|
قيم خالدة
تسير الأكوان سيرها الحثيث من الانغلاق إلى الانطلاق مدفوعة بقوة الحياة الكامنة في كل ذرة من ذراتها. وقوة الحياة هذه، وإن تنوعت مظاهرها المحسوسة إلى ما لا نهاية له، هي هي في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان وزمان. نظامها واحد، وطريقها واحد، وهدفها واحد، وهي التي في اندفاعها إلى الانطلاق من السدود والحدود والقيود تُغيِّر ولا تتغيَّر، وتُجدد ولا تتجدد، وتجعل للأشياء بداية ونهاية ولا بداية لها ولا نهاية. وما دامت دون مستوى الوعي فهي الغريزة. ومتى بلغت الوعي فهي الفكر والخيال والإرادة. أما متى تجاوزت الوعي فهي الألوهة. والإنسان، كما أراه، ما يزال على الحدود ما بين الغريزة وبين الفكر والخيال والإرادة. فبعضه حيوان وبعضه إنسان. فهو حيوان على قدر ما يحيا بغريزته. وهو إنسان على قدر ما يحيا بفكره وخياله وإرادته. وسيبقى بعضه حيوانًا وبعضه إنسانًا إلى أن ينفذ بفكره وخياله إلى نظام الحياة الشامل وغايتها الموحدة، وإلى أن تكون له الإرادة الواعية الفاهمة يسير بها مع النظام لا ضده، وإلى الغاية لا إلى غيرها. ويسير بخطى لا تردد فيها ولا إلتواء. وإذ ذاك فهو الإنسان الإنسان، وفي مستطاعه أن يخلق من نفسه لنفسه ذلك العالم الذي ما برح يحلم به منذ أن عرف العذاب والشقاء والموت.
أود أن أناقش معكم مشكلة الحرية. إنها مشكلة معقدة للغاية، تحتاج إلى دراسة وفهم عميقين. إننا نسمع كلامًا كثيرًا يقال حول الحرية، الحرية الدينية وحرية فعل المرء ما يحلو له أن يفعل. لقد كتب البحاثة في هذا كله مجلدات ضخمة. لكني أظن أننا نستطيع مقاربة الموضوع مقاربة بسيطة جدًّا ومباشرة، ولعل ذلك سيوصلنا إلى الحل الحقيقي. أتساءل فيما إذا توقفتم يومًا لرصد الوهج الرائع في الغرب عند غروب الشمس، وهلال القمر الخجول يطل من فوق الأشجار؟ في تلك الساعة غالبًا ما يكون النهر هادئًا جدًّا، فينعكس عندئذ كل شيء على سطحه: الجسر، القطار الذي يسير فوقه، القمر الحنون، وكما هي الحال الآن، مع اشتداد الظلمة، النجوم أيضًا. هذا كله جميل للغاية. ولرصد شيء جميل ومشاهدته وإعطاء انتباهك كاملاً إليه، لا بدَّ لذهنك من أن يكون خاليًا من الانشغالات، أليس كذلك؟ يجب على الذهن ألا يكون مشغولاً بمشكلات أو هموم أو تخمينات. إذ فقط حين يكون الذهن هادئًا للغاية تستطيع أن ترصد حقًّا، لأن الذهن يكون عندئذ حساسًا للجمال الخارق. ولعل هاهنا دليلاً إلى مشكلتنا مع الحرية.
لأسبوع الماضي تلقّيت ورقةً أُؤمَر فيها بالحضور إلى مجلس البلدية ليتمّ تسجيلي في الحرس القومي بحسب القانون. وكما لاحظتم، ربما، لم أحضر. وهذه الرسالة غايتها تبليغ معاليكم، بصراحة ودون لفٍّ ودوران، بأنْ لا نيّة لي بالمثول أمام المجلس. أعلم جيدًا أنني أُعرِّض نفسي لمسؤولية ثقيلة، وأنكم تستطيعون معاقبتي، ولن تتوانوا عن استخدام حقّكم هذا. ولكنّ هذا لا يُخيفني؛ فالأسباب التي دفعتني إلى اتّخاذ هذا الخيار السلبي تشكّل، بالنسبة لي، ثِقلاً كبيرًا يعادل هذه المسؤولية. إنني - أنا غير المسيحي - أفهم، أفضل من معظم المسيحيين، الوصية التي هي عنوان هذه الرسالة، والتي فُطرت عليها طبيعة الإنسان وعقله. فعندما كنت طفلاً تمكّنت من تعلّم مهنة الجندي: فنّ القتل، لكنني أرفضها الآن! وبشكل خاص لا رغبة لي في القتل تبعًا للأوامر، وهو ما يُعدُّ قتلاً مناقضًا للضمير، ويخلو من أيّة دوافع شخصية، أو أيّة مسوّغات. فهل يمكنكم تسمية أيّ شيء مُذلّ للكائن الإنساني أكثر من جرائم قتل أو إعدامات من هذا القبيل؟ لا يمكنني أن أقتل أيّ حيوان، أو مشاهدة قتل أيّ حيوان، ولكي لا تُقتل الحيوانات صرتُ نباتيًا. في الوقت الراهن يمكنهم أن يأمروني بإطلاق النار على أناس لم يسيئوا إلي قط: إذ لا أعتقد بأنه يتمّ تدريب الجنود لكي يطلقوا النار على أوراق الأشجار وأغصانها. لكنكم قد تقولون لي إنّ الحرس القومي يجب عليه، وقبل أي شيء آخر، الحفاظ على الاستقرار الداخلي.
تعتبر ملاحم هوميروس أول وأعظم شعر في الحضارة الغربية. وقد نظر إليها غالبًا كشعر عن الحرب، لكن هناك جانب مهمل يتعلق بفهمها العميق للحرب، وهو على وجه التحديد ما أسماه وِلفرِد أون Wifred Owen "تعاسة الحرب" وما يفعله عنفها بالنساء والعائلة. في الواقع، إن ما وصفه هوميروس في القصيدتين هو طبيعة المجتمع الذي نحصل عليه إن كان نوع السلام الوحيد الذي نعرفه هو تلك الراحة المضطربة وسط خرائب صراع متقطع. وهذا سطر واحد من تلك القصة التي رواها الإله أﭙولو في نهاية كتاب الإلياذة، الكتاب 24 (الذي يسميه العلماء: النهاية)، السطر 54. [راجع النص الإغريقي: ص 257]
|
|
|