|
من
مفكِّرة جوَّال 2 3 مسألةُ
الأخلاق، ككلِّ المسائل التي
من نوعها، مسألةٌ شديدة التعقيد، على الرغم
من أن معظم الناس يعتقدون بأنهم قادرون على
خوض غمارها بكلِّ ثقة. هنا لا مناص من التأكيد
على مشكلة اللغة والتعبير. فمثلاً، كلمة «عفوية»
في الأخلاق، ماذا تعني؟ هل تعني الآلية أم
السذاجة أم الحالة الفطرية؟ – وغير ذلك من
المعاني. ثم إن كلمة «أخلاق»، في حدِّ ذاتها،
تخلق الكثير من المشكلات: فما هو «الأخلاقي»
أصلاً؟ ثم إن هناك
حاجةً إلى توخِّي دقة الملاحظة في المعالجة
خصوصًا: ولنأخذ مثالاً رأي المتديِّنين بأن
التعاليم الدينية هي التي تمثل الأخلاق الحق.
ومن غير الدخول في مناقشة سيرورة تطور
الأديان، لا بدَّ من ملاحظة أن الإنسان لا
يأخذ تلك التعاليم في «عذريتها»، ولا يتعامل
معها البشرُ بالسوية نفسها، سواء في الإدراك
أو في التطبيق؛ لذا فتلك التعاليم تفقد صفتها
«الإلهية» عندما تنزل إلى عالم البشر. ومن هنا
تنوُّع التأويلات وتعدُّد المذاهب، حتى داخل
الدين الواحد نفسه. فأي نصٍّ قابل لقراءات
كثيرة. مثلاً: جميع الأنبياء قالوا: «لا تقتل»،
بينما أتباع جميع الأنبياء أعملوا في أنفسهم
وفي الآخرين تقتيلاً وسفكًا للدماء! هناك اعتراضات
كثيرة على أفكار الذين يتكلَّمون على الأخلاق
وكأنها «بنية فوقية»، أهمها، ربما، هو قفزهم
فوق الضجيج الهائل لدينامية الواقع. فالكائن
ليس منعزلاً؛ لذا فهو عاجز عن اتخاذ القرار «الحر»،
حتى عندما يعتقد أنه «يقرر». إنَّ أي فعل
أخلاقيٍّ حقيقيٍّ لا يكون نتيجة قرار، لأن
كلَّ قرار هو اختيار، والاختيار يكون بين
شيئين على الأقل – وهنا يظهر الصراع
بالضرورة. أما من المنظور الذي أتكلم منه،
فالفعل الأخلاقي هو الفعل الحر، وفي
الحرية ليس ثَمَّ اختيار أو مفاضلة، ولا حتى «إرادة»
بالمفهوم السائد. الفعل الحر
تلقائي، «عفوي»، بريء، طاهر، ولا يقابله
نقيضٌ لاأخلاقي. فمن هذه الزاوية، يغدو
الفعلُ الأخلاقي هو الفعل «غير الأخلاقي»، أي
المتجاوز لثنائية الأخلاقي واللاأخلاقي،
الخير والشر، وغير ذلك من الثنائيات. ومنطلقه
«الإخلاص»، بالمعنى العميق لهذه الكلمة، أي
الصدق مع النفس المقرون بالوعي أو بالاستنارة.
وبالتالي، فكل ما هو غير مستنير ليس صادقًا،
وهو لاأخلاقي حُكْمًا. وهذا يعني أن التقليد
النقلي يخلو من الأخلاق؛ إذ إن التبعية تلغي
الأخلاق. كل فعل أخلاقي،
بالتالي، هو فعل إبداعي، والسلوك الأخلاقي
عملية إبداعية بامتياز. بينما «الأنا»،
الفردية أو الجماعية، بكلِّ تراثها وأديانها
وتقاليدها النقلية ومنظوماتها الأخلاقية،
تفقد أخلاقيتها إنْ تعامَل معها الإنسانُ
انطلاقًا من الالتزام الآلي، أي النقلي.
وبالتالي، يغدو كل فعل أخلاقي فعلاً عاقلاً
حُكْمًا، باعتبار العقل نقيض النقل. لذا،
وبالاعتماد على ما سبق، لا يمكن لنا محاكمة
قضية «الأخلاق» وفقًا للطريقة العقلانية
الكنطية أو البيكونية، لأن لاوتسُه الحكيم
سوف يسأل هنا: «وما هي المعايير؟» فإما أن
المعايير غير موجودة أصلاً، فتخرج القضية عن
حدود عقلانيتها المنطقية، وتغدو، بالتالي،
غير قابلة للتقييم، لأنها غير قابلة للنقد
وللتكرار؛ وإما أن الإنسان هو المعيار، وهنا
ندخل في نسبوية لامتناهية توصِلُنا إلى
اللاأدرية، بحيث يغدو كل شيء أخلاقيًّا
ولاأخلاقيًّا في الآن نفسه. لذا فهناك
معياران هنا: في علاقة الإنسان بنفسه،
المعيار هو الإخلاص؛ وفي علاقة الإنسان
بالعالم، يمكن لنا اعتماد الحكمة المسيحية (نسبة
إلى المسيح): «من ثمارهم تعرفونهم» – أي أن النتائج
هي التي تقرِّر مدى «أخلاقية» هذا السلوك أو
ذاك. وبالتالي، لا يمكن «تنظيم» الأخلاق
الحقيقية، فتغدو كل منظومة أخلاقية في
حقيقتها لاأخلاقية، لأنها، في نتيجتها، تصير
منظومة سلطوية عملها القمع. من المنظور
الديني، يمكن القول: كل ما هو «لله» أخلاقي،
وكل ما هو «لقيصر» لاأخلاقي؛ أي أن كلَّ فعل
له غاية وهدف يكون لاأخلاقيًّا، في حين أن
الخلو من الغائية هو الذي يجعل الفعل
أخلاقيًّا. وحين نقول «لله» أو «في سبيل الله»،
يجب أن نعني لأجل «لاشيء»، لأن الله ليس «شيئًا»
من مقولات العقل البشري. وبالتالي، فكل ما
نسمعه عن «الجهاد في سبيل الله»، بالمعنى
الذي بات سائدًا، هو في حقيقته في سبيل أيِّ
شيء آخر إلا الله – و... «من ثمارهم تعرفونهم»! 4 ليس
من الحكمة على الإطلاق أن
ينطفئ المصباح قبل أوانه، كما يفعل قاتلُ
نفسه. يقول البوذا: «أنا لا أتشوَّق إلى
الموت، ولا أحرص على الحياة، بل أنتظر قدوم
ساعتي كخادم ينتظر مكافأته.» الاستغراق في
نعيم النيرڤانا ليس ألوهية، وإنما يعني
الانعتاق من دورة العَوْد الأبدي أو التقمص.
فالبوذية ترى أن الحياة الدنيوية كلها ألم،
وأن على الإنسان أن يعمل على الانعتاق من
دورات الولادة والموت. إذ ذاك تسمو روح
الإنسان إلى النيرڤانا، التي ربما يقابلها
«النعيم المقيم» في الإسلام أو «مجد الملكوت
السماوي» في المسيحية. مفهوم «الانطفاء»، في
المقولة البوذية، يختلف عن مفهوم «السلبية»
الشائع بين بعض دارسي البوذية من خارجها.
فالانطفاء يبدأ من لحظة نكران الذات، من نذر
البودهيستڤا (المستنير بالإمكان)، وذلك
عندما يتخلَّص الإنسانُ من الرغبات
والأمنيات والمطامح، فيغدو ذاتًا خالصة. وهذا
لا يُعَد هروبًا من مسؤوليات الحياة، بل
طهارةٌ ونزاهة. أجل، لقد لجأ بعض الناس إلى
الرهبنة والدروشة هربًا من مسؤوليات الحياة؛
وهؤلاء ليسوا، في الغالب، مخلصين للغاية التي
يدَّعون أنهم يسعون إليها، والعبارة
المذكورة لا تنطبق عليهم بالطبع. ليس في مقدور
الإنسان مواجهة الموت. فالموت حق وحقيقة.
والحكيم هو الذي يدرك أن الموت جزء من
كينونته، وليس بلاءً عليه مواجهته دون جدوى.
وحده الجاهل الأحمق، بتطلُّعه إلى خلود مزيف،
يتكالب على الوفرة الدنيوية كتعويض عن عجزه
عن مواجهة حقَّانية الموت. 5 «أولئك
الذين أنْهوا ارتحالهم،
وتركوا الألم وراءهم، وقد تحرروا من النواحي
كلِّها، وتخلَّصوا من العوائق كلِّها، ولا
وجود للفرح أو للترح في نظرهم – أولئك لن
يتجسَّدوا ثانية. هم مستغرقون في نعيم
النيرڤانا. كارماهم السابق مستأصَل، ولن
يقيِّدهم كارما جديد. لا تتطلَّع قلوبُهم إلى
الحياة القادمة، وقد نضب مَعين شهواتهم. هم
حكماء، وقد انطفئوا كما ينطفئ المصباح.» (ريس
ديڤدز، من النصوص السنسكريتية الأصلية،
عن كتاب البوذية الباطنية، من تأليف أ.پ.
سينِّت) نص يستحق
التأمل العميق! 6 لا
بدَّ
أنكم جميعًا رأيتم طائرًا
واقفًا على غصن شجرة في يوم ماطر عاصف، ولا
بدَّ أنكم لاحظتم أن الطائر، على الرغم من أن
الريح القوية تهدد بكسر الغصن الرقيق الذي
يقف عليه، فإنه يبقى هادئًا، وكأن هذا الخطر
لا يعنيه في شيء. ربما لا يكون
الطائر واعيًا للفكرة، وربما يكون قد
تعلَّمها من أسلافه، أو ربما تكون مزروعة
بالوراثة في جيناته، لكنه «يدرك» حقيقتين
اثنتين تساعدانه على الاحتفاظ بهذا الهدوء
الجليل، على الرغم من الخطر المحدق، وهما: أنه
قادر على الطيران، وبالتالي، حتى إن انكسر
الغصن فهو لن يقع على الأرض؛ والثانية تتعلق
بوجود أغصان أخرى كثيرة على الشجرة أقوى من
الغصن الذي يقف عليه، بحيث يمكن له الانتقال
إلى غصن آخر إذا لزم الأمر. يعيش الناس
أسرى الخوف لأنهم، في بساطة، لا يتمتَّعون بـ«حكمة»
هذا الطائر. فهم لا يثقون في أنفسهم، ولا
يثقون في الوسط المحيط بهم. فالحياة متغيرة
على الدوام، والظروف والأوضاع تتغير كلَّ
يوم، بل كل لحظة. فكم من غني افتقر، أو فقير
اغتنى، في طرفة عين، وكم من صحيح صار ضيف
القبر بين ليلة وضحاها، وكم من فرحة انتهت إلى
بكاء وعويل، أو بالعكس، إلخ. وعلى الرغم من
هذا كلِّه، يظل الإنسان مصرًّا على الثبات
والرسوخ، على البقاء في جهالة الديمومة،
ممَّا يُعَدَّ سببًا رئيسيًّا للخوف من
تحولات الحياة. قال الإمام
الشافعي – رحمه الله – يومًا: «مَن لا يثق
بالناس لا حظَّ له في الدنيا.» لذا فالباحث عن
السعادة، أو الذي يرجو الخلاص من مخافه،
يحتاج إلى هذه الثقة: في نفسه، وفي الناس، وفي
الحياة، وفي الله – وإلا سيبقى دائمًا رهين
التهديد الماكر لِلُعبة الوجود الكبرى:
التغير الدائم. 7 ذاك
«البريء» كان، لبراءته،
يتوسَّم شيئًا من بوح العَماء المنغلق على
فِخاخه الساخرة، حين راح يعيد ترتيب
الغوايات، متأخرًا عن آنيَّتها، لقُصُورٍ في
بداهة الحاضر المنفلت أبدًا من رغبة الكائن
في استبقائه بطيئًا حتى يتسنَّى لكسل الفكر
إعادة خلقه ثباتًا في بنيانه العتيد. بعض الكائنات
يطمئن إلى لُزوجة اللحظة الممتدة استمرارًا
دَبِقًا، يثير القرف والسخرية والشفقة معًا،
ليغدو أسير فقاعاتِ وَهْمٍ منطقيٍّ يعمد إلى
نفي (وأحيانًا إبادة) كلِّ ما يتجاسر على
الكمون خارج الفقاعة الهُزءِ، في ثقةٍ
تُجبِرُ الطائرَ على إعادة طرح الدهشة سؤالاً
مبررًا. أما وقد اطمأنت
الكائنات إلى التكرار البهيج، المضني رغم
ذلك، فلا يعود لـ«البريء» إلا أن يُثني على
الماكر الأعظم، ملحفًا على ذلك بسؤال منطقيٍّ
آخر عن الخطوة التالية، حتى تستكمل دائرةُ
الأفعى انغلاقَها المحتوم، ليتم إسدالُ
الستار راحةً أكيدةً لشقيِّ العقل، «البريء»
رغم ذلك. يدرك «البريء»
أنَّ اليقظة نوالُ ذوي الحظوظ العظيمة، وأنَّ
النوامَ حقيقٌ بثمالاتٍ وسبخاتٍ يترعرع فيها
عُلَّيقٌ أنانيٌّ ثرثارٌ مشاغبٌ قد أدمن عدم
الاكتراث، كمريدٍ حارسٍ لهرطقات سيِّدٍ
مغترٍّ بغياب القصاص. يرى «البريء»
آلام القرابين المنذورة للذبح فداءَ
المقدَّس – ذلك اللغز الذي أورث فطنتَه بؤسًا
عصيًّا. لكنه يبقى، رغم ذلك، أسيرَ كينونته.
لا يجبره شيءٌ على استكناه نوايا الجليل، ولا
يرغمه شيءٌ على الانخراط في أهوال المكيدة
الكبرى. ولكن هيهات أن
يُفرِغَ الأزلُ جعبتَه المملوءةَ بالممكنات
لِمَنِ احترف السؤالَ حقًّا واجبًا، مصرًّا
على تأويل الكنايات لاغتصاب عذرية الرمز
الكامن في عهدة تنين ونسر وحصان بجناحين من
غمام. بعض الكائنات
تستعبث الأفق. وبزحفٍ دوديٍّ، بعينين
دوديتين، تحاول تسلُّق مرئيات نسورٍ قد
احترفت طيرانًا لا يخمد أوارُه أبدًا. يدرك «البريء»
أنَّ الأمور لا تجري هكذا، وأنَّ على أهل
الرخاوة أن يندبوا رخاوتهم أو يستعذبوها. فـ«البريء»
لا يبالي بهذا الهراء كلِّه، بهذا التهافت
الصاخب على جرعة من حليب اليقين الهش، الفاقد
ذاكرتَه عندما تهبُّ زوابعُ الامتحان القادم
لا محالة. 8 يقال:
الحياةُ رتيبةٌ. هل الحياةُ رتيبةٌ حقًّا؟ أم
أنَّ الرتابةَ كامنةٌ في فزع الكائن، في خوفه
من الفكاك من لذَّة الكسل، في ارتهانه نفسَه
لطمأنينة الرائج، المطمئن بدوره إلى يقين
الدود. الرتابة جزع
الطفل من «ظلمة» اللاَّيقين، المنفتح
مجهولاً، ومن خشية الإبحار دون خريطة أو
بوصلة أو ربَّان قد انتهك حرمة الدروب ألف مرة
قبل أن يغدو وثنًا. الحياةُ رتيبةٌ
لعيونٍ طينٍ، لآذانٍ طينٍ، لقلوبٍ طينٍ،
لعقولٍ مجبولةٍ بحكايات العفاريت وهلوسات
الصحراء وبعر الإبل. 9 فلنسرد
الحكايةَ من أوَّلها: في البدء كانت
جدتي تروِّض الثور وتلقِّم الحوتَ طواسين
البروج، حتى انهارت بابل عن بكرة أبيها، وكان
هذا الهَرَج كله. في البدء كان
لنا أبٌ واحدٌ وأمٌّ صارت حقلاً فسيحًا عندما
انهمر مطرُ الله. 10 أجل!
الحياة خيبةٌ كذلك. وإذ يحاول
«الذكيُّ» تخمين مرامي الكامن في الجهة
الأخرى من «هوَّة عدم المعرفة»، يخذله ذكاؤه.
فالذكاء – ويا للكارثة! – فخُّ حُواتِه. هاهنا نسيت «العذارى
الجاهلات» الخمس زيت مصابيحهن. هاهنا
رَذَلَ «البنَّاءون» حجر الزاوية. وفي غفلةٍ ما،
أضاع «الذكيُّ» براءته، فتاه في صحراء نفسه.
وكان لا بدَّ له من شيء يصبُّ عليه لعناتِ
جحيمه ليكتمل نسيجُ المكيدة الأفتن وليتمكن
التنينُ من إنهاء رقصته على ناي الإله: «فبِمَ
أغويتَني لأغوينَّهم أجمعين»! وعندما راحت
كرةُ النار تتدحرج، ملتهمةً في دربها كلَّ
شيء، وكان الكاهن الناريُّ يطقطق بأسنانه
الحجرية ضاحكًا، في مجون عاهرةٍ استرسلتْ في
العهر ألف عام، أسدل «البريء» ستار عزلته على
وهم. كان وهمًا أبدًا، سائرًا في دربه الموحش،
الذي كان موحشًا أبدًا، وقد أدرك أنه قد
استنزل على نفسه الغربةَ قَدَرًا محتومًا حين
تجاسَر على هَتْكِ حُجُب السماء. هكذا تجري هذه
الأمور. و«البريء»، وقد أُغلِقَتْ أبوابُ
القلعة الصفراء خلفه، لن ينظر إلى الوراء بعد
ذلك، وفي محيط اللاجدوى المقدَّسة هذه
سيُغرِقُ نفسه في لامبالاةٍ مقدَّسةٍ كذلك –
إلى أن يحين أوان طيِّ السجل: «عهدًا علينا
إنَّا فاعلون». يا لعظمة السر!
يا للعظمة! 11 بعضُ
العقول «الذكية» يثير
الاشمئزاز – ولا بدَّ لها: فالخيبة من
المأمول، لا من الميئوس منه؛ الخيبة رهان
المتوسِّم رتْقًا في ثقوب الذاكرة الملعونة،
تلك التي تفترض الحضور الآن... الآن... بينما «البريء»
رهين الحاضر أبدًا، يسترسل في تأويل ألغاز
السرد الكائن «مقدَّسًا» في أعراف أهل
التقليد، ليكون في مقدوره مجاراة الغيب بحثًا
عن أسرار، لم تكن أسرارًا يومًا – حيث «السر»
فخُّ «الألعبان» يستدرج به كائناتِ الجليد
الراسخ في كسله، قوافلَ حجيج خائبين إلى واحة
الرخاوة البهية، سلطانًا لا يستدعي صرامة
السلطان حقًّا. يدرك «البريء»
مُكْرَ التأويل المفتوح على جدلٍ لا ينتهي:
فالبساطة زاد الطفولة و... يقينها. وهو يعرف
أنَّ مآلَ الخوض في الجدل صَلٌّ من حِيَلِ
التوافق المُجامِل ضمن ممكنات اللغة، وأنَّ
الحرفَ – شاء أم أبى – ورطةٌ أكيدة. لذا ينذر
الصمتَ ملاذًا، لعلَّه ينجو من مكائد
الكنايات والمجازات والاستعارات التي تستهلك
كمائن التأويل، لتغدو هياكل جديدة تستقطب
المزيد من القرابين. القاعدة تقول:
اللعنة على القواعد كلها! الخبرة تقول:
الثرثار فرحٌ بلقيته! يظنُّها مآلاً، لكن
المآلات، بل السيرورات كلُّها، هي في عهدة
المعقَّد (أو البسيط) العصيِّ على العبارة.
لذا يصمت العارف عن عجز، لا عن رغبة. 12 -
«ما
طريقتكم؟» سأل «الذكيُّ» «البريءَ».
فقال: -
«خاطِبْني، من
فضلك، بضمير المفرد.» فقال «الذكي»: -
«فما طريقتك؟»
أجاب «البريء»: -
«زوجتك تُعِدُّ
شايًا لذيذًا. أريد
أن أشكرها.» فسأل «الذكي»: -
«أهذا كل ما في
الأمر؟» أجاب «البريء»: -
«بل هذا هو
الأمر كلُّه!» 13 لا
أعرف
شيئًا عن محبة تتعالى عن
بشريَّتي وإنسانيتي. لست أنكر وجودها، بل أقر
بجهلي لها! ما أعرفه هو أن الحبَّ لا يتجزأ ولا
ينقسم. فهو لا يكون «سماويًّا» أو «أرضيًّا»،
ولا يكون «إلهيًّا» أو «بشريًّا»، ولا يكون
حرية أو عبودية، إلخ. الحب وحدة كلاَّنية
تتعالى عن الثنوية والتضاد. بهذا المعنى، لا
يكون الجانب «الروحي» في الحب أرقى من الجانب
«الجسدي» – فهذه نظرة إيديولوجية فحسب. إن معظم
أفكارنا وتصوراتنا عن الحب تدور في فلك
أوهامنا عن الحب: الحب البعيد، الذي ليس في
المتناول، ما فوقي أو ما ورائي. أسمِّي هذا
غرور الأنيَّة واغترارها. الحب أقرب بكثير
مما نتصور: إنه هنا، في داخلي ومن حولي، وما
علي إلا أن أتنعَّم فيه. ولكن هيهات، هيهات! الحب لا يأتي
ولا يذهب؛ بل الإنسان، عندما يرتقي بنفسه،
ويصفو بذاته، يكتشف وجهًا أسمى للحب. ولا فضل
لـ«الأسمى» على «الأدنى» هنا: الحيوان–الأم
لا يقل أمومةً عن الإنسان–الأم – فكلٌّ ضمن
واقعه ومجاله. قد تكون مطارحة
الجنس صلاةً وعبادة، في حين أن ملازمة المعبد
قد تكون شكلاً من أشكال العهر النفسي. بعض
الناس يرتقون من حبِّهم لشخص إلى حبِّ الكون
والوجود والحياة، ثم يعتبرون هذا الشخص شيئًا
ثانويًّا، مجرَّد «بوابة» أو «مفتاح»
لاكتشاف المحبة اللامتناهية في أنفسهم. ولكن،
أليس هذا أبشع أشكال الكفر والأنانية ونكران
الجميل؟! ألا إنَّ المفتاح لا يقل أهمية عن
الباب؛ وهذا بدوره ليس أقل شأنًا من القلعة –
فالكل واحد. ولقد قال نيتشه يومًا: «في الحب
الحقيقي تغلِّف النفسُ الجسد.» أعتقد أن هذا «العارف»
لم يختبر حبًّا حقيقيًّا، لأنه، في الحب،
يصبح الكل واحدًا. مَن يقول: «أنا
أحب»، يخطئ العبارة وتخطئه. هو الحب يفعل من
خلال الأنا. تلك العبارة توحي بفعل إرادي.
فانظروا في أنفسكم: هل أحبَّ أحدُكم يومًا عن
سابق إصرار وتصور؟! ولقد سألتْني
يومًا: «هل تحبني؟» فأجبتها: «أنا الحب،
فارتديني!» فقالت في خبث: «لا أستطيع، لأنك في
جوفي!» فارتعشتْ أذناي طربًا، وراح قلبي
يرتقص. **
** **
|
|
|