|
جمع القرآن – 5
الفصل الخامس: السبعة أحرف: القراءات السبع المختلفة 1. الأحرف السبعة في أدب الحديث بينما يحاول كتَّاب مثل صدِّيق الالتفاف على ما لا يحصى من البراهين المتعلقة بالسجلات التاريخية للإسلام التي تبيِّن كيف تم في آخر الأمر توحيد القرآن على خلفية من القراءات المتعددة، والمقاطع، والنصوص التي فقدت جميعها، فإن آخرون مثل ديزاي يسلِّمون، كما ينبغي، بالبراهين ويعترفون بالكثير من الاختلافات التي وجدت في المخطوطات والنسخ الأولية. من ناحية أخرى نجد أن ديزاي، على سبيل المثال، مصمم رغم ذلك على الدفاع عن الفرضية الشائعة بأن القرآن محفوظ بالكامل ولم يمس حتى آخر نقطة وآخر حرف. وقد رأينا آنفًا كيف تغلَّب على هذه المعضلة بالنسبة للمقاطع التي فقدت من القرآن – حيث أعلن بشكل ملائم أنها جميعها قد (ألغيت) نُسخت من قبل الله أثناء حياة محمد. فكيف تهرَّب من مضامين العديد من القراءات المختلفة للنصوص والنسخ الأولى؟ إنه يدَّعي أنها ليست نتيجة شكوك تتعلق بالنص أو إرباكات جزئية تتعلق بالصياغة الفعلية لكل مقطع، إنما كان كل اختلاف في الحقيقة جزءًا من نص القرآن الأصلي كما سلَّمه الله إلى محمد! حيث يقول إن "الاختلافات" في الروايات بين أناس مختلفين كانت جميعها رسمية، ومجازة، وذات صياغة إلهية، وهي ماعلَّمه رسول الله (ص) للصحابة الذين نقلوا ما تعلموه من قراءة إلى مريديهم[1]، ويتابع فيقتبس القول التالي لمحمد دعمًا لتفسيره: لقد أوحي إلي بالقرآن ليروى بسبعة طرق مختلفة، فاتلو ماتيسر لك منها[2]. وهذه الرواية تتفق مع منقول يخبرنا بأن عمرًا سمع في أحد الأيام هشام بن الحكم وهو يتلو سورة الفرقان بطريقة مختلفة جدًا عن الطريقة التي كان قد تعلمها. فجاهد عمر للسيطرة على نفسه ونوى أن يتعرض له، لذلك عندما أكمل هشام تلاوته واجهه عمر واتهمه بالكذب حين ادَّعى أنه تعلَّمها بهذا الشكل مباشرة من قبل محمد نفسه. وعندما مثلا أمام نبي الإسلام، صادق النبي على قراءة كلا الصحابيين، مضيفًا الرواية الآنفة الذكر التي تقول إن القرآن كان قد أوحي على سبعة أحرف "في سبعة قراءات". كما يبيِّن حديث مشابه أن القرآن جاء أصلاً في سبع صيغ مختلفة حيث جاء ما يلي: روى بن عباس قول رسول الله (ص): علَّمني جبرائيل أن أتلو بطريقة واحدة. أجبته وبقيت أسأله المزيد (من الطرق) حتى وصل إلى سبعة طرق (للتلاوة). قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الطرق السبعة كانت في الأصل واحدة لا تختلف حول ما يجوز وما يحرَّم[3]. ونضيف على ذلك أن أُبي بن كعب أخبرنا أنه تذكَّر المناسبة التي روى فيها محمد أن جبريل جاءه في أحد الأيام وأخبره أن الله أمر بأن يتلو القرآن بلهجة واحدة فقط، فأجابه محمد بأن قومه لا يطيقون ذلك. وبعد أن عاوده الوحي كثيرًا، وفي المرة الرابعة، جاءه الملاك أخيرًا ليخبره بأن الله سمح للمسلمين أن يتلو القرآن بسبعة طرق مختلفة وستكون كل تلاوة صحيحة[4]. علاوة على هذه الأحاديث، ليس هناك دليل في أدب الحديث يبين ماهية هذه القراءات السبع المختلفة. والرواية الواردة في صحيح البخاري، والواردة أيضًا في المجلد 6 ص 481، لم تخبرنا كيف كان هشام يتلو سورة الفرقان بشكل مختلف عن تلك التي كان يتلوها به عمر، ولا حتى أن الاختلافات كانت مجرد اختلافات في اللهجة كما توحي بذلك الروايات في صحيح الإمام مسلم. ليس هناك روايات أخرى في الآثار الأولى للحديث وآداب السيرة تعطي أي دلالة حقيقية لما كانت عليه القراءات السبع المختلفة أو الصيغ التي تقتضيها. هل كانت في النهاية سبع صيغ مختلفة تنطبق على القرآن ككل، أم كانت مسألة لهجات صرف مختلفة يمكن أن يتلى بها النص؟ ليس هناك في الروايات الأولى ما يعطينا أية فكرة عن ماهية هذه الأحرف السبعة أو أي شكل اتخذت. لا يوجد سوى إشارات جاءت في الروايات التي أستشهد بها من صحيح مسلم، والتي جاء فيها أنها كانت مجرد خلاف في اللهجات. ولم يرد المزيد حول أن القرآن كان قد أوحي به بسبع طرق تلاوة مختلفة. أمَّا في كتاب أبو داود السنن الكبرى، فنجد تصنيفًا لما يصل إلى أربعين قراءة مختلفة للقرآن تحت عنوان كتاب الحروف والقراءات. وسوف نشير إلى بعضها لاحقًا في هذا الفصل. لكن دعونا نكتفي هنا بالقول إن من بين كل القراءات التي أوردها، كان الاختلاف الوحيد ذا علاقة باللهجة أو باللفظ. كما أنه ليس هناك ما يدل على أن هذه القراءات المختلفة كانت مجازة كجزء من النص الأصلي أو أنها شكَّلت جزءًا من القراءات السبع المختلفة، لكن إن كانت كذلك فقد كانت مقتصرة على اختلاف في اللهجات فحسب. في النتيجة، ولندرةٍ في وجود الدليل عما كانت تعنيه تمامًا الأحرف السبعة أصلاً، نجد العديد من التفسيرات المختلفة المقترحة للحديث المعني. فالبعض يقول إنه كما كان للقبائل العربية لهجات مختلفة كذلك جاء القرآن في سبع صيغ مختلفة ليلائمها. بينما يقول آخرون إن القراءات السبع المختلفة كانت صيغًا بارزة وصلت إلى مراكز الإسلام في القرن الثاني الهجري على يد قراء ذوي مصداقية. وهكذا وفق أبو عمرو أُخذت إحدى القراءات إلى البصرة، وأخذ بن عمير واحدة إلى دمشق، وأخذ عاصم اثنتان أخريتان إلى الكوفة، وأخذ بن كثير واحدة إلى مكة، واحتفظ نافع بواحدة في المدينة (سنن أبو داود، حاشية 3365، مجلد 3، ص 1113). ويمكن لأي كان أن يتصور ما حصل في كل حالة. كذلك هناك العديد من التفسيرات الأخرى التي لا نحتاج لأن نتأملها هنا. كما يتبين لنا من كل ما تقدم، وبجلاء، أن ليس هناك شيء مؤكد حول القراءات السبع المختلفة عدا أنها كانت مقتصرة على الاختلاف في اللهجة واللفظ ليس إلا. ويستمر ديزاي في الحديث حول "جميع القراءات المختلفة المجازة" التي كانت "من الوحي كما كانت جزءًا من القرآن". وكما قيل آنفًا، فقد فهرس جميع القراءات المختلفة للقرآن التي نجدها في المدونات الأولى باعتبار أنها من الأحرف السبعة، وباعتبار أنها مصادق عليها إلهيًا. ومع ذلك، تبقى العقبة الرئيسية، التي اعتاد ديزاي إغفالها، هي أن تلك المدونات تبيِّن أن هناك اختلافات بين مخطوطة زيد بن ثابت وبين المخطوطات الأخرى التي لدى عبد الله بن مسعود وأُبيِّ بن كعب ورواة آخرين. وهذا الاختلاف لم يكن فقط في اللهجات إنما كانت هناك أيضًا اختلافات حقيقية في النص نفسه. وقد استشهدنا في هذا الكتاب بالعديد من الأمثلة والكلمات والفقرات، وحتى بآيات كاملة، تؤكد على وجود خلاف جذري بين مختلف هذه المخطوطات. كما برهنت بإسهاب آنفًا، إن هذه الاختلافات لم تكن فروقًا في اللهجة بل كانت تتعلق أحيانًا بمحتوى نص القرآن نفسه. لذلك يجب القول مرة أخرى إنه إذا كانت كل هذه الاختلافات الصرفة هي في لفظ النص طبقًا للهجات المتنوعة للقبائل العربية، فإنه لا يفترض أن تكون ظاهرةً في كتابة النص، وخصوصًا عندما نتذكر بأن تلك المخطوطات الأولى كُتبت بحروف ساكنة ولم تكن تتضمن ما يشير إلى حركات إعرابية كما يتطلب اختلاف اللهجات. كما لم يكن لعثمان أن يأمر أبدًا بالتدمير الكامل لكل المخطوطات الأخرى، باستثناء مخطوط زيد، لو كانت الاختلافات فقط في قراءة التعبير الشفهي للنص. لقد كان هناك، كما رأينا، الكثير من التفسيرات المختلفة للأحرف السبعة – رغم أنه يدَّعى بإصرار أن هذه الاختلافات مرتبطة باللهجات (أو كانت مقتصرة عليها تقريبًا). فإن قبلنا بهذا التفسير، عندئذ يتوجب علينا، في الوقت نفسه، أن نستنتج بأن هذه القراءات السبع المختلفة لا تملك إلا النذر اليسير الذي يمكنها من الصمود أمام التنوع النصي الواسع الذي وُجد بين مخطوطات بن مسعود وزيد وأُبي وأبو موسى وآخرين قبل أن يأمر عثمان بتدميرها كلها ما عدا واحدة. وفي حين يحاول ديزاي إعطاء مصداقية إلهية وشرعية لكل القراءات المتعددة التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، سواءً منها تلك النصية أو تلك المتعلقة باللهجات، بدعوى أنها جميعها كانت جزءًا من الأحرف السبعة، كان الرأي الذي أجمع عليه علماء المسلمين الأوائل هو أن هذه القراءات السبع كانت جميعها اختلافًا في اللهجات. أمَّا مولانا العالِم فلم يجد مبررًا لأن يحاول مطابقتها مع مثيلاتها، في الوقت الذي كانت فيه الفروقات الحقيقية في النص الفعلي للقرآن موجودة في مختلف المخطوطات. نحن نتعامل إذن، وبوضوح، مع نوعين مختلفين من القراءة "المتنوعة". فمن جهة لدينا اختلافات جوهرية بين المخطوطات الأولى التي شملت كل الفقرات التي أضيف مثل وصلاة العصر في سورة 2- 238، وتضمين تعابير مثل يوم القيامة في السورة 2-275 من مخطوط بن مسعود، وإضافة فقرة وهو أبٌ لهم في السورة 33-6 من مخطوطات ابن مسعود وأُبي ابن كعب وبن عباس وآخرين. إضافةً إلى العديد من الاختلافات الفعلية الأخرى التي سبق وأشرنا إليها. ومن جهة أخرى لدينا فروق واضحة في اللفظ واللهجة لم تكن واضحة تقريبًا كالاختلافات الأخرى في النص المكتوب. وهذه هي فقط تلك التي يمكن للأحرف السبعة أن تبررها إذا ما أخذناها بشكل عام كسبع قراءات مختلفة تتعلق فقط باختلاف اللهجات. ونحن نعرف أن عثمان كان قلقًا حول الحالتين، أي الاختلافات النصية الجديَّة واختلاف اللهجات. لذلك، وليزيل ما سبق ذكره، اختار بكل بساطة نص زيد فقدمه على النصوص الأخرى التي أمر بتدميرها. ونحن نعرف أن عثمان لم يكن مقتنعًا بأن نص زيد نفسه يعكس بشكل كاف لهجة قريش، لذلك أمر سعيد بن العاص وأثنين آخرين من قريش بأن يعدلوا نص زيد إذا اقتضت الضرورة لذلك. والأثر التالي لما قام به عثمان واضح للغاية، وهو: نقل النصوص (الصحف) إلى مخطوط واحد (مصحف وحيد)، وترتيب السور، و قصر اللهجة على (اللغة) العامية لقريش بحجة أن (القرآن) نزل بلسانها[5]. فقد كان عثمان لا يهتم فقط بوضع نص وحيد للقرآن واعتباره معيارًا إنما سعى أيضًا لكي يجعل من لهجة قريش الأداة المعيارية للتعبير في الوقت نفسه. وقد حقق الهدف الأول بحرق المخطوطات الأخرى، وحقق الهدف الثاني باستخدام ثلاثة رجال من قريش من أجل تعديل مخطوطة زيد مما أثَّر بعض الشيء على النص المكتوب (وأثر هذا كان سيبقى ضئيلاً أصلاً لو اقتصر بمعظمه على اختلاف في اللهجات كما هي الحال حين استخدم التشكيل الذي لم يكن مستخدمًا في النص المدوَّن في تلك المرحلة). كان يُعتقد بأن السبعة أحرف تتعلق فقط بالشأن الثاني أي بالاختلاف في اللهجات. والأحرف (القراءات)، المشار إليها، كانت تتعلق، بالتالي، بلغات (لهجات) القبائل العربية المختلفة. ولم يكن هناك في المدونات الأولى أي شيء يوحي بأن لتلك الأسانيد، التي نصت على أن القرآن قد ظهر في سبع قراءات مختلفة، أية علاقة بالعدد الكبير من الفروقات في القراءات المختلفة للنص الفعلي، والتي وجدت في مخطوطات زيد بن ثابت، وعبدالله بن مسعود وكتابات أخرى قبل أن يعتمد عثمان نصًا وحيدًا. لذلك لم تكن الأحرف السبعة هي الاهتمام الأول لعثمان، بمعنى اعتماد نص واحد مكتوب على حساب النصوص الأخرى. وفي الحقيقة لم تكن هناك حاجة لحرقها لو كانت الاختلافات هي فقط في اللهجات كما تقول لنا القراءات السبع المختلفة. لذلك نعتقد أن ديزاي ابتعد كثيرًا عن الهدف عندما حاول أن يفسر كل اختلافات النص التي كانت موجودة في المخطوطات الأولى على أنها جزء من القراءات السبعة الإلهية المجازة، وأنها ترتبط جميعها باختلاف اللهجات. كما وأخطأ مولانا عندما حاول أن يجعلها غطاء للفوارق النصية الحقيقية التي أشرنا إليها في هذا الكتاب وفي الكراسة التي حاول دحضها. من الممكن أن تكون تلك الحجة التي ساقها في دعواه، والقائلة بأن جميع تلك القراءات المختلفة في مختلف المخطوطات كانت مجازة إلهيًا كجزء من الأحرف السبعة، لصالحه إلى حد كبير. لكن، من أجل أن يصل إلى هكذا استنتاج كان عليه أن يطمس الفوارق بين هذين النوعين المختلفين من القراءة التي سبق وأشرنا إليهما – أي النصية، وما له علاقة باللهجات – مع أن القراءات السبع المختلفة تتعلق فقط بالثانية. لذلك من الواضح أن الفرضية القائلة بأن القرآن محفوظ بشكل كامل حتى آخر نقطة وآخر حرف لا يمكن أن تصمد بسبب الاختلافات الكثيرة في النص، والتي وجدت في المخطوطات الأولى. ولم يكن بوسع ديزاي أن يتجاوز هذه المعضلة إلا استنادًا إلى حديث واحد فقط: حديث محمد المتعلق بالأحرف السبعة، وتطبيقه على تلك الاختلافات رغم أنه واضح أن تلك المؤشرات تقتصر على اختلاف اللهجات فقط. 2. مرحلة "اختيار" القراءات قد رأينا أن هناك نوعين من الاختلافات للقراءات المختلفة في زمن التنقيح الذي قام به عثمان، وقد حاول الخليفة إزالتهما من النص المعتمد للقرآن. ومن المثير للفضول أن نلاحظ بأنه نجح في إقصاء النوع الأول بشكل كامل تقريبًا – بمعنى الاختلافات الجوهرية في نص القرآن نفسه والتي وجدت في العديد من المخطوطات –. لكنه لم ينجح في إزالة النوع الثاني، أعني اختلاف اللهجة واللفظ الذي كان منتشرًا بشكل واسع في أوساط المسلمين الأوائل، والذي استمر يُقرأ كجزء من النص القرآني. وكان هذا في الأغلب بسبب كون المخطوطات التي أرسلها عثمان إلى مختلف الأقاليم غير منقطة وخالية من العلامات الصوتية. وبالتالي، كانت تقدم نصًا ساكنًا للقرآن. فعلى خلاف أبجديتنا التي تحتوي على حروف صوتية وحروف صامتة، كانت الأبجدية العربية تحتوي فقط على حروف ساكنة. وفي الزمن الغابر كانت هذه الأبجدية متقتصرة فقط على سبعة عشر حرفًا. لذلك فإن حرفًا ساكنًا واحدًا يمكن أن يمثل واحدًا أو اثنين أو أكثر من الحروف. فقط في الأجيال التالية تمَّ إدخال الحركات التي فوق أو تحت الأحرف لتعطي الصورة المضبوطة للنص الملفوظ، والعلامات الصوتية المميزة التي أضيفت أيضًا فوق وتحت الأحرف الساكنة من أجل بلوغ النتيجة ذاتها. وهكذا بسبب اختلاف اللهجات التي كانت منعكسة أولاً بالحروف الصوتية في النص القرآني الذي اعتمدته المخطوطات الرسمية لعثمان، والمكتوبة بالصيغة الساكنة وحدها، لا يمكن أن تؤدى قراءة متماثلة للنص بلهجة قريش بمفردها. وهكذا نجد أنه بالرغم من تنقيحه للقراءات المختلفة للنص إلا أنها استمرت منتشرة بشكل واسع في أوساط المسلمين. لكنها كانت بشكل عام تقتصر على الاختلافات في اللهجة. خلال القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام كان هناك فترة اختيار، زمن (اختيار)، كان المسلمون فيه أحرارًا بتلاوة القرآن بأي لهجة يختارونها بناءً على نص الحديث الذي يبين أن محمد كان قد علَّم أن القرآن قد أُنزل بسبع طرق مختلفة يمكن أن يتلى بها. خلال تلك الفترة، وحتى عام 322 للهجرة (934 م)، اعتقد كل علماء القرآن بأن هذه الاختلافات في اللهجات هي الأحرف السبعة التي تحدَّث عنها محمد. وهكذا أصبحت "القراءات السبع" تقتصر على الاختلاف في اللهجة وفي اللفظ فقط، ولم تكن تعتبر قابلة لأن تطبق على الاختلافات الحقيقية التي ظهرت في الأيام الأولى من تطور النص القرآني، تلك التي ذكرنا الكثير منها في هذا الكتاب، والتي سعى عثمان إلى إزالتها من أجل اعتماد نص وحيد. من ناحية ثانية لدينا أدلة قاطعة تظهر أنه حتى بعد أن أتمَّ عثمان تنقيح القرآن، فإن نصه كان ما زال غير مكتمل، إضافةً إلى أنه كان بشكل عام مجرد إعادة إنتاج لما وضعه زيد بن ثابت. أثناء خلافة عبد الملك بن مروان، أي في القرن الأول من عمر الإسلام، قام والي العراق الحجاج بن يوسف بخطوات من أجل تصحيح نص عثمان. وقد قيل إن ذلك استوجب إجراء أحد عشر تغييرًا في النص القرآني الذي كان بالصيغة الساكنة. وهذه التغييرات انعكست جميعها على القرآن كما هو عليه اليوم. تحت عنوان: ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان يعدد بن داود هذه التعديلات الدقيقة التي تقدمها روايته كما يلي: أجرى الحجاج بن يوسف أحد عشر تعديلاً بالتمام والكمال في قراءة النص العثماني... في سورة البقرة (2-259) تقرأ بالأصل "لم يتسن" لكنها عُدِّلت إلى "لم يتسنَّه" ... في سورة المائدة (5-48) تقرأ "شريعةً ومنهاجًا" ولكنها عدِّلت إلى "شرعة ومنهاجًا"[6]. ويستمر الفصل بأكمله بتسمية كل واحدة من هذه الفوارق التي أجراها الحجاج. لذلك فإن القرآن كما نعرفه اليوم ليس هو نص عثمان فحسب بل أيضًا التنقيح الثانوي اللاحق له الذي أجراه والي العراق. ومن الجدير بالاهتمام أن نجد أن إحدى هذه التغييرات التي كان قد أشار إليها بن أبي داود، وكانت موجودة أصلاً في قراءة أُبيِّ بن كعب، هي في سورة يوسف 12- 45 التي كانت في الأصل "أنا آتيكم" ثم نقحت لتصبح "أنا أنبئكم". وقد أشرنا إلى أن القراءة الأولى، أي التي وردت أصلاً في نص عثمان، كانت أيضًا قراءة أُبيِّ ابن كعب والحسن[7]. كما أنه من المحتمل أن يكون زيد وأُبيٌّ قد اتفقوا على القراءة الأصلية لكنه كان من المسلَّم به بشكل عام من قبل الصحابة الآخرين، بعيد تنقيح عثمان، أن هذه كانت قراءة مختلفة وأن القراءة الصحيحة كانت تلك التي اعتمدها الحجاج بدلاً عنها. إضافةً إلى هذه التعديلات الأحدى عشر لنص القرآن هناك أدلة بأنه لا تزال توجد بعض قراءات مختلفة أخرى في الشكل الحالي المنسجم للقرآن. وكلها، ما عدا اثنتين منها، لها علاقة بحرف وحيد. لكننا في سورة التوبة 9-100 نجد أن كلمة "مِن" موجودة بين "تجري" و"تحتها"، أي "تجري من تحتها"، وفي سورة الواقعة 56-24 من المعروف أن الضمير "هو" أضيف ككلمة إضافية. وديزاي، في قراءته لبعض القراءات المختلفة للقرآن، يسلِّم في كراسته (ص 15) بأول إشارة مختلفة ويحدِّد أيضًا اختلافات أخرى تتعلق بالمواقع المختلفة للكلمة، وبالتشكيل النقطي، وبالتخفيف وبالتشديد. كما يعترف بحرية، من ناحية ثانية، بأن كل هذه الأمور تتعلق باختلافات معروفة كانت لا تزال يؤخذ بها بعد التنقيح الذي أجراه عثمان. ومع ذلك ليست هناك أية إشارة في كتيبه لأي من الاختلافات الجوهرية الموجودة في النص الحالي للقرآن والتي تشير إلى المخطوطات الأخرى التي تمَّ تدميرها. في هذا الكتاب، وفي كراستي التي تحمل عنوان براهين جمع القرآن التي تنطح ديزاي لتفنيدها، قدمتُ العديد من الأمثلة عن كل القراءات المختلفة التي تجاوزت كثيرًا مسألة اللهجات واللفظ. لكن القضية هنا ليست وحدة الصيغ المختلفة للقراءات إنما تتعلق بالمحتوى الفعلي للنص نفسه. فهناك تعابير كانت موجودة في بعض المخطوطات وأُسقطت في مخطوطات أخرى (مثل "يوم القيامة" في سورة البقرة 2-275). كما كانت هناك كلمات مفردة مماثلة اقتصر وجودها على بعض المخطوطات وغير موجودة في أخرى (مثل "متتابعات" في سورة المائدة 5-91). بينما هناك فقرات كاملة ظهرت فقط في بعض النصوص (مثل "وهو أب لهم" في سورة السجدة 32-6). وفي الحقيقة من الصعب أحيانًا أن نحدد أي من القراءات المختلفة هي تلك التي يسلِّم بها ديزاي في كراسته، فهو لا يضع إشارة مناسبة تتعلق بهذه الاختلافات الجوهرية التي يعزوها جميعها إلى الأحرف السبعة المتعلقة بالاختلاف اللفظي الذي أبقى عليه تنقيح عثمان. ومع ذلك، سجلت في كراستي السابقة عددًا كبيرًا من تلك الاختلافات النصية التي وُجدتْ في المخطوطات الأخرى قبل أن يتمَّ تدميرها، ولم يأخذ ديزاي أي منها على محمل الجد. وتسليمه بوجود قراءات مختلفة تفهم من خلفية غايته الواضحة التي هي الإجابة على كراستي، ما يفترض أنه يسلِّم بصحة وجود اختلافات نصية مبكرة. مع ذلك، وفي معرض رده، تعامل فقط مع الصنف الثاني من الاختلافات التي لها علاقة بالسبعة أحرف، وفسَّر الأخرى بما يناسبه. بعدئذ استخدم الصنف الثاني وحده كي يدعِّم حجته القائلة بأن جميع القراءات المختلفة للقرآن مجازة إلهيًا. وهو كان يدرك تمامًا، على ما يبدو، أنه ليس بوسعه التسليم بصحة الاختلافات النصية الجوهرية من دون أن يعترف، في نفس الوقت، بأن القرآن لم يكن محفوظًا تمامًا حتى آخر نقطة وآخر حرف. لذلك، بات من الملائم له طمس الاختلاف بين الاثنين والتسليم بشكل عام بالاختلافات في قراءات القرآن مبينًا فقط الاختلاف في التلاوة وفي اللهجات، من أجل أن تدعيم حجته القائلة بأن القرآن كان قد أُوحي به بسبعة أشكال مجازة إلهيًا. لا يمكن للمرء هنا إلا أن يشعر بأن مولانا العالِم، في حججه، مذنب لدرجة التحايل فيما يتعلق بالإفتاء الشرعي. في الختام دعونا نتأمل بعض الاختلافات التي سجلها أبو داود في كتاب الحروف والقراءات، ما يعني أنها جميعها تتعلق بفروق في اللهجات ولا تؤثر على التدوين الساكن للنص المكتوب، أي أنها تشكل بعضًا من النوع الثاني من القراءات المختلفة، وبالتالي يمكن اعتبارها جزءًا من الأحرف السبعة التي تحدَّث عنها محمد. وسنشير فقط إلى ثلاث من هذه القراءات التي سجلها الجامع كي نوضح الأمر: قال سحر بن حوشب: سألت أم سلمة: كيف قرأ رسول الله (ص) هذه الآية: (إنها أعمالٌ غير صالح) أجابت: قرأها:( إنها عملَ غيرَ صالح)[8]. قال بن مسعود: اعتاد النبي (ص) وأبو بكر وعمر وعثمان على قراءة "مالك يوم الدن". أول من قرأها "مالك يوم الدين" هو مروان[9]. قال شقيق: قرأ بن مسعود الآية: "هيتَ لك". عندئذ قال شقيق قرأناها: "هيتُ لك". قال بن مسعود: قرأتها كما تعلمتها إنها الأعز إليَّ[10]. ونجد أن الاختلاف في كل حالة هو فقط في تشكيل النص، وبالتالي ما كان لينعكس على النص الساكن الذي نسخه عثمان كصيغة لقرآن وضع من أجل المجتمع المسلم كله. وهذا يفسر لماذا بقيت، بعيد تنقيح عثمان، الكثير من هذه الاختلافات اللفظية بينما أزيلت الاختلافات النصية في حينه من التنقيح الفعلي للقرآن، مؤكدين على الزمن الذي تم فيه "الاختيار"، أي زمن "الاختيار الحر"، والذي تمَّ فيه تعريف السبعة الأحرف، أي القراءات السبعة للقرآن، بشكل أدق. ثم ننتهي بعد ذلك بتحليل مختصر للطبيعة الفعلية لتلك القراءات. 3. تعريف بن مجاهد النهائي للسبعة أحرف لم تكن هناك محاولة لتعريف فعلي للقراءات السبع حتى القرن الرابع للإسلام. وكما قيل سابقًا ليس هناك، في الأعمال الأولى للسيرة والحديث، ما يعطي أي إشارة بأن هذه القراءات كانت حقيقية لولا الرواية التي نسبت إلى محمد والقائلة بأنها جزء من القرآن الذي أوحى به الله. لهذا السبب، وفي القرن الرابع بعد وفاة محمد، كانت هذه القراءات السبع وتمييزها وتحديدها وتعريفها تتم بناءً على تقدير من سعى إلى ذلك. في بغداد عام 322 للهجرة، أخذت المرجعية المعروفة في القرآن، والممثلة بابن مجاهد، على عاتقها حلَّ هذه المسألة. وقد كان له نفوذ معتبر لدى بن عيسى وبن مقلة، اللذان كانا وزيران في الحكومة العباسية (ما يكافىء مجلس الوزراء في النظام المعاصر)، ومن خلالهما استطاع وضع تحديد رسمي للقراءات الجائزة للقرآن. وقد كتب كتابًا بعنوان القراءات السبع يستند على الحديث الذي بيَّن أن هناك سبعة أحرف إلهية مجازة للقرآن، وأقرَّ قانونية القراءات السبعة المتداولة معلنًا أن الأخريات شاذة ("معزولة" أي أنها غير قانونية). وقد سبق أن أشرت إلى القراءات السبع القانونية في هذا الكتاب، أعني بذلك تلك التي لِنافي (في المدينة)، ولابن كثير (في مكة)، ولابن عمير (في دمشق)، ولأبو عمر (في البصرة)، ولعاصم وحمزة والكسائي (في الكوفة). في كل حالة كان هناك بعض الناقلين المعترف بهم والذين قدَّموا التنقيح الخاص المتعلق بكل رواية. وكان لاثنتين منهم، أعني تلك التي لوارش (الذي نقَّح قراءة نافي) ولحفص (الذي نقَّح قراءة عاصم)، أن تهيمنا على الأخريات اللواتي سقطن عمومًا بالإهمال ولم يعدن مقروءات في معظم أنحاء العالم الإسلامي. وقد كان تصميم بن مجاهد هو تشريع سبع من القراءات فقط، ثم ترويجها على حساب الأخريات، مدعومًا من قبل القضاة العباسيين في أيامه. وبعد فترة وجيزة من قيامه بذلك أجبر عالم يدعى بن مقسم على التخلي جهارًا عن الرأي الواسع الانتشار والقائل بأن أية قراءة من المختصر الأساسي الساكن والمطابقة لقواعد اللغة العربية هي قراءة مقبولة. وهذا القرار شرَّع عمليًا القراءات السبعة التي اختارها بن مجاهد على اعتبار أنها القراءات الرسمية المقبولة فقط. ثم بعد فترة، ليست طويلة، أجبر عالم آخر هو بن شعنبوت، وبطريقة مشابهة، على التراجع عن الرأي الذي كان يسمح باستخدام قراءتي بن مسعود وأُبيٍّ بن كعب (والمقصود هنا فقط تلك الفروقات المتعلقة باختلاف اللهجات التي كانت تنسب إليهما وليس الاختلافات التي أزالها عثمان من تلاوة القرآن). ومع مرور القرون سقطت في الإهمال أيضًا معظم القراءات السبع القانونية وأصبحت فقط قراءتي نافي وحفص تستخدمان بشكل واسع، حيث بقيت رواية وارش (المأخوذة) عن قراءة نافي تستخدم لفترة طويلة في المغرب (وهو الجزء الغربي من أفريقيا الذي كان تحت الحكم الإسلامي، أي مراكش والجزائر... إلخ) بالدرجة الأولى، لأن هذه البلاد كانت مرتبطة جدًا بالمدرسة المالكية في التشريع. لكن رواية حفص نجحت في أن تصبح تدريجيًا الرواية الأشمل تداولاً تقريبًا في العالم الإسلامي، وخاصة منذ أن عمَّت طباعة القرآن. وفعليًا كانت كل الطباعات الحجرية للقرآن في القرنين الأخيرين قد أخذت بقراءة عاصم المنقولة عن حفص. وكل الطباعات المقروءة للقرآن، والتي هي بحوزة الملايين من المسلمين في العالم اليوم، هي انعكاس لقراءة حفص. ومع الوقت أصبحت هذه النسخة المعدَّلة هي القراءة الوحيدة المستخدمة في العالم الإسلامي برمته. لقد انتهت فترة الاختيار مع بن مجاهد، وما فعله بالنسبة للقراءة الملفوظة للقرآن يشبه ما فعله عثمان فيما يتعلق بالنص الساكن. فتمامًا مثلما اعتمد الأخير نصًا وحيدًا كمعيار للمجتمع المسلم بأكمله ودمَّر النسخ الأخرى، كذلك أسَّس بن مجاهد لسبع قراءات شرعية معدَّلة تمَّ اعتمادها وحرِّمت كل الأخريات التي كانت متداولة. ومثلما لا يمكن اعتبار النص الذي اختاره عثمان معيارًا لنسخة كاملة تطابق تمامًا الأصل القرآني كما سلِّم إلى محمد، لأنه لم يكن أكثر من نص بُني على نسخة رجل واحد فقط هو زيد بن ثابت، وبتصرف شخصي من الخليفة، كذلك لا يمكن القبول بالقراءات السبع التي شُرِّعت من قبل بن مجاهد كانعكاس دقيق للأحرف السبعة التي تحدَّث عنها محمد، أيضًا لأنها كانت بكل بساطة قراءات قراء متأخرين تم اختيارهم اعتباطيًا من قبل المنقِّح وفقًا لمزاجه الشخصي. 4. أفكار تتعلق بتوحيد النص القرآني لقد تعاملنا إذن مع سبع قراءات مختلفة كما تم التعامل معها خلال القرون الأولى من الإسلام. ومع ذلك فقد آن الأوان لأن ننظر إلى هذا الموضوع من منظور نقدي آخر، ونتساءل: هل بوسعنا أن نقبل إجمالاً بأنه يمكن الأخذ بكل القراءات المختلفة للقرآن، حتى وإن قبلنا أنها تتعلق فقط باختلاف في اللهجات وليس باختلافات نصية جوهرية، لمجرد إنها بكل بساطة مجازة إلهيًا على أساس رواية منسوبة إلى محمد وتقول بأن القرآن جاء، في الأصل، بسبع قراءات مختلفة – ونحن نعرف ما أصبحت عليه اليوم تلك القراءات؛ فبعد ثلاثة قرون من وفاة محمد اختار بن مجاهد وفق رأيه الخاص وبكل بساطة سبعة من القراءات العديدة المختلفة التي كانت سائدة على زمانه ليعلنها قراءات مجازة إلهيًا؟ لا يوجد عالم في النص القرآني يتحلى بالموضوعية بوسعه أن يقبل هكذا مقاربة اعتباطية أحادية الجانب وجازمة إلى هذا الحد. ومع ذلك، يمكن أن ننظر إلى فعل بن مجاهد كمحاولة طموحة لجعل القراءات المختلفة للقرآن في زمانه متناسبةً مع مفهوم القراءات الأصلية السبع. إن عمل المفسر من القرن الرابع هو نوع من لفت النظر البعيد عن المساءلة الحقيقية المتعلقة بالموضوع. فالسؤال الرئيسي هو: ما الذي، في الحقيقة، كانت عليه تلك القراءات السبع المختلفة في زمن محمد؟ وما المفروض أن تكونه أصلاً؟ لدينا عمليًا، وسلفًا، جواب يقول إنه: لا يجوز وليس بوسع أحد أن يجيب على هذا السؤال، فالأحاديث المدوَّنة الأولى عمومًا أشارت إلى أن هذه القراءات كانت مقتصرة على اختلاف في اللهجات ونادرًا ما كانت تؤثر على النص الساكن الحقيقي. من جهة لدينا حديث حول القراءات السبع المختلفة، ومن جهة أخرى لدينا عدد كبير من الأمثلة على القراءات المختلفة الفعلية التي لا يمكن أن تكون وثيقة الصلة بالحديث بأي من الطرق المعروفة. يدَّعي ديزاي أن عثمان تخلص من ست قراءات وأبقى على واحدة فقط على اعتبار أنها معيار النص الوحيد للقرآن. فبأية سلطة تم اختزال القرآن إلى صيغة واحدة من القراءات السبع المختلفة؟ هذا ما لا يجيبنا عليه ديزاي، إنما نراه يلتف حول الاستنتاج الواضح والقائل بأن ست من الصيغ الإلهية للقرآن قد فقدت بتلك الوسيلة وتمَّ التخلص منها. ويدَّعي ديزاي بأن القراءات المختلفة بقيت مع ذلك مصانة كل واحدة على حدة. يقول في كراسته: إن التصنيف المنفصل لكل صيغة تلاوة لم تُشمل رسميًا بمقياس رسم الخط كان بأمر حضرة عثمان (ر)[11]. وكالمعتاد ليس هناك توثيق واضح يدعم ذلك الإدعاء الذي يقدمه مولانا لقرائه. ومرة أخرى علينا القبول ببساطة بما يقول من دون أي تحقق. فهو لا يقول لنا شيئًا لا عن هذه القراءات المنتشرة ولا عن مرجعية ادعائه القائل بأن عثمان أمر بأن توضع سوية. فمثل هذا العمل من قبل خليفة المسلمين يمكن فقط أن يعتبر بعيد الاحتمال إجمالاً، على ضوء الحقيقة التي تقول بأن غايته كانت التخلص بالكامل من القراءات المختلفة التي وجدت من أجل الحفاظ على النص الفريد الذي اختاره. ومع ذلك، من وجهة نظر أخرى، تظهر إلى حد كبير هشاشة مجمل حجة مولانا؛ فإذا كانت القراءات الست الأخرى، حسب ما يدَّعي، محفوظة بدقة، فما هي هذه القراءات؟ وهل بوسع ديزاي أن يدوِّن لنا اليوم سبعة نصوص مختلفة وكاملة من القرآن؟ نصوص تُظهر جميع القراءات المختلفة التي وُجدت في زمن تنقيح عثمان والتي كان يقال عنها بأنها مُجازة إلهيًا، وتقديمها كما ينبغي بسبعة صيغ مختلفة؟ وحتى لو كان بوسعه ذلك، فإن السؤال يبقى: أية مرجعية يتوقع منا أن نعتمد لقبول صيغ قراءاته السبع المختلفة المقترحة للقرآن على اعتبار أنها كانت تمامًا ما تحدَّث عنه محمد؟ إن دراسة القراءات الأولى، وفي الحالتين: أي تلك المتعلقة باللهجات أو الأصلية، ستظهر لنا أن مثل هذه المهمة هي مهمة مستحيلة. فهذه القراءات يجب أن تأخذ أحيانًا من أحد الصحابة وأحيان أخرى من صحابي آخر، ومن حين لآخر من عدد من الصحابة مجتمعين. كما أنه ليس هناك ما يشير، حتى ولو تلميحًا، إلى تقسيم فعلي لكل هذه الاختلافات إلى سبع صيغ واضحة في المدونات الأولى. لذلك من المستحيل تمامًا تحديد ما يفترض أن تكون عليه تلك القراءات السبع المختلفة. وبالتالي، فإن الأحاديث المدوَّنة حول كون الأحرف السبعة حقيقية ليست ذات مغزى، ولا يمكن تطبيقها من دون درجة كبيرة من التكهنات والتخمينات الصرفة للقراءات المختلفة للقرآن التي حفظت عبر القرون. وهكذا، ليس للرقم "سبعة" بأية حال صلة بما نأخذه بعين الاعتبار على الإطلاق. وكل ما حصل هو أنه لدينا، إلى جانب النص الوحيد للقرآن ذي الصيغة الساكنة التي أصبحت معيارًا من قبل عثمان، عدد كبير من الفقرات التي قيل إنها فقدت، ومجموعة من القراءات المختلفة لنصوص معينة، تتضمن فروقات دقيقة في التنقيط. وهذه الأدلة تتناقض بقوة مع الرأي الشائع بأن القرآن حفظ تمامًا حتى آخر نقطة وآخر حرف، ولم يُفقد منه شيء، ولم يغيَّر أو يعدَّل. فالرواية الغامضة المتعلقة بالصيغ السبع الموحى بها للقرآن أصبحت غطاء مناسبًا يشمل كل القراءات التي يقال إنها وجدت، وإعطائها ترخيصًا إلهيًا. هذه هي كل فكرة كراس ديزاي – فكل اختلاف يمكن أن يواجهنا يمكن، باختصار، أن يعلن موحىً به إلهيًا وواحدًا من القراءات السبع، حتى وإن كان مولانا لا يحلم بأن يتمكن من أن يحدد بدقة ماهية هذه القراءات السبع، ولا لأية واحدة من تلك القراءات السبع تنتمي كل قراءة، أو على الأقل تقديم أي دليل يثبت مثل هذا التعريف، ولا أن يحدد على أية مرجعية بنى استنتاجاته. فالمنقول المتوارث حول السبعة أحرف أصبح ذريعة مرخصة لإدعاء الإجازة الإلهية لأي اختلاف يمكن أن يحصل – وهكذا حافظ مولانا على الشعور الشعبي، وعلى الفرضية التي تقول بأن لا شيء من القرآن فُقد أو بُدِّل إلا بقرار إلهي. كمثال جيد جدًا عن الإرباك الذي حصل لدى الأجيال اللاحقة حول القراءات السبع المختلفة والمفترضة، وعن العجز الكامل للعلماء المسلمين الأوائل عن تصنيف القراءات المختلفة التي كانت جميعها في المتناول بالصيغ السبع المعروفة، ما يوضحه الاقتباس التالي: قال أبو الخير بن الجزائري في أول كتاب نشره: "كل قراءة مطابقة مع العربية، حتى ولو كانت من بعيد فقط، ومطابقة لواحدة من مخطوطات عثمان، حتى وإن كانت محتملة فقط لكن مع سلسلة المراجع المقبولة، هي قراءة موثوقة لا يمكن التغاضي عنها، ولا يمكن إنكارها، بل هي تنتمي إلى السبعة أحرف (القراءات السبع) التي أنزل بها القرآن، وهي ملزمة للناس لكي يقبلوا بها، بصرف النظر عن كونها وردت من سبعة أئمة، أو عشرة. لكن، عندما لا يكون هناك ما يدعمها تمامًا من قبل هذه (الشروط) الثلاثة، فإنها تُرفض باعتبارها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء أوردها سبعة أئمة أو إمام واحد[12]. وهذا الكلام يبين كيف أنه من المستحيل تحديد القراءات السبع المختلفة في لغة تلاوة القرآن كما كانت تقرأ بالفعل في صيغها المختلفة في المجتمع المسلم، وكيف لم يمكن ممكنًا للاثنتين أن ترتبطا مع بعضهما بشكل مقبول وبأيَّة طريقة على الإطلاق. فأي قراءة جيدة كانت آليًا تعتبر واحدة من القراءات السبع المرخصة، ليس بسبب أنها استطاعت أن تثبت انتمائها إلى واحدة منها، بل لأنها أصبحت مقبولة لاعتبارات أخرى كإسنادها، وانسجامها مع النص العثماني الساكن الوحيد، ومطواعيتها للنحو العربي الصحيح. لقد كان لكتاب مسلمين آخرين من أمثال صدِّيق طريقة أسهل للالتفاف على المشكلة، فهم يصرِّحون ببساطة أن مثل هذه الاختلافات لم تؤثر أبدًا على نص القرآن المكتوب. وهم لا يأخذون بالحسبان الأدلة الواضحة على عكس ذلك في الخلاصات الشاملة للأدلة المتعلقة بجمع القرآن ككتاب الإتقان للسيوطي وكتاب المصاحف لابن أبي داود، وكلاهما أشار إليه بإيجاز صدِّيق في مقالته مؤكدًا موافقته الكاملة على ما جاء فيهما. هناك طعن آخر في جدل ديزاي يبرهن، إن نظرنا إليه بشكل أعمق، على وجود نقص في التحليل. فبراهينه بأن "المقياس الذي أخذ به عثمان من أجل التخلص من جميع النسخ الصحيحة المرخصة الأخرى للقرآن المجيد" (ص 32) يعني أن واحدة فقط من تلك القراءات أصبحت معيارية وتضمن الاتساق على حساب الست الأخرى، ما يتناقض بالفعل مع كل ما قام به عثمان، حيث يبدو أن مولانا أغفل حقيقة أن عثمان اختار فقط النص الساكن للقرآن كمقياس، واستبعد المخطوطات التي لا تحتوي على نقاط تمييز أو حركات، وبالكاد أثر على التغير الهجائي للنص الذي يقال إنه أنزل وفق الأحرف السبعة (كما جاء في الروايات الأولى المقتبسة التي وردت عن القراءات السبع في صحيح مسلم). وبالتالي، كانت هناك فترة اختيار عندما كان القرآن فيها يتلى بحرية في العديد من اللهجات المختلفة حتى اختار بن مجاهد اعتباطيًا سبعًا منها ليقدمها بأنها القراءات التي كان يتحدث بها محمد. لم يخطر ببال عثمان أبدًا، لأغراض الاتساق، أن يتخلص من ست قراءات مرخصة إلهيًا عندما شرع باختيار واحدة لكي تكون معيارًا كما يدعي مولانا، فقد اعتقد منذ البداية بأن ليس هناك أبدًا، ولا يجب أن يكون موجودًا، سوى نص واحد فريد للقرآن، ونظر إلى الأدلة التي تشير إلى أن القرآن كان مقسَّمًا، منذ البداية، بين كل أشكال القراءات المختلفة نظرة رعب، وخاف فيما لو استمر هذا التقسيم أن يُفقد النص الأصلي برمته. وهكذا اتخذ الخطوة المتطرفة بالأمر بتدمير كلِّ االنصوص ما عدا واحدة لكي يبطل القراءات المختلفة للقرآن ويجعلها غير شرعية، لأنه اعتبرها تمامًا بمثابة انحراف غير جائز عن النص الأصلي. يدَّعي ديزاي بشكل متواصل أن غاية عثمان كان تشريع واحدة من الصيغ السبع المختلفة للقراءات على حساب الأخريات. لكنه، كما سبق وقلنا، أضاع هذه الغاية. فما فعله عثمان لم تكن له علاقة بـالقراءات، فقد ركَّز في الحقيقة، وقبل كل شيء، على مصاحف كانت مقتصرة على النص الساكن للقرآن وحده. والعدد الكبير من الفروق في القراءات، والتي انعكست في تشكيل الحروف، نجت تمامًا من فعلته. فقد وضع عثمان معيارًا وحيدًا للنص الساكن للقرآن – الصيغة الأساسية –، وكان علماء الإسلام الأوائل يعتبرون دائمًا أن السبعة أحرف قد نجت من فعلته. لذلك، ولثلاثة قرون، كان القرآن يتلى رسميًا بكل أنواع اللهجات المختلفة. وفي الحقيقة فإن ما فعله بن مجاهد لاحقًا هو اعتماد سبع من هذه القراءات واعتبارها مقبولة رسميًا، ما جعلها تستمر في البقاء كجزء من تلك القراءات المرخصة. وهكذا كان ما ألغاه عثمان هو فقط نوع من القراءات المختلفة التي أثَّرت بالنص الفعلي المكتوب للقرآن وليس الصيغ العديدة للقراءات التي انعكست فقط في اختلاف تشكيل الحروف. ما يعني في النهاية أنه لا يمكن اعتبار الأحرف السبعة، وبأي شكل من الأشكال، ذات صلة بالعديد من القراءات المختلفة التي نزلت إلى جانب القرآن. ليس هناك شيء في المدونات، وحول هذه الاختلافات أو الصيغ المختلفة للهجات التي كانت موجود فعلاً، يمكن أن يرتبط بالصيغ السبع المقبولة للقراءة كما نصَّ عليها المنقول المتَّبع. لذلك لم يحاول كتَّاب من أمثال ديزاي فرض تطابق بين الاثنين فحسب إنما أعطوا كذلك الموافقة الإلهية لكل الاختلافات المعروفة الموجودة. ولكن، ليس هناك عالِم موضوعي في تاريخ نص القرآن يمكنه أن يجد علاقة مباشرة بين الاثنتين. لذلك يتوجب علينا في الفصل القادم أن نعطي انطباعاتنا الخاصة حول الأسباب الحقيقية للقراءات المختلفة وللفقرات المفقودة من القرآن. ترجمة: حربي محسن عبدالله *** *** *** [1] القرآن لا يرقى إليه الشك، ص 13. [2] صحيح البخاري، مجلد 6، ص 510. [3] صحيح مسلم، مجلد 2، ص 391. [4] المرجع السابق. [5] السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص 140. [6] ابن داود، كتاب المصاحف، ص 117. [7] Jeffery,Materials, p.138. [8] سنن أبو داود، مجلد 3، ص 1116. [9] سنن أبو داود، مجلد 3، ص 1119. [10] سنن أبو داود، مجلد 3، ص 1120. [11] ديزاي، القرآن لا يرقى إليه الشك، ص 36. [12] السيوطي، الإتقان في علوم القرآن, ص 176.
|
|
|