english

ثماني خطوات إلى السلام

الفلسطيني–الإسرائيلي

 

مبارك عوض[1] وعبد العزيز سعيد[2]

 

مازال الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي مُصْعَبًا، على الرغم من خيرة الجهود التي بذلتْها إدارة الرئيس كلينتون. فالتقنيات التقليدية لحلِّ النزاع، التي تستعمل مقاربات تدبيرية وآلتية ومعزولة لحلِّ المشكلات، ليست ملائمة للنزاعات التي لا تدور حول عوامل مادية، بل حول الهوية. فالقضايا المتنازَع عليها هي معتقدات الأطراف المتنازِعة وقيمها وسلوكها. من هنا فإن التنازلات الأساسية المطلوبة من أجل السلام لن تنبثق عبر الاتفاقات القانونية، بل فقط في بيئة سياسية ونفسية متحوِّلة. فالسلام الفلسطيني–الإسرائيلي قابل للتحقيق، إنما مقابل ثمن: على كلا الطرفين أن يكابد تغييرًا في الذهنية.

المأزق الحالي الذي يعرقل عملية السلام هو، في أساسه، أزمة عقل وروح. فإذا لم يستطع الإسرائيليون والفلسطينيون أن يغيروا في بعض عادات تفكيرهم العميقة الرسوخ في بعضهم بعضًا فإن الأزمة واقعة عاجلاً من جديد لا محالة. إذ وحدها رؤيا جديدة مشتركة سوف تفي بالغرض.

لماذا رؤيا؟ لاجتناب الجنوح؛ لاجتناب التمركُز على الذات؛ وللمساعدة على حشد خير ما في خيال الأتباع والقادة وفي طاقتهم، على توسيع حسِّ المسؤولية المتبادلة وتعميقه. ففي غياب الرؤيا، تحل القِوادةُ محلَّ القيادة، والمزاجُ محلَّ العمل، والكاريزما محلَّ الإبداع.

من نافل القول إن جميع الإسرائيليين والفلسطينيين ليسوا قابلين للآخر، أو مدركين لواقع أنهم جيران بعضهم بعضًا. فالمطالِبون باسترداد أرضهم من كلا الجماعتين مصرون أنه ما من تغيير حقيقي حصل في سياق العلاقة بينهما. ومع أن هناك فلسطينيين وإسرائيليين يقرون بأن العلاقة بين الطرفين قد تغيرت، إلا أنهم عاجزون عن العمل بمقتضى ما توصلوا إليه. ليس عند الفلسطينيين والإسرائيليين من خيار قابل للحياة غير العيش بعضهم إلى جانب بعض. فأمن الإسرائيليين وكرامة الفلسطينيين متلازمان.

إن الأداة الفاعلة الوحيدة لإرساء السلام الفلسطيني–الإسرائيلي هي العمل في سبيل الحصول على إجماع عريض. واستراتيجية الإجماع تدعو الإسرائيليين والفلسطينيين إلى تعزيز تعويل بعضهم على بعض وإلى تقوية روابط التعاون فيما بينهم. على كلا الطرفين أن يعمد إلى استغلال الميول الموجودة نحو التكافُل فيما بينهما. فالأمن الإسرائيلي، من هذا المنظور، لا يتحقق بوضع الفلسطينيين في معسرة من حيث القدرة بقدر ما يتحقق بالحدِّ من حرية إسرائيل وحوافزه على القيام بأعمال عدوانية. إن تبنِّي استراتيجية تكافُلية ينطوي على استعداد ضمني للنزول عن شيء من حرية الفعل السيادية كخاصية من الخاصيات المعرِّفة بالأمن. فتعزيز الأمن الإسرائيلي يتطلَّب تحسين الأمن الفلسطيني؛ وبذلك يحقق كلا الطرفين أمنًا مشتركًا.

تشدِّد سيرورةُ الإجماع على انقضاء عهد الممارسة التنافسية المعتادة في العلاقة الإسرائيلية–الفلسطينية. هي نموذج يتأسَّس على افتراض أن السعي إلى المصلحة الذاتية يقود إلى تحسين حال كلا الطرفين. فالإجماع يتطلب نموذجًا تعاونيًّا للعلاقة الإسرائيلية–الفلسطينية يركِّز على منافع سلام مستقر لكلا الطرفين. فلا الإسرائيليون ولا الفلسطينيون يمكن لهم أن يحققوا السلام المستقر وحدهم. فالواقع هو أن على كلا الطرفين أن يقدِّما تضحيات.

بالنظر إلى الوقائع الحالية، يتعذَّر إيقاع هزيمة عسكرية بالإسرائيليين؛ غير أنه هؤلاء لا يستطيعون الانتصار سياسيًّا. إذ إن انعدام المقدرة على حسم الأمور بالنزاع المسلَّح يفرض حدودًا على ممارسة الإسرائيليين والفلسطينيين لأصول سياسة الدولة. غير أنها محدودية تفسح المجال للزخم والخيال والمهارة في تأطير المصالحة والتعايش بين كلا الطرفين وإنفاذهما.

الخطوة الأولى: الاعتذار والمغفرة

على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يباشروا الآن سعيهم إلى الحقيقة والمصالحة؛ والاعتذار والمغفرة عنصران مركزيان في ذلك. لقد كان الاعتذار مفتاحًا إلى السلام في جنوب أفريقيا، وتمارسه الآن الكنيسة الكاثوليكية وألمانيا وبولونيا سعيًا إلى التماس مغفرة اليهود. بالمثل، على الإسرائيليين أن يقدِّموا اعتذارًا للفلسطينيين عن إساءاتهم إلى حقوق الفلسطينيين الإنسانية الأساسية. كذلك على الفلسطينيين أن يعتذروا للإسرائيليين عن أعمال العنف الفلسطينية ضد المدنيين اليهود. على كلا الطرفين أن يغفرا وأن يقبلا الاعتذار قبولاً حسنًا.

الخطوة الثانية: الاعتراف والقبول

لا بدَّ للفلسطينيين والعرب من قبول إسرائيل كدولة يهودية. على الفلسطينيين أن يعترفوا بالارتباط التاريخي والديني والعاطفي اليهودي بجبل الهيكل؛ فهذا يتوافق مع التقاليد الإسلامية. فلئن صحَّ أن المسلمين انتهكوا وصايا التعايش إبان عهود الانحطاط في التاريخ الإسلامي، يصحُّ أيضًا أن الدين الإسلامي يعترف صراحةً بحقوق اليهود، وكذلك المسيحيين، ويحترمها. ليست اليهودية والمسيحية والإسلام، في صميمها، ديانات هيمنة. غير أن اليهود والمسيحيين والمسلمين، في سياق سياسات القوة، سوَّغوا – ويسوِّغون – ممارسات الهيمنة. إن التزام الفلسطينيين بموروثهم الإسلامي وبوصاياه يُلزِمهم بقبول الهوية اليهودية.

ينبغي على العرب كذلك أن يعترفوا بمأساة المحرقة اليهودية: أن يصغوا إلى رواية الألم اليهودية ويتعاطفوا مع الذاكرة التاريخية للشعب اليهودي. على العرب كذلك أن يعترفوا بأن للشعب اليهودي صلةً تاريخية بمدينة القدس القديمة ويقبلوا اندماج إسرائيل اندماجًا تامًّا في منطقة الشرق الأوسط. كما ينبغي إدراج إسرائيل في الخرائط والدورات الرياضية والتجمعات الإقليمية العربية.

وفي الوقت نفسه، على الإسرائيليين أن يقبلوا بوجود شعب فلسطيني، ليس بوصفه "سكان الضفة الغربية" وحسب، والاعتراف بالذاكرة التاريخية للفلسطينيين. على الإسرائيليين أن يكفوا عن الإشارة إلى الأرض الفلسطينية بوصفها اليهودية والسامرة، ويعترفوا بمُطالبة الفلسطينيين العادلة باسترداد أرضهم. على الإسرائيليين، كذلك، أن يكابدوا سيرورة بحث عن النفس ويتصالحوا مع ماضٍ يشتمل على أعمال قمع ونَزْعٍ للصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. وعلى إسرائيل، كذلك، أن يرى نفسه كبلد شرق أوسطي؛ إذ إن إسرائيل يطرح نفسه في المنطقة كبلد غربي متفوق، متناسيًا جغرافيته الفعلية – وهو موقف يُسعِّر من جديد نقمة العرب على الاستعمار الغربي وسلوكه المسيطر المستمر.

الخطوة الثالثة: علاقة غير خصومية

على الإسرائيليين أن يتخلوا عن ممارسة استغلال التوترات ما بين العرب. ففي المحافل الدولية، ينبغي على إسرائيل أن يكف عن التصويت ضد الدول العربية. وفي البلدان العربية، في الخطاب العام، ينبغي معاملة إسرائيل كجار وليس كعدو. ينبغي على الإسرائيليين والعرب أن يتخطوا الموقف الخصومي الذي وقفوه جميعًا تجاه بعضهم بعضًا، في المنطقة وفي الميدان الدولي، نحو علاقة تعاونية.

الخطوة الرابعة: تقاسُم التقدم

لا يمكن للسلام أن يحلَّ من غير ازدهار اقتصادي؛ وعلى الازدهار أن يُتقاسَم. ولسوف تكفل فرصُ النموِّ الاقتصادي أن يصير الإسرائيليون والفلسطينيون جميعًا من الانشغال بحيث لا يتسنى لهم كرهُ بعضهم بعضًا. ولسوف يكون الازدهارُ المتبادل أساسًا للتغلب على سوء الظنِّ والبارانويا والتمترُس. المجتمع والصناعة الإسرائيليان متطوران تكنولوجيًّا، لكن إسرائيل لم يُبدِ بعدُ استعدادًا لمساعدة الفلسطينيين. فعلى الإسرائيليين أن يتَّبعوا سياسات تشجع على الاستثمار الإسرائيلي في فلسطين وعلى تنمية الاقتصاد الفلسطيني. وعلى البلدان العربية، بتشجيع من الفلسطينيين، أن تنهي مقاطعة إسرائيل اقتصاديًّا وتشجع على تبادُل البضائع والمعاملات التجارية.

الخطوة الخامسة: حقوق الناس، لا الدول

ينبغي على كلٍّ من الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني أن يعترف بحقوق الشعب الآخر. على إسرائيل أن يقرَّ بدوره في التسبب في نكبة اللاجئين الفلسطينيين. ينبغي أن يخيَّر اللاجئون الفلسطينيون أن يعيشوا حيث يريدون؛ وينبغي منح المستوطنين اليهود حقوقًا مشابهة للاستقرار في الضفة الغربية. كما يجب تعويض الفلسطينيين عن الممتلكات التي فقدوها، مثلما أن اليهود يعوَّضون الآن في أوروبا الشرقية عن ممتلكاتهم المفقودة؛ والأمر عينه ينطبق على تعويض اليهود عما فقدوا من ممتلكات في البلدان العربية.

إذا اتفق لإسرائيل أن يقبل بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وحدها نسبة مئوية صغيرة منهم سوف تعود. فمن المتفق عليه عمومًا أن عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين سوف يبقون في الأردن ولبنان وسورية إذا مُنِحَتْ حكوماتُ هذه البلدان حوافز وأبدتْ استعدادها لدمجهم في مجتمعاتها.

الخطوة السادسة: التسامح الديني

ينبغي على اليهودية والمسيحية والإسلام أن يعترف كلٌّ منها بالديانتين الأخريين. ينبغي على إسرائيل أن يعترف بشرعية الإسلام، بدلاً من أن يرى في الإسلام عدوًّا، وأن ينتقل من موقف صِدام حضاري إلى موقف حوار حضاري. وينبغي على المسلمين أن يعترفوا بأن لليهودية ارتباطًا تاريخيًّا عميقًا بمدينة القدس القديمة. فباعتراف كلٍّ من الأطراف برواية الطرفين الآخرين، يحول اليهود والمسيحيون والمسلمون دون خطاب أصولييهم جميعًا وصيرورةَ هذا الخطاب أداةً للسياسة الخارجية، كما هي عليه الحالُ الآن.

الخطوة السابعة: التربية والتواصل من أجل السلام

ينبغي على الفلسطينيين والإسرائيليين جميعًا أن يغيروا في المناهج والكتب المدرسية وغيرها من مصادر التعلُّم من أجل قبول مفهوم الحقيقة الجديدة. فالإسرائيليون والفلسطينيون الذين لا يعرفون بعضهم بعضًا هم الأكثر عدوانية تجاه بعضهم بعضًا، لأن الآخر ليس له وجه؛ وهذا ينجم عنه نَزْعُ الصفة الإنسانية عنه. لذا ينبغي على كلا الطرفين أن يتقدم باتجاه إعادة إضفاء الصفة الإنسانية والتمكين. فالشباب الإسرائيلي والفلسطيني يشتركان في أمور أكثر من أجدادهم؛ وبمواجهة اختلافاتهم سوف يكتشفون تشابُهاتهم، كما يفعل بعضهم الآن.

الخطوة الثامنة: القدس

لا تغدو الخطوة الأخيرة ممكنة إلا عندما تتحقق الخطوات السابقة. لليهود والمسيحيين والمسلمين حقوق متساوية في القدس؛ فعلى كلِّ جماعة دينية أن تعترف بحقِّ الجماعتين الدينيتين الأخريين. كما ينبغي علينا إخراجُ السياسة من مدينة القدس القديمة. فالمدينة القديمة، التي تؤوي جدرانُها الأماكن المقدسة للديانات الثلاث، يجب أن يتولَّى إدارتَها مجلسٌ يمثل الجماعات الدينية الثلاث. ويجب على سكانها أن يتمتعوا بحقِّ اختيار إحدى المُواطَنتين الإسرائيلية أو الفلسطينية. على رئاسة المجلس أن تُتَولَّى على التناوُب؛ وعلى الإسرائيليين والفلسطينيين أن يتقاسموا الحفاظ على أمن المدينة القديمة.

أما العاصمتان فيجب أن تستقرا خارج المدينة القديمة. يستطيع الإسرائيليون والفلسطينيون أن يضعوا عاصمتيهم في القدس الحَضَرية (الكبرى) الغربية والشرقية – القدس ما عدا المدينة القديمة. وإذ ذاك تغدو إزالة الحدود ضمن القدس الحَضَرية ممكنة؛ إذ إنها حدود وهمية. وعلى سكانها أن يُخيَّروا بين إحدى الجنسيتين الإسرائيلية والفلسطينية. كما يمكن للسفارات أن توضع في أيِّ مكان في القدس الكبرى وتخدم الإسرائيليين والفلسطينيين جميعًا. وأخيرًا نقترح أنه إذا اتفق للعالم العربي أن يعترف لإسرائيل اعترافًا صريحًا لا لَبْسَ فيه بحقِّ الوجود كأمة أخت في الشرق الأوسط فإن اعتبار الإسرائيليين للقدس عاصمةً رمزية، بوصفها العلامة الرئيسية لهويتهم القومية، سوف يتضاءل.

هذا ليس بأضغاث أحلام؛ فالرحلة في اتجاه السلام تتطلب يقظة عظيمة.

المخلصون،

القوم في منظمة اللاعنف الدولية

*** *** ***


[1] الدكتور عوض هو رئيس منظمة اللاعنف الدولية والمدير الوطني للبرنامج الوطني للدفاع عن الشباب.

[2] البروفيسور سعيد هو مدير البرنامج الدولي للسلام وحلِّ النزاع في الجامعة الأمريكية ويشغل كرسي محمد سعيد فارسي للسلام الإسلامي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود