الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

ألف عام من التاريخ

تاريخ سورية (بلاد الشام)

من الفتح الإغريقي حتى الفتح العربي الإسلامي

(333 ق م – 635 م)

سمير عنحوري

الفصل الرابع

بلاد الشام – ولاية بيزنطية

(القرن الخامس والسادس الميلادي)

 

كانت بلادُ الشام على الدوام أرضًا مميَّزة بالنسبة للأديان. فالمسيحية قد وُلِدتْ فيها ومجيئها لم يخفف من شغف الخوض في المسائل اللاهوتية. لكنه قد يكون مجانبًا للصواب أن نرى مجردَ نزاعاتٍ عقائدية في الصراعات الدينية لذلك العصر، ذلك أنها كانت تُستخدَم في أغلب الأحيان كغطاء للمعارضة السياسية.

أصبحَ الإمبراطورُ يجمع في شخصه عظَمةَ روما واستبدادَ ملوك الشرق؛ ونادرًا ما وجدَت الشعوبُ الخاضعة لسلطته إمكانيةَ مقاومة مشيئته علنًا. حيث لم يكن بإمكانها مناهضة الحكومة باسم المصالح المادية، فإنها كانت تقاومها باسم المصالح الروحية. لم يقاوموا للمطالبة بالحريات السياسية بل للدفاع عن الإيمان.

كانت الحياة الروحية موضع خلاف. وكان من شأن هذه المسألة أن تثيرَ حماسَ السكان وتدفعَ بعض الأشخاص حتى الاستشهاد؛ كما كانت أيضًا سلاحًا سياسيًا مثاليًا يتيح مقاومةَ أية حكومة ترغب في فرض عقيدتها. كان التصدي لتأكيد الخصوصيات تحت غطاء الصراع الديني قد ميز تاريخَ بلاد الشام في القرنين الخامس والسادس الميلاديين.

منذ عهد ديوقليتيانوس Dioclétien كانت سورية تابعةً لـ"إدارة" diocèse الشرق، وكانت تضم تسعَ ولايات بحسب التسلسل التالي:

1.    في الشمال كان إقليم "أوسروين" Osroène يحتل انعطافَ مجرى الفرات؛ وكانت عاصمته الرها [أورفة].

2.    كان إقليم الفرات l'Euphratésie يمتد على شكل هلال على الضفة اليمنى للنهر حيث تستند إليها بداياتُ جبال سلاسل آسيا الصغرى المنتصبة هناك.

3.    في الوسط، كان وادي العاصي الأدنى يجتاز سورية الأولى وعاصمتها أنطاكية.

4.    كانت سورية الثانية تشكل استمرارًا لسابقتها في الجنوب-الشرقي وكانت أفاميا مدينتَها الرئيسية.

5.    بقي اسمُ فينيقية يُطلَق على الساحل والجبل.

6.    أُطلِقَ، بغرابة، اسمُ "فينيقية اللبنانية" على داخل البلاد التي تضم مدن الداخل: إميسّا [حمص] وهيليوبوليس [بعلبك] ودمشق، وتمتد عبر الصحراء إلى تدمر.

7.    في الجنوب، كانت فلسطين الأولى تحتل الأرضَ الواقعة بين الأردن والبحر المتوسط.

8.    كانت فلسطين ذات الطبيعة الجافة "la Palestine Salutaire" على الضفة اليسارية للنهر تحدها صحراء الجزيرة العربية.

9.    امتدت ولاية الجزيرة العربية من البحر الميت حتى البحر الأحمر. وكانت متاخمة في الغرب لمنطقة المضيق وتحاذي من الجنوب الخليج العربي على امتداد حوالي مئة فرسخ.

كان هناك قنصل أو رئيس يحكم كل ولاية أو "إدارة" éparchie باستثناء الجزيرة العربية فقد كان يحكمها "دوق" يقيم في البتراء.

بقيَتْ قوانينُ الإدارة على ما كانت عليه أيام حكم روما للإمبراطورية. مع ذلك، كانت مرحلةُ الفوضى التي ميزت القرنَ الثالث قد ولَّدت، كردِّ فعلٍ، حالةً من الاستبداد لم تفتأ تتزايد. كان مَلِك بيزنطة le Basileus حاكمًا مستبدًا. حيث تخلى آخرُ أسياد الإمبراطورية الرومانية حتى عن مظاهر المؤسسات الجمهورية، واستنسخوا أكثر فأكثر أسلوبَ الملوك الآسيويين. فكان لا بد للسياسة البيزنطية أن تتجه في هذا المنحى في حين كان الغرب يفلت من يديها.

طبقًا للتقاليد القادمة من آسيا، اكتسب الملوكُ صفةً دينية تشرِّعها المسحة المقدسة. كانت عبادة أُغسطس قديمًا في روما تمتزج بعبادة الوطن وكان ذلك الدين الرسمي يبدو ضروريًا لتأمين تماسك الولايات ووحدتها. لقد أخذ شخصُ الإمبراطورِ نفسُه صفةً مقدسة في بيزنطة منذ القرن الخامس. وقد استفاد ملك بيزنطة من هذا الجانب من مهامه لينصِّبَ نفسَه رئيسًا للكنيسة. "فالإمبراطورُ هو في الوقت نفسِه إمبراطورٌ impérator لاتيني ومستبدٌّ شرقي وملك بيزنطة الهيليني و"شبهُ رسول" isapostolos للكنيسة. كان يملك سلطةً معصومة عن الخطأ في أمور الدين والدنيا وكانت قواعد السلوك في البلاد تتطلب حتى فعل العبادة[1].

وهكذا لم تكن الإمبراطوريةُ تحت رحمة حاكم مطلق بالوراثة فحسب، بل كانت أيضًا ملكًا لحاكم يسعى نحو نظام قيصري-بابوي. (سبق أن شارك الإمبراطور قسطنطين في المجادلات العقائدية). وكانت مِثْلُ هكذا سلطة تعطي الإمبراطورَ حريةَ تصرفٍ كاملة للدفاع عن حدود إمبراطوريته، لكنها تؤدي إلى حكم مطلق استبدادي وإلى اضطهاد السكان الخاضعين إلى الابتزازات المالية. إنَّ الادعاء الديني للحاكم جعل منه مشرِّعًا دينيًا يحثُّه على فرض بنود الإيمان بالقوة.

قليلاً ما كانت تُخشى هكذا مفاسدُ للسلطة في أنظمة مَلَكية شرقية نظرًا للترهل في إدارتها، بعكس ما كان في الإمبراطورية البيزنطية التي ورثَتْ قوةَ التنظيم الذي ابتدعَتْه روما.

إنَّ فترة حكم ثيودوسيوس الثاني إمبراطور الشرق (408-450 م) ابن أركاديوس Arcadius وحفيد ثيودوسيوس الذي حكم اسميًا بينما كانت السلطة الفعلية بيد أخته ﭙولشيريا[2] Pulchérie لم تكن مستقرة. في آسيا، قام "الإيزوريون" [البيزنطيون] والعربُ المسلمون Sarrazins والفُرسُ بتخريب البلاد، بينما كان الملك أتيلا Attila يهدد الإمبراطورية في الغرب؛ رغم ذلك، كانت مكانةُ سورية الحيوية تتعزز أكثر فأكثر؛ كانت صناعة الحرير تزدهر ازدهارًا ملحوظًا في كل من صُوْر وبيريت [بيروت]. وكان التجار يجوبون العالمَ بأنفسهم ليبيعوا بضاعتهم ويؤسسوا مراكز تجارية في الغرب.

ذكرَ غريغوارُ التُّوري (حوالي 538-594)، وهو مؤرخُ وأسقفُ مدينة تُور Tours (في فرنسا) في كتاباته أن السوريين كانوا يشكلون في مدينة بوردو جاليةً حقيقية، وكذلك الأمرُ في مدينة أورليان.

كانت بلاد الشام تتميز بتطورها الفكري والفني. لم يؤدِّ استخدامُ اليونانية واللاتينية إلى زوال السريانية التي كانت اللغةَ الوطنيةَ التي يتكلمها الشعب أي لغةَ العامة؛ فتعبِّر عن صوت القلب وتُستخدَم في الحياة اليومية وفي ترتيل المدائح وتمجيد الرب. أما الأعمال الأدبية أو التعليمية فلم تكن تهمُّ سوى النخبة المثقفة في المدن والمتشبِّعة بالثقافة الهلنستية. كانت "بيريتُ" (بيروت) مركزَ هذا النشاط. وكانت جامعتها قد بلغتْ شهرةً أطبقت الآفاقَ، فكان الطلابُ يأتون إليها من كل أصقاع العالم القديم لدراسة الحقوق.

كان المعماريون السوريون، ودون أنْ يهملوا أساليبَ العصر الروماني، يتشبهون بالمعماريين الفُرس، إذِ استخدموا أنظمةَ القُبَب الجزئية voûtains (ربع القبة أو جزء منها) على صف قناطر، وكان هذا الشكلُ من البناء من أكثر الأشكال عمليةً لبناء قاعات مستطيلة أو ممرات وأروقة. كما استخدموا القبة لتغطية حجرة مربعة الشكل. ولكونهم لم يتجرؤوا على استخدام "مثلث القبة"le pendentif للانتقال من المربع إلى الدائرة، فقد لجأوا إلى نظام الخَرْجة encorbellement كتلك التي بقينا نصادفها في اللاذقية حتى بداية القرن العشرين.

كانت المباني السوريةُ، مع احتفاظها باستخدام الفسيفساء وتلبيس الرخام، تأخذ من فن العمارة نفسه ما هو أساسي لزخرفتها. كانت الزخارف الشريطية تمتد على طول الجدران، مؤطِّرةً الأبوابَ والنوافذ. وكان تقسيم الدعامة pilier إلى أعمدة مربعة ومزخرفة pilastres ذا تأثير جمال كبير. كانت الأبعادُ وانحناءاتُ الخطوط في النتوءات الزخرفية تتباين مع المقاطع المألوفة في بيزنطة: بقدر ما كانت هذه بسيطةً في كنيسة "آيا صوفيا" Sainte Sophie، بقدر ما كانت تُظهِر تعقيدًا بالغًا في القدس.

لقد وُظِّفَت العمارةُ لتخدمَ الدينَ بشكل خاص. فمرةً كانت الكنيسةُ تأخذ مخططَ المباني الرومانية مثل كنيسة بيت لحم وتارةً تأخذ شكلَ قاعة واسعة مثمَّنة الزوايا يكون الهيكل في وسطها كما هي الحال في كنيسة أنطاكية. ومهما بلغَتْ مهارةُ الفنانين، فإنهم لم يتمكنوا دائمًا من حل مشكلة القِباب.

لقد حقق بنّاؤو حوران فائدةً رائعة باستخدام بلاطات حجر البازلت، وكانوا في الشمال يجمعون بين الصقالاتِ والقناطرَ الصغيرة [أو التقويسات] من الحجر. كانت تعترضهم أحيانًا صعوبةٌ فيتركون ملتقى أجنحة الكنيسة مكشوفًا[3].

في العصر نفسه، نشأت عناصر المواضيع الرئيسية للفن المسيحي في سورية[4].

عرفَتِ المسيحيةُ شكلاً تعبيريًا مزدوجًا من الفن في القرنين الخامس والسادس. فبينما كانت المدنُ اليونانية تبدع أعمالاً متأثرة تمامًا بالهلنستية، كان هناك "طابعُ سموٍّ وعظَمة ونبرةُ حقيقة وواقعية" تسيطر على الأعمال المنفَّذة في القدس وسورية وبلاد ما بين النهرين.

في أفسس وأنطاكية، يعطي الفنانون للمسيح الأناقةَ والسحرَ اللذَينِ كانوا قد منحوهما لآلهة الجَمال "أبولو" Appollon ولرسول الآلهة "هرمس"[5] Hermès. في فلسطين، تراجعَتِ المثاليةُ أمام الواقعية؛ فلم يعد المسيحُ فتىً وسيمًا بل رجلاً ناضجًا في عقده الثلاثين. كان لهذا المفهومُ الذي يؤكد بشريةَ الكلمة أن يفرض نفسَه على العالم المسيحي أجمع. إنَّ هذا الوجهَ ذا القسَمات النبيلة الناعمة محاطًا بشَعرٍ كثيف ولحيةٍ سوداءَ يُذَكِّر بتلك الوجوه الجميلة للبدو السوريين. لم يعد الأمرُ متعلقًا بإنجاز عمل فني أنيق بل بالتعبير عن موضوع إيماني. يريد الفنان أنْ يعطيَ انطباعًا بالقوة والهيبة ويؤكدَ على عظَمة التجسد والفداء.

لا يتردد الفنان، كواقعيٍّ، في رسم الصليب الذي لم يتجرَّأ أحد على رسمه قبل القرن الرابع. ربما كانت هذه الجرأة هي الأهم في تاريخ الفن فيما لو فكَّرنا بالروائع التي ألهمها هذا الموضوع. مع ذلك، فقد رسموه في البدايات غنيًا بالزخارف وكان شكله فقط يذكّر بصفته كأداة تعذيب. ثم تخلَّوا تمامًا فيما بعدُ عن هذا التصوير الاصطلاحي ليقتربوا من الواقع. وسريعًا يضع الفنانُ اللِّصَّينِ على جانبَي المسيح. لكنَّ الاشمئزازَ الشديد الذي كان الشرقُ يُظهِره دومًا تجاه العري ظلَّ راسخًا، فكان المسيح المصلوب يظهر مرتديًا قميصًا طويلاً. فتجلى بذلك ميلٌ نحو التناظر الذي انتقل خلال قرون من جيل إلى جيل: العذراء تقابل القديس يوحنا وحَمّالةُ الرمح تقابلُ حمّالةَ الإسفنجة.

إذا كان المسيح يحتل مكانةً كبيرةً في الأيقونوغرافيا المسيحية، فإنَّ أمَّه تحتل مكانةً أكبر أيضًا، فقد ظهر في فلسطين نموذجُ العذراء ذات الحجاب الطويل الشبيه بالغطاء الذي ما زالت تلبسه النساءُ القروياتُ في سورية. لقد جعل الفنانُ من "خادمة الرب" ملِكةً يُذَكِّر جلالُها بالدور الفريد الذي لعبَتْه في الإنسانية. كان هذا المفهوم يحمل في داخله بذرةَ كل العذراوات الظافرات اللواتي رسمهنَّ ونحتهنَّ أجيالٌ من الفنانين.

كانت سوريةُ، إذنْ، مهدَ الفن الديني الغربي. ترتبط تقاليدُ القدس بتقاليد المدن اليونانية، لكنها تكاد تسيطر عليها دائمًا، فاجتازت هذه المشاهدُ نفسُها البحارَ، إذْ ما نزال نصادفها حتى يومنا هذا على مداخل الكاتدرائيات القديمة وواجهاتها الزجاجية في أوروبا.

لقد دَمَّرت الكوارثُ الطبيعية جزئيًا هذا الازدهارَ. فالزلازل كانت كثيرة؛ وتحملَتْ أنطاكيةُ نتائجَها في السنوات 447، 458، 494، 525، 528. وغالبًا ما كانت الحرائق تقضي على أحياء المدينة التي نجت من الزلزال. انهارت أرضًا المباني التي كانت تمثِّل عظَمة أفاميا، كما تهدمت أجزاءُ من معابد هيليوبوليس. ودُمِّرت "بيريتُ" سنة 555. (عندئذ افتُتِحت مدرسةٌ للحقوق في صيدا، ولم تقم مدرسةُ "بيريتَ" مجدَّدًا إلا في القرن التاسع عشر) ثم قامت أنطاكية من بين الأنقاض، إلا أن الأباطرةَ لم يفعلوا شيئًا للمدن الأخرى المدمَّرة.

إنَّ غيابَ اهتمام السلطة المركزية كان من شأنه أن يُضعِفَ ولاءَ السكان الذين يحملهم كلُّ شيء على كراهية اليونانيين. لقد سببت يقظةُ النزعة الخصوصية ردَّ فعلٍ ضد بيزنطة، تلك النزعة التي لم يفدْ إخفاؤها في تخفيف عمقها. ونظرًا لعجز النزعة الإثنية السورية عن المواجهة في مجال السياسة فقد استغلت النزاعاتِ الدينيةَ لتعبِّرَ عن معارضتها للحكومة.

في ذلك العصر، لم يكن مقبولاً وجودُ طريقتين للعبادة داخل الدولة الواحدة. فالذي كان يرفض العبادةَ الرسمية ليس مصيره جهنمَ فحسب، بل يُعتبَر أيضًا متمردًا على الإمبراطور. فمطالبةُ المرء بحقه في تفسير حتى بند واحد من العقيدة على هواه كانت تعني إذنْ شكلاً خفيًا من أشكال المعارضة للحكومة. من هنا جاءت أهمية النزاعات اللاهوتية التي كانت تثير السكانَ العاجزين عن فهم الأمور العقائدية الدقيقة والتي كانوا يدافعون عنها (المقصود هنا فقط ذِكْرُ الهرطقات المرتبطة مباشرة بالحياة السياسية في سورية).

في عهد ثيودوسيوس الثاني "النَّسَّاخ" le Calligraphe (مدونة ثيودوسيوس القانونية)، أدان مجمعُ خلقيدونية أوطيخوسَ[6] [أوطيخا] Eutychès بالهرطقة (451 م)، مما أدى إلى انتشار مذهب "المونوفيزية" le Monophysisme [مذهب الطبيعة الواحدة] مباشرةً في بلاد الشرق، وخاصة في المراكز الكبرى؛ فاكتسبَ تأييدَ الطبقاتِ الشعبية ونصَّب أتباعَه على السُّدَّات الأُسقفية. إنَّ هذه التطلعاتِ "النزعويةَ" الإثنيةَ، بالإضافة إلى الجاذبية الدينية للبدعة الجديدة، تفسر هذا الانشقاقَ الذي انتزع سوريةَ من الأُرثوذكسية الرومانية.

كان الأَرشيمندريتُ أوطيخوسُ (حوالي 378 - حوالي 454) يعيش في دير بين رهبانه في ضواحي القسطنطينية. (كان تأثيرُ الرهبان على الشعب كبيرًا، وكان عددُهم كبيرًا جدًا منذ نهاية القرن الرابع). كان أوطيخوسُ يتمتع بقداسة واسعة الشهرة في أوساط الشعب؛ وتبنى الأفكارَ التي طرحها ودافع عنها "كِرِلُّوسُ الإسكندراني" Cyrille d'Alexandrie في إفسس (431 م) حول طبيعتَي المسيح وبلغَ بها أقصى حد؛ فانبثقَتِ "المونوفيزيةُ" من أفكاره وتأملاته. لم يعترف في شخص المسيح سوى بطبيعة واحدة بدلاً من طبيعتين. فالعنصرُ البشري (الظاهر)، بحسب رأيه، يسيطر عليه العنصرُ الإلهي ويتغلغلُ فيه.

لم تكن هناك بعدُ أيةُ سلطة مَجمعية مسكونية قد فرضَتْ الصيغةَ الثنائية لطبيعة المسيح diphysite كشرط لصحة العقيدة[7].

بَيد أنَّ "أوسابيوسَ" [أوزيب] أُسقفَ مدينةِ "دوريليوم" [قرب مدينة أسكيشهر Eskisehir في تركيا] [Eusebius, bishop of Dorylaeum] Eusèbe de Dorylée قد اتَّهَمَ هذا الرجُلَ القديس بالهرطقة. لقد أَعلنَ المفوضُ الإمبراطوري الموكل من ثيودوسيوسَ الثاني في المَجْمع ضمن إطار التقليد الروماني قائلاً: "كلُّ من يرفض قانونَ الطبيعتين عقيدتُه غيرُ صحيحة." وأُدينَ أوطيخوسَ الذي كان مقتنعًا بالهرطقة.

لم يحمل هذا المذهبُ أيةَ بذرة للتجديد الأخلاقي ولم يكن يؤدي إلى أي شكل من أشكال التصوف. لم يكن سوى سجال بين اللاهوتيين ليس إلا. كانت هذه الصفة الفكرية البحتة كافية في الغرب لمنع انتشار الهرطقة. إذ لم يكونوا مهتمين هناك بالسجال حول وحدة الجوهر في الأقانيم[8] وتماثُلِه. لكنَّ الأمرَ لم يكن كذلك في الشرق. فالمسائل الدينية كانت دائمًا تستهوي السكان. كان لديهم اعتزاز أناني ومتعالٍ بالتفكير بشكل مختلف عن بقية العالم المسيحي وبالمجاهرة بعقيدة مختلفة عن عقيدة اليونان الذين كانوا يكرهونهم: فأصبحوا مونوفيزيين.

لم يكن لدى الشعب ولا لدى صغار رجال الدين المعرفةُ اللازمة التي تمكِّنهم من تذوُّق الأفكار الدقيقة التي كان يدافع عنها تعليم بارع، فكانوا ببساطة يحذون حذْوَ رؤسائهم. وكانت الأسقفيةُ والنخبة غير الدينية تجد في ذلك فرصة للتعبير عن استقلالها وإرادتها في الانفصال عن بيزنطة: وقد استغلوا تلك الفرصة.

شكلت القضيةُ الدينية قضية واحدة مع القضية السياسية. وقد أدركَت السلطةُ المركزية حجمَ الخطر. فكان الإمبراطورُ، إذنْ، بإمكانياته الدنيوية وليس البابا بعقوباته الروحية هو من تصدَّى للهراطقة.

استمر الصراعُ بين السوريين والاستبداد البيزنطي منذ منتصف القرن الخامس وحتى الفتح العربي. فكانت عبثًا محاولةُ السلطة الإمبراطورية لتحقيق وحدة العقيدة من أجل ضمان وحدة الدولة. كانت المنغِّصاتُ تتفاقم وكان الاجتياح الفارسي يدمر سورية. كان لدى السكان قناعةٌ مفادها أنه إذْ كانت بيزنطة قادرة على حث موظفيها على الابتزاز والظلم فإنها تبدو عاجزة عن الإدارة لما فيه خير البلاد.

أصبحت المعارَضةُ الدينية وخاصةً في سورية تشكل خطرًا حقيقيًا على الدولة. حاول الأباطرةُ إيجادَ علاج للشر؛ فلجأ بعضهم إلى العنف ضد الهراطقة، وأظهرَ البعضُ الآخر تعاطفًا أثار سُخْطَ البابوية. حتى إنَّ بعضَهم ابتكر عباراتٍ لاهوتيةً ملتبسة تهدف إلى خلق أرضية تفاهم مشتركة بين روما وأصحاب البدع الهراطقة.

منذ البداية، ساهمَ نفوذُ الرهبان وتأثيرُهم على الشعب في تطوُّر "المونوفيزية" وسبَّبَ بدايةَ الاضطرابات العامة. وتتابعت المجامعُ المسكونية دون أنْ تقدِّمَ حلاً للمشكلة. في إفسس (449 م)، تدنى وانحطَّ مستوى المجادلات حتى الشجار بالعصي. وفي خلقيدونية (451 م)، انتصر المذهبُ الروماني مُفاقِمًا بذلك الوضعَ السياسي للإمبراطورية.

كان "باسيليكوسُ" Basilique الذي استولى على السلطة سنة 476 م واحتفظ بها سنتين قد اعتمد على المونوفيزيين، وأمرَ بإحراق مراسيم مجمع خلقيدونية.

قام "زينونُ" إمبراطورُ الشرق الروماني (من 474 حتى 491 م) بإجراءاتٍ توفيقية؛ فأصدر مرسومًا بالوحدة مع المونوفيزيين l'Henoticon (482 م). كان يعرض النقاطَ المشتركة بين مختلف المذاهب بينما يلتزم الصمتَ حول الاختلافات المتعلقة بطبيعتَي المسيح. لم يكن هذا المرسوم يرضي أيَّ طرف؛ وسبَّبَ انشقاقًا مع روما دام حتى مجيء "جوستينيانوس" Justinien.

خلَفَ "أناستازيوسُ الأولُ" "زينونَ" (491 – 518 م)؛ فاتخذ سياسةَ "باسيليكوس" لصالح الهراطقة ونفى الأساقفةَ الأوفياء لقرارات مجمع خلقيدونية.

كان حُكْمُ "جوستينوس" (518 – 527 م) ثم تسلُّمُ "جوستينيانوس" للسلطة (527 – 565 م) بمثابة توجيه ضربة اعتُبِرَتْ في وقتها قاضية للهرطقة وتحقق النصرُ للبابوية؛ فأُعيد الأساقفةُ المنفيون وأُقيل الأساقفة المونوفيزيون وطُرِد الهراطقةُ من الوظائف العامة.

إلا أنَّ الإمبراطورةَ "ثيودورا" (527 – 548 م) زوجةَ "جوستينيانوس" أنقذَتْ، من خلال سياسة ذكية، هذه القضيةَ الخاسرة. لقد أدركَتْ مصلحةَ الإمبراطورية في ضم شعوب الشرق من خلال تشجيع المونوفيزية، بخلاف زوجها الذي قرَّر إحياءَ الإمبراطورية من الفرات إلى الأطلسي ومن الدانوب إلى الصحراء العربية وتحقيقَ الوحدة الدينية لولاياته بالاتحاد مع البابا. لم تكن "ثيودورا" تهتم كثيرًا بروما، إذْ كانت تريد أنْ تحشد قوى الإمبراطورية للدفاع عن الولايات الآسيوية مع متابعة السعي لإعادة السلام إلى سورية.

كان قيصر بيزنطة يناوئ بشدة هذا التوجه الذي كان يُحَوِّل الإمبراطوريةَ الرومانيةَ أكثر فأكثر إلى دولة شرقية، بينما كانت "ثيودورا" تجسد هذا التطور. كان القانون يستبعد الهراطقةَ عن القضاء والجيش ووصلَ به الأمرُ إلى رفض شهادتهم في القضاء.

لقد أثارت هذه الإجراءاتُ السكانَ إلى درجة أن أرمينيا الكبرى قد استسلمَت للفُرس، بينما كانت الإمبراطوريةُ تستنفد قواها في الصراع في الغرب: حرب في شمال أفريقيا (533 – 534 م) وحرب ضد "القوط الجرمانيين" Ostrogoths (535 م) وصراعات في إيطاليا (537 – 540 م) واجتياح "الهون" Huns (540 م)، بينما كان كسرى [خسروان] Chosroès يهدد حدودَ الشرق. في سنة 540 م، غزا سوريةَ ونهبَ أنطاكيةَ وأحرق حلب. ودُمِّرَتْ "خلقيدة" [خلكيدا] Chalcis (في اليونان) ولم تقم لها قائمة. في السنة التالية، عاث الجيشُ الفارسي خرابًا في منطقة جنوب البحر الميت، ثم توجه نحو الشمال حتى بلغ ضفافَ الفرات سنة 542 م. فكان على بيزنطة أنْ تدفعَ الجزيةَ مقابل السِّلْم، لتجنب كارثة مدمرة بالنسبة للإمبراطورية الرومانية إذا استسلم السوريون للفرس بدافع حقدهم على اليونان.

كان يجب، إذنْ، التصرف عن ضرورة قصوى. وبما أن المعارضة قد اختارت الميدانَ الديني للصراع، فإنه يجب أن تتم التنازلات في نفس الميدان. ففي سنة 543 م، حصلَتْ "ثيودورا" من الإمبراطور على إذنٍ بإحياء الكنيسة المونوفيزية في سورية.

كان يعقوب البرادعي Jacques Baradé رسولَ هذا الإصلاح. كان البرادعي، الذي يعود أصله إلى شمال سورية، يعيش في القسطنطينية. بعدما أصبح أُسقفًا للرَّها [أورفة]، توجه إلى ولايته التي وُلد فيها وباشر عمله هناك. لقد عانى "مونوفيزيو" سورية كثيرًا وكان هناك جماعاتٌ عديدة محرومةٌ من المناولة [تناول القربان المقدس] منذ عشر سنوات نظرًا لعدم وجود رهبان. انهمك يعقوب في تجديد الكنيسة السورية وسارع إلى تكريس رجال دين جدد. وكان هذا منشأ الكنيسة اليعقوبية.

لم يلبث النزاعُ الديني أنْ عاد بعدما هدأ قليلاً بفضل سياسة التهدئة، وازدادت حدة التيارات الانفصالية في سورية. إلا أنَّ لامبالاةَ السكان تجاه كل ما لا يلامس مباشرةً مصالحَهم المادية قد أخَّر هذا الانشقاقَ. كانوا يخضعون لبيزنطة، إلا أنهم كانوا يغتنون من التجارة، مما يجعل الحياةَ محتملة. غير أنَّ كارثةَ الاجتياح الفارسي قد أُضيفت هذه المرة إلى الأزمة الداخلية. فقد استولى الفرسُ على سورية في عهد هرقل Héraclius (إمبراطور بيزنطي 610 – 641 م) واحتلوا الرها وأفاميا وأنطاكية ولم يتوقفوا إلا عند البحر المتوسط (612 م). وسقطت دمشقُ والقدس في أيديهم، ثم عاد ملِك الفُرس إلى "المدائن" [تَيسِفون] Ctésiphon في بلاد آشور (جنوب شرق بغداد) حاملاً ذخائرَ الأرض المقدسة تباهيًا بانتصاراته.

قام البطريركُ "سرجيوسُ" بِحَثِّ الإمبراطور على التصرف. وصارع هِرَقْلَ بقوة ونقلَ الحربَ إلى بلاد فارس. أما الصليب المقدس الذي أُخِذَ من القدس سنة 614 م فقد أُعيد إليها ضمن احتفالات رسمية سنة 629 م. ثم أراد قيصرُ بيزنطة أن يتم عملَه من خلال إعادة تنظيم الإدارة وجعل اليونانية لغةً رسمية للإمبراطورية وتوطيد الوحدة الدينية.

نتيجةَ افتتانه بمحاولة "زينون"، أخذ يبحث عن صيغة لاهوتية من شأنها أنْ تُرضيَ جميعَ رعاياه. فلِكَيْ يكسبَ الأُرثوذكسَ أعلنَ أنَّ هناك طبيعتين في شخص المسيح، لكنه، ولإرضاء المونوفيزيين، أكد أنَّ هاتين الطبيعتين تفعلان تحت إرادة إلهية واحدة. وتَسمَّى هذا المذهبُ بـ (المونوثيلية) Monothélisme. لكنه رُفِضَ بعنف من قِبَل مؤيدي روما وأُدينَ سنة 681 م في مجمع القسطنطينية الثالث كما أُدينَ من قبل أتباع أوطيخوس. لكنَّ مرسومًا إمبراطوريًا [البيان]  l'Ekthésis جعل منه دينَ الدولة: فالمشكلة التي لم تجد حلاً أخذتْ تتفاقم.

أخذَت السيطرةُ البيزنطية تتجه نحو نهايتها. ونظرًا لكراهيتهم لليونان، قام السوريون بعد عدة سنوات بالترحيب بالعرب الذين انطلقوا لفتح العالم.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل
 

*** *** ***

 

horizontal rule

[1] Diehl، بيزنطة، العظَمة والانحطاط، الكتاب الثاني، الفصل الأول.

[2] (قديسة) إمبراطورة الشرق، وُلِدَتْ في القسطنطينية (399-453) ابنة أركاديوس، تزوَّجتْ من مرسيون Marcien وحكمَتْ معه.

[3] شوازي Choisy، العمارة لدى شعوب الشرق المسيحيين، المجلد الثاني.

[4] إميل مال Émile Mâle، الفن الديني في القرن الثاني عشر في فرنسا، الفصل الثاني.

[5] أحد آلهة الأولمـﭙوس، إله التجارة وحارس الطرق والمسافرين وقائد النفوس إلى النار ورسول الآلهة، يقابل عطارد Mercure عند الرومان.

[6] مذهبه هو المونوفيزيةُ le Monophysisme [مذهب الطبيعة الواحدة] أُدينَ بالهرطقة. تعترف به حاليًا ثلاث كنائس مستقلة: 1- الأرمنية، 2- اليعقوبية في سورية، 3- القبطية في مصر وإثيوبيا.

[7] دوشيسن Duchesne، المجلد الثالث، الفصل الحادي عشر

[8] لاهوت: وحدة وتماثُل الجوهر، كالأقانيم الثلاثة في الثالوث. (كانت الآريوسية تُنكِر هذه الوحدة، وبالتالي تنكر ألوهيةَ المسيح. أُدينَ مذهبُ آريوس في مجمع نيقية سنة 325 م).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود