|
مواقف مسيحية إيجابية من الإسلام 1
إن كلَّ حوار يقوم على إخصاب متبادل، لا على تسامح أبوي.
لقد أرسلتَ – يا ربُّ – أنبياء لكلِّ الشعوب، ذلك أنه ما من مخلوق يستطيع أن يفهم معنى لانهائيتك. نيقولاوس الكوزاني، أسقف كوزا (القرن 13)
أولاً: في العصور الحديثة شارل دو فوكو سوف أُفرِدُ قسمًا كبيرًا من هذا المقال لشارل دو فوكو وللجماعات المسيحية التي تعيش الآن في جميع أنحاء العالم مستلهمةً أفكارَه وطريقةَ حياته.
شارل دو فوكو ولد شارل دو فوكو في العام 1858 في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، وفيها نشأ وترعرع. كان من عائلة غنية نبيلة اشتهرت بعَراقتها العسكرية الوطيدة. توفيت أمه وهو في السادسة من عمره، ثم توفي والده بعدها ببضعة أشهر، فاختبر الصبي باكرًا قساوة حياة اليتم. أخذه جده عنده واعتنى بتربيته. وفي الثانية عشرة من عمره، اضطر إلى الهجرة إلى مدينة نانسي بسبب الحرب التي اندلعت بين فرنسا وألمانيا في العام 1870. اطلع في سني مراهقته على التيار المعروف آنذاك بشكِّه في أمور الدين وباعتناقه الفلسفة الوضعية التي ترتكز على العلم كجواب تام على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها البشر. وهكذا، شيئًا فشيئًا، فقَدَ شارل الإيمان. في سنِّ العشرين، تخرَّج شارل من المدرسة العسكرية المختصة بتنشئة الضباط، وانخرط في الجيش مدة ثلاث سنوات. توفي جده في تلك الفترة، ولم يعد هناك من شيء يقف في وجهه ويضبطه، فارتمى في حياة اللهو والعبث. أُرسِل شارل في العام 1881، وهو ضابط في الثالثة والعشرين من عمره، إلى بلدة سطيف شمال الجزائر في مهمة عسكرية. وقد وصل إلى هناك برفقة امرأة شابة، عرَّفها في البداية إلى زملائه بصفتها زوجته. لكنْ سرعان ما تبيَّن أن هناك علاقة غير شرعية بينهما؛ فأرغمه رؤساؤه على قطع العلاقة، لكنه رفض الانصياع للأوامر، حتى صدرت في حقِّه عقوبة تسريحه من السلك العسكري، فقرر من فوره العودة إلى فرنسا. لكنه بعد بضعة أشهر سمع بنبأ انتفاضة في جنوب الجزائر، فطلب إعادته إلى الجيش ليساهم في المغامرة. وهناك بدأت الأرجاء الصحراوية الواسعة تجتذبه أكثر فأكثر، وراحت رمال أفريقيا تستهويه. بعد انتهاء الحملة العسكرية، قرَّر شارل أن يترك الجيش نهائيًّا ويقوم باستكشاف في بلاد المغرب. انطوت رحلتُه على مخاطر جمَّة لأن مملكة المغرب كانت مغلقة وأرضُها محرمةً على الأوروبيين. وقد اضطر ليقوم بمشروعه إلى أن يتخذ هوية مزيفة في هيئة يهودي فقير محتقَر. وإبان السنة التي أمضاها هناك، اختبر حالة الفقر والوضاعة الاجتماعية، فكان اختبارًا فريدًا انطبع في قلبه انطباعًا عميقًا. إن كونه مسافرًا وحيدًا قد عرَّضه مرارًا للقتل؛ وقد عرفه مستضيفوه المسلمون واليهود مرتين، على الرغم من تنكره، لكنهم أخلوا سبيله نظرًا لتقليدهم في إكرام الضيف. وقد انطبع اختبارُ حسن الضيافة هذا في أعماق قلبه. أما المشهد الأكثر تأثيرًا عليه فكان مشاهدة المسلمين يؤدون الصلاة. يقول في رسالة إلى صديقه هنري دي كاستر: لقد ولَّد الإسلامُ فيَّ انقلابًا عميقًا. إن رؤية هذا الإيمان وهذه النفوس التي تعيش باستمرار في حضرة الله جعلتْني أرى أن هناك شيئًا أعظم وأحق من الاهتمامات الدنيوية الباطلة، فأخذت أطَّلع على الدين الإسلامي، ثم على الكتاب المقدس. وإبان العام 1885، أقام ذلك المستكشف الشاب في مدينة الجزائر لينهي كتابة مذكرات رحلته. وعندما عاد إلى فرنسا، كانت رحلتُه إلى المغرب قد أنضجتْه كثيرًا وأعطتْه شهرة واسعة؛ كما أن أسرته استقبلتْه بمحبة وترحاب، فشعر بنفسه يعود إلى حضن الله والعائلة. من كتاباته في هذه الفترة إلى صديقه هنري بخصوص الإسلام نقتطف المقطع التالي: لقد كنت أرى تلك البرانس أو العباءات الواسعة تنحني بروعة، في حركة واحدة، بحسب الركعات المفروضة، وكنت أسمع أصداء صلاة تردِّد بنبرة أعلى ابتهال "الله أكبر!"، فكان يجتاحني قلقٌ شديد هو مزيج من الخزي والغضب. ووددت أن أقول لهم إني أيضًا أؤمن، وأعرف أن أصلِّي وأن أسجد. في تلك المرحلة، بدأ المستكشف الشاب يبحث عن شيء جديد، وراح يفتش عن الحقيقة صادقًا. وقد ساعده الأب هوفلان، كاهن العائلة، في ذلك. ففي إحدى مواعظه قال: "أخذ يسوع المكان الأخير، حتى إنه لم يستطع أحدٌ أن يسلبه منه أبدًا." فانطبع هذا الكلام في قلبه للأبد. وعندما اقتُرِحَ عليه الحجُّ إلى الأراضي المقدسة لم يتردد في ذلك، وسافر في العام 1888 إلى فلسطين، حيث زار بيت لحم والناصرة والقدس، وعاش هناك "الحياة المتواضعة والخفية التي عاشها يسوع كعامل في الناصرة". بدأ التحول الكبير في حياة شارل يبلور قراراتِه المستقبلية. فقرر، في مطلع العام 1890، أن يتوجه إلى دير سيدة الثلوج للآباء التراپيين. وبعد بضعة أشهر، أُرسِلَ إلى دير آخر في شمال سورية. وفي أحد الأيام، أُرسِلَ ليسهر الليل بجانب رجل توفي في قرية صغيرة مجاورة للدير، – وكان من عائلة فقيرة جدًّا، – مما حمله على التساؤل: "أي فرق بين هذا البيت وبين مساكن الدير؟ إن عيني ترنوان إلى الناصرة." وصار يتوق إلى حياة فقيرة حقًّا. وبعد سنين من حياة الرهبنة، قرر ترك الدير ليعيش حياة بسيطة وفقيرة وقريبة من الناس. عمل شارل كخادم في دير الراهبات الكلاريان في الناصرة، وهناك سكن في كوخ كانت توضع فيه الأدوات الزراعية. ثم عاد في منتصف العام 1900 إلى فرنسا، ليقوم برياضة روحية ويُرسَم كاهنًا. ثم قرر بعدها أن يبني لنفسه صومعة في بني عباس في الجزائر. وكان يردِّد: أريد أن أعوِّد سكان المنطقة كلَّهم، مسيحيين ومسلمين ويهودًا، على أن ينظروا إليَّ كأخ لهم – أخ للجميع. وفي هذه الأجواء، عتق شارل بضعة عبيد من سيطرة أسيادهم بدفعه الفدية عنهم. وقد كتب: لا يجوز لنا أن نكون كلابًا لا تنبح وعسَسًا خرسًا. علينا أن نرفع أصواتنا عاليًا عندما نشهد الشرَّ أمامنا. ومع الوقت، بدأت آفاقٌ جديدة تنفتح أمام شارل للمضي إلى العمق أكثر، إلى بلاد الطوارق في الهوغَّار. فقد كتب إليه صديقُه القائد لابرين بإسهاب عن هذا الشعب الذي يتميَّز بأخلاقه النبيلة، موضحًا له احتياجاتِه كلَّها، وحاثًّا إياه على المضيِّ إلى تلك المنطقة. وقد استشهد في رسالته بموقف إنساني رائع أقدمت عليه إحدى نساء الطوارق في أثناء معركة دارت بينهم وبين الفرنسيين، حيث منعتْ أبناءَ قبيلتها من الإجهاز على الجرحى الفرنسيين، فاعتنت بهم في بيتها، وسعت في إعادتهم إلى ثكنتهم بعد شفائهم!
شارل دو فوكو مع جنود جرحى في قتال المنغر، أيلول 1903 تأثر شارل جدًّا بكتابات صديقه، وقرَّر أن يتوجَّه إلى هناك. وبعد خمسة أشهر من السفر المتواصل المرهق، وصل إلى الهوغَّار، وعلى الفور شعر بانجذاب كبير إلى المكان، فاستقر في تمنراست، وأخذ يتعمق في لغة الطوارق ويهتم بثقافتهم، ونسخ خلال سنوات عديدة القصائد التي تُغنَّى في المساء حول النار والتي تحمل في طياتها تاريخ هذا الشعب وروحه العميقة. وفي ذلك الوقت، كانت المنطقة تتعرض لقحط مخيف، وانتشرت المجاعةُ في أرجاء البلاد كلِّها، فشارك شارل بكلِّ ما لديه حتى آخر كسرة خبز، إلى أن نفد ما لديه وأعياه المرض، فشعر بنفسه متروكًا في عزلة كبيرة. وفي تلك اللحظة، شعر بمحبة الطوارق له، حيث لم يألوا جهدًا في تقديم بعض الحليب له، وصارت علاقةُ الصداقة بينه وبينهم تتوطد أعمق فأعمق. وفي زمن كان من المعتاد فيه ترديدُ مقولة "لا خلاص خارج الكنيسة"، كتب شارل كلماتٍ قوية للغاية: لست هنا البتة لأَهدي شعب الطوارق، إنما لكي أحاول أن أفهمهم. إنني متأكد بأن الله سيستقبل في السماء كلَّ مَن عاش حياةً صالحة مستقيمة، دون أن يتحتم عليه أن يكون مسيحيًّا كاثوليكيًّا لاتينيَّ المذهب. فالطوارق مسلمون، وأنا موقن بأن الله سيرحب بنا جميعًا فيما إذا كنَّا نستحق ذلك. في العام 1910، باشر شارل بناء صومعة أخرى في جبال الهوغَّار العالية على هضبة الأسكريم؛ وكانت علاقته مع الطوارق تتعمق. وفي منتصف العام 1914، اندلعت الحرب بين فرنسا وألمانيا، مما اضطر القوات الفرنسية أن تخفِّف من تعدادها في الجزائر. فبرزت حركةُ تمرد محلِّية وعصابات مسلَّحة تهدد سلامة جميع سكان المنطقة. وفي تلك الأجواء المشحونة، لبث شارل وحيدًا في تمنراست، معرَّضًا لكثير من الأخطار. وقد نصح له الضباطُ الفرنسيون التابعون للثكنة المجاورة بالالتحاق بهم، لكنه رفض لأنه يريد البقاء مع هذه الحفنة من الطوارق التي ترسخت عرى الصداقة بينه وبينهم؛ ففي ساعة الخطر لم يشأ أن يتركهم. وهكذا صار ارتباطُه الإنساني أعمق من كلِّ نزعة قومية. في العام 1916، بدأ الوضع يتفاقم وعدم الأمان يزداد. فصمَّم شارل أن ينقل مسكنه إلى مسكن آخر يبنيه على شكل برج صغير حتى يستطيع أهل تمنراست الاختباء فيه في حال وصول الغزاة. وكان جنودٌ من الثكنة الفرنسية المجاورة قد وضعوا في هذا البرج بالذات أسلحةً لتوزيعها على رجال الطوارق المكلَّفين بحماية تمنراست. وفي مطلع آخر شهر من العام 1916، عند غروب الشمس، وصل عدد من الطوارق العصاة مسرعين الخطى نحو البرج، عازمين على نهبه واحتجاز ناسكه رهينة. وكان بينهم شاب سبق أن عرفه شارل، فلم يتردد في فتح الباب. وهكذا قبضوا عليه وسجنوه خارجًا وربطوه بالحبال وجعلوه تحت حراسة صبي في الخامسة عشر من عمره. لكن الوصول المباغت لرجلين من سُعاة البريد خلق لحظة ارتباك فَقَدَ فيها الصبي رشده، فأطلق النار على سجينه وقتله على الفور. وهكذا انتهت حياة رجل بدأ غنيًّا متغطرسًا، ليتدرج في الفقر ومحبة الآخرين والانفتاح عليهم، حتى دفع حياته شهادةً على إيمانه. يقول شارل في صلاته: أبتِ! إني أسلِّم لكَ ذاتي، فافعل بي ما تشاء. ومهما فعلتَ بي، فأنا شاكر لك. إني مستعد لكلِّ شيء، راضٍ بكلِّ شيء. ليست لي رغبة أخرى، يا إلهي، سوى أن تكمل فيَّ إرادتك وفي جميع خلائقك. إني أستودع روحي بين يديك، وأهبُها لك، يا إلهي، بكلِّ ما في قلبي من حب. ولأني أحبك، ولأن الحب يتطلب مني أن أهب نفسي، أستودعُها بين يديك، من دون مقياس، وبثقة لا حدَّ لها، لأنك أبتي. وأنا، إذ أردِّد هذه الصلاة، أتذكر رابعة العدوية، الصوفية المسلمة، تقول في دعائها: "ربي، إن توسلت إليك خوفًا من الجحيم فزجَّني في نارها، وإن ابتهلتُ إليك طمعًا في الجنة فأغلق دوني بابها. ولكن إن دعوتُك حبًّا بك، فلا تحرمني بهاءك الأبدي. يا ألله، من دون ذكرك لا أستطيع أن أحيا في العالم، وكيف يمكن لي الصمود أمام الآتي من دون رؤياك. يا ربُّ، تنهُّدي ليس بشيء أمامك، إذ أنا غريبة في بلادك، وحيدة وسط عبادك." * أما كيف رأى المسلمون حياة شارل، فإني أستعين على ذلك بكتاب لعلي مراد بالإنكليزية، بترجمة علي مقلِّد (بالعربية). يقول مراد: إن المجنون بالله هو، قبل كلِّ شيء، إنسان. ذلك هو شارل دي فوكو، إنسان تتأكَّله نارٌ داخلية هي في نظره محبة يسوع والرغبة في تقليده. ثم إن هذا الكائن لم ينفك بعدُ أن يكون بشرًا، أي فرنسيًّا من أواخر القرن التاسع عشر، مطبوعًا على تربيته، وعلى ثقافة عصره، وكذلك على تكوينه العسكري، وزيادة على ذلك، محاطًا بالإطار الاستعماري الذي يترتب عليه التعامل معه. وفي موضع آخر: إن الأخ العالميَّ قد بذل جهده متفانيًا في خدمة الصحراويين الذين كانوا يأتون لرؤيته، أو الذين كانوا يستطيعون لقاءه في أثناء دوراته وزياراته عبر الواحات. لقد اهتم بالبؤساء والمرضى، موزِّعًا الأغذية والخدمات والأدوية.
شارل دو فوكو يحمل طفلاً أفريقيًّا مريضًا وفي موضع ثالث: بفعل فضيلة قدوته، ساهم شارل دي فوكو، في أعين المسلمين، بتقويم سلَّم القيم في حقيقة معناه. فلا تتجلَّى التقوى فقط في حياة التأمل أو الالتزام بالشعائر. إنها في أساسها فاعلة ومشعة، خلاَّقة للسعادة وملهِمة الخير لبني البشر. هذه النقطة ثابتة ومستقرة في العقيدة الإسلامية. وبهذا الشأن، ينذر القرآن إنذارًا قاطعًا: "ليس البر أن تُوَلُّوا وجوهَكم قِبَلَ المشرق والمغرب" (البقرة 177). وبعد هذه الآية يأتي تفضيل الأعمال الصالحة الداخلة في التعريف القرآني للبرِّ الحق: الإحسان إلى الفقير واليتيم وابن السبيل، وإطلاق الأسرى، والوفاء بالعهد، والصبر على البأساء والضراء. ويتابع القرآن: "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتَّقون" (البقرة 178). وأيضًا: إن شارل دي فوكو استطاع أن يكسب ثقة الطوارق واحترامهم – هذا الشعب الأبي القاسي والصعب المراس، المستعصي على المؤالفة. إن حسن معشره، ولطف كلامه، وبرَّه وتقواه، قد فتحت له الكثير من القلوب. واستقامتُه وحسُّه بالعدالة قد مكَّناه من أن يُحتكَم إليه في بعض الأحيان. وعندما نعرف السلطان الأدبي والتأثير الاجتماعي الذي يمكن للحَكَم أن يمارسه في المجتمع البدوي التقليدي، ندرك إلى أيِّ حدٍّ تغلغل المرابطُ المسيحي في الوسط المسلم المجاور له. ويوثِّق الكاتب رسالة تعزية من زعيم الطوارق موسى آغامستان إلى أخت شارل، جاء فيها: منذ أن علمتُ بموت صديقنا، أخيكِ شارل، غامت عيناي، وكل شيء بات قاتمًا في وجهي. لقد بكيت وذرفت الكثير من الدموع، وإني لفي حداد عميق. * بعد موت شارل دو فوكو بنحو 16 عامًا، شعر الأب رونيه فوايوم، الفرنسي الجنسية، مع أربعة أصدقاء، بالحاجة إلى الحياة على نمط هذا الراهب الغريب الدعوة، الذي ذهب إلى البعيد، إلى الصحراء، إلى الطوارق، فقام بتأسيس رهبنة "أخوة يسوع الصغار" الذين انطلقوا من الصحراء الجزائرية إلى أنحاء العالم كافة.[†] وكذلك فعلت الأخت مادلين، فقامت بتأسيس جماعة رهبانية من الأخوات من أجل العرب الرحَّل المسلمين، الأفقر والأكثر تعرضًا للإهمال منهم خصوصًا، وانطلقت معهن من صحراء الجزائر إلى الشرق العربي كلِّه، ثم إلى العالم أجمع.[‡] عندما أتكلم على هذه الجماعات الرجالية والنسائية، المنتشرة في الوطن العربي في تواضع وبساطة، والمتغلغلة في الحارات الشعبية قريبًا من المسلمين خصوصًا، – أقول: عندما أتكلم عليها، أشعر أن التيار المنفتح في كنيسة اليوم يدعو إلى العزاء، وهو أقوى من طوفان الحقد والتباعد وإلغاء الأخر. ولقد عرفتُ الكثير من الأخوة والأخوات في سورية ولبنان، وهم أمثلة حيَّة على المحبة الأخوية الإنسانية من دون حدود. أذكر منهم: إيف: رجل فرنسي الأصل، أحد الأخوة. يقيم في دمشق منذ سنوات عديدة، ويعمل في قرية SOS للأطفال. يقوم بدور البستاني إيمانًا منه بالعمل كالبسطاء وبكسب المعيشة بعرق الجبين. ومن خلال وجوده هناك، يقيم علاقات كثيرة مع الأطفال والمسؤولين المسلمين، ويلقِّبه الجميع بـ"العم إيف". التقيت به عدة مرات، وزرتُه في البيت والعمل. وهو يحب المسلمين حبًّا عميقًا، يحترمهم ويقدِّرهم، ولديه صداقات رائعة معهم. علَّمني إيف كيف تكون الصداقةُ حقيقيةً مع المسلمين. پاولا: إيطالية الأصل، من أخوات يسوع الصغيرات. تدهشني ابتسامتُها الدائمة وطفولةُ ملامحها. عملتْ لسنوات في المبرَّة الإسلامية بحلب (سورية)، وأقامت صداقاتٍ جميلة مع المعوقين والمسؤولين، وأغلبهم – إن لم يكن جميعهم – من المسلمين. علمتْني پاولا الكثير من الاحترام والمحبة للمسلمين. بطرس: طبيب من جماعة أخوة يسوع الصغار. يعيش في قرية المجذومين في إيران؛ وهو يساعدهم على التغلب على صعوبات مرضهم، كصنع أحذية طبية خاصة للمرضى الذين يفقدون أصابعهم، وأحيانًا أرجلهم، نتيجة الفقدان الحسي والعصبي. يعيش هذا الأخ في تواضع وانسحاق نادرين. وأنا لم أتعرف إليه شخصيًّا، لكني تابعتُ أخباره فترة طويلة. * الرهبان السبعة ليس الهدف من هذا القسم من المقال إثارة الحقد على الجماعات الإسلامية التي قتلت سبعة رهبان مسالمين في الجزائر منذ أعوام، وليس أيضًا إظهار بطولة هؤلاء النسَّاك ووحشية الناس المحيطين بهم، لأن ذلك يعاكس النية الإيجابية لهذا المقال ويتناقض مع رغبتي في فتح آفاق للمسلمين والمسيحيين، حتى يروا الجانب الناصع في الإسلام، لتحريره من نعوت الإرهاب والعنف التي بدأت تُلصَق به في السنوات الأخيرة. ناهيك عن أن الشعب الجزائري المسلم قدَّم حوالى 100 ألف من أبنائه ضحايا لهذه الحركات الإرهابية. الغرض من هذا القسم هو بالحري فهم التفكير العميق من وراء حياة الرهبان في الشرق، خصوصًا في المناطق المسلمة. ويجب ألا نظن أن هؤلاء الرجال "انتحاريون"، أو يطلبون الاستشهاد من أجل أفكارهم أو دينهم، بل هم، بكلِّ بساطة (كما تدل على ذلك الكتب والمقالات الكثيرة التي كُتِبَتْ عنهم)، أشخاص أحبوا أن يبقوا قرب أصدقائهم الذين شاركوهم حياتهم لسنوات طويلة، ولم يتخلوا عنهم ساعة الشدة، حين ازداد التوتر بين الناس والجماعات الإسلامية المسلَّحة.
غلاف كتاب جان ماري مولِّر رهبان تبحرين: "شهداء" اللاعنف الرهبان السبعة يوم الخميس في 30 أيار 1996، حوالى الظهر، شاهد أحد الفلاحين ثلاثة رؤوس بشرية مقطوعة ومعلقة بواسطة أسلاك على أوتاد السياج المحيط بأرضه في منطقة المدية في الجزائر، وكان رأسٌ رابع ملقى على الأرض. أصيب الفلاح بالرعب والذهول. وحين حضر المحققون إلى المكان، وجدوا بين النباتات العالية رأسين آخرين داخل كيسين أسودين من البلاستيك ملقيين في الحفرة الموازية للطريق العامة. وبعد حين، عُثِرَ على رأس سابع في مجرى جاف لنهر صغير بالقرب من ذلك المكان. كانت الرؤوس السبعة في حالة من التفسخ، بحيث إن خمسة منها غدت دون لحم؛ لكن البطاقات الشخصية الموجودة في كيس صغير بالقرب من الرؤوس أثبتت هوية المقتولين. شيء عن التاريخ إن حملة الفاتح العربي عقبة بن نافع والحملات التالية لم تؤدِّ إلى محو الوجود المسيحي في شمال أفريقيا محوًا كاملاً. فقد بقيت الكنيسة هناك، تارة تحت ضغط شديد، كما حدث في نهايات القرن الثاني عشر، وتارة أخرى كمتسلِّطة ومبشِّرة وداعية إلى التنصير بالإكراه، خاصة بعد احتلال فرنسا للجزائر في العام 1830.
دير سيدة الأطلس بعد استقلال الجزائر، بدأت الكنيسة بالانحسار. وفي بداية التسعينات، في إثر الأحداث الدموية وأعمال القتل واختطاف الفئات الإسلامية المسلَّحة لآلاف الجزائريين والأجانب، غادر كثير من الفرنسيين والرعايا الأجانب، وصار عدد المسيحيين ضئيلاً جدًّا. وعندما ذُبِحَ إثنا عشر كرواتيًّا في مدينة تيمزقيدة، أحسَّ الرهبان الساكنون في دير سيدة الأطلس أن الخطر محدق بهم. وعلى الرغم من أن علاقتهم بالجيران في تبحرين كانت رائعة وعميقة، إلاَّ أنهم اجتمعوا ليقرِّروا البقاء أو الخروج، فأجروا اقتراعًا سريًّا، اتفقوا بعده بالإجماع على البقاء مع أصدقائهم في لحظات الخطر. كان الأخ آميديه، وهو راهب عجوز، يُدعى "الشيخ حمادة"، والأخ لوك، الطبيب العجوز، يعالج الكثير من المرضى هناك. وكان تمثال السيدة العذراء مريم يسهر على الأطلس، وقد كُتِبَ تحته "صلِّي لأجلنا ولأجل المسلمين".
شهداء تبحرين السبعة الاختطاف مدة 56 يومًا في الساعة الواحدة صباحًا من 27 آذار 1996، دخلت مجموعة من المسلَّحين إلى الدير، واختطفت سبعة رهبان. وسرعان ما انتشر الخبر، وبدأت محاولات شتى من جميع الجهات للتوسط لإنقاذهم، مثل الدعوة والنداء الموجهين من إبراهيم يونسي، عضو "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي قال فيها: إن الخليفة الأول للنبي، أبو بكر الصديق، أوصى المقاتلين المسلمين بأن يتحاشوا تلطيخ انتصارهم بدماء النساء والأطفال والعجزة. وهذه الوصية ترتفع إلى مستوى التحريم: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة...". إن قتل الأبرياء وقتل أولئك الذين لا يقاتلون حرام... "وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له." بعد حوالى شهر من الاختطاف، صدر عن الجماعة الإسلامية المسلَّحة بيانٌ في جريدة الحياة تعلن فيه مسؤوليتها عنه، وتؤكد أن رجال الدين أحياء، وأن الجماعة تريد التحاور مع الرئيس جاك شيراك بخصوص مبادلة المعتقلين. وفي تهديد آخر طلب البيان: "إذا أطلقتُم أطلقنا، وإذا أبيتم ذبحنا." وبعد 56 يومًا، دفع الرهبان السبعة ثمن قرارهم بالبقاء للحياة مع أخوتهم وأصدقائهم والتعايش مع أبناء تلك المدينة. الأب كريستيان: في قصة مؤثرة رواها كريستيان لأصدقائه وأهله نفهم الآن، إلى حدٍّ بعيد، ما كان يحصل في تبحرين بين الرهبان وأخوتهم المسلمين. فحين كان كريستيان يبحث عن دعوته لخدمة الله والبشر، كان يتجول في المنطقة هناك، قبل أن يصبح راهبًا، مع رجل اسمه محمد، متزوج ولديه عشرة أولاد. ويبدو أنهما ابتعدا قليلاً، فإذا بمجموعة من المسلَّحين تكمن لهما وتشهر عليهما الأسلحة. عندما رأى محمد أنهم سيقتلون صديقه كريستيان، تقدَّم ووقف أمامهم حاميًا كريستيان وراء ظهره، وتكلَّم مع المسلحين وأخبرهم أنه رجل مسالم لا يحمل السلاح ولا يريد شرًّا بأحد. مضى الرجال المسلحون يومذاك، ولكن محمدًا وُجِدَ في اليوم التالي مقتولاً، مقطوع الرأس، قرب بيته. تألم كريستيان وشعر أن محمدًا قدَّم له حياته عربون صداقة ومحبة، فقرر بعد ذلك أن يعيش في البلد الذي أعطاه فرصةً للحياة من جديد، من أجل الناس الذين، على غرار محمد، يقدِّمون حياتهم للآخرين. رباط السلام: تأسَّس في العام 1979؛ وهو مجموعة صغيرة تضم الرهبان وأصدقاء الدير ومسلمين من مريدي طريقة صوفية في الجوار. وهم يجتمعون للتأمل وتبادل الآراء والصلاة. وكان كريستيان روح الفريق. وهو قد تعمَّق في اللغة العربية والدين الإسلامي، وركز انتباهه على روحانية الشعب وتدينه. وكان يقول إنه "مؤمن بين المؤمنين"، كما قدَّم فكرة "الإسلام الباطني" المنفتحة على الآخرين. كان يقرأ كتابًا عن التصوف الإسلامي من تأليف الشيخ خالد بن تونس، كما كان يستشهد بآيات قرآنية في أحاديثه وكتاباته. كانت العلاقة بين أهل الدير وسكان تبحرين جميلة ووطيدة. فمثلاً، في بداية التسعينات، حين قرَّر المسلمون في تبحرين بناء مسجد، قدَّم الرهبان قاعة من قاعات الدير لكي تُستخدَم لتأدية الصلوات الخمس حتى الانتهاء من بناء المسجد، فكان السكان يصلون في تلك القاعة، والمؤذن يرفع الأذان في أوقاته الخمسة. أصدقاء لشارل دو فوكو كتب روبير ماسون في كتابه تبحرين: ساهرو الأطلس: لقد أراد ناسك الصحراء أن يكون أخًا عالميًّا لجميع البشر. وعلى الرغم من جميع الفوارق بين الأوضاع التاريخية، فإن رهبان تبحرين تابعوا المسيرة ذاتها. هذا الخط الروحي الذين ابتدأ في بداية القرن العشرين، ونما نموًّا خافتًا، لكنه قوي، وتأصَّل في قلب الكنيسة، وارتوى بالدم والصدق، ما يزال يحث الكثيرين على الانفتاح العميق على الآخرين، عارفين الثمن ومرحِّبين به في سبيل المحبة. يقول القديس أوغسطينوس، وهو جزائري مسيحي: أيًّا كان الخطر، ينبغي للأساقفة البقاء في وظائفهم؛ يجب عليهم ألاَّ يتهرَّبوا وألاَّ يتخلوا عن المؤمنين. ويختصر كريستيان معنى وجوده في أرض الإسلام بقوله: ينبغي الدخول في محور الآخر. الآخر يعنيني. وبقدر ما هو آخر، غريب، مسلم، بقدر ما هو أخي. اختلافُه ذو معنى في نظري، وفي ما أنا عليه. هذا الاختلاف يضفي قوةً على علاقاتنا المتبادلة، وكذلك على بحثنا المشترك عن الوحدانية في الله. دُفِنَ رفات الرهبان في أرض الدير يوم الثلاثاء 4 حزيران 1996. * أضيف هنا بضعة مقتطفات من حوار مع أسقف كنيسة الجزائر، المونسنيور هنري تيسييه[§]، لإيضاح صورة الكنيسة في الجزائر هذه الأيام. سؤال: بمجرد تصاعُد سلسلة اغتيالات الرهبان والراهبات، هل تلقيتم تعليمات بضرورة مغادرة أرض الوطن؟ هنري تيسييه: في الحقيقة لم نتلقَ دعوةً بمغادرة أرض الوطن من الفاتيكان، أي من البابا، بل العكس: فقد ألحَّ على ضرورة بقائنا في الجزائر. أما الذين طلبوا منا المغادرة فهم الرؤساء الروحيون للجماعات الرهبانية؛ لكن رهبان الجزائر وراهباتها رفضوا ذلك. وفي رسائلهم التي يشرحون فيها الدوافع التي جعلتْهم يختارون البقاء، ركَّزوا على الروابط وعلاقات الصداقة مع الجزائريين وعلى الوفاء للناس في الأحياء التي يعيشون فيها. أتذكرون الرهبان السبعة الذين اغتيلوا في تبحرين قرب المدية؟ عندما زارتْهم الجماعات المسلَّحة للمرة الأولى، فكروا في الانسحاب خوفًا من أن يطلب هؤلاء منهم المساعدة، لكنهم لم يغادروا المنطقة عندما فكروا في الجيران الذين تربطهم علاقات متينة بهم. إن أبرشية الجزائر كان فيها 75 فردًا، اغتيل منهم 11، وغادر البلد بعض الشيوخ والمسنَّات، وبقينا 55 فردًا. س: كيف تصفون بقاءكم؟ أهو نوع من التحدي؟ هـ.ت.: لقد جئنا هنا لمشاطرة الجزائريين حياتهم. والانسحاب في بداية الأزمة سيكون خيانة لدعوتنا التي نؤمن بها: فالدعوة تأتي من عند الله، وتدفعنا للعيش مع إخوان ليسوا مسيحيين، كدليل على أن الإخاء يجب أن يكون عالميًّا. س: كيف تتصورون الدور الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة في هذه الفترة بالذات؟ هـ.ت.: أكثرية الجزائريين هم مسلمون؛ وبوجودنا نمنحهم إمكانية العمل المشترك مع أشخاص ينتمون إلى آفاق مختلفة على المستويين الديني والثقافي. كذلك، بعد أحداث 11 سبتمبر، بات علينا أن نجعل الغرب يفهم بأن إعلان الحرب على الأمة الإسلامية خطأ وخطر، وأن عليهم أن يميِّزوا بين الجماعات الصغيرة التي مارست الإرهاب وبين الشعوب التي تألَّمت من الإرهاب قبل أن يتألم منه الغرب. س: شهدنا فترة تقارُب بين الكنيسة والساسة الجزائريين من خلال زيارة الرئيس بوتفليقة لروما ولقائه مع البابا يوحنا بولس الثاني. ما هي الأحوال اليوم؟ هـ.ت.: الحقيقة أن الحوار المسيحي–الإسلامي في الجزائر هو حوار يومي في الميدان، خدمةً لقضايا إنسانية (أذكر منها التكفل بالأطفال المعوقين، وتأهيل الطلبة، إلخ)، وفي الحوار النظري: فقد تسلَّمتُ دعوة من معهد أصول الدين في جامعة الجزائر للمشاركة خلال شهر نيسان في ملتقى حول الإسلام والحضارات الأخرى. س: هل أصبحت "الهداية"، كما تسمونها، أو "التنصير"، كما يُسمَّى هنا، فكرة قديمة؟ هـ.ت.: في القرن الماضي، عندما تزامَن وجود الكنيسة مع الوجود الفرنسي، اعتبر الكثيرون ذلك خطرًا على الإسلام. لكنهم اكتشفوا فيما بعد أن عدد المسلمين لم يتغير، وقرروا العمل سويًّا، لأن ذلك يزيدنا إيمانًا وتمسكًا بإيماننا. وإن تأسيس جماعة "الآباء البيض" من طرف الكاردينال لافيجري، الذي لا يُذكَر عادةً بخير في الجزائر، كان يهدف إلى اعتناء الكنيسة بالناس كافة، وليس بالمسيحيين فقط. وقد منعهم في البداية من الارتباط بالكنائس، وطلب منهم العيش في الأحياء الشعبية، كما منعهم، في البداية على الأقل، من تنصير الجزائريين – والنصوص واضحة في خصوص ذلك. لكنْ، فيما بعد، اتُّخِذَ البعضُ من الآباء البيض رمزًا للتنصير في الجزائر. ونحن نعلم أن مئات الآلاف من الجزائريين عرفوا الآباء والأخوات البيض، وعملوا معهم وهم باقون على إسلامهم. * جماعة دير مار موسى الحبشي يقع دير مار موسى الحبشي قرب مدينة النبك، شمال دمشق (سورية). وهو دير قديم يعود إلى عصر الرومان، حين شُيِّد ليكون قلعة وبرجًا لمراقبة الطريق القديمة التي كانت تسلكها القوافل بين دمشق وتدمر. وفي عهد المسيحية، أقام في الكهوف من حوله عددٌ من الرهبان، من بينهم الراهب موسى الآتي من بلاد الحبشة. والكنيسة الحالية للدير تعود إلى سنة 1058 م، وبداخلها جداريات جميلة تعود إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر على ثلاث طبقات.
جدارية "يوم الحساب" في كنيسة دير مار موسى الحبشي بعد ترميمها بقي الدير مسكونًا حتى العام 1831، حيث هُجِرَ مدة 151 عامًا، وبُعِثَ إلى الحياة مع مجيء راهب يسوعي إيطالي الجنسية، قرَّر ترميمه، ثم السكن فيه وتكوين جماعة روحية رهبانية، هدفها استعادة المعنى المطلق للحياة الروحية في الصلاة والعبادة المجانية، وممارسة الضيافة الإبراهيمية لجميع سكان المنطقة، مسيحيين ومسلمين، وإنعاش البيئة الصحراوية الجافة بالزراعة وتربية الحيوانات من منظور إيكولوجي. وهكذا، بعد حوالى عشرين عامًا من العمل الدؤوب، تحولت كومة الحجارة والبناء المتهدِّم إلى دير واسع، وأضيف إلى البناء الأساسي بناءان آخران للاستقبال والدعوة الرهبانية النسائية.
منظر عام لدير مار موسى بعد ترميمه (في الوسط) مع البناءين الجديدين الملحقين به اسم الراهب الإيطالي پاولو دالوليو، ويحب أن يُدعى بالراهب بولص. وقد أتمَّ دراساتِه اللاهوتية مختصًا في الإسلاميات وفي حوار الأديان، وخاصة الإسلام. ويمارس الراهب بولص إيمانه بالمسيح عن طريق المحبة الأخوية للمسلمين محليًّا (وهم الأكثرية الغالبة في مدينة النبك)، وعالميًّا عن طريق الحوار المسيحي–الإسلامي والمحاضرات واللقاءات، وتنشئة الشبيبة على اللاعنف والتعاون والعيش المشترك المسالِم. ولقد تعرفت في العمق على تفكير الراهب بولص وعمل الجماعة المحيطة به لدى زياراتي المتكررة للدير ومكوثي هناك أيامًا طويلة، ولا أنكر أنه كان أحد أهم الناس الذين أثَّروا في محبتي للمسلمين والانفتاح عليهم.
الأب پاولو دالوليو (الراهب بولص) إن مشروع دير مار موسى الحبشي متفرِّد من حيث موقعُه في المحيط الإسلامي وانفتاحُه على المسلمين بنظرة مسيحية إيجابية تحترم الآخر، دون الرغبة في تغييره أو السيطرة عليه؛ ومتفرِّد أيضًا من حيث روحُه المسكونية وفكره اللاهوتي المنفتح. وفيما يلي أثبت مقتطَفًا من مقال للأب پاولو[**] يعبِّر عن روح المشروع: [...] بفهم عميق للتطور الأنثروپولوجي عِبْر القرن المنصرم، كان ماسينيون منتبهًا جدًّا إلى البعد الروحي والسياسي للعلاقة بين الرجل والمرأة. لذا فهو يربط، رمزيًّا، بين الجماعات الغاندية والأديرة المسيحية التأملية، ويركِّز على ضرورة الحفاظ على أماكن روحية ذات بُعد فنِّي وتاريخي في جوار المدن الإسلامية، حيث يشبِّهها بصوامع الأديرة الشرقية في البرية. وهذه الأماكن المقدسة أنثوية ومريمية وإفسُسية وفاطمية. وقد شاهد ماسينيون في حياة مريم ويوحنا التلميذ في إفسُس أنموذج الموقف الذي تجد به البشريةُ خلاصَها والكنيسةُ كمالَها. وهو يتمنَّى تأسيس مجموعات مشتركة من متأملين ومتأملات يقفون في ما بين الحدود الفاصلة، جيوش جهاد على جبهة الكفاح الروحي، حيث يحفظهم من كلِّ شرٍّ حضورُ الله المقدس السرَّاني المتطلِّب الشافي، مجسِّدين نذورهم في سبيل الحق بأفعال رحمة، أولها ضيافة الغريب. وهم شهود لطعنة الرمح في جنب المسيح، مع العذراء ويوحنا والمجدلية. لن أطيل الحديث أكثر، وسأختار من كتابات الراهب بولص بعضًا من مقالة تلخِّص جانبًا هامًّا من فكره. نبوَّة... شخص... مستقبل إن النبوَّة وفعل الإيمان يشكِّلان وجهين لحقيقة واحدة، وهي الإمكانية والمقدرة على استقبال حضور الله–الشخص ومبادرته في أعماق القلب وذروة الشخص في شراكة الروح. إن هذا الحضور للضيف الإلهي ناطقٌ وخلاقٌ. آدم، العالم الأصغر، خُلِقَ، بحسب النصِّ القرآني، مثل الكون بأسره، من الأمر الإلهي: "كن فيكون" (سورة آل عمران، الآية 59) – في التاريخ وإلى المنتهى. وقد دُعِيَتِ الملائكةُ، أي القوات الروحية، إلى أن تسجد لآدم (سورة البقرة، الآية 34) المخلوق من الطين والنفخة (سورة الحِجْر، الآيتان 28-29، سورة ص، الآيتان 71-72)، وهذا لأنه نبي، ينطق بالأسماء المعبِّرة عن المعاني التي أوحى له الله بها، ويعلم ما تجهله الملائكة (سورة البقرة، الآيات 31-33). أُخرِجَ آدم من الأرض، وأُخرِجَتْ حواء من آدم: توازٍ تام. وإذ دخلتْ نفخةُ الله حشا مريم البتول، صار الكلمةُ بشرًا. تضيع أصولُنا الآدمية في ماضٍ من التحولات التطورية اللامتناهية، بينما يصير مستقبلنا نتفًا من لحظة الحاضر، من بعدما أصبح ممكنًا وواجبًا أن نتصوره كتقدمٍ تدريجيٍّ للعالم الإنساني إلى ما خارج كوكب الأرض باتجاه تشتتٍ زمنيٍّ ومكانيٍّ لا حدود له. بهذا لم يبقَ سوى منحنى حياة الشخص، المربوط ببداية خالقة وبنهاية فانية، مقياسًا باقيًا ومفتاحًا لتأويل الوجود. فعيسى ابن مريم، الشخص، في ادعائه الرهيب بأن ينقض الهيكل في نفسه، نموذجًا للكون ومقرًّا للمجد، وبأن يعيد بناءه، يرشِّح نفسَه قمةً وينبوعًا للمعنى، للحياة والنور، بنظر تلاميذه، عندما يكتشفون فيه، في منحنى حياته، صورةً للكمال تعانق الكل. لذا، بعدما ذاق مع مريم أمِّه مرارة التَّرْك، يصرح بإتمام الكل: "قد تمَّ كلُّ شيء" (إنجيل يوحنا 19: 30). لكن التلميذ الذي يكتشف ولادة الكنيسة السرَّانية في خروج الدم والماء من جنب المسيح الأيمن يصرِّح بأنه الآن فقط يبدأ الكل. كلمة القرآن النبوية تركِّز على التوازي، بل على التطابق، بين آدم والمسيح (سورة آل عمران، الآية 59).[††] إن تتلمُذ الكنيسة على يسوع الناصري واضح كتخطٍّ للشرائع في إعادة خلق الشخص بكونه الآخر في العلاقة – رجل/امرأة، الله/أنا – بين طور سيناء، نبوة موسى، وبين غار حِراء، نبوة محمد. بينما إلياس، لا بل روح إلياس وروح أخنوخ (إدريس) ويوحنا (يحيى)، تعود باستمرار إلى السماء، تُختطَف على عربة نارية إلهية. موسى كليم الله، الذي تكلَّم معه الله فمًا إلى فمٍ، ما يزال يبشِّر بمجيء المسيح. وكذا محمد، الذي نزلتْ عليه الكلمةُ في صورة الوحي، ما يزال يعلن عودتَه النهائية. كلُّ ظاهرة نبوية تحدث في نطاق لغويٍّ خاصٍّ محدود في شكل طبيعيٍّ ملتبس. وإذا كان هذا الأمر لا يسوِّغ الموقف الأصولي لِمَن يعتبر أن إحدى هذه الظواهر النبوية هي وحدها المطلقة، فهو لا يجيز ممارسة الشكِّ الساذج في حقيقة الخبرة النبوية وصدقها. من خلال الفهم الروحي الممارَس في مستقبل الحوار والشراكة وحسب، يمكن لتلاميذ الناصريِّ الوصول إلى حقيقة نبوية توحيدية، شديدة ونقدية، ورافضة ظاهريًّا للعقيدة المسيحية، كالنبوة المحمدية. لا يمكن لهذا الفهم الروحي أن يحدث سوى من خلال اللقاء مع بني الإسلام عبر التقليد الروحاني الذي يربط بينه وبين مسلمي اليوم، حيث يلمس المسلمُ اليوم صدقَ النبي في خشوع وتقوى الأنفُس الأمينة المصلِّية، الضارعة، والمصغية إلى أولياء الإسلام وصدِّيقاته. كتب أحد تلاميذ المسيح عن حجاب موسى الذي وضعتْه الحكمةُ الإلهية لمنع استيعاب سرِّ الجلجثة كي لا يبقى هذا السرُّ أسيرًا في نطاق الشعب المختار (2 كورنثوس 3: 7-18)؛ وكذلك أُسدِلَ الحجابُ نفسه في القرآن سدًّا وردعًا لاستخدام هذا السرِّ المقدس كوسيلة للهيمنة المسيحية الدنيوية. *** [*] كاتب سوري مقيم في ولاية إنديانا، الولايات المتحدة. عضو في التنظيمات التالية: العفو الدولية، جمعية حقوق الإنسان، جمعية الأدباء العرب الأميركيين، الجمعية العالمية ضد التعذيب، رابطة القلم الأميركية. صدر له: في الشعر: الحب يطرق بابي، حضارة الحب، ألعنكِ أيتها التمائم المقدسة؛ في القصة والرواية: هذا الوطن لم يعد لنا (رواية)، هنا الأنبياء يُقتَلون (رواية قصيرة)، الغرباء (رواية قصيرة)، نبوَّة في صحراء (رواية، مترجمة إلى الإنكليزية)، الأجراس تُقرَع في بيت لحم (رواية)، حارة الطيبين (رواية)؛ دراسات: الإسلام بعيون مسيحية، أنثولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر (صدر منه جزآن)، مانديلا العرب: رياض الترك (مخطوط)، أنثولوجيا الأدب العربي الأميركي المعاصر (مختارات أدبية منقولة إلى العربية، قيد الإنجاز). [†] وهم يعدون اليوم حوالى 300 أخًا أو راهبًا يعيشون حياة بسيطة فقيرة مع المهمَّشين في أوروبا، ومع المسلمين في العالم العربي وباكستان وإيران. [‡] رهبنة "أخوات يسوع الصغيرات" موجودة حاليًّا في 68 بلدًا، وعدد أخواتها 1250 أختًا من 67 جنسية. [§] عن جريدة البيان، عدد 18 أيار 2002. [**] المقال بعنوان "جهاد لويس ماسينيون بين شارل دو فوكو وغاندي"، وهو منشور في معابر، الإصدار السادس، باب "منقولات روحية". (المحرِّر) [††] قارن مع العهد الجديد: روما 5: 14؛ 1 كورنثوس 15: 20-22، 45-49. |
|
|