يضيع، يتم تبادل النظر، والتعارف المتبادل، والحبُّ المتبادل. هذه هي البوابة الرئيسة، التي توصلنا إليها البوابتان الجانبيتان، اللتان تشكلان جزءًا منها. "عندما يكون الرجل مجتمعًا بزوجته، يعصف شوق التلال الأبدية حولهما." فالعلاقة مع الإنسان هي المشابه الحقيقي للعلاقة مع الإله؛ ففيها يحصل الخطاب الحقيقي على جوابه الحقيقي؛ مع ذلك الفارق الذي يقول أن في إجابة الإله يبدو الكون واضحًا كلغة للجواب. * لكن، أليست الوحدة بوابةً أيضًا؟ ألا يوجد أحيانًا في أزمنة ظاهرة للعيان، وفي الوحدة الهادئة، إدراك لا يمكن تجاوزه؟ أليس من الممكن أن يتحول الاهتمام بالذات الخاصة وبشكل غامض إلى اهتمام بالسرِّ (الكلِّي)؟ وفعلاً، ألا يستحق الإنسان الذي لم يعد ملتزمًا بأي كائنٍ مواجهة الكائن (الكلِّي)؟ "تعال إليه، أيها المتوحد، لأنه وحيد"، هكذا صرخ سمعان، عالم اللاهوت الجديد، مخاطبًا إلهه. هنالك نوعان من الوحدة، وكل واحدة منها مرتبطة بما تم التحول عنه. فإن كنا ندعو وحدةً أن يتحرر الإنسان من الوصال الناجم عن تجربة الأشياء واستخدامها، فإن هذا الأمر ضروري دائمًا، من أجل تحقق العلاقة، وليس فقط من أجل تحقق العلاقة الكلِّية. لكن إن كانت الوحدة تعني فقدان العلاقة، عندئذٍ، سيرفع الله إليه من تخلَّت عنه الكائنات التي كان يحدثها عن الـأنت الحقيقية، ولن يرفع إليه ذلك الذي تخلَّى عن الكائنات. وحده الذي ينتمي لأشكال مختلفة منها يكون شديد التوق لاستخدامها؛ لكن من يحيا في قوة التحقق الحاضر يكون مقيدًا فيما يتعلق بالعلاقة معها. وفقط من يكون مقيدًا هكذا يكون جاهزًا لله. لأنه الوحيد الذي يواجه بواقعه الإنساني واقع الألوهة. وأيضًا، هناك نوعان من الوحدة، لهما علاقة بذلك الذي يكون التوجه إليه. فإن كانت الوحدة هي مكان التطهر، الضروري بالنسبة للإنسان الملتزم بعلاقة، وسواء كان ذلك قبل دخوله قدس الأقداس في قلب المجازفة ما بين الفشل المحتوم والارتقاء من أجل إثبات حقيقته – فإننا لمثل هذه الوحدة نحن جاهزون بشكل طبيعي. لكن إن كانت الوحدة معقلاً للعزلة، حيث يقود الإنسان حوارًا مع نفسه – ليس من أجل امتحان ذاته وتعلم كيف يسيطر عليها من أجل مواجهة ما ينتظره، وإنما من أجل متعة تشكل روحه – إذ ذاك نحن نواجه السقوط الحقيقي للروح في الروحانية. حيث يمكن للإنسان أن يتقدم حتى الهاوية الأخيرة، وخادعًا نفسه يتصور بأن الله في قلبه وأن الله يكلِّمه. لكن في الحقيقة، ورغم أن الله يحيط بنا ويسكن فينا، فإننا لا نملكه أبدًا في قلبنا. ونحن نتحدث إليه فقط حين يموت في داخلنا الخطاب. * يفترض فيلسوف معاصر أن كل إنسان يؤمن إمَّا بالله أو بـ"الأصنام"، التي هي بشكل ما خير محدود – كأمَّته، وفنِّه، والسلطة، والمعرفة، وجمع المال، "والقهر المتجدد دائمًا للمرأة" أضحت بالنسبة له ذات قيمة مطلقة فأصبحت حائلاً بينه وبين الله؛ ما يعني أنه من الضروري أن نبين له القيمة المشروطة لذلك الخير من أجل "كسر" االصنم، الأمر الذي يعيد تلقائيًا بالتالي الفعل الديني المنحرف إلى غايته المناسبة. يفترض هذا المفهوم أن علاقة الإنسان بالخيرات المحدودة التي "جعل منها أصنامًا" هي من الطبيعة نفسها لعلاقته بالله، ولكنها تخالفها من حيث الهدف؛ ما يعني استنادًا لهذا الافتراض أنه يكفي لخلاص الإنسان الضال مجرد استبدال الهدف الكاذب بالهدف الحقيقي. لكن علاقة الإنسان بذلك "الشيء الخاص" الذي اغتصب عرش القيم الخالدة لحياته، وحلَّ مكان الأزلية، تستند دائمًا على تجربة الـهو واستخدام الشيء كغاية للمتعة. وهذه العلاقة فقط هي التي بوسعها أن تعيق الغاية التي تسعى إلى الإله – إنه عالم الـهو الذي لا يقبل الاختراق؛ لكن العلاقة التي تتضمن انطق بالـأنت تفتح دائمًا ذلك الأفق المتجدد دائمًا. فمن يسيطر عليه ذلك الصنم الذي يريده أن ينتصر، ويتملك، ويحافظ – من تسيطر عليه رغبة التملك – لا طريق له إلى الله، بعكس من يغير هدفه وطبيعة حركته. الشخص الشغوف يلج الخلاص لأنه يقظ وربي على التضامن مع العلاقة، وليس لأنه يقاد من قبل الألوهة من خلال حال تملكه. فإن بقي الإنسان على هذه الحال ماذا يعني أنه لم يعد ينادى باسم الشيطان أو باسم مخلوق مشوه من قبله وذي شكل شيطاني، وأصبح ينادي باسم الإله؟ هذا يعني أنه بدءًا من هذه اللحظة أصبح يجدف. لأنه تجديف أن يرغب الإنسان، وبعد أن حطم الصنم خلف المذبح، تكديس التقدمات غير المقدسة للإله في مكانٍ مدنس. من أحبَّ امرأةً، وجعل من حياتها هبةً يحقق حياته من خلالها، يستطيع أن ينظر من خلال الـأنت التي في عينيها إلى قلب إشعاع الـأنت الخالدة. أما من يشتهي بنهم "قهرًا متجددًا باستمرار" – هل من الممكن أن تستخلص من شهواته طيف ألوهة أزلية؟ إن من يخدم شعبه في قلب لامحدودية المصير، ويرغب في تقديم نفسه من أجله، يفكر فعلاً بالإله. لكن هل تعتقد بأن الإنسان الذي جعل من الأمة إلهًا، والتي من أجلها يريد تجنيد كل شيء (لأنه من خلال الأمة يمجِّد ذاته)، عليه الشعور ببعض القرف – كي يتمكن بالتالي من رؤية الحقيقة؟ وماذا يعني القول بأن إنسانًا يتعامل مع المال، ككيان متجسدٍ، "وكأنه الله"؟ وماذا يجمع بين شهوة تحصيل الكنوز وتكديسها وبين غبطة تحقيق الوجود الواحد؟ هل يستطيع خادم شيطان الجشع أن يقول أنت لماله؟ وهل سيكون بإمكانه أن يتعامل مع الله حين لا يعرف كيف ينطق بالـأنت؟ كلا ليس بوسعه أن يخدم سيدين – ولا حتى الواحد تلو الآخر: لأن عليه أولاً أن يتعلم الخدمة بطريقة أخرى. إن من تغير عن طريق ذلك التحول في الهدف بوسعه أن "يتملك" الآن طيفًا اسمه الإله. لكن الله، هذا الوجود الأزلي، لا يسمح لنفسه بأن يتملك. ويل للإنسان المستحوذ الذي يعتقد أنه يستطيع امتلاك الإله. * يتحدث الإنسان "المتدين" وكأنه ليس بحاجة لأن يتَّخذ موقفًا من أية علاقة في العالم ومن أية كائنات حيَّة، وذلك لأن حال الحياة الاجتماعية، المحددة من الخارج، يتم تجاوزها بالنسبة له عن طريق قوة داخلية تفعل من الداخل. لكن من منطلق فكرة الحياة الاجتماعية هذه يجتمع شيئان مختلفان جذريًا – أولاً، تلك الجماعة التي تراكمت خارج العلاقة، وثانيًا، مجموع البشر الأفراد الذين لا يعرفون العلاقة – بمعنى الوضع الملموس للإنسان المفتقد إلى العلاقة. لكن ما يجعل بنيان المجتمع براقًا، ذلك الذي يمكن أن يكون في قلبه مخرجًا حتى من البرج المحصَّن للـ"حياة الاجتماعية"، إنما هو تحقيق القوة الفاعلة نفسها في العلاقة بين الإنسان وبين الإله. وهذا لا يعني بأن العلاقة المحددة قد وضعت إلى جانب سواها؛ لأن هناك العلاقة الكونية، التي تصبُّ فيها كل الجداول ولا تستنفذ مياهها. من بوسعه يا ترى أن يفصل وأن يرسم حدودًا بين البحر وبين الجداول؟ فهناك نجد فقط الدفق الوحيد الذي بين الـأنا وبين الـأنت، ذلك الذي لا نهاية له، ذلك الدفق الوحيد واللامحدود للحياة الحقيقية. فالحياة لا يمكن أن تقسَّم إلى علاقة حقيقية مع الله وعلاقة غير حقيقية في العالم بين الـأنا وبين الـهو – لا يمكنك في الوقت نفسه أن تصلي للعالم وأن تستفيد من العالم الحقيقي. فمن يعرف العالم فقط كوسيلة للربح يعرف الألوهة بالطريقة نفسها. وصلاته كطريق للخلاص تسمعها أذن الفراغ. إنه ليس ذلك "الملحد" الذي يتوجه إلى من لا اسم له من قلب ليل وحنين شبَّاك علِّيته، إنه الإنسان الذي لا إله له. ويقال أيضًا إن الإنسان "المتدين" يقف أمام الله وحيدًا، منعزلاً، ككائن منفصل، لأنه تجاوز حتى حالة الإنسان "الأخلاقي"، الذي ما زال معنيًا بواجب وما زال ملتزامًا تجاه العالم. فهذا الأخير، كما يقال، ما زال مثقلاً بمسؤولية فعل الذين يفعلون، لأنه مقيد كلِّيًا بالتوتر القائم بين الكيان و"بين ما يجب أن يكون"، ذلك الذي بشجاعة غريبة ومضحية وبلا أمل يرمي قلبه قطعةً قطعة في قلب الدوامة النهمة التي ما بينهما. بينما الإنسان "المتدين"، في المقابل، قد خرج من هذا التوتر إلى التوتر بين العالم وبين الله؛ فهناك يسود الاعتقاد بأن قلق المسؤولية والمتطلبات الذاتية قد زال؛ فلم تعد هناك رغبة خاصة، إنما فقط التحاق الكائن بما قضى؛ فكلُّ "واجب" قد تلاشى في الكيان غير المشروط، والعالم، رغم أنه ما زال موجودًا، أصبح بالتالي لا قيمة له. لأن على الإنسان "المتدين" أن يقوم بواجباته الخاصة، وكأنه بلا واجب – ومن دون المظاهر الفارغة لكل الأعمال. لكن هذا يفترض أن العالم الذي خلقه الله مجرَّد وهم وأن الإنسان كائن مسعور. لكن من يقارب الوجه يكون قد تجاوز فعلاً الواجب وتجاوز الالتزام – ليس لأنه أصبح بعيدًا عن العالم؛ إنما بالأحرى لأنه أصبح أكثر قربًا منه. فالواجب والالتزام هما للغريب فقط؛ ما يعني أن علينا أن ننتبه وأن نكون ممتلئين حبًّا فيما يتعلق بالشخص الحميم. وبالعالم، الذي ألهبه الخلود، فأصبح حاضرًا بالكامل فيما يتعلق بمن يقارب الوجه، والكيان الذي يستوعب كل الكائنات بوسعه أن يجيب بـأنت كجوابٍ وحيد. ولا يبقى هناك أي توتر بين العالم وبين الإله، إنما فقط واقع قائم وحيد. كما لا يتحرر الإنسان من المسؤولية، إنما يستبدل عذاب ما هو زائل، وعذاب الركض وراء المتاع، بالسعي وراء الطاقة الدافعة للامتناهي، فتحمُّل مسؤولية الحبِّ العظيمة لأحداث العالم التي لا يمكن تعقبها، بالانتماء العميق للعالم في حضرة وجه الإله. وهو قد ألغى بالتأكيد إلى الأبد كل الأحكام الأخلاقية؛ فالإنسان "الشرير" هو بكل بساطة من يُثنى عليه من أجل مسؤولية أكبر، وأحد أكثر المحتاجين للحب؛ لكن عليه أن يمارس، حتى يأتي الموت بحد ذاته، قراره في قلب أعماق العفوية، ذلك القرار الهادىء، والمتجدد باستمرار، بالفعل الصحيح. عندئذٍ لا يكون الفعل فارغًا، وإنما مفيدًا، ومزينًا، وضروريًا، كجزء من الخليقة؛ ولا يعود واجبًا مفروضًا على العالم، إنما ينمو وكأنه لا فعل. * ما هو ذلك الأزلي، ما هي تلك الظاهرة الأساسية، المتواجدة الآن وهنا، والتي منها ينبثق الوحي؟ إنها تلك الظاهرة التي لا يبقى الإنسان الذي مرَّ بها، بدءًا من لحظة اللقاء الأولى، مثل ما كان عليه ساعة الالتقاء بها. ولحظة اللقاء هذه ليست "تجربة" تحرك الروح التي تتلقاها وتغمرها بالنعمة: إنما، هي لحظة يحصل فيها شيء ما للإنسان. شيء يبدو لثوان وكأنه نفس ناعم، ويبدو أحيانًا وكأنه منافسة في سباق، لكنه دائمًا يحصل. فالإنسان الذي يخرج من فعل العلاقة الصافية التي شملت كيانه أصبح يملك الآن شيئًا إضافيًا نما في داخله، شيئًا لم يعرفه من قبل وليس بوسعه تحديد مصدره بدقة. غير أن مصدر هذا الشيء الجديد يمكن تصنيفه ضمن التوجه العلمي للعالم، عن طريق المجهود الذي يخوله إيجاد سبب للتواصل، ونحن، المهتمين بالدراسة الواقعية للعالم، ليس بوسعنا تحقيق ما نصبو إليه عن طريق العقل الباطن أو عن طريق أية وسيلة أخرى من وسائل الروح. فالحقيقة هي أننا تلقينا ما لم نكن تلقيناه من قبل، وبطريقة نعرف فيها أنه أعطي لنا. في لغة التوراة جاء "وأما منتظرو الربِّ فيجددون قوةً". ما أصبح في لغة نيتشه، الذي بقي من جانبه وفيًا لواقعه، "نحن نأخذ ولا نسأل من يتواجد هناك ويعطي". الإنسان يتلقى، لكن ما يتلقاه ليس "مضمونًا" محددًا وإنما حضور يشبه القوة. وهذا الحضور، وتلك القوة، يتضمنان ثلاثة أشياء منفصلة، إلى حدِّ أنه بوسعنا تناولها كل واحدة على حدة. هناك أولاً الامتلاء الكلِّي للفعل الحقيقي والمتبادل للكائن الذي يرتقي والمرتبط بالعلاقة: هنا ليس بوسع الكائن على الإطلاق أن يبين كيف يكون الالتزام في العلاقة، كما أن العلاقة ليس بوسعها بأي شكلٍ إنارة حياته – فهي تثقل هذه الحياة، ولكن في العمق. وهنالك ثانيًا التأكيد الذي لا يمكن تفسيره لهذا المضمون. فالمضمون شيء مؤكد. وبالتالي، لا يبقى هناك شيء بلا معنى. كما ينتفي التساؤل حول معنى الحياة، إن كان هذا التساؤل موجودًا أصلاً، لأنه لا يعود بحاجةٍ إلى جواب. وأنت لا تعرف كيف توضِّح ولا كيف تحدد معنى الحياة، فأنت لا تمتلك أي صيغة ولا أي وسيلة من أجل ذلك، ورغم هذا، تصبح الحياة مؤكدةً أكثر مما هي مؤكدة إدراكاتك الحسِّية. ونتساءل عما يريد منا ذلك المعنى المستور والموحى به؟ فهو لا يريد أن يفسَّر (ولا نحن بوسعنا تفسيره) إنما هو فقط (يريد) أن يتحقق من خلالنا. وثالثًا، ليس لهذا المعنى "حياة أخرى"، إنما هو في قلب حياتنا هذه تحديدًا، إنه ليس من عالم "هناك"، إنما هو من عالمنا هذا، وهو يريد أن يتحقق في هذه الحياة وعن طريق تواصله مع هذا العالم. وهذا المعنى من الممكن أن يوحى به، إلا أنه من غير الممكن أن يجرب؛ من غير الممكن أن يجرب إنما من الممكن أن يتحقق، وهذه هي غايته بالنسبة لنا. فالثقة التي أكنها له لا تريد الانغلاق في قلبي، إنما الولادة في العالم عن طريقي. ولكن كما أن المعنى بحد ذاته لا يسمح لنفسه بأن ينقل ولا أن يتحول إلى معرفةٍ عامة ومقبولة، كذلك فإن تأكيده لا يمكن أن ينقل كواجب ساري المفعول؛ فهو لم ينص عليه، ولم يرسمه على أي لوح، بحيث يرفعه فوق رؤوس كلِّ البشر. فالمعنى الموحى به يمكن فقط إثبات حقيقته من قبل كل شخص من خلال وحدانية كيانه ووحدانية حياته. وكما أنه ليس بوسع أية وصفة أن ترشدنا إلى طريق اللقاء، كذلك ليس بوسع أية وصفة أن تخرجنا منه. ولما كان القبول بالحاضر هو وحده الضروري لمقاربة ذلك اللقاء، كذلك هو مفهوم جديد للخروج منه. وبما أننا نصل إلى اللقاء عن طريق تلك الـأنت المنبثقة ببساطة من شفاهنا، كذلك عن طريق تلك الـأنت نفسها التي من شفاهنا نتركه ونعود إلى العالم. ذلك الذي قبله، وفيه، ومنه، وفي قلبه نحيا، حتى ذلك السرُّ الذي بقي على حاله. ذلك الذي أصبح حاضرًا بالنسبة لنا والذي بحضوره أفصح عن نفسه خلاصًا؛ لقد "عرفناه"، لكننا لم نكتسب منه أية معرفة يمكن أن تقلل أو تخفف من سرَّانيته. لقد اقتربنا من الله، ولكننا لم نقارب رفع الحجاب عن كيانه أو حلَّ أحجيته. لقد شعرنا بالراحة، لكننا لم نكتشف "الحلَّ". كما أنه ليس بوسعنا مقاربة الآخرين عن طريق ما تلقيناه، والقول لهم "يجب أن تعرفوا هذا، وأن تفعلوا هذا". كل ما بوسعنا فعله هو أن نمضي، وأن نؤكد الحقيقة. وهذا أيضًا ليس "واجبًا"، إنما بوسعنا فعله، ويجب أن نفعله. هذا هو الوحي الأزلي الحاضر الآن وهنا. وأنا لا أعرف ولا أؤمن بأي وحي لم يكن هذا هو تحققه الأساسي. فأنا لا أؤمن بإله يسمي نفسه بنفسه، لأن تعريف الله يكون من قبل البشر. والعبارة الموحى بها هي أنا هو الكائن تعني أن ما أوحي به هو ما أوحي به. أي ذلك الذي هو الكائن، ليس أكثر. ويبقى الينبوع الأزلي للقوة متدفقًا، ويبقى التواصل الأولي مستمرًا، ويبقى الصوت الأزلي صاعدًا، لا أكثر. * يمكن للـأنت الأزلية أن لا تتحول، بحكم طبيعتها، إلى هو؛ لأنها بحكم طبيعتها لا يمكن أن تقاس ولا يمكن أن تحدَّ، ولا حتى بمقياس من لا يقاس، أو بحدود من هو بلا حدود؛ لأنه بحكم طبيعته لا يمكن أن يفهم وكأنه مجموع خصاله، ولا حتى كالمجموع اللامتناهي لخصال صعِّدت إلى مستوى متعالٍ؛ حيث من غير الممكن اكتشافه داخل أو خارج العالم؛ فهو لا يمكن تجربته، أو التفكير به؛ لأننا سنفتقده، سنفتقد الكائن، إن قلنا "أنا أؤمن بأنه موجود" - فـ"هو" أيضًا مجاز، لكن الـ"أنت" ليست كذلك. وأيضًا فإننا نحول الـأنت الأزلية دومًا إلى هو بحكم طبيعتنا. نحولها إلى شيء ما – نحول الله إلى شيء. طبعًا ليس من منطلق رغبةٍ ذاتية اعتباطية؛ فتاريخ الإله كشيء، ومرور الله كشيء من خلال الدين ومنتجاته في نهاية المطاف، عبر الطرق المضيئة وظلمتها، من خلال تحسين الحياة وتدميرها، من خلال العبور بعيدًا عن الإله الحيِّ والعودة إليه مرةً أخرى، من خلال التغيرات في الحاضر إلى ترسيخ الشكل، والأشياء، والأفكار، والانحلال والتجدد – إنها كلها الطريق، إنها الطريق. ما هو أصل المعرفة المنطوق بها وأصل الفعل الآمر للأديان؟ وكيف يتحول وجود وسلطة الوحي (لأن كل الأديان بالتأكيد تناشد شكلاً من أشكال الوحي بوساطة الكلمة المنطوق بها، أو الروح: لأن هناك فقط أديانًا موحى بها) كيف يتحول الوجود والسلطة المستمدة من قبل الإنسان كوحي إلى "مضمون"؟ للتفسير مستويان. نحن نفهم المستوى النفسي الخارجي حين ننظر إلى الإنسان بحدِّ ذاته وبمعزل عن التاريخ، ونفهم المستوى الفعلي للموضوع، نفهم الظاهرة البدئية للدين، حين نعيد وضعه في قلب التاريخ. فكلا المستويين ينتميان لبعضهما. يرغب الإنسان في تملك الإله؛ وفيما يتعلق بتملكه لله يرغب باستمرارية في المدى وفي الزمن. إنه غير راضٍ بتأكيد المعنى المتعذر عن التفسير، إنما يريد أن يرى هذا التأكيد ممددًا كشيء بوسعه دائمًا تناوله ومعالجته، كاستمرارية غير منقطعة تضمن حياته في المدى وفي الزمن في أي مكانٍ وفي أية لحظة. وظمأ الإنسان للاستمرارية لا يرويه إيقاع حياة العلاقة الصرفة، ذلك التبادل بين الكائن الفعلي والكائن بالقوة حيث وحدها القدرة على الدخول في علاقة، وبالتالي الحضور (ولكن ليس الحضور الأولي) تتناقص. إنه يتوق إلى تمديد في الزمان وتمديد في المدى. وهكذا يصبح الله موضوعًا للإيمان. في أول الإيمان، إن أخذنا الأمر زمنيًا، تستكمل أفعال العلاقة؛ ثم يتم استبدالها بالتدريج. البقاء على إيمان بـهو تحلُّ محل حركة الكائن المتجددة باستمرار نحو التركيز والخروج إلى العلاقة. وتتحول الـ"أنا أؤمن مع ذلك"، وبالنسبة للمقاتل الذي يعرف البعد كما يعرف القرب من الله، أكثر فأكثر، إلى تأكيد ذلك الذي ينعم بالفائدة، بأن لا شيء يمكن أن يحدث له، لأنه يؤمن بأن هناك أحدًا لن يدع أي شيء يحدث له. وأيضًا، فإن ظمأ الإنسان للاستمرارية لا ترويه هيكلية حياة العلاقة الصرفة، فـ"عزلة" الـأنا أمام الـأنت، ذلك القانون القائل بأن الإنسان، على الرغم من أنه ملتزم بالعالم من خلال العلاقة واللقاء، ليس بوسعه مع ذلك مقاربة الله إلا بصفة شخصية. وهو يتوق إلى توسيع المجال، وإلى التصور بأن مجتمع المؤمن متحد مع الله. وهكذا يصبح الإله موضوعًا للعبادة. والعبادة أيضًا تكمل قبل كل شيء أفعال العلاقة، من خلال تعديلها ضمن السياق المكاني لقوة تكوينية كبيرة للصلاة المعاشة، إنها النطق الفوري بالـأنت، وربطها بحياة الحواس. والـهو، أيضًا، تحلُّ تدريجيًا محلَّ أفعال العلاقة، حين لا تعود الصلاة الشخصية مدعومةً، وإنما مزاحةً من قبل صلاة الجماعة، عندما يستبدل فعل الكائن، بما أنه لا يقبل أية قاعدة، بالممارسات التعبدية. ورغم هذا، من الممكن، الآن، للعلاقة الصرفة أن ترتفع إلى درجة الثبات في الزمان وفي المكان من قبل الكائن المتجسد في كلِّية أشياء الحياة. وهذه الأشياء لا يمكن الحفاظ عليها، وإنما يتم فقط البرهان على صحتها، والقيام بها، وإنجازها في هذه الحياة. والإنسان يمكن فقط أن يحقق العلاقة مع الله الذي أصبح شريكًا له إن حقق الإلوهة في العالم من جديد انطلاقًا من قدرته وبمقاييس كل يوم. بهذا فقط يكون الضمان الحقيقي الوحيد للاستمرارية. فالضمان الوحيد للاستمرارية يتوقف على واقع أن العلاقة الصرفة يمكن أن تتحقق من خلال نمو وارتقاء الكائنات إلى الـأنت، وبحيث تكون الكلمة البدئية المقدسة مسموعةً من قبل الجميع. وهكذا تتخذ مدة الحياة البشرية شكلها في قلب ملاءة الواقع، ولكن، رغم هذا، ليس بوسع الحياة البشرية ولا هي ملزمة بتجاوز العلاقة مع الـهو، ما يعني أنه قد تم اختراقها من قبل العلاقة وأن العلاقة قد اكتسبت في قلبها ثباتًا متدفقًا وساطعًا: وهذا ما يجعل لحظات اللقاء السامي تبدو وكأنها ليست مجرد ومضات نور في الظلام إنما كالقمر الساطع في ليل صاف متلالئ بالنجوم. وهكذا أيضًا، يكون التأكيد الحقيقي للثبات في المكان هو واقع أن علاقات البشر مع الـأنت الخاصة بهم، تلك الخطوط الشعاعية النابعة من كلِّ نقاط الـأنا، قد أصبحت تشكل دائرةً. وهي ليست الحدَّ الخارجي، ليست الجماعة، التي تأتي أولاً، إنما أنصاف الأقطار، أي تلك الخصلة المشتركة بين العلاقة وبين المركز. وهذه وحدها تضمن الوجود الحقيقي للجماعة. فقط حين يتحقق هذان الاثنان – أي الربط المتصل للزمن في حياة خلاص علائقية والربط المتصل للمدى في قلب الجماعة التي تتحول إلى واحدٍ من خلال مركزها – وطالما هما متواجدان فقط، ينشأ ويتواجد ممر حول المذبح اللامرئي كون إنساني له حدود وله شكل، وممسوك به مع الروح خارج الملاك الكوني للأيونات، عالم هو المنزل وهو الملاذ، كمأوى للإنسان في هذا الكون. لا يتم التقاء الإنسان بالإله من أجل الاهتمام به وإنما كي يكون بوسعه التأكد من أن للعالم معنى. فالدعوة هي في الوقت نفسه استدعاء ورسالة. ولكن، أيضًا وأيضًا، يخلق الإنسان، عوضًا من التحقق، موضوعًا للتفكير ذو علاقة بالموحي: فهو يريد في أن يهتم بالإله عوضًا من أن يهتم بالعالم. لأنه فقط من خلال هذا التفكير، لا يبقى مواجَهًا من قبل الـأنت، حيث ليس بوسعه أن يفعل شيئًا سوى خلق إله (يتعامل معه كـهو) في مملكة الأشياء، فيعتقد أنه يعرف الله كـهو، وأن بوسعه الحديث عنه. تمامًا كما يفعل الإنسان الباحث عن ذاته، والذي عوضًا عن أن يعيش بشكل مباشر هذا الشيء أو ذاك، كإدراك أو كعاطفة، يعكس ما يتعلق بأناه المتقبلة أو العاكسة، فيفقد لهذا السبب المعنى الحقيقي للحدث، وهكذا فإن الإنسان الباحث عن الله (ورغم أن هذا البحث يبقى بالنسبة لما تبقى من أمور منسجمًا بشكل جيد مع الباحث عن الذات في روحه)، عوضًا عن أن يدع مجالاً لأن تنعكس النعمة نحو الخارج، يتفكر بالمانح – ويفوت الـ(نعمة والمانح) معًا. يبقى الله حاضرًا بالنسبة لك إن كنت مرسلاً؛ فمن يذهب في مهمة يكون الله أمامه دائمًا: وبمقدار ما يكون تحققه صادقًا بمقدار ما يكون قربه أكثر ثباتًا وقوةً. كن متأكدًا أنه ليس بوسعه التعلق بالله مباشرةً، لكنه ينتمي في الحقيقة إلى الحركة الكونية المبتعدة عنه؛ تمامًا كما أن التحول الظاهر للإنسان الذي يؤدي مهمته ينتمي إلى الحركة الكونية تجاهه. لأن الحركتين البدئيتين للعالم والمتجاوزتين للكون – أي التمدد في قلب الكيان وعكسه المتمثل بالتواصل – تجد شكلها الإنساني الأسمى، الشكل الروحي الحقيقي لصراعها وتوافقها، في التاريخ الإنساني للعلاقة مع الإله. في المقابل، ولدت الكلمة على الأرض، ومن خلال توسعها دخلت الكلمة في قلب الشكل الخدري للدين، وعاد تحولها الجديد ليولد مرةً أخرى عن طريق أجنحة أخرى. والإرادة الذاتية الاعتباطية لا تسود هنا، رغم أن الحركة باتجاه الـهو تبتعد أحيانًا إلى حدِّ أنها تهدد بإلغاء وبخنق الحركة فتخرجها مرة أخرى من الـأنت. والمكاشفات الجبارة التي تدعو إليها الديانات تشبه من حيث بنيانها المكاشفات الهادئة التي نجدها في كل مكانٍ وفي كلِّ زمان. وتلك المكاشفات الجبارة التي نجدها في بدايات المجتمعات حين يتم التحول من عصر إلى عصر ما هي إلا الوحي الأزلي. لكن الوحي لا يقدم نفسه للعالم عن طريق المتلقي وكأنه آت عبر أنبوب؛ إنما هو يأتي إليه ويقبض على كامل كيان المتلقي مع كل ما يتضمنه من طبيعة خاصة، فينصهر فيه. وكذلك فإن الإنسان الذي هو "الفم" (الناطق) بالوحي، هو هكذا فعلاً، وليس مجرد مكبر صوت أو مجرد أداة، إنما هو أرغن يدوي وفق قوانينه الخاصة، وحين نقول يدوي فإننا نعني طبعًا إمكانية التغيير. وتظهر مختلف أحقاب التاريخ فارقًا نوعيًا. لأن هناك وقتًا للنضوج، حين يصبح استعداد العنصر الحقيقي للروح الإنسانية، الملغاة والدفينة، للاختفاء ملحًّا ومتواترًا إلى حدٍّ يجعله ينتظر مجرد لمسة من ذلك الذي سيلامسه كي ينطلق. فيتملَّك الوحي الذي ظهر كلية بنيان الشيء الذي أصبح مهيأً، ويصهره، ويخلق في داخله شكلاً هو الشكل الجديد للإله في هذا العالم. وهكذا على مرِّ التاريخ، ومن خلال تحول العنصر الخام للمادة الإنسانية، ترتفع مقاطعات جديدة للعالم وللروح فتتخذ شكلاً، وتستدعى حتى لأن تتخذ أشكالاً إلهية. وتصبح هذه الحلقات الجديدة أماكن للظهور الإلهي. هنا لا تفعل قدرة الإنسان وحدها، ولا يفعل حتى العبور المؤثر لإلهه، وإنما هو خليط من الإلهي ومن الإنساني. لذلك فإن من تدفعه قوة الوحي يحمل معه، من منظوره، صورة للإله؛ ومهما تجاوز هذا الأمر الحواس، فإنه يحمله معه من منظور الروح، وبدافع من منظورها الذي هو ليس مجازًا إنما حقيقةٌ بالكامل. كما وتستجيب الروح أيضًا من خلال نظرة متكونة. ورغم أننا ككائنات أرضية لا نبحث أبدًا عن الله من دون الكلمة، إنما نبحث عن الكلمة في الله، فإننا ننظر ونصيغ بشكل أزلي شكل الألوهة. والشكل أيضًا هو مزيج من الـأنت ومن الـهو. لذلك تراه في المعتقد وفي الشكل الطقسي يتصلَّب فيتخذ شكل شيء؛ ولكن بفضل الميزة الأساسية للعلاقة التي تحيا في قلبه، يعود ليتحول باستمرار إلى حاضرٍ. فالله يبقى قريبًا من أشكاله ما لم ينتزعها الإنسان منه. في الحقيقة فإن إيمان المصلِّي والطقس يتحدان ويلتقيان بحيث يدخلان في علاقة حية. فواقع أن المصلين الحقيقين يحيون في الديانات شاهد على حياتهم الحقيقية: فهم ييقون أحياءً طالما بقيت هذه الديانات حيَّة. وانحطاط الديانات يعني انحطاط المصلِّين فيها. فتدفن مقدرتهم على التواصل تحت عبء المزيد من التشيء، ما يجعل من الصعب أكثر فأكثر بالنسبة لهم أن يقولوا أنت لكلِّية الكائن الذي لا يجزأ، وفي النهاية، كي يكون قادرًا على النطق بها، يصبح من واجب الإنسان أن يتحول من أمانة الكاذب إلى مجازفة اللانهائي – فيخرج عن الجماعة التي أصبحت الآن محدودة بقبة الهيكل وليس إلى السماء، ووحدتها النهائية. وهذا ليس فهمًا عميقًا للحافز أن نعزوه إلى "شخصانيته"؛ فالحياة وجهًا لوجه مع الألوهة هي حياة في واقع واحد. والإنسان الذي يريد ترك هذه الحياة يريد تخليص نفسه، في قلب الهدف المتواجد فعلاً، من ذلك الظاهر والوهمي، قبل أن يطرق حقيقة الهدف الصحيح الذي يسعى من أجله. فالشخصانية تفرغ الإله من الروح، والموضوعية تحوله إلى شيء – فاللاحقة هي تحديد سفلي، بينما الأولى هي إعداد حر خاطىء؛ وكلاهما انحراف عن الحقيقة، وكلاهما محاولات لاستبدال الحقيقة. والله قريب من أشكاله ما لم ينتزعها الإنسان منه. ولكن حين تلغي الحركة الممتدة للدين حركة الانعكاس وتنتزع الشكل من الإله، فإن ملامح الشكل تُطمس، وتموت شفاهه، وتتعطل يداه، فلا يعود الإله يتعرف إليه، والمسكن الكوني المبني حول المذبح، ذلك الكون الروحي المعتقل، يتدهور. وواقع أن الإنسان، في قلب اضطراب حقيقته، لم يعد بوسعه أن يرى ما يجري، هو بعض مما يحصل. لقد تحلل العالم. وجوهر الكلمة متضمن في الوحي، وتأثيره في حياة الشكل، لكن تداوله مات من خلال هيمنة الشكل. هذا هو المسار والمسار المضاد للعالم الأزلي والدائم الوجود في التاريخ. والأزمنة التي تتجلى فيها الكلمة الحية هي تلك التي يتجدد فيها تضامن الصلة بين الـأنا وبين العالم؛ والأزمنة التي تسود فيها الكلمة المؤثرة هي تلك التي يحافظ فيها على التفاهم بين الـأنا وبين العالم؛ والأزمنة التي تصبح فيها الكلمة متداولة هي تلك التي يصبح فيها الاغتراب بين الـأنا وبين العالم، كفقدان للواقعية، وكتوسع في الإيمان، مكتملاً – وحتى هناك تكون الارتعاشة الكبرى، وحبس الأنفاس في الظلام، وإعداد الصمت. لكن هذا المسار ليس دائريًا. إنما هو الطريق. ففي كل دهر تصبح النهاية أكثر جورًا ويصبح الانقلاب أكثر تهشمًا. يصبح الظهور الإلهي أقرب من أي يوم مضى، أقرب بكثير من المجال القائم بين الكائنات، وأقرب إلى تلك المملكة المستورة في وسطنا، هناك بيننا. فالتاريخ مقاربة غامضة. وكل لولب في طريقه يقودنا في الوقت نفسه إلى انحطاط أعمق وإلى انقلاب أساسي. لكن ما يبدو من جانب الإنسان وكأنه انقلاب، يدعى بلغة الله خلاصًا. ترجمة: أكرم أنطاكي [1] - έν έσμεν كما وردت في إنجيل يوحنا 10:30.
|
|
|