|
مواقف مسيحيَّة إيجابيَّة من الإسلام 2
ثانيًا: مواقف إيجابية في العلاقات المسيحية–الإسلامية عبر العصور سأتناول في هذا الجزء الثاني مواقف بعض الجماعات المسيحية أو المسيحيين الأفراد، عِبْر التاريخ، من الإسلام والمسلمين. 1. العلاقة بين المسلمين والمسيحيين أيام النبيِّ وفترة الإسلام الأولى ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة عن السيرة النبوية: لما رأى الرسول ما يصيب أصحابَه من البلاء قال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكًا لا يُظلَم أحدٌ عنده، حتى يجعل الله لكم فَرَجًا مما أنتم فيه." فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. واشتدت قريش على المسلمين، وتتابع المسلمون إلى الحبشة، فكمل بها تمامُ اثنين وثمانين رجلاً، والنبي مقيم بمكة يدعو إلى الله سرًّا وجهرًا. ولما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمِنوا وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا عمرًا بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته وقالا: "إن ناسًا من سفهائنا فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدين مبتدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم." فردَّ النجاشي على مَن أوصلوا له رسالةَ الرجلين قائلاً: "لا والله، لا أسلم قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على مَن سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان. فإن كانا صادقَين سلَّمتهم إليهما، وإن كانوا غير ما يذكر هذان منعتُهم وأحسنتُ جوارهم." ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي فدعاهم، فحضروا. وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسَرَّه. وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب. فقال لهم النجاشي: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟" فقال جعفر: "أيها الملك، كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نَسَبَه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله وأن لا نُشرِك به شيئًا ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام." وعدَّد عليه أمور الإسلام، قال: "فآمنَّا به وصدَّقناه، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وحلَّلنا ما أحلَّ لنا. فتعدَّى علينا قومُنا، فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَن سواك ورجونا أن لا نُظلَم عندك، أيها الملك." فقال النجاشي: "هل معك مما جاء به عن الله شيء؟" فقال: "نعم." فقرأ عليه سطرًا من كهيعص، فبكى النجاشي وأساقفته. وقال النجاشي: "إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة. انطلقا... والله لا أسلمهم إليكما أبدًا!" فلما كان الغد، قيل للنجاشي: "إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا." فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح، فقال جعفر: "نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول." فأخذ النجاشي عودًا من الأرض وقال: "ماعدا عيسى ما قلتَ هذا العود." فنخرتْ بطارقتُه. فقال: "وإن نخرتم..." وقال للمسلمين: "اذهبوا فأنتم آمنون. ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم." وردَّ هدية قريش وقال: "ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس فيَّ حتى أطيعهم فيه." وأقام المسلمون بخير دار. ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نورًا. نصارى نجران وأما نصارى نجران فإنهم أرسلوا العاقب والسيد في نفر إلى رسول الله وأرادوا مباهلته. فخرج الرسول، ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين. فلما رأوهم قالوا: "هذه وجوه لو أقسمتْ على الله أن يزيل الجبال لأزالها." ولم يباهلوه، وصالَحوه على ألفي حلة، ثمن كلِّ حلة أربعون درهمًا، وعلى أن يضيفوا رُسُل رسول الله. وجعل لهم ذمَّة الله تعالى وعهده ألا يُفتَنوا عن دينهم ولا يعشروا، وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. ومن نصِّ العهد، كما ورد عند البلاذري في فتوح البلدان: ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمَّة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملَّتهم، وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم. لا يغيِّر ما كانوا عليه، ولا يغيِّر حقًّا من حقوقهم وأمثلتهم. لا يُفتَن أسقفٌ من أسقفيَّته، ولا راهب من رهبانيته. وليس عليهم رَهَق ولا دم جاهلية. ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضَهم جيش. مَن سأل منهم حقًّا فبينهم النَّصَف، غير ظالمين ولا مظلومين بنجران. ولا يؤخذ منهم رجلٌ بظلم آخر. ولهم على ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد النبي أبدًا، حتى يأتي أمرُ الله، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مكلفين شيئًا بظلم. ومن الأحداث الجميلة التي تدل على سعة صدر المسلمين تجاه المسيحيين قصة وردتْ في فتوح البلدان للبلاذري، حيث يقول: حدَّثني هشام بن عمار أنه سمع من المشايخ يذكرون أن عمر بن الخطاب، عند مَقْدَمِه الجابية من أرض دمشق، مرَّ بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يُعطوا من الصدقات وأن يُجرى عليهم القوت. وإن التعايش وصل إلى درجة صلاة المسيحيين بطقوسهم داخل المسجد. فقد وَرَدَ في السيرة النبوية لابن هشام أن الرسول، عندما وفد إليه وفدٌ من نجران، دخلوا عليه مسجدَه في المدينة المنورة. وعندما حانت صلاتهم، قاموا في مسجد رسول الله يصلون. فقال الرسول: "دعوهم." فصلوا إلى بيت المشرق. رئيس الكنيسة النسطورية في العام 650 قال: إن هؤلاء العرب لا يُحجِمون عن محاربة المسيحية فحسب، بل إنهم يُكبِرون دينَنا ويثنون عليه، ويحترمون قسسنا ورجالنا المقدسين، ويقدمون الهدايا لأديرتنا وكنائسنا. 2. العصر العباسي الأول (750-846) يُعَد العصر العباسي من أعظم العصور العربية والإسلامية، لانفتاحه على الثقافات المختلفة وتمهيده لساحات لقاء بين الحضارات المنتشرة في البلاد الإسلامية التي شكَّلتْ في ذلك الزمن إمبراطوريةً واسعة الأرجاء. ويبدو أن العقلية العباسية تنوَّرت واتبعت أحاديث نبوية تشجع على العلم والمعرفة والحكمة وطلبها "ولو في الصين": "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة." فقدَّمت الثقافة المسيحية، على أيدي النساطرة واليعاقبة والموارنة ومدارسهم، الثقافة والفلسفة اليونانية باللغة السريانية. كما كان الغساسنة والمناذرة عربًا مسيحيين، وقد أسهموا في ثقافتهم باللغة العربية في تنويع مصادر الحضارة. لقد شعر الخلفاء العباسيون بالحاجة إلى ترجمة الكتب اليونانية إلى العربية، فوجدوا في السريان ضالَّتهم لأنهم يتقنون اليونانية والعربية. ومن أشهر المدارس في ذلك الوقت مدارس الرَّها ونصيبين وجنديسابور وقنسرين وأنطاكية وحران. كذلك قدمت الثقافة الهندية الكثير من العلم في مجالات الرياضيات والطب والنجوم والإلهيات. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك اليهود وثقافتهم، والصابئة، والمجوس الزرادشتيون والمانويون والمزدكيون. هؤلاء جميعًا شكلوا مزيجًا متنوعًا متكاملاً من الحضارات والثقافات التي تعمل معًا من أجل ازدهار الدولة والإنسان. ومن الحوادث التي تُروى أن الخليفة أبو جعفر المنصور (753-775) كان مصابًا بمرض في معدته. وقد اشتد عليه الداء وامتنع على أطباء بلاطه شفاؤه، فاستقدم الطبيب النسطوري جاورجيوس بن بختيشوع. ولما شُفي بعلاجه، أمر الخليفة بتولِّيه نقل الكتب الطبية إلى العربية لينهل منها جميع العرب. كذلك أنشأ الخلفاء المكتبات، وجمعوا الكتب النفيسة من كلِّ حَدَب وصوب. وقد بعث المأمون بالوفود إلى الهند وبلاد فارس واليونان للتفتيش عن الكتب العلمية وشرائها. كما جعل الحصول على الكتب من أحد شروط وقف القتال واعتبرها غنيمة من غنائم الحرب. وشجع أيضًا المفكرين والعلماء، وجدد مدرسة "دار الحكمة" للترجمة ببغداد. ومن أهم المترجمين أربعة من العصرين العباسيين الأول والثاني، وهم: حنين بن إسحق، قسطا بن لوقا، يحيى بن عدي، وثابت بن قرة. حوار طيموثاوس الجاثليق مع الخليفة المهديِّ سنة 781[2] هذا الحوار من أجمل الحوارات المسيحية–الإسلامية، ولعله أولها. أورِده هنا لأُظهِر مدى انفتاح الديانتين وتسامحهما أيام العصر العباسي: وملكنا الحليم، المملوء حكمة، قال لي: "ماذا تقول عن محمد؟" فجاوبته قائلاً: "إن محمدًا يستحق المدح من جميع الناطقين، وذلك لأجل سلوكه في طريق الأنبياء ومُحبِّي الله. لأن سائر الأنبياء قد علَّموا عن وحدانية الله، ومحمد علَّم عن ذلك. فإذًا هو أيضًا سلك في طريق الأنبياء. "ثم كان أن جميع الأنبياء أبعدوا الناسَ عن الشرِّ والسيئات، وجذبوهم إلى الصلاح والفضيلة. هكذا محمد أبعد بني ملَّته عن الشر، وجذبهم إلى الصلاح والفضائل. فإذًا هو أيضًا قد سلك في طريق الأنبياء. "ثم إن جميع الأنبياء منعوا بني البشر من سجدة الشياطين وعبادة الأوثان، وحرَّضوهم على عبادة الله – عزَّ وجل – والسجود لجلالته. هكذا محمد منع بني ملَّته من عبادة الشياطين والسجدة للأوثان، وحرَّضهم على معرفة الله والسجود له تعالى: الذي هو وحده إله، وليس بإله آخر سواه. فقد اتضح إذًا أن محمدًا قد سلك في طريق الأنبياء. "ثم إن كان محمد قد علَّم عن الله وكلمته وروحه فجميع الأنبياء تنبأوا عن ذلك. فمحمد إذًا قد سلك في طريق الأنبياء. "فمَن لا يمدح ويكرِّم ويبجِّل ذلك الذي يحارب من أجل الله؟ ليس بالكلام فقط، بل وبالسيف أيضًا، أظهر الغيرة لأجل البارئ تعالى. وكما فعل موسى النبي في بني إسرائيل الذي صنعوا عجلاً من ذهب وسجدوا له، فقتل بالسيف وأباد جميع الذين سجدوا للعجل، هكذا محمد أيضًا صنع، لما أظهر الغيرة من أجل البارئ – سبحانه وتعالى – وأحبَّه وكرَّمه أكثر من نفسه وعشيرته وبني أمَّته. "والذين كانوا يتَّبعونه في إكرام الله ومخافته كان يمجِّدهم ويكرِّمهم ويمدحهم ويوعد لهم أيضًا الجنة والمجد والإكرام، من لدن الله في هذا العالم، وفي الآخرة بالجنة. والذين كانوا يعبدون الأصنام ويسجدون لها كان يحاربهم وينذرهم بعذاب أليم في نار الجحيم التي بها يحترق المنافقون، وهم فيها خالدون. "وكما فعل إبراهيم، خليل الله، الذي ترك الأوثان وأبناء جنسه، وتبع الله وسجد له، فصار يعلِّم عن وحدانية الله للأمم، هكذا صنع أيضًا محمد لما ترك سجدة الأوثان والذين كانوا يسجدون لها من بني جنسه وغيرهم من الغرباء، فأكرم فقط ذلك الذي هو وحده الإله الحق وسجد له." 3. العصور الوسطى فرنسيس الأسِّيزي (1182-1226)
من أعظم القديسين في المسيحية وأقربهم إلى روحها. اختار الفقر التام في شبابه، وجذب إليه آلاف الرهبان والراهبات. ولد في مدينة أسِّيزي بإيطاليا، وعايش فترة الحروب الصليبية. وكإنسان ابن بيئته، جاء إلى الشرق مع إحدى السفن المسافرة التي تُقِلُّ المحاربين الصليبيين. وقد رست تلك الباخرة في دمياط التي كان يحاصرها الصليبيون منذ سنة. وهناك تبيَّن له أن دافع الكثيرين إلى الحرب لم يكن روحيًّا أو دينيًّا، بل روح المغامرة والسلب والمتعة، وأدرك سبب فشل الحملات لأنها حملت العنف والقتل والدم. ولما علم أن الصليبيين ينوون الهجوم صباح 29 آب، أنذرهم بهزيمة نكراء، لكنهم سخروا منه ومضوا في طريقهم، فحلَّت الكارثة التي أودت بحياة تسعة آلاف محارب! وشعر فرنسيس بعد ذلك أن هؤلاء الذين رفعوا الصليب شعارًا كانوا أبعد عن المسيح من المسلمين الذين جاؤوا لـ"ردِّهم إلى الدين المسيحي"، فصار يبشِّر المحاربين بالسلام والفقر والأخوَّة، حتى تخلَّى الكثيرون عن السلاح واعتنقوا الفقر الفرنسيسكاني. وفي تلك الأثناء، عُقدت هدنةٌ بين فريدريك الثاني والملك الكامل. ففكر فرنسيس في بدء حوار مع المسلمين، واصطحب أحد الإخوة، على الرغم من معارضة القادة العسكريين، فسارا إلى طرف المسلمين، فاعترضوهما وأوسعوهما ضربًا، فيما كان فرنسيس يهتف بأعلى صوته: "سلطان!... سلطان!..." فظن الجنود أنهم أمام رسولين منتدَبين، فمضوا بهما إلى المعسكر، حيث أوضح فرنسيس رغبته في محاورة السلطان بشأن الإنجيل. وكان الملك الكامل واسع الفكر، رحب الصدر، فرحَّب بالراهبين. ويقال إنه دعاهما إلى الصلاة في إحدى المساجد، فلم يتردد فرنسيس وقال: "إنني سأدعو هناك ربِّي... فالله في كلِّ مكان." ويبدو أن اللقاء قد صحَّح بعض الأفكار المسبقة الخاطئة لكلٍّ من الطرفين عن الآخر. وتبين للملك الكامل أن المسيحيين الحقيقيين دعاةُ سلام ومحبة. وقد أغدق الملك الهدايا على فرنسيس الذي رفضها وحثَّ السلطان على إنفاقها على الفقراء. وفي النهاية انصرف فرنسيس وصديقه مشيَّعَين بحُجَّاب السلطان وتمنياته الطيبة لهما. لكن، للأسف، سقطت دمياط في الخامس من تشرين الثاني 1219، واحتل الصليبيون المدينة. لكن مناظر الموت والسلب أدمت قلب فرنسيس، فترك مصر ومضى إلى عكا. پيير أبِلار (1079-1142)
هو مؤلِّف كتاب اللاهوت المسيحي. وفيه رفض أن المسيحي وحده مهيأ للخلاص، ووصف هذا الاعتقاد بأنه منافٍٍ للعقل: فالله عنده يحب جميع البشر. وبسبب آرائه المنفتحة فُرِضَ عليه أن يلزم الصمت إلى الأبد، ويحجر على نفسه في أحد الأديرة بمقتضى قرار باباوي. وقد توفي في دير كلوني في بورغوندي (فرنسا). البابا القديس غريغوريوس السابع (1020-1085)
تعزَّزت العلاقة بين البابا غريغوريوس السابع (تولى البابوية من 1073 إلى 1085) وملك موريتانيا المسلم بتحرير بعض الأسرى وإرسال الهدايا والرسائل. ومن قوله في إحدى رسائله: يجب علينا، نحن وأنتم، أن نعطي للأمم الأخرى مثالاً على محبة الله، لأننا نؤمن ونعترف بإله واحد، وإنْ بطرق مختلفة، ونسبِّحه ونعبده كلَّ يوم كخالق الدهور كلِّها وسيد هذا العالم. وهناك أيضًا رسالة بعث بها البابا غريغوريوس السابع في العام 1076 إلى الأمير المسلم الناصر الذي كان يتولى الحكم في بجاية، الجزائر الحالية. وقد جاء فيها: إن الله القدير، الذي يودُّ أن يخلَص الجميعُ ولا يهلك أحدٌ، لا يحبذ شيئًا فينا أكثر من أن يحبَّ المرءُ قريبَه بعد حبِّ الله، وألا يصنع بغيره ما لا يريد أن يصنع غيرُه به. إننا نتمنى، نحن وإياكم، هذه المحبة لذواتنا، لاسيما أننا نؤمن ونعترف بالله الواحد، ونقرُّ به، كلٌّ على طريقته الخاصة، ونمجِّده يوميًّا ونكرِّمه، هو خالق العالم وسيد هذا العالم. رامون لولِّ (1235-1315)
استلهم رامون لولِّ، وهو راهب فرنسيسكاني إسباني، بعض كتاباته في العشق الإلهي من صوفية الأندلس، كابن عربي. ولد أيام كانت الحروب الصليبية ما تزال مندلعة. وقد كتب باللغة العربية كتاب الوثني والحكماء الثلاثة وبيَّن فيه كيف أن "الحكماء الثلاثة" (أي اليهودي والمسيحي والمسلم) أنقذوا الوثني (ويعني به الكافر) من يأسه من الحياة، إذ حملوا له رسالة السماء، وهي أن الإنسان ليس وحيدًا وأن للعالم معنى جميلاً. ويذكر رامون أحاديث الحكماء الثلاثة الذين يريد كلٌّ منهم أن يبيِّن سموَّ شريعته. وبعد أن أقنعوا الوثني وأعادوا له فرح الحياة ومعناها، ذُهلوا من نبل صلاته وحرارتها، كما شعروا أنهم آثمون، ووعوا وحدة إيمانهم العميق وخطيئة انقسامهم، وانتهوا إلى النتيجة المشتركة التي تكوِّن الإرث الثمين لهذا الاتحاد الوثيق في الأندلس في تلك الأيام بين الثقافات الثلاث: وهذه النتيجة هي أن الحرب والعذاب وروح الإيذاء تفرض على الناس الاختلاف وتمنعهم من الاتفاق على اعتقاد واحد. ومن النقاط الجميلة أيضًا في هذا الكتاب إعراض كلٍّ منهم عن استمالة الوثني إلى دينه بعد أن أخذ يسألهم إلى أيِّ دين يجب أن ينتمي. ويقول رامون لولِّ، كخلاصة لكتابه، على لسان أحد الحكماء الثلاثة، دون ذكر عقيدته (تعزيزًا لانطباع التوحد والاتفاق): بما أنه ليس لنا سوى إله واحد، وخالق واحد، ورب واحد، فليس عندنا إلا إيمان واحد، وناموس واحد، وطريقة واحدة في محبة الله وإكرامه، فنحب بعضنا بعضًا ويعين بعضنا بعضًا، ولا تعود تفرِّقنا خلافاتٌ في الإيمان وفي الأعراف. إذ إنه بسبب هذه الاختلافات يصنع بعضنا العراقيل للبعض الآخر، ويحارب بعضنا البعض الآخر، ويقتل بعضنا بعضًا. والحال، إن هذه الحرب وهذا الموت وهذه العبودية أمور تمنعنا من أن نحمد الله ونجلَّه ونكرِّمه على نحو ما ينبغي أن نصنعه كلَّ أيام حياتنا. توفي رامون لولِّ في العام 1315. فهل من مصغٍ بعد سبعة قرون! الكاردينال نيقولاوس الكوزاني أسقف كوزا (1401-1464)
له كتاب مهم في السلام بين الأديان الإبراهيمية بعنوان سلام الإيمان (1453). كما كتب شرحًا نقديًّا على القرآن بعنوان في غربلة القرآن يهدف إلى مباشرة حوار ينطلق مما هو مشترك بين المسيحيين والمسلمين. وقد تواصل أسقف كوزا أيضًا مع مطران قيصرية، خوان السيغوفي، الذي عمل أيضًا في مجال تفسير القرآن. يصوِّر أسقف كوزا موقفه العقائدي على شكل رؤيا، يرى فيها نفسه عارجًا إلى السماء، حيث يسأل الملائكة الله أن ينعم على البشر بدين أوحد شامل مع اختلاف الطقوس والشعائر والمناسك. وفي تلك الرؤيا، يقود المسيح المباحثات التي تنتهي بالحفاظ على مناسك كلِّ أمَّة وشعائرها بعد المحافظة على الإيمان والسلام. لكن نيقولاوس يفترض أيضًا إيمان الجميع بالله الواحد والله الثالوث والإيمان بالمسيح، ويعتقد أن الاختلاف الظاهري بين الأديان الثلاثة سببه امتناع الله على الإدراك، وأن لا تصور بشريًّا يحمل حقيقة الله الكاملة؛ وبالتالي، فإن كلَّ تصور إنساني لله ناقص، بما فيه التصوُّر المسيحي. كثيرون اعتبروا أن الأسقف انزلق في هاوية التوفيقية التي تلغي الحقيقة والخصوصية. الهاوية الأخرى هي طبعًا التميُّز والانغلاق والانفصال. ومن الصعب دومًا السير بين الهاويتين! 4. العصور الحديثة في القرن الثالث عشر، كانت بعض بيوت الدومينكان في إسبانيا مراكز للدراسات الإسلامية. وقد تأسَّست أول دراسة منتظمة للإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية في نهاية القرن السادس عشر، حيث بدأ تدريس اللغة العربية في العام 1587 بشكل منظم في المعهد الفرنسي في باريس. وفي العام 1613، بدأت إمكانية الدراسة الجامعية للغة العربية في جامعة ليدن في هولندا. وتبعتْها جامعتا كمبريدج في العام 1632 وأكسفورد في العام 1634. وفي القرن السابع عشر، قام بادورد بوكوك بدراسات عن علم الأنساب عند العرب وعن الديانات في الجزيرة العربية قبل الإسلام، ودرس كذلك العقائد الإسلامية الأساسية، ولاسيما كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي. وقد جمع هذه الدراسات في كتابه نماذج في التاريخ العربي المكتوب باللاتينية. كما قام جورج سايل بأول ترجمة دقيقة للقرآن إلى الإنكليزية في نهاية القرن السابع عشر، معتمدًا على الترجمة اللاتينية التي قام بها لودوفيكو ماراتشي. هذا ويُعتبَر سِلفيستر دوساسي مؤسِّس الدراسات الإسلامية الحديثة في فرنسا، حيث تأسَّست مدرسةٌ اللغات الشرقية الحية في نهاية القرن الثامن عشر. وكان الطلاب يتوافدون عليه للدراسة من جميع بلدان أوروبا ليتابعوا تحصيلهم المتقدم في العالم الإسلامي.
سِلفيستر دوساسي (1758-1838) لكن أهم شخصية علمية أوروبية درست الإسلام وتطوره كحضارة ودين كان إغناتيوس غولدتسيهر، وهو يهودي هنغاري من القرن التاسع عشر، تابع دراساتِه في الأزهر بعد تتلمذه على سِلفيستر دوساسي. ومن جيله نذكر سنوك هورغرونبه (1857-1936) الذي أقام في مكة مدة سنة (1884-1885) كراغب في فهم الإسلام، وكتب بعد إقامته كتابَه مكة الذي يصف فيه الحج والحياة في المدينة المكرمة. وبعد ذلك بأربعة عشر عامًا، أقام في إندونيسيا سبع سنوات كمستشار للحكومة الهولندية المستعمِرة؛ وهناك اكتشف من جديد ما تعلَّمه في مكة من أن الإسلام حقيقة حيَّة ومتغيرة. والفكرة القائلة بأن الإسلام أكثر من مجرد نصوص، بل شيء حي في الفرد المسلم، كانت فكرة جديدة في الدراسات الاستشراقية الأوروبية، تبنَّاها لويس ماسينيون (1883-1962) فيما بعد. في العام 1730، نشر هنري دو بولنفيلييه كتابًا عن حياة محمد، عبَّر فيه عن إعجابه البالغ بنبيِّ الإسلام. كما كتب كلٌّ من غوته وكارلايل وفكتور هوغو وتولستوي صفحات شهيرة في تمجيد النبي العربي. وفي أوپرا الاختطاف في السراي قدَّم موتسارت شخصية الباشا سليم، وهو رجل مسلم، في صورة رجل حكيم كريم يرى أن "مقابلة الإساءة بالإحسان ترضي النفس رضاء أكبر من مقابلة الإساءة بالإساءة". ويطلق الباشا سراح أسيرته كونستانس في نهاية الأوپرا، مما يجعل الجمهور يحيِّي بإعجاب سموَّ نفسه. كذلك وضع وليم ميور (1819-1905) كتابه الشهير حياة محمد الذي بقي المرجع الرئيسي لسنوات طويلة، على الرغم من اشتماله على عدد من الصفات السيئة.
إرنست رينان (1823-1892) وفي القرن التاسع عشر، كان إرنست رينان أحد أهم المفكرين الأوروبيين الذين درسوا الإسلام. ويخبر رينان كيف فقد إيمانه الكاثوليكي مع احتفاظه بالبحث الصادق عن الحقيقة. وقد اتبع في بحثه فقه اللغة، وكرَّس حياته لهذا العلم، متعمقًا في فيلولوجيا اللغات السامية وتاريخ اليهود والمسيحية، ودرس فلسفة ابن رشد. وقد استخلص من دراساته أن طبيعة اللغة تحدِّد الحضارة، وأن الروح الساميَّة التي أنتجت الوحدانية الإلهية في الأديان الثلاثة أقفلت الدماغ البشري في وجه أية فكرة بارعة، وأيِّ شعور رفيع، وكل بحث عقلاني. ففي محاضرة سلبية حول الإسلام والعلم يقول: كل مَن زار الشرق أو أفريقيا يُجابَه بنوع من الحلقة الحديدية التي تسجن رأس المؤمن، جاعلةً إياه مغلقًا تمامًا دون استيعاب العلم، وغير قادر على أن ينفتح على أيِّ شيء جديد. هذه النظرة المتطرفة جوبهت طبعًا بردود متعددة، منها مقالة لجمال الدين الأفغاني. وقد تكون هذه الاستفزازات سببًا من أسباب حركة تجديد الإسلام والنهضة التي بدأت في تلك العقود بجهود السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده.
في القرن التاسع عشر كان ف.د. موريس أحد كبار اللاهوتيين الإنكليز، وقد شغل منصب أستاذ اللاهوت في كنغز كولدج بلندن. وكان يرى أن نجاح الرسالة المحمدية لم يكن بقوة الجيش المحضة، وإنما بإيمان المسلمين، وكذلك بفضل شخصية النبي وقوة إيمانه الراسخ. يقول موريس: إن الإسلام قد أعاد إلى العالم الشعورَ بإرادة الألوهية الفائقة القدرة، التي يجب أن تخضع لها كلُّ إرادات البشر. بالطبع، كان موريس وغيره من المفكرين يرون في الإسلام القرآن والنبي محمدًا وفتوحات المسلمين الأوائل وحسب. وقد بقيت هذه الفكرة سائدةً حتى أواخر القرن التاسع عشر، حتى أخذت في التغير تدريجيًّا مع ظهور الاستعراب الجديد. *** *** *** [1] كاتب سوري مقيم في ولاية إنديانا، الولايات المتحدة. عضو في التنظيمات التالية: العفو الدولية، جمعية حقوق الإنسان، جمعية الأدباء العرب الأميركيين، الجمعية العالمية ضد التعذيب، رابطة القلم الأميركية. صدر له: في الشعر: الحب يطرق بابي، حضارة الحب، ألعنكِ أيتها التمائم المقدسة؛ في القصة والرواية: هذا الوطن لم يعد لنا (رواية)، هنا الأنبياء يُقتَلون (رواية قصيرة)، الغرباء (رواية قصيرة)، نبوَّة في صحراء (رواية، مترجمة إلى الإنكليزية)، الأجراس تُقرَع في بيت لحم (رواية)، حارة الطيبين (رواية)؛ دراسات: الإسلام بعيون مسيحية، أنثولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر (صدر منه جزآن)، مانديلا العرب: رياض الترك (مخطوط)، أنثولوجيا الأدب العربي الأميركي المعاصر (مختارات أدبية منقولة إلى العربية قيد الإنجاز). [2] البطريرك طيموثاوس الأول، الكنيسة والإسلام في العصر العباسي الأول، دار المشرق، بيروت 1977.
|
|
|