الصفحة التالية

من مفكِّرة جوَّال 1

 

هفال يوسف

 

1

قيل: "يكبرُ حبِّي يومًا بعد يوم". وقيل في الحب: "إن لم يكن بدرًا ينقص". وقيل: "أنا أحب"...

أنا لا أعرف كيف أحب، ولا أعرف متى يجب أن أحب، ومتى لا يجب. الحب يفعل فيَّ فعله، بينما أقف بلا حول ولا قوة. هو لا يزيد ولا ينقص، بل يبقى أبدًا هو هو.

حبيبتي ترفض "تضحياتي"، وتقول: "لا تتعالى عنِّي، ولا ترفعني إلى أعلى. ضَعْ يدك في يدي وحسب." أما أغرب ما يحدث فهو أنني أضحك عندما تبكي هي، وأضحك عندما تضحك هي.

عندما يغمرني الحب تشع هالتي على الجميع. للبشر حدسٌ غريزي تجاه المحب: يفسحون له الطريق، يحبونه، يهابونه، ويحسدونه.

الحب يترافق مع الخفة والفكاهة. أما "الحب" المؤلم، المتجهِّم، فليس حبًّا، بل رغبةٌ، سلطة، تملُّك، إرهاب.

الحب من طرف واحد ليس حبًّا – الحب متوازن.

الحب الذي يكبِّل ليس حبًّا – الحب يحرِّر.

الحب الأعمى ليس حبًّا – الحب نور يفتح البصيرة.

الغيرة لا تعبِّر عن الحب، بل عن التملُّك وانعدام الثقة.

التشبث بالمحبوب لا يعبِّر عن الحب، بل عن الخوف من الوحدة.

المحب الحق لطيف، رقيق، ودود، ممتلئ القلب رحمة.

العنيف ليس محبًّا. فلا يمكن لك أن تكون محبوبًا ولا تكون متسامحًا.

الحب كينونة، غَمْر، استغراق، حياة، سلام، نور، حرية – وما أغلى هذه الأخيرة!

يستسهل الناسُ قولَ عبارة: "أنا أحبك" – وما أبعدهم غالبًا عن الحب عندما يقولونها.

مَن لم يختبر الحب الحق يَرَ في كلِّ رعشة عاطفية حبًّا، في كلِّ انجذاب جنسيٍّ حبًّا، في كلِّ تواؤم فكري حبًّا، وفي كلِّ ألفة أو تعاطف حبًّا. ألا ما أبعدهم عن الحب!

بعضهم يتحدث عن "الاختيار"، فيسأل المحبوبُ المحبَّ: "لماذا اخترتني أنا بالذات؟" هل يمكن لإنسان سُلِّطَتْ عليه أنوارُ الحب كلُّها إلا أن يفهم أن الأمر لا يتعلق بـ"اختيار"، وأننا لا "نختار" محبوبنا؟! إلا أن يفهم أنه لا توجد أدوات قياس "نختار" على أساسها؟ بل... كيف لا يفهم إلا أن الحبَّ ليس فعلاً نقوم به، بل نور يختطفنا، وسعادة لا قدرة لنا على احتمالها؟!

ويسأل المحبوبُ المحبَّ أحيانًا: "ماذا تريد مني حقًّا؟!"

هل طغيان الحب حِكْرٌ على قلة من الناس حقًّا؟ لو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هذه الأسئلة كلها – وإلا فما معنى هذا السؤال؟! لماذا لا يفهم هذا "المحبوب" أن المحبَّ لا يريد شيئًا، أنه يكتفي بوجوده، ويحمد الله أنه التقى به في هذا العالم؟! ولماذا لا يفهم ذاك "المحب" أن المحبوب لم يعد يريد شيئًا سوى البقاء بقربه وخدمته – امتنانًا.

الحب الحق كلٌّ عصيٌّ على الفهم – ناهيكم على العبارة –، غبطة لا يحتملها الكائن الدنيوي. لذا تتجلَّى له بما يطيقه – عِبْرَ كائن آخر. الحب الحق نورٌ يأخذ بلباب الإنسان، فيُفنيه عن ذاته ويذهب بـ"عقله" – ولست أتكلم في الميتافيزيقا! أو كما قال أحدهم: "ويلٌ لِمَن يرى فيها رموزًا!"

المحب الحق لا "يحب". ولا خيار له: لا يريد، ولا يرغب. لا غاية له سوى استمرار غَرَقِه في اللجَّة وتواصُل "طوفانِه" في ذلك الأثير الفضيِّ إلى الأبد. ولكن هيهات، هيهات! أنَّى له القدرة على الاحتمال!

يقول الناس: "الحب يأتي بعد الزواج." ألا ما أبعدهم عن الحب! الحب لا يذهب، ولا يأتي – فالحب دائم الوجود. كما أنه لا يتدرج: فهو لا يخضع لسيرورة الزمن.

الحب صاعق: يصعق المرء في لحظة ويأسره، فلا يجد له فكاكًا بعدئذٍ. والويل لِمَن كانت حالُه حال الحلاج: لا يؤخذ من ذاته، ولا يُترَك لذاته، فيبقى متأرجحًا بين فنائه ووجوده.

يقول بعضهم: مَن تحب أكثر: أنا أم هو/هي؟ ألا ما أبعدهم عن الحب! فالحب لا يقاس، ولا يكون كثيرًا أو قليلاً. كما أن المحب الحق يتجاوز الأنا والهو/الهي.

قلت لها: "لست أرى غيرك في العالم!" فغرقتْ في بحر الفهم، وذهلتْ عن نفسها.

قالت لي: "أحبك لأنك الوحيد الذي لا أحتاج معه إلى مقاومة. أنت الوحيد الذي أستسلم له دون إرغام."

الحب الحق لا ينافس، لا يغار، لا يمكن مقارنته بأيِّ شيء آخر.

هو كامل الطهارة: ما إن يحاول شيءٌ الالتصاقَ به حتى يختفي.

هو كامل النزاهة: ما إن يحاول شيءٌ الاختلاطَ به حتى يتلاشى.

هو كلٌّ. لا يقسم، ولا ينقسم. يحيط، ولا يحاط به. مَن يحاول الاستحواذ عليه يفقده، ومَن يطارده كمن يطارد سرابًا.

مَن اختبر الحب الحق يفرُّ منه، ومَن لم يختبره يفرُّ منه – ولكن شتَّان بين هذا وذاك: هذا يفرُّ منه إليه، وذاك يفرُّ منه إلى الأشياء.

الحب الحق مؤلم، وباطل الحب مؤلم – ولكن شتَّان بين الألمين: ألم الأول سببه الوصْل، وألم الثاني سببه الفصْل؛ ألم الأول سعادة، وألم الثاني شقاء.

باطل الحب يسعى إلى البداية الإلهية الأولى عن طريق الجنس، بينما الحب الحق هو البداية والنهاية والوسط؛ بل هو الكل: فلا بدء ولا انتهاء.

الحب الحق يمدِّد الإنسان، وباطل الحب يستهلكه. الأول يوسِّعه، والثاني يضيِّق عليه. الأول يجعله غيريًّا، والثاني يجعله أنانيًّا إلى حدِّ الكره. الأول مطيع، والثاني متسلِّط. الأول لا يريد شيئًا، فيحظى بالكلِّ؛ والثاني يريد بعض الأشياء، فلا يحظى إلا ببعض الأشياء. الأول متواضع، مع أنه كبير؛ والثاني متكبر، مع أنه وضيع.

المحب الحق كريم، معطاء، يريد مشاركة الجميع فيما هو فيه – وعندما يعجز عن ذلك يتألم. بينما المحب الباطل غيور، بخيل، لا يريد لأحد مشاركته فيما هو فيه – وعندما يعجز عن ذلك يتألم أيضًا.

باطل الحب مصدرُه الرغبة، والحب الحق هو تجلِّي الذات.

باطل الحب يتأثر بالزمن والمسافة والظروف، بينما الحب الحق لا يؤثر فيه الزمنُ والمسافةُ والظروف، لأن باطل الحب مخلوق، بينما الحب الحق خالق.

باطل الحب شعاعٌ وحيد الاتجاه، بينما الحب الحق أينما تولَّى الإنسان فثمة وجهُه.

المحب الباطل يحب شخصًا واحدًا، والمحب الحق يحب كلَّ مَن يتجلَّى فيه الحب الحق.

باطل الحب يكون بين اثنين، بينما الحب الحق ينبثق من الثالوث الذي يكوِّنه اثنان.

باطل الحق مثل ضوء القمر، والحب الحق مثل نور الشمس.

2

في هذه الأوقات العصيبة، لا نجرؤ على البوح بما يعتمل في صدورنا. فأي صوت منفرد الآن سوف يُعتبَر خارج "إجماع الأمَّة" التي تخوض الآن "معركة مصيرية فاصلة"! وبالتالي، ففي الوقت الذي يجب أن تتحد فيه الأصوات، يغدو الصوتُ المعارض لهذا "الإجماع" مشبوهًا إلى حدِّ الخيانة التي تستدعي العقاب القاسي العنيف.

ولكن! سيكون من الجبن أيضًا أن ينكفئ العقلاءُ اليوم أمام ضجيج لا عقل له، وأن يفقد المبصرون ثقتهم – الضرورية أكثر من أيِّ وقت مضى – في قدرتهم على تسليط الضوء على هذه العتمة المخيفة، أو أن ينخرط الراؤون في حشود العُمِي باسم "المعركة".

في السنوات الأخيرة، باتت الأمورُ مكشوفةً أكثر، وغدت المجاهيلُ معروفةً أكثر، وأضحى ما كان طيَّ السرِّ والكتمان مفضوحًا للقاصي والداني. ومع ذلك، فالجهل يزداد سطوةً، والعمى يفتك بأفاضل العقول. صار الجاهل حكيم الأمَّة، والعنيف بطل الأمَّة، واللص حامي الأيتام والأرامل والثكالى – مما دفع بالشرفاء والعقلاء إلى الإقرار بالهزيمة واللجوء إلى أحضان اليأس. لم يبقَ غير الحالمين والمغامرين والمجانين، الذين مازالوا يؤمنون بعالمٍ أفضل، أكثر عدالةً وأمانًا، وبإنسانية لم يتفتَّق عنها غشاءُ الرحم بعد.

هؤلاء هم الجوالون الذين صمدوا حتى النهاية خارج الأسراب والقطعان في عصر التجار هذا، القادرون على رؤية اللوحة الكاملة، المتحرِّرون من إسار الجزء، والنظر بعين واحدة، والكيل بعدة مكاييل، كأفضل مجاز عن رمزية "الأعور الدجال".

على هؤلاء يقع الرهان – اليوم وغدًا.

يدرك هؤلاء أن الرعايا والحريم غير قادرين على المقاومة والدفاع عن أنفسهم وانتزاع حقوقهم في الوجود والحياة والعيش الحرِّ الكريم. ويعلم هؤلاء أن أمراء الحرب وقطاع الطرق واللصوص وتجار العقائد إخوة متحالفون، وإن اقتتلوا فيما بينهم، لأنهم إنما يقتتلون على الغنائم التي هي نحن.

ويفهم هؤلاء أن معركتهم هاهنا، وأن عليهم خوضَها حيث هم. فالعاجز عن إيواء يتيم، أو عن تحرير معتقَل، أو عن استرداد حقِّ مظلوم في بيته، عاجزٌ عن خوض المعارك البعيدة وعن مساعدة الآخرين.

يعلم هؤلاء أن المستبد بهم والمستبد بالآخرين ينتميان إلى الطينة ذاتها، ويعملان في سبيل الهدف ذاته – وإن تصارعا. فالصراع هو الهواء الذي يُبقيهما حيَّين أصلاً. لذا فهؤلاء يتعرَّفون إلى أصدقائهم وأعدائهم حقًّا. وهكذا لا يجرفهم تيارُ الأحداث المتسارعة، ولا تُعميهم أضواءُ وسائل الإعلام "الكاشفة"، حيث إنهم يعلمون أن هذا العنف الفتاك إنما هو شكل من أشكال "البزنس" المدمِّر.

لا يضيِّع الجوال وجهتَه أبدًا، لأنه لا يفقد رباطة جأشه أبدًا. هو لا ينسى ولا يفقد ذاكرته. راسخ وثابت دائمًا هو الجوال. لذا ليس في مقدور الخطابات والشعارات أن تخدعه عندما تنحرف بوصلاتُ الآخرين وفق أهوائهم وولاءاتهم وانتماءاتهم. الجوال لا يميل مع هواه، ولا ينحرف. فقائده حقٌّ "لا ينطق عن الهوى".

الجوال محبٌّ دائمًا، ومسالم دائمًا. هو وديع ورؤوف، لأنه واسع جدًّا. وبذلك فليس له "آخر": هو الآخر، والآخر هو. هو يعرف أن مشكلة الجزء هي مشكلة الكل، وأن مشكلة البعض هي مشكلة الجميع كذلك. يعرف أن "خير" الجزء ليس خيرًا، وأن شرَّ الجزء ناتج عن شرِّ الكل.

"موقف" الجوال ليس موقفًا، بل عمل. رأي الجوال ليس رأيًا، بل حقيقة. كلام الجوال ليس صوتًا فحسب، بل فعل. وهكذا لا يضيع الجوالُ في الثرثرة، ولا تحمِّسه الهتافات والشعارات، ولا يفقد توازنَه عندما يتهاوى مَن حوله عن استقامة الصراط، لأن الجوال، في بساطة، سيِّد نفسه، والحاكم بأمره.

هو حرٌّ بين عبيد، عارف بين جاهلين. لذا فهو الأشد ألمًا وحزنًا، والأسطع غضبةً، والأعمق فعلاً – وإنْ كان أثرُه غير مرئي للعميان. وهو، لذلك، معرَّض للرجم والصَّلب والقتل من قبل أولئك الذين يعمل لأجلهم بالذات، لأن هؤلاء استوطنوا الظلمة، واستراحوا للمزيف، يتبعون الأهواء والظنون، يودون لو يدهن فيدهنون، غير عارفين أنهم "لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره لما ترك هذا الأمر"، ولما انحرف مع الانحراف.

وأخيرًا، يعلم الجوال علم اليقين أنه منتصر لا محالة، وأنه "الأكثرية"، وإن كان فردًا واحدًا. لذا فهو لا يقنط ولا ييأس.

يحمل عصاه، يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه. قامته الكون، وقِبْلته هناك، حيث قبس النور الأخضر. فأنَّى لهذا الإعصار الباهت أن يخيفه أو يغويه؟! وأنَّى لهؤلاء "الأقزام" أن يحطِّموا إرادته التي يستمدها من حكمة الماء؟! أنَّى لعبيد السلطة والمال والرجال أن يبلغوا أفقه وعمقه وسعته؟!

* * *

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود