english

جذور الغضب الإسلامي[1]

 

برنارد لويس

 

لاحظ توماس جيفرسون، في إحدى رسائله، أنه يجب قلب شعار "الحكومة المدنية" المتعلق بشؤون الدين ليصبح "منقسمون سنبقى، ومتحدون سنسقط". بهذه الملاحظة، حدد جيفرسون، في اختصار، فكرة، أصبحت تبدو اليوم وكأنها أمريكية بامتياز، ألا وهي: فكرة الفصل بين الكنيسة والدولة. لكن هذه الفكرة لم تكن جديدة تمامًا آنذاك، لأننا نجد مقدماتها في كتابات سپينوزا ولوكه والفلاسفة الأوروبيين لعصر التنوير، لكنها أول ما أخذت شكلها القانوني في الولايات المتحدة قبل أن تنتشر لتصبح واقعًا خلال القرنين الماضيين.

ونشير هنا أنه إذا كانت فكرة فصل الدين عن السياسة جديدة نسبيًا، لأنها تعود إلى ما يقارب الثلاثمائة عام، فإن فكرة التمييز بينهما تعود إلى بدايات المسيحية، فالكتابات المسيحية تحدثت عن "إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". ورغم أن الآراء قد اختلفت حول المعنى الدقيق لهذه العبارة إلاّ أنها، غالبًا، ما فُسِّرت كشرعنة لذلك الوضع الذي سمح لكلتا المؤسستين بالتواجد معًا، بحيث يكون لكل منهما قوانينه المختلفة وسلطاته، فتعنى الأولى بشؤون الدين ونسميها الكنيسة، بينما تعنى الثانية بشؤون السياسة ونسميها الدولة. ولأنهما اثنتان فإنه من الممكن دائمًا جمعهما أو تفريقهما، بمعنى اخضاع إحداهما للأخرى أو جعلها مستقلة عنها؛ كما يمكن أن تكونا على خلاف حول قضايا تتعلق بالتشريع وبالصلاحية.

لم يأت تحديد المسائل التي طرحتها العلاقة بين الدين والسياسة، وإمكانية حلِّها، من مبادىء وتجارب عالمية إنما أتى بالأحرى من المسيحية، لأنه هناك منقولات أخرى يتعاطى فيها الدين مع السياسة بشكل مختلف، ما يعني بالتالي أن طرح هذه المسائل وطرق حلها يمكن أن يختلف جذريًا عما هو عليه في الغرب. لكن معظم هذه المنقولات، ورغم كل ما تحمله من رقي وتطور، تبقى، أو لنقل بقيت، محصورة بمنطقة أو بثقافة أو بشعب معين. واحدة فقط كان لها تطلعاتها الكونية وحيويتها بحيث يمكن مقارنتها بالمسيحية، ألا وهي الإسلام.

والإسلام واحد من أعظم الديانات في العالم. وهنا أجد من الضروري، كأحد مؤرخي الإسلام من غير المسلمين، أن أوضح ما أعنيه بهذا الكلام، فالإسلام جلب السلام والأمان لعقول ملايين لا تحصى من الرجال والنساء، والإسلام أعطى الكرامة والمعنى لأناس كانت حياتهم رتيبة وفقيرة، وعلّم العيش بإخاء لأناسٍ من أعراق مختلفة، وعلّم أناسًا، من عقائد مختلفة، التعايش جنبًا إلى جنب وبتسامح نسبي؛ كما أنه ألهم حضارة عظيمة عاش فيها آخرون، إلى جانب المسلمين، حياة خلاقة ومثمرة. وقد كان لهذه الحضارة منجزاتها التي أغنت العالم. لكن الإسلام، كغيره من الديانات، عرف مراحل ألهم فيها مزاجًا من الكراهية والعنف لدى بعض أتباعه. ومن سوء حظنا اليوم أن قسمًا، هو ليس في أية حال الكلّ أو الأغلبية، من العالم الإسلامي يمر حاليًا في مثل هذه المرحلة حيث الكثير من، وإن أيضًا ليس كلُّ، هذا الحقد موجه ضدنا.

لكن دعونا لا نبالغ في تقدير أبعاد هذه المشكلة، حيث لا يوجد في العالم الإسلامي إجماع على رفض الغرب، كما لم تكن المناطق المسلمة من العالم الثالث من بين الأكثر انفعالاً وتشددًا في عدائها له. فما زالت هناك أعداد مهمة، وهي في بعض الأماكن أغلبية، من المسلمين الذين نتقاسم معهم بعض قيمنا الثقافية والأخلاقية، والمعتقدات والتطلعات؛ كما لا يزال هناك وجود غربي هام - ثقافي، اقتصادي، وديبلوماسي - في بعض البلدان المسلمة، التي ما زال بعضها حليفًا للغرب. وقطعًا لم يعرف الغرب، في أي مكان من العالم الإسلامي، مشاكل يمكن مقارنتها بتلك التي واجهها في جنوب شرق آسيا وأمريكا الوسطى. حيث لا يوجد في العالم الإسلامي دول مثل كوبا أو ڤيتنام، ولا أماكن تقاتل فيها القوات الأمريكية مباشرة أو من خلال "مستشارين"[1]. لكن هناك دول كليبيا وإيران ولبنان، وهناك تصاعد في الحقد والأسى الذي أصبح يقلق، إن لم نقل، يثر تساؤلات الأمريكيين.

فمن حين إلى آخر يتجاوز هذا الحقد العداء لبعض المصالح أو الأفعال أو السياسات أو حتى البلدان ليصبح رفضًا للحضارة الغربية بمجملها. وهو رفضٌ يتجاوز أفعالها ليصبح رفضًا لهذه الحضارة بحد ذاتها، ولما تحمله من مبادىْ وقيم تمارسها وتدعو لها. حيث ينظر إليها كشرّ بحدِّ ذاته، كما أصبح ينظر إلى الذين يدعون لها أو يقبلونها كـ"أعداء لله".

وقد تبدو مثل هذه العبارة، التي غالبًا ما يرددها القادة الإيرانيون في ممارساتهم القضائية وتصريحاتهم السياسية، غريبة جدًا بالنسبة لناظر خارجي معاصر، سواء كان هذا الناظر علمانيًا أو رجل دين. لأنه من الصعب قليلاً تقبل تلك الفكرة القائلة بأن للألوهة أعداء، وأنها بحاجة إلى مساعدة البشر لتحديدهم والتعامل معهم. لكن هذه الفكرة لم تأت من الفضاء، فالمفهوم القائل بوجود أعداء لله معروف في الأزمنة القديمة الكلاسيكية وما قبلها. ونجدهُ كذلك في كلا العهدين القديم والجديد، كما نجده في القرآن. كما أننا نجد فهمًا مميزًا لهذه القضية لدى الديانات المثنوية الإيرانية القديمة، حيث تتحدث الأساطير المتعلقة بنشأة الكون عن وجود قوتين علويتين وليس فقط قوة واحدة. فالشيطان، من المنظور الزرادشتي، ليس كالشيطان وفق المسيحية أو الإسلام أو اليهودية واحدًا من المخلوقات الإلهية التي كتب لها أن تحقق بعض المهام المجهولة؛ إنما هو قوة مستقلة بحد ذاتها، قوة عظمى للشر الذي يخوض معركته الكونية ضد الله. وقد أثر هذا الإيمان، من خلال المانوية وغيرها من الطرائق، على بعض النحل المسيحية والمسلمة واليهودية. كما اطلق اسم الديانة المانوية شبه المنسية اليوم على ذلك المنظور الصارخ والتبسيطي للمشاكل التي تصور الصراع في العالم كصراع بين القوى المطلقة للخير والقوى المطلقة للشر.

والقرآن توحيدي بلا شك، فهو لا يعترف إلاّ بإله واحد، وبقوة كونية واحدة. لكن هناك في قلوب البشر صراع بين الخير وبين الشرّ، بين تعاليم الله وبين المجرِّب. وهذا الصراع، بمشيئة الألوهة، هو مجرد تجربة للجنس البشري، وليس كما في الديانات المثنوية القديمة صراع يتوجب على الإنسان لعب دور حيوي فيه ليؤمن انتصار الخير على الشر. لكن، وعلى الرغم من توحيديته، تأثر الإسلام، مثله مثل المسيحية واليهودية، وخاصة في إيران؛ بهذا المفهوم المثنوي المتعلق بالصراع الكوني بين الخير والشر، النور والظلام، النظام والفوضى، الحقيقة والخطأ، الله وعدوه الذي أسميناه الشرير أو إبليس أو الشيطان أو العديد من الأسماء الأخرى.

صعود دار الكفر

ففي الإسلام، سرعان ما اتخذ الصراع بين الخير والشر أبعادًا سياسية وحتى عسكرية. ونتذكر أن محمدًا لم يكن نبيًا ومعلمًا فقط، مثله مثل مؤسسي باقي الديانات، إنما كان أيضًا قائدًا سياسيًا وقائد جماعة، كما أنه كان في نفس الوقت حاكمًا وجنديًا مقاتلاً. لهذا كان صراعه يتضمن الدولة وقواتها المسلحة. ما يعني إنه في الإسلام، إذا كان المقاتلون في حرب، وكانت هذه الحرب مقدسة و"في سبيل الله"، فإنهم يقاتلون من أجل الله، وأن خصومهم يقاتلون الله. وبما أن الله هو المَلِك من حيث المبدأ، وبالتالي هو أعلى سلطة في الدولة الإسلامية - فمن بعده يأتي النبي، ومن تلاه من الخلفاء - فإن الله كملك هو الذي يقود الجيش الذي هو جيشه، لمحاربة أعدائه الذين هم أعداء الله. وواجب جند الله هو أن يرسلوا أعداء الله إلى حيث ينالون العقاب، أي إلى ما وراء هذه الحياة.

ويرتبط تقسيم الجنس البشري، في الإسلام، بهذا المفهوم. لأنه، وبشكل طبيعي، توجد لدى معظم المجتمعات الإنسانية طريقة تميّز فيها نفسها عن الآخرين: من هم في الداخل ومن هم في الخارج، من هم داخل الجماعة ومن هم خارجها، من هم الجيران ومن هم الغرباء. وهذه التعاريف لا تساعد فقط على تحديد الدخيل، إنما أيضًا، وبشكل خاص، تساعد على تحديد نظرتنا لأنفسنا.

وفق المنظور الإسلامي التقليدي، الذي بدأ يعود إليه العديد من المسلمين، يقسَّم العالم والبشرية إلى اثنان: دار الإسلام، حيث يسود القانون الإسلامي ويسود الإيمان؛ والباقون الذين يُطلق عليهم اسم دار الكفر أو دار الحرب. ما يعني أنه يتوجب على المسلم هدايتهم وجلبهم إلى الإسلام. لكن القسم الأعظم من العالم ما زال غير مسلم، حتى في داخل الأراضي الإسلامية، وهذا، وفق منظور الإسلاميين المتشددين، قوض الإيمان وألغى القوانين الإسلامية. ما يعني أيضًا أن هذه الحرب المقدسة، التي ستبدأ في الداخل وستستمر ضد نفس الأعداء في الخارج، أصبحت واجبًا.

فكغيره، من الحضارات في التاريخ الإنساني، كان العالم الإسلامي خلال أيام مجده يعتبر نفسه مركزًا للحقيقة وللتنوير، محاطًا بالبرابرة والكفار الذين يتوجب عليه هدايتهم وتحضيرهم أصولاً. لكن كان هناك فرق جوهري بين مختلف أنواع البرابرة، فالبرابرة جنوبًا وشرقًا كانوا متعددي الآلهة وعبدة أوثان، وبالتالي لا يشكلون أي تهديد يذكر ولا أية منافسة للإسلام. أمّا شمالاً وغربًا، فعلى العكس، كان المسلمون، ومنذ الأيام الأولى، يقرّون بوجود خصم حقيقي - ديانة عالمية منافسة، وحضارة متميزة مستوحاة من هذه الديانة، وإمبرطورية وإن كانت أصغر بكثير من إمبرطوريتهم إلاّ أنها لم تكن تقل عنهم طموحًا في تطلعاتها ومتطلباتها. وهذه كانت الهوية المسيحية التي غالبًا ما كانت تتطابق مع أوروبا.

ويمكننا القول، حتى الآن، أن الصراع بين هاتين المنظومتين المتنافستين ما زال مستمرًا منذ أربعة عشر قرنًا. وهو صراع بدأ منذ ولادة الإسلام، في القرن السابع الميلادي، واستمر نظريًا حتى يومنا هذا. صراع كان عبارة عن مجموعات طويلة من الهجمات والهجمات المضادة، ومن الجهادات من جهة والحروب الصليبية من جهة أخرى، ومن الغزوات والغزوات المضادة. خلال الأعوام الألف الأولى (التي تلت ظهور الإسلام)، كان الإسلام يتقدم وكانت المسيحية المهددة تتراجع. فقد احتل الإيمان الجديد كلّ الأراضي المسيحية القديمة في المشرق وشمال أفريقيا، وغزا أوروبا؛ فحكم صقليا لبعض الوقت، كما حكم إسبانيا والبرتغال، وحتى أجزاء من فرنسا. كما تم استيعاب وردُّ المحاولة الصليبية لاستعادة الأراضي التي خسرتها المسيحية، لا بل أنه عوّض حتى الخسارة الإسلامية لجنوب أوروبا، بتقدم إسلامي في جنوب شرق أوروبا، حيث وصل المسلمون مرتين إلى مشارف ڤيينا. أمّا خلال الثلاثمائة سنة الماضية، وبعد فشل الحصار التركي الثاني لڤيينا في العام 1683، وصعود الإمبرطوريات الاستعمارية الأوروبية في آسيا وأفريقيا، تحول الإسلام إلى وضع دفاعي، حيث تمكنت الحضارة الأوروبية المسيحية وما بعد المسيحية من وضع العالم، بما فيه العالم الإسلامي، في فلكها.

ونحن نشهد، منذ فترة طويلة، تصعيدًا في التمرد على هذه الهيمنة الغربية، ورغبة في التأكيد على القيم وإعادة إحياء العظمة الإسلامية. فلقد عانى المسلم من الهزيمة خلال مراحل متعددة، وكانت أول هزائمه فقدان سيطرته العالمية أمام تعاظم قوة روسيا والغرب، وكان ثانيها تصدع قوته في بلده، بسبب انتشار الأفكار الأجنبية والقوانين وطرق الحياة، وحتى أحيانًا، الحكام الأجانب أو المستوطنين، وتحرر العناصر المحلية غير المسلمة؛ وكان ثالثها - تلك القشة التي قصمت ظهر البعير - تحدي سلطاته في عقر داره، من قبل النساء المتحررات والأبناء المتمردين. وكل هذا كان من الصعب احتماله. لذلك كان لا بدَّ من التعبير عن الغضب ضد أولئك الغرباء الكفار، ومواجهة تلك القوى غير المفهومة التي قوضت سلطته، وهزَّت مجتمعه، واغتصبت حرمة منزله. ما يعني أنه كان من الطبيعي أن يتوجه هذا الغضب، أولاً، ضد عدوه الألفي، وأن يستمد قوته من معتقداته القديمة وولاءاته. وهذا العدو، أليس هو أوروبا وبناتها؟ لأن هذا التعبير قد يبدو غريبًا للأمريكان، الذين انبثقت مفاهيمهم الوطنية، منذ بدايات أمتهم وحتى قبل ذلك، من خلال المواجهة مع أوروبا، وكشيء جديد ومختلف جذريًا عن الطرائق الأوروبية القديمة. لكن هذا لم يكن المنظار الذي رآها به الآخرون، ليس غالبًا في أوروبا، وبصعوبة في أماكن أخرى.

هكذا إذًا، ورغم أن شعوبًا وثقافات أخرى ساهمت، بشكل غير مباشر، في اكتشاف وبناء الأمريكيتين، إلاّ أن هذا المشروع بقي في نظر باقي العالم، خليقة أوروبية. مشروع ساد فيه الأوروبيون وسيطروا فيه على سواهم، فأعطوه لغاتهم ودياناتهم وطرق حياتهم.

فلقد بقيت الهجرة الاختيارية إلى أمريكا، ولفترة طويلة، أوروبية حصرًا. ورغم أنه كان هناك فعلاً بعض ممن جاء من البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلاّ أن القليل منهم كان مسلمًا، فغالبيتهم كانت من الأقليات المسيحية واليهودية في هذه البلدان. ما يعني أن ذهابهم إلى أمريكا وتواجدهم فيها قد قوّى، ولم يضعف، الصورة الأوروبية لهذا البلد في أعين المسلمين.

كما لم تعرف الأراضي الإسلامية إلاّ القليل عن أمريكا. ونلاحظ أنه، في البداية، أثارت رحلات الاستكشاف بعض الاهتمام. فنجد في اسطنبول النسخة الوحيدة المتبقية لخريطة كولومبوس للقارة الأمريكية وقد ترجمت إلى التركية، وهي ما زالت محفوظة في متحف قصر توباكي هناك. كما قام جغرافي تركي، في القرن السادس عشر، بكتابة تقرير عن اكتشاف العالم الجديد بعنوان تاريخ الهند الغربية، فكان واحدًا من أوائل الكتب التي كتبت في تركيا. بعد ذلك، يبدو أن هذا الاهتمام قد تلاشى، ولم يجري الحديث كثيرًا عن أمريكا، بالتركية، والعربية، وباقي اللغات الإسلامية، حتى فترة متأخرة. حيث كتب سفيرٌ للمغرب في إسبانيا تقريرًا عن الثورة الأمريكية. بعد ذلك، وفي العام 1787، وقِّع سلطان المغرب معاهدة صداقة وتعاون مع الولايات المتحدة، بعدها كان هنالك بين هذه الجمهورية الفتية، وبين بلدان إسلامية أخرى، العديد من التعامل التجاري الذي كان بعضه ودّيًا وبعضه الآخر عدوانيًا. لكن لم يكن لهذا إلا وقع قليل على كلا الجانبين، فلقد بقيتا الثورة الأمريكية والجمهورية الأمريكية غير ملحوظتان وغير معروفتان لفترة طويلة. وحتى الوجود الأمريكي الصغير والمتنامي في الأراضي الإسلامية في القرن التاسع عشر من خلال التجار والقناصل والمبشرين والمعلمين، لم يثر إلاّ القليل من الاهتمام، وبقي شبه مُغيب في أدبيات وصحف تلك الأيام.

ثم كانت الحرب العالمية الثانية، وصناعة النفط، وتطورات ما بعد الحرب التي جلبت العديد من الأمريكان إلى الأراضي الإسلامية، كما جلبت أعداد متزايدة من المسلمين إلى أمريكا، كطلاب في البداية، ثم كأساتذة، ورجال أعمال، وزوار، وحتى كمهاجرين. كذلك، وضعت السينما، ومن ثم التلفزيون، طريقة الحياة الأمريكية، أو لنقل بعضًا منها، أمام أعين الملايين الغفيرة من الناس الذين لم يكن اسم أمريكا يعني لهم شيئًا أو كان مجهولاً بالنسبة لهم. وأيضًا، مباشرة بعد الحرب، وفي وقت كانت فيه المنافسة الأوروبية شبه معدومة، والمنافسة اليابانية لم تظهر بعد، غزا أسواق العالم الإسلامي طيف واسع من المنتجات الأمريكية، فاكتسبت زبائن جدد، وولدت، ربما، أذواق جديدة وطموحات جديدة. فبالنسبة للبعض كانت أمريكا تمثل الحرية والعدالة والفرص المتاحة. وبالنسبة للبعض الأكثر كانت تمثل الثراء والسلطة والنجاح. هذا في وقت لم يكن ينظر إلى هذه الأمور كخطايا أو كجرائم.

ثم كان التحول الكبير، عندما استنتج وحدد زعماء طيف واسع وعميق من دعاة الصحوة أعداءهم كأعداء لله، فأعطوهم "أسماء وحددوا لهم أماكن سكن" في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وهكذا فجأة، على ما يبدو، أصبحت أمريكا هي العدو الأكبر، وتجسيد الشر، والمنافس الشيطاني لكل ما هو خيّر، وتحديدًا بالنسبة للمسلم وللإسلام، فلماذا؟

بعض الاتهامات المعروفة

ونلاحظ أنه، من بين مكونات المزاج المعادي للغرب عامةً ولأمريكا خاصةً، هناك بعض المؤثرات الفكرية القادمة من أوروبا. فإحداها مثلاً أتى من ألمانيا، حيث شكلت النظرة السلبية لأمريكا جزءًا من مدرسة فكرية لم تكن لها أية علاقة بالنازية، إنما ضمت العديد من الكتاب المتنوعين كرينر ماريا ريلكه، وإرنست يونغ، ومارتن هايدغر. من هذا المنظور كانت أمريكا هي المثال الأكثر وضوحًا لحضارة بلا ثقافة: حضارة غنية ومريحة، متقدمة ماديًا لكنها بلا روح وسطحية، مجمَّعة، أو في أحسن الأحوال مبنية، لكنها لم تتكون نتيجة تطور؛ معقدة تقنيًا لكنها تفتقد إلى تلك الروحانية والحيوية التي طبعت الثقافات القومية المتجذرة والإنسانية للألمان وغيرهم من الشعوب "الحقيقية". ونسجل أن الفلسفة الألمانية، كانت تمتع بشعبية كبيرة بين المثقفين العرب والمسلمين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وأن هذه الثقافة كانت معادية للأمركة، وهذا كان بعضًا من الرسالة.

بعد انهيار الرايخ الثالث، والانتهاء المؤقت للنفوذ الألماني، حل مكان هذه الفلسفة فلسفة أخرى أكثر عداءً لأمريكا - ألا وهي النسخة السوفييتية من الماركسية. تلك التي كانت تندد بالرأسمالية الغربية وبأمريكا التي تجسد نموذحها الأخطر والأكثر تقدمًا. وعندما بدء النفوذ السوفييتي بالذبول، سرعان ما حلّ محله، أو لنقل كمّلته - مسطيقا الجديدة للعالم ثالث، نبعت من غرب أوروبا، وخاصةً من فرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، واستندت أحيانًا على هاتين الفلسفتين اللاتي سبقنها[2]. وقد استندت هذه المسطيقا، خاصةً، على ذلك الميل الكوني والإنساني لاختراع عصر ذهبي أفترض أنه كان موجودًا فيما مضى، وحدده الميل الأوروبي في مكان آخر. فكانت هذه النسخة الجديدة من الأسطورة المتعلقة بعصر ذهبي أُرجع إلى العالم الثالث، حيث دمرت الإفعى الغربية براءة آدم وحواء اللذين لم يكونا غربيين. وقد انطلقت هذه النظرة، مما اعتبرته بديهية، من طيبة ونقاء الشرق مقابل شرانية الغرب، فوسعت هذا المفهوم بشكل تفاضلي ليشمل غرب أوروبا والولايات المتحدة. فوقعت هذه الأفكار على أرض خصبة. ولاقت رواجًا واسعًا.

لكنه، وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد ساعدت على إيجاد تعبير فكري للعداء للغرب ولأمريكا، إلاّ أنها لم تتسبب به. وهي قطعًا لا تفسر هذا العداء الواسع الذي جعل الكثيرين، في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، يتقبلون مثل تلك الأفكار.

لأنه يجب أن يكون واضحًا أن ما جذب التأييد لمثل هذه العقائد لم يكن عنصرية النظرية النازية، التي كان لها القليل من الجاذبية عند العرب، ولا الإلحاد الشيوعي السوفياتي الذي لم يكن جذابًا بالنسبة للمسلمين؛ إنما أرضيتهما المشتركة المعادية للغرب. فقد كانت النازية والشيوعية آنذاك هي القوى الأساسية المعارضة للغرب، سواء كطريقة حياة أو كقوة عالمية. ومن هذا المنطلق كان من الممكن أن تحوزا على تعاطف، إن لم نقل أن تلقيا تأييد، أولئك الذين كانوا يرون في الغرب عدوهم الرئيسي.

لكن لماذا كان لهذا العداء المقام الأول؟ لأننا، إن انتقلنا مما هو عام إلى ما هو أكثر تحديدًا، فإننا لا نجد نقصًا في السياسات والأفعال الفردية التي تابعتها وقامت بها بعض الحكومات الغربية وأثارت غضب أبناء الشرق الأوسط وغيرها من الشعوب الإسلامية. لكنه غالبًا، عندما كان يتم التخلي عن هذه السياسات أو كان يتم حل هذه المشاكل، فإن المقابل كان مجرد تخفيف محلي ومؤقت للغضب. فالفرنسيون خرجوا من الجزائر، والإنكليز تركوا مصر، وشركات النفط الغربية تخلت عن امتيازاتها النفطية، والشاه الموالي للغرب ترك إيران - ورغم هذا، نمى وترعرع، ولم يخف، الحقد الأصولي المعادي للغرب.

والسبب، الذي غالبًا ما يذكر اليوم لتبرير مشاعر العداء لأميركا بين المسلمين، هو مساندة هذه الأخيرة لإسرائيل. ونحن نعترف بأن هذه المساندة تشكل عاملاً هامًا يزداد بمقدار القرب من هذه القضية أو التورط فيها. لكننا نجد هنا أيضًا بعض التناقضات التي يصعب شرحها بشكل بسيط وواضح. ففي الأيام الأولى لتأسيس إسرائيل، وحين كانت الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها ببعض المسافة عن هذه الدولة، كان الاتحاد السوفياتي يضمن لها اعترافًا قانونيًا مباشرًا، ويساندها، ويمدها بالسلاح عن طريق تشيكوسلوفاكيا التي كانت إحدى الدول الدائرة في فلكه؛ ما أنقذ الدولة الفتية خلال الأسابيع الأولى من حياتها، من الموت ومن الهزيمة. ورغم هذا لم تولِّد هذه السياسات الكثير من الضغينة تجاه السوفييت، كما لم تولِّد في المقابل بعضًا من حسن النية تجاه الولايات المتحدة. وفي العام 1956، ورغم أن تدخل الولايات المتحدة هو الذي ألزم بشكل حازم وبالقوة إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على سحب قواتها من مصر، نجد أن قادة مصر وسورية والعراق توجهوا إلى الاتحاد السوفييتي لتأمين تسليح دولهم، كما أقاموا علاقات تضامن مع المعسكر السوفييتي في الأمم المتحدة وفي العالم بشكل عام. وفي الآونة الأخيرة، بعد أن أظهر قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكثر الأشكال المبديئة التي لا تقبل المساومة في استنكار إسرائيل والصهيونية، فإن قادة هذه الدولة، سواء قبل أو بعد وفاة الإمام آية الله روح الله خميني، وجدوا أنه من الأسهل بالنسبة لهم أن يتكلموا مع القدس من أن يتكلموا مع واشنطن. ذلك في الوقت الذي كان فيه الرهائن الغربيون في لبنان، ومعظمهم ممن كان مؤيدًا للقضية العربية، لا بل معتنقًا الإسلام، يعاملون وينظر إليهم من قبل خاطفيهم كأتباع للشيطان الأكبر.

وأيضًا، هناك حجة أخرى يرددها المنشقون الإسلاميون لتبرير مشاعرهم المعادية لأمريكا، ألا وهي مساندتها لأنظمة مكروهة. أنظمة كان ينظر إليها كرجعية من قبل الراديكاليين، وككافرة من قبل المحافظين، وكفاسدة وطاغوتية من قبل الطرفين. ولهذه الحجة بعض المنطق الذي بوسعه أن يفسر أسباب تحول قوى ذات توجه داخلي، وغير قومي على الأغلب، إلى موقف معاد لقوة خارجية. لكن هذه الأسباب لا تكفي لفهم ما كان يجري، عندما كان يخف، سواء من حيث المدى أو من حيث الفعالية، دعم هكذا أنظمة - الأمر الذي اكتشفه الشاه في حينه.

لأنه من الواضح، أن هناك شيئًا أعمق من تلك المظالم مهما كثرت وأيًا كانت أهميتها. شيء أعمق يحوِّل كل خلاف إلى مشكلة غير قابلة للحل.

ونلاحظ أن رفض أمريكا، والغرب بشكل عام، لا ينحصر بالعالم الإسلامي؛ كما لم يعبِّر المسلمون، إن استثنينا منهم مشايخ إيران وأتباعهم في كل مكان، عن أقصى أشكال هذا الشعور. فقد انتشر مزاج الخيبة والعداء هذا في أماكن أخرى من العالم، لا بل أصاب بعض الناس في الولايات المتحدة. ونلاحظ أنه من وسط هؤلاء الذين، على الرغم من ادعاءاتهم بأنهم ينطقون باسم المضطهدين في العالم الثالث، ولم يكونوا يعبرون إلاّ عن أنفسهم؛ جاءت أكثر التفسيرات والتبريرات المعادية انتشارًا.

وهذه الاتهامات معروفة جدًا. فنحن في الغرب متهمون بالتحيز ضد المرأة، وبالعنصرية، وبالإمبريالية، وبالتمأسس في الأبوة، وبالعبودية، وبالطغيان، وبالاستغلال. وفي مواجهة هذه الاتهامات، وغيرها من تلك التي تفوقها حقدًا، لا خيار أمامنا سوى الاعتراف بالذنب - ليس كأمريكيين، ولا حتى كغربيين، إنما بكل بساطة كبشر، كأبناء لهذا الجنس البشري الذي ننتمي إليه جميعًا. ونحن لسنا، في أية من تلك الخطايا، الوحيدين الذين أخطأوا، لا بل أننا بالنسبة لبعض منها، لم نكن الأسوأ. صحيح أن معاملة النساء في العالم الغربي، وبشكل عام في المسيحية، كانت تتسم غالبًا بعدم المساواة وبالقمع، لكنها في أسوأ حالاتها كانت أفضل بما لا يقاس من حكم تعدد الزوجات وامتلاك المحظيات الذي كان منتشرًا في كل مكان على كوكبنا.

هل العنصرية هي الانتقاد الرئيسي يا ترى؟ لأننا غالبًا ما نجد هذه العبارة في الدعايات الموجهة للجمهور في الغرب، وفي أوروبا الشرقية، وفي قسم من العالم الثالث. ولكننا نجدها أقل فيما يكتب وينشر للاستهلاك المحلي عندنا، حيث أصبحت تعبيرًا عامًا وبلا معنى للدلالة على الاستغلال - كـ"الفاشية"، التي أصبح يستعملها المتحدثون بلسان الحزب الواحد، أو الديكتاتوريات القومية ذات التنوعات المختلفة والقمصان الملونة.

لقد أصبحت العبودية مستنكرة اليوم في كل أنحاء العالم كجريمة ضد الإنسانية. لكن على ما أذكر، كانت العبودية ما زالت تمارس حتى وقت قريب، وكان يدافع عنها كمؤسسة ضرورية، وضعها ونظمها قانون إلهي. وخاصية هذه المؤسسة، كما وصفها ذات يوم الأمريكيون، لا تتمثل بوجودها إنما بإلغائها. وقد كان الغربيون هم أول من كسر العرف وجعل العبودية خارجة عن القانون، في بلدانهم أولاً، ثم في بلدان أخرى تحكَّموا بها، ثم في جميع أنحاء العالم حيث كان بوسعهم ممارسة تأثيرهم بوسائل إمبريالية.

هل الإمبريالية هي الانتقاد إذًا؟ فقد كانت بعض القوى الغربية، كما كانت الحضارة الغربية بمجملها، متهمة فعلاً بالإمبريالية. لكن هل نعتقد حقًا أن الفتوحات الأوروبية الغربية كانت تتميز بانحطاط أخلاقي افتقدته فتوحات سابقة كانت أكثر منها براءة، كفتوحات العرب، أو المغول، أو العثمانيين، أو تلك الأحدث منها التي جلبت حكام موسكو إلى البلطيق، والبحر الأسود، وبحر الكاسبيان، والهندو كوش والمحيط الهادي؟ لأن الغرب، حين كان يمارس التمييز ضد النساء، والعنصرية، والإمبريالية؛ إنما كان يتبع عرفًا مارسته البشرية خلال مسيرتها الألفية المؤرخة. لكن الذي ميز الغرب عن باقي الحضارات أنه اعترف وسمّى، لا بل حاول معالجة هذه الأمراض التاريخية، وهذا ما يستدعي التهنئة وليس الإدانة. فنحن لا نعتبر الطب الغربي عامةً، ولا أطباء كالسادة باركينسون أو ألتزهايمر خاصةً، مسؤولين عن أمراض شخصوها وأعطوها أسماءهم.

وتبقى تهمة الإمبريالية الأكثر انتشارًا والأكثر تداولاً وإثارةً للاستنكار بين كلّ تلك الإساءات - وسواء كانت هذه التهمة غربية، أو شرقية (بمعنى سوفييتية) على حدٍّ سواء. لكن الطريقة التي استعملت بها هذه العبارة، من قبل الإسلام الأصولي، غالبًا ما كانت توحي بأنها لا تحمل نفس المعنى المتداول في الغرب. ففي العديد من الكتابات، كان يبدو وكأن هذا المفهوم يحمل معنًا دينيًا. حيث كان يستعمل مترافقًا مع، أو ليحل، أحيانًا، محل كلمة "التبشير"، ما يوحي بأنها شكل من أشكال عدوان يشمل في نفس الوقت الحملات الصليبية والامبرطوريات الاستعمارية الحديثة. مما يعطي الانطباع أحيانًا بأن إساءة الإمبريالية - كما يفهمها النقاد الغربيون - ليست في منظور الإسلاميين سيطرة شعبِ على شعبِ آخر، إنما تبادل الأدوار فيما يتعلق بهذه العلاقة. لأن ما هو شرّ فعلاً وغير مقبول هو سيطرة الكفار على المؤمنين الحقيقيين. حيث من الطبيعي والمحق بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين أن يتحكموا بغير المؤمنين، فهذا يحافظ على الشرع المقدس، ويقدم لغير المؤمنين الامكانية والدافع لاعتناق الإيمان الحق. أمّا تحكم غير المؤمنين بالمؤمنين فهو شيء مهين وغير طبيعي، لأنه يؤدي إلى إفساد الدين والأخلاق في المجتمع، وإلى تعويم أو حتى إلغاء القوانين الإلهية. وهذا التفسير يساعدنا على تفهم طبيعة الاضطرابات التي تعم حاليًا بلدانًا كأريتريا الأثيوبية، وكشمير الهندية، ومقاطعة سين كيانغ الصينية، وكوسوفو اليوغوسلافية. ففي كل هذه الأماكن نجد السكان المسلمين محكومين من قبل حكومات غير مسلمة. كما يساعدنا هذا المنظور على فهم أسباب مطالبة الأقليات الحديثة في غرب أوروبا بدرجة من الحماية لم تعد هذه البلدان تقدمها للمسيحية ولم تعطها البتة يومًا لليهودية. كما أنها حماية لا تقدمها البلدان الأصلية لهؤلاء المسلمين للديانات الأخرى الموجودة في بلدانها. ومن منظورهم، لا يوجد تناقض بين هذه المواقف، لأن الإيمان الحق الذي يستند إلى الوحي الإلهي النهائي يجب أن يحمى، بينما لا تستحق باقي المعتقدات الخاطئة أو الناقصة هكذا حماية.

لكن هناك صعوبة أخرى في تقبُّل التفسير الإمبريالي كسبب للعدوانية الإسلامية، لأننا حتى وإن قبلنا بذلك التفسير القائل بأن الإمبريالية هي، تقريبًا وحصرًا، سيطرة غير المسلمين على البلدان المسلمة. وكانت هذه العدوانية موجهة من هذا المنظور ضد الإمبريالية، فلماذا تراها أقوى وأشد في توجهها إلى أوروبا الغربية التي تخلت عن توابعها وممتلكاتها في البلدان المسلمة، مما هي عليه تجاه روسيا التي كانت وما زالت تتحكم، بقسوة، بالملايين من الرعايا المسلمين الرافضين لحكمها، وبالعديد من المدن والبلدان الإسلامية؟ ولماذا تراها تشمل الولايات المتحدة التي، على الرغم من قيامها ببعض التدخلات في بعض المناطق التي تسكنها أقليات مسلمة كالفيليبين، لم تتحكم البتة بأية شعوب مسلمة؟ ونلاحظ أن آخر إمبرطورية أوروبية ما زالت قائمة، أقصد الاتحاد السوفييتي، لم تتعرض لهكذا انتقادات، إنما غضَّ عنها الطرف، لا بل قوبلت، حتى آخر أعمال القمع للتمردات المسلمة في الجمهوريات السوفييتية لجنوب ووسط آسيا، بعبارات استنكار خفيفة مترافقة بتصريحات تؤكد على عدم الرغبة في التدخل في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفييتي، وتطالب بالحفاظ على النظام والهدوء على الحدود. وربما كانت إحدى أسباب هذا الموقف المتحفظ تكمن في طبيعة ما حدث في أزربيجان السوفييتية، حيث من الواضح أن الإسلام، الذي يشكل عاملاً أساسيًا في تحديد الهوية الأزربيجانية، لم يكن العنصر المهيمن. فالتمرد الأزربيجاني كان أقرب إلى الوطنية الأوروبية منه إلى الأصولية، وهكذا حركة ما كان لها أن تستثير عطف حكام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا بل كان بوسعها أن تثير قلقها لما يمكن أن يولده وجود ديموقراطية حقيقية يحكمها الشعب في أزربيجان السوفييتية من تأثير قوي ومباشر على أقربائهم المباشرين في الجنوب، أي في أزربيجان الإيرانية.

كما أن هناك مسبب آخر لعدم الاهتمام بمصير 50 مليون مسلم، أو أكثر، ما زالوا يرزحون تحت النير السوفييتي، ألا وهو حسابات الربح والخسارة. فالاتحاد السوفييتي قريب وحدوده تمتد على طول الحدود الشمالية لتركيا، وإيران، وأفغانستان؛ بينما أمريكا وأوروبا الغربية أكثر بعدًا. كما أنه، ولنكن أكثر تحديدًا، ليس من تقاليد السوفييت قمع الاضطرابات بخراطيم الماء والرصاص المطاطي، وتحت أنظار كاميرات التلفزيون؛ ولا من تقاليدهم إطلاق سراح المعتقلين والسماح لهم بالتواصل مع أجهزة الإعلام. فالسوفييت لا يقابلون أشد منتقديهم، ولا يحاولون تعليمهم، ولا إلقاء المحاضرات عليهم، ولا الحصول على تواقيعهم على تعهدات. بل بالعكس، فإن الطرائق التي يتعاملون بها مع من ينتقدهم غالبًا ما تكون مزعجة.

لكن الخوف من القمع، على أهميته، ليس المسبب الوحيد ولا الرئيسي لتلك المكانة الضئيلة، من الشيطنة الأصولية للسوفييت إذا ما قورنت بالغرب. فالتحولات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي حصلت في العالم الإسلامي، وولدت كل تلك الآفات الغربية المستنكرة عمومًا من استهلاك وعلمانية، جاءت من الغرب، وليس من الاتحاد السوفييتي. حيث لا يستطيع أحد اتهام السوفييت بالاستهلاكية. كما أن ماديتهم الفلسفية، أو لنكن أدق، الجدلية؛ ليس لها أي تأثير يذكر على أرضية واقع تأمين متطلبات حياة جيدة. فتلك المتطلبات يقدمها نوع آخر من المادية، التي غالبًا ما توصف من قبل أعدائها بالكلية. وهذه ترتبط بالرأسمالية الغربية وليس بالشيوعية الشرقية، التي طبقت، وفرضت على رعاياها حدًا من التقشف يمكن أن يحسدها عليه القديسون المتصوفون.

كما لم يكن السوفييت، وحتى فترة قريبة، متهمين بالعلمانية التي تعد من الاتهامات الكبرى للغرب من قبل الأصوليين. فعلى الرغم من أنهم كانوا ملحدين، إلاّ أنهم لم يكونوا بلا إله، فقد خلقوا ونظموا في الواقع جهاز دولة يفرض آلهتهم - جهاز له أورثوذوكسيته الخاصة، وله تراتبيته التي تحددها وتدعمها-، كما سلّحوا محاكم تفتيش من أجل رصد واجتثاث الهرطقة. لأن فصل الدين عن الدولة لا يعني، إطلاقًا، فرض العداء للدين من قبل الدولة، ولا يعني الفرض الإلزامي لفلسفة معادية للدين. وهذا يعني أن العلمانية السوفييتية، والنموذج الإستهلاكي السوفييتي، لم يكونا يشكلان أي إغراء بالنسبة للجماهير المسلمة. كما أنها فقدت من جاذبيتها بالنسبة للمثقفين المسلمين. لذلك، وأكثر من أي وقت مضى، أصبحت الرأسمالية الغربية والديمقراطية هي البديل الصادق والجذاب والوحيد لطرائق التفكير وطرائق الحياة القديمة. كلا لم يكن القادة الأصوليون مخطئون حين رأوا في الحضارة الغربية أكبر تحدٍّ لطريقة الحياة التي رغبوا في الحفاظ عليها وإعادة فرضها على شعوبهم.

صدام حضارات

يمكننا استكشاف جذور العلمانية في الغرب من خلال مناسبتين: ففي بدايات التبشير المسيحي، وبحكم الخبرة، تم خلق مؤسستين هما الكنيسة والدولة. ثم، وعبر الخلافات المسيحية اللاحقة، انفصلت هاتان المؤسستان. وقد كان للمسلمون أيضًا خلافاتهم الدينية، لكنها لم تقارب يومًا في وحشيتها وحشية الصراع بين البروتستانت والكاثوليك الذي اجتاح أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر، ما دفع المسيحيين اليائسين إلى التوجه نحو منحى عقيدة تفصل الدين عن الدولة. حيث بدى أنه فقط عن طريق منع المؤسسات الدينية من ممارسة السلطة، تستطيع المسيحية الحد من التعصب المجرم ومنع الاضطهاد الذي مارسه المسيحيون على أتباع الديانات الأخرى. وخاصة منها تلك التي بشرت بأشكال وممارسات أخرى مخالفة.

فالمسلمون لم يشعروا بهذه الحاجة. وبالتالي، لم يتوصلوا إلى هكذا عقيدة. لأنه لم تكن هناك ضرورة للعلمانية في الإسلام، فتعدديته كانت مختلفة جدًا عن تلك التي كانت تمارسها الامبرطورية الرومانية الوثنية. تلك التي وصفها بكل حيوية إدوارد جيبسون حين لاحظ

وجود نماذج مختلفة من العبادات التي كانت سائدة في العالم الروماني، والتي كانت العامة تقيمها كمتساوية من حيث الحقيقة، بينما كان الفيلسوف يقيمها كمتساوية من حيث الخطأ، وكان القاضي يعتبرها متساوية من حيث الفائدة.

كما أن الإسلام لم يكن مهيئًا البتة، لا نظريًا ولا عمليًا، للإقرار بمساواته التامة مع من يعتنقون عقائد أخرى ويمارسون عبادات مختلفة. وإن كان أعطى لحاملي الحقيقة النسبية مقدارًا عمليًا ونظريًا من التسامح لم يكن له مثيل في الغرب، حتى كان تطبيق هذا الأخير للممارسة العلمانية في أواخر القرن السابع عشر، وخلال القرن الثامن عشر.

ونلاحظ أن الاستجابة الإسلامية الأولى للحضارة الغربية كانت تعبر عن الإعجاب والمحاكاة - بمعنى الاحترام الكبير لمنجزات الغرب، والرغبة في تقليدها وتبنيها. وقد نبعت هذه الرغبة عن وعي يعبر عن قلق عميق ومتنام لضعف العالم الإسلامي وفقره وتخلفه مقارنة بتقدم الغرب. حيث بدا هذا الفارق، أول ما بدا، واضحًا في ساحة المعركة، ثم امتد ليشمل مختلف مجالات النشاط الإنساني. فتأمل الكتاب المسلمون ووصفوا غنى وقوة الغرب، وعلمه وتقنياته، ومعامله، وأشكال حكوماته. وبدا لهم، لبعض الوقت، أن سرّ النجاح الغربي يكمن في عاملين أساسيين: الأول هو تقدمه الاقتصادي وخاصة الصناعي؛ والثاني هو مؤسساته السياسية وخاصة الحرية. وقد حاولت عدة أجيال من المصلحين والحداثيين إدخال هذه المفاهيم إلى بلدانها، بأمل أن يتمكنوا من تحقيق المساواة مع الغرب وربما استعادة تفوقهم المفقود.

أمّا في زماننا فقد حلّ العداء والرفض مكان الإعجاب والتحفز اللذان كانا يسودان بين العديد من المسلمين. وهذا يعود جزئيًا بالتأكيد إلى الشعور بالمهانة - وإلى القلق المتزايد، بين أتباع حضارة قديمة وفخورة بقيت سائدة لزمن طويل، ثم تم تجاوزها، فحمّلت أكثر مما تحتمل، وطغى عليها أولئك الذين كانت تنظر إليهم كأخفض منها. وقد تكون من مسببات هذا المزاج، أيضًا، أحداث جرت في العالم الغربي نفسه. وأحد هذه العوامل الهامة كان ربما انعكاسات حربين انتحاريتين كبيرتين مزقتا الحضارة الغربية، وألحقتا الدمار بها وبسواها. خاصة أنه أيضًا، وخلال هذه الحروب، قامت جميع الأطراف المتحاربة بدعاية واسعة في العالم الإسلامي، وفي كل مكان للحطِّ من مكانة كل منها للأخرى. وقد وجدت هذه الرسالة العديد من المستمعين الذين كانوا على استعداد للتعبير، من منطلق تجاربهم الخاصة، عن عدم رضاهم على الطرائق الغربية. وقد جلب دخول التجارة والمال والطرائق الصناعية الغربية ثروة كبيرة فعلاً، لكن كل ما فعله كان استبدال الغربيين وأبناء الأقليات الميالة للغرب بعدد قليل من أفراد المجتمع الإسلامي. ورغم أن عدد هؤلاء قد ازداد مع الأيام، إلاّ أنهم بقوا معزولين عن الجماهير، التي تمايزوا عنها بلباسهم وطرق حياتهم. مما جعل من المحتم أن ينظر إليهم كعملاء ومتعاونين مع من كان ينظر إليهم يومًا كعالم معاد. وحتى المؤسسات السياسية، التي نقلت عن الغرب، فقدت مصداقيها وحوكمت، ليس من قبل مؤسسيها الغربيين، إنما من قبل مقلديهم المحليين الذين نصبهم الإصلاحيون المسلمون المتحمسون. لأن هؤلاء كانوا يعملون ضمن أوضاع لم يعد بوسعهم التحكم بها، ولا استعمال وسائل مستوردة وغير ملائمة لم يستوعبوها، الأمر الذي جعلهم غير قادرين على مجابهة الأزمات التي كانت تتفاقم بسرعة؛ ما أطاح بهم الواحد تلو الآخر. فبالنسبة للعديد من الشرق أوسطيين، لم تجلب الطرائق الغربية للإدارة الاقتصادية إلاّ الفقر، كما لم تجلب المؤسسات السياسية إلا الطغيان، ولم يجلب التسلح على الطريقة الغربية إلاّ الهزيمة. وهذا ما يبرر رغبتهم بالاستماع إلى تلك الأصوات التي كانت تقول لهم منذ البداية أن الطرائق الإسلامية هي الأفضل، وأن طريق الخلاص الوحيد هو في الابتعاد عن المستحدثات الوثنية للإصلاحيين، وفي العودة إلى الطريق الحق الذي حدده الله لشعبه.

معركة الأصوليين إذًا هي ضد عدوين أساسيين هما: العلمانية والحداثة. أمّا الحرب ضد العلمانية فهي واعية وصريحة، حيث توجد الآن أدبيات إسلامية كاملة تندد بالعلمانية كقوة شر صنمية جديدة في العالم الحديث، وتنسبها بأشكال متنوعة لليهود، والغرب والولايات المتحدة. أمّا الحرب ضد الحداثة فهي غير واعية وغير صريحة بشكل عام، لأنها موجهة ضد كامل عملية التغيير التي حدثت في العالم الإسلامي خلال القرن الماضي وما سبقه، وحولت البنية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى الثقافية للبلدان الإسلامية. والإسلام الأصولي أعطى هدفًا وشكلاً لحقد وغضب كانت الجماهير المسلمة تشعر به تجاه تلك القوى التي أساءت إلى قيمهم التقليدية وولاءاتهم، وكتحليل نهائي جردتهم من معتقداتهم وتطلعاتهم، وحتى من حياتهم.

ونلاحظ أنه يوجد في الثقافة الإسلامية شيء زرع، حتى في قلب أكثر الفلاحين والباعة المتجولين وضاعة، كرامة ومقدرة على مجاملة الآخرين لا تضاهيان في أية ثقافة أخرى. ورغم هذا، تأتي لحظات من التمرد والاضطراب، حين تتأجج أعمق المشاعر، فتختفي الكرامة والمجاملة ليحل محلها خليط متفجر من الغضب والحقد الذي يطول حتى حكومة بلد قديم ومتحضر - وحتى الناطق بلسان ديانة ذات روحانية وقيم - فيتبنون الخطف والقتل، ويحاولون الاستلهام من حياة نبيهم، ما يؤيد ويفسر هكذا أفعال.

حيث لم تخطىء غريزة الجماهير حين حصرت المنبع الرئيسي لهذه التغيرات الزلزالية التي زعزعت طرائق حياتهم القديمة بالسيطرة الغربية، وبالنفوذ الغربي، وبالمفهوم والمثال الغربيين. ولمَّا كانت الولايات المتحدة هي الوريث الشرعي للحضارة الأوروبية، والقائد غير المنازع والمعترف به للغرب، فقد ورثت الولايات المتحدة نتاج تلك الأحقاد وأصبحت موضع تركيز هذا الحقد المكبوت وهذا الغضب. ويكفي هنا أن نعطي مثالين على ذلك: ففي شهر تشرين الثاني من العام 1979، هاجم الجمهور الغاضب سفارة الولايات المتحدة في إسلام أباد في الباكستان وأحرقها. وسبب ذلك كان سيطرة مجموعة إسلامية منشقة على الكعبة في مكة، وهو حدث لم تكن لأمريكا علاقة به لا من قريب ولا من بعيد. وبعد ما يقارب العشر سنوات، في شباط 1989، وأيضًا في إسلام أباد، هوجم المركز الثقافي الأمريكي من قبل الجماهير التي كانت تعبر عن غضبها لنشر كتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي. وهذا الأخير كما نعلم، هو مواطن بريطاني من مواليد الهند، وكتابه كان قد نشر قبل خمسة أشهر من هذا التاريخ في إنكلترا. لكن ما أثار غضب الرعاع، وأدى بالتالي إلى فتوى آية الله الخميني بالموت على الكاتب، كان نشر هذا الكتاب في الولايات المتحدة.

لذلك يجب أن يكون واضحًا بالنسبة لنا أننا نواجه اليوم مزاجًا وحركة تتجاوز بكثير مستوى مواقف وسياسات الحكومات التي تتابعها. وما نواجهه ليس أقل من صدام حضارات - ما هو ربما ردة الفعل اللاعقلانية، رغم تاريخيتها، لمنافس قديم لميراثنا اليهودي-المسيحي، ولحاضرنا العلماني، ولتوسعنا العالمي في كلا المجالين. ما يعني أنه من المهم جدًا من جانبنا، ألاّ نُستَفز فننجر في المقابل إلى ما يقارب ردة الفعل التاريخية واللاعقلانية تجاه هذا الخصم.

لأن كل الأفكار الآتية من الغرب، سواء عن طريق المتسللين الغربيين أو المتأثرين المحليين به، لم ترفض. لا بل أن بعضها قُبِل حتى من قبل أكثر الأصوليين جذريةً، وإن من دون الإقرار بمصدرها عادة، أو بإدخال الكثير من التعديلات الغنية والغريبة عليها أحيانًا. وإحدى هذه الأفكار كان الحرّية السياسية، وما يرتبط بها من مفاهيم وممارسات كالتمثيل، والانتخابات، والحكومة الدستورية. فحتى جمهورية إيران الإسلامية أصبح لها دستور مكتوب وجمعية منتخبة، ونوع من الكهنوت. وهذه كلها مفاهيم لم تتضمنها التعاليم الإسلامية ولم تكن معروفة في الماضي الإسلامي. إنما هي مفاهيم أخذت جميعها من الأمثلة الغربية. كذلك احتفظت البلدان المسلمة بالعديد من العادات الثقافية والاجتماعية الغربية وبما يعبر عنها من رموز، كشكل لباس الرجل (وإلى حد أقل بكثير شكل لباس المرأة) وخاصة في المجال العسكري، حيث أصبح استعمال المخترعات الغربية كالبنادق والدبابات والطائرات ضرورة عسكرية، وذلك رغم بقاء اللباس التقليدي وقبعة الرأس كخيار ثقافي. لذلك فأنه بدءًا من الدساتير ووصولاً إلى الكوكاكولا، بدءًا من الدبابات والتلفزيونات وصولاً إلى القمصان القطنية (التي شرتات)، والرموز والصناعات اليدوية، ومن خلالها الأفكار، حافظ الغرب على جاذبيته، لا بل ضاعفها.

كما أن ما نسميه اليوم بالأصولية ليس المنقول الإسلامي الوحيد. فهناك منقولات أخرى، أكثر تسامحًا وأكثر انفتاحًا، وهي منقولات ساهمت فيما مضى في إلهام منجزات إسلامية كبرى، آملين في أن تسود هذه المناحي مع الوقت ومن جديد. لكن، قبل أن يحل هذا اليوم، علينا أن نفهم أننا سنواجه معركة صعبة، لن يكون بمقدور الغرب فيها أن يفعل الكثير. لأنه حتى المحاولة في هذا المجال يمكن أن تسيء. ولأن على المسلمين أن يقرروا توجهاتهم فيما بينهم، لذلك علينا في نفس الوقت، أن ننتبه من كل النواحي، لنتجنب خطر مجيء عصر حديد من الحروب الدينية الناجمة عن تصعيد الاختلافات، وإعادة إحياء الأحقاد القديمة.

من أجل هذا، يتوجب علينا القيام بتقويم أفضل للثقافات الدينية والثقافية الأخرى، عن طريق دراسة تاريخها وأدبياتها ومنجزاتها. وأن نأمل في أنهم، في المقابل، سيحاولون تفهمنا بشكل أفضل، وخاصةً تفهم واحترام مفاهيمنا الغربية المتعلقة بالدين وبالسياسة، حتى وإن لم يختاروا اعتناقها وتبنيها لأنفسهم. لذلك، وللتعبير عن هذه المفاهيم، سأختتم كما بدأت، بقول لرئيس أمريكي سابق، رئيس لم ينل ما يستحقه من التقدير كتوماس جيفرسون، إنما ظلم وأهمل، إنه جون تيلر الذي كتب في رسالة له مؤرخة في الـ10 من تموز 1843، ما يعبّر، وبمنتى البلاغة، عمّا يفهمه بالحريّة الدينية، حيث قال:

لقد قامت الولايات المتحدة بمغامرة كبرى وبتجربة كبرى نعتقد أنه ليس لها من مثيل - ألا وهي الفصل الكامل للكنيسة عن الدولة. حيث لا يوجد بيننا قانونيًا أية مؤسسة دينية. وحيث ترك الضمير حرًّا من أي قيد. حيث سمح للكل بممارسة عباداته لخالقه وكما يرتئي. وحيث مكاتب الحكومة مفتوحة أمام الجميع. حيث لا أعشار[3] تجنى لدعم المؤسسة، ولا الحكم المعصوم للإنسان ينحّى لصالح عقيدة لا تخطىء. حيث بوسع المسلم، إن سكن بيننا، أن ينعم بحماية الدستور، فيمارس شعائره كما نصّ عليها القرآن. وحيث بوسع الهندي الشرقي إقامة معابده لبراهما كما يشاء. فهذه هي روح التسامح التي تضمنها مؤسساتنا السياسية... حيث بوسع اليهودي، المضطهد والمنبوذ في أماكن أخرى، أن يأخذ كامل مكانته بيننا وأن لا يخاف... لأن نسر الحكومة الذي يرفرف فوقه سيدافع عنه ويحميه. هذه هي تجربتنا الكبرى، ونحن ثمارها الطيبة؛ وهي ثمار ليس بوسع نظامنا الحكومي أن يكون حرًا من دونها.

لأنه من الممكن حين يضطهد الجسد وتساء معاملته أن يبقى حيًّا. لكنه إن أسيء إلى العقل، فإن قدراته وطاقاته ستذبل، لأن ما يبقى على الأرض هو منها. أمّا العقل فيجب أن يكون حرًّا كالنور أو كالهواء.

ترجمة: أكرم أنطاكي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  ما عدا العراق حاليًا. لكن دعونا لا ننسى أن الكاتب كتب هذه المقالة الهامة عام 1990 أي قبل حرب العراق الأولى، مقبل الحادي عشر من أيلول. (المترجم)

[2]  أي الفلسفة الألمانية والفلسفة الماركسية. (المترجم).

[3]  تعبير توراتي يعني الجزية. (المترجم).

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود