|
رؤية أم رؤيا أم رأي؟ هل من مائز يُعتَد
به بين محدود يعشق المطلق – الله –، ينعتق
بالعشق، وبين آخر؟ هل في العشق من حساب
للمقادير؟ أم أن العشق كانْوِجَاد، كنحو
وجود، هو متواطئ، لا يتفاوت ولا يتفاضل، ولكن
لا يعرف تفاضُلَه إلا العاشقون؟ ولا يتلاومون...
حين أن المعرفة في العشق والعاشق جَوَّانية،
لَدُنِّية، أو تكاد، قياسًا على معرفة أخرى. وإذ يتَّحد العارف
بالمعروف، فإني لا أميل إلى التعريف حدًّا
ولا رسمًا، تامًّا ولا ناقصًا. وأرى الإيمان
حالاً تمرُّ بالعلم، وقد لا تمر. فإن مرَّتْ
واجتازتْ، تجاوزتْ. فإن قرَّ الإيمان في
العلم انحبس، وصار جدالاً وسجالاً، غلبة
وتغلُّبًا: "أأُخبركم بشِرار الناس؟ قالوا:
بلى يا رسول الله. قال: العلماء إذا فسدوا." والتعريف في النهاية
تجميد، تسكين، حَصْر للسائل في وعاء قابل
للانكسار؛ إذن يتبدَّد ولا يتجدَّد: "قل هل
ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلَّ سعيُهم
في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا"... وان لم تتجدَّد المعرفة – أي
تتعدَّد – فكيف أحيا ونحيا أو نتوحد أو
نتخاطر أو نتخاطب أو نتعارف أو نتكاشف؟ إذا
كان الواحد حَذْوَ الواحد، لا يكون وجع ولا
فرح، لا تشرق الشمس، لا ينكشف سِتْرٌ ولا
مستور، ولا يمانِع أو يعانِد سرٌّ فيغري
بالكشف، تتوارى المعرفة وراء حجاب. ذائقتي راحلتي،
والصحارى والفيافي والبحار والفضوات مضماري.
والجوع، العطش، الصوم – وصالاًً ليوم بيوم،
وليل بليل، وشباب بكهولة، وعمر بعمر، وربيع
بخريف، وهزيع بهزيع – وسيلتي إلى الاستطعام
واستكناه المكنون في الأدام، من حين يمتد
السِّماط إلى أن يرتفع الآذان أو يُقرَع
الناقوس إلى الفطر (الفطرة)، التجلِّي (الظهور)
والقيامة بعد الموت أو من دونه، الارتفاع –
وصام النهار إذا ارتفع. ومن أراد أن يعشى فلا
يرى، فيرى الواحد متشعبًا إلى اثنين، فليُرَ.
لا تثريب عليه، لا نخرجه من أمر هو داخل فيه.
كيف دخل؟ إلى أين يصل؟ هذا شأنه: "وكلُّ
إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونُخرِج له يوم
القيامة كتابًا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيبا." والله يغفر الذنوب
جميعًا إلا أن يُشرَك به. وأنا أنتظره عند
وصلة المبتدأ، عند "نون والقلم وما يسطرون".
وهو عائد إليَّ لأني أكون به – ولأنه خلافي –
كونًا جميلاً. وهو في حيرته يدور حولي: "ووَجَدَك
ضالاً فهدى." أنا قطبه وهو قطبي، يدور عليَّ
وأدور عليه، يهتدي إليَّ ويهديني. أما أنا يا أناي –
اللهم نجِّني من هذه النون بين ألفين، اجعل
عيني وقلبي إلى الألف قبلها أو الألف بعدها،
حتى لا أغرق في صحنها وأعاني من ضيق اللحد
وسؤال المَلَكين – فإني أرى الاثنين
مُنشعبين إلى واحد، إلى الواحد؛ آتيهما من
جهة الافتراق إلى جهة الاجتماع والاتفاق: "وشعبت
إذا جمعت وإذا فرَّقت." اللهم اشعب صدعنا:
"وجعلناكم شعوبًا." في هذا المقام، مقام
العشق – وهو واحد جوهرًا، متعدِّد مظهرًا
بلِحاظ النسبة بين العاشق والمعشوق – يُفسِد
الوعي المفارق الآتي من جماعة ما لذةَ الوصل
ونعماءه. وإذ تصل، وتنهمر عليك
سُحُبُ النعمة وسحائبها، قد تحجبك سانحة،
غشاوة، تهبط عليك من ذاكرتك أو أوجاع البدن،
فيعتكر الماء الصافي الدافق من بين الصُّلب
والترائب، تُبتَلى، تدخل في بطن الحوت. وما
عليك إلا أن تكون أوَّاهًا حليمًا، ويجعل
الله لك فرجًا ومخرجًا: "لو أن السماء
والأرض كانتا رتقًا على عبد ثم اتقى الله لجعل
الله له منهما مخرجا...". يا أبا ذر... إنك خفتهم
على دينك، وخافوك على دنياهم، وهم أحوج إلى ما
منعتَهم منهم إلى ما منعوك. فاهرب بما خافوك
عليه مما خفتهم عليه. إذن... فيا رفيقي،
دَعْ عنك ما قالوا واسمع لما قال، أو لِمَن
يقول. فالقول جميل، ويمكن أن يكون القول من
دون قول: "فوجدت الصمت على هاتا أحْجى."
ضَعْ عينك في صدرك، واستفتِ قلبك: "فما كذب
الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى؟"
فالحقيقة هي الأطروحة، وهي المقصد، والشريعة
إحدى الطرق. ولا تغفل عن صلاتك؛ أسبغ وضوءك
بماء نظيف ومباح، وهلم إلى سجادتك وسجودك
وسلامك: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي
إلى ربِّك راضية مَرْضيَّة." وان لم تتوحَّد
وتوحِّد، أو توحِّد وتتوحَّد، وتنزِّه
وتتنزَّه، أو تتنزَّه وتنزِّه، فاستقِلْ من
أفهامك ومفهوماتك، أَحْكِم عباءتك على بدنك،
ولا تنشغل ولا تشتغل إلا به، بك – لعل وعسى.
ففي المأثور النبوي يقول الله: "إذا كان
الغالب على العبد الاشتغال بي جعلت بغيته
ولذته في ذكري. فإذا جعلت بغيته ولذته في ذكري
عشقني وعشقته. فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب
فيما بيني وبينه وصيَّرت ذلك تغالبًا عليه...
لا يسهو إذا سها الناس." ما لي ولسماع
العاشقين! أنا أسمع حينًا، وحينًا أرى، أرى
أني أرى. وأحيانًا أنام ولا أصحو إلا وقد مرَّ
خيط النفَّري من قربي ولم أرَه. لا بيت لي ولا سماط
ولا ماعون ولا ذخيرة من برٍّ أو سمن أو زيت،
ولا وبر ولا صوف لشتاءاتي القارصة، وطائر
السيمرغ حطَّ على أرنبة أنفي في غفلتي وطار.
لا أعرف لون ريشه ولا أميِّز صوته. والدوري
المنهمك دومًا بحركات جسمه، لا يهابني ولا
يحس بوجودي. وبيتي على متني. وغذائي على موائد
الأغنياء ممَّن عرفوا فلزموا فاغتنوا،
وكرموا فاستضافوا وأنعموا فازدادوا، فأوقدوا
وأولموا وأرفدوا، أطعموا وطعموا على حبِّه
ذاتًا ومسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. والتبست
المحبة بالعدالة، تشارطتا. فلماذا الجدال؟ وذخيرتي في قلوب
العاشقين – أستميحهم – عندما يستبد بي الشوق
وجدًا، وأستر فقري وفاقتي برقعهم وبراقعهم
ورقاعهم. لم أستعرْ للفقر جلبابًا، فانحنى
ظهري المفقور. فقُلْ للعاشقين يقولوا للمعشوق
"أن لا يُشبِعَني": "اللهم عاملني
بعفوك ولا تعاملني بعدلك." ومن أيِّ طريق وصل
العاشقون، لا يعنيني. ولا أقيم على فرق كبير
أو زهيد بين نصٍّ ونص، بين مسلك ومسلك، بين
مذهب ومذهب، بين لفيف ولفيف، لأن المغايرة
ليست نقصًا ولا مثلبة في الغير؛ وهي من العشق
في مكانة شرط الوجود والماهية؛ من دونها
تستبد الذات بذاتها، تغرق ولا تسبح، تموت ولا
تفنى، تتعب ولا تصل. وقل للعاشقين: "إن من
نقصان حظِّ أغياركم أنهم لم يهتبلوا فرصة
الشباب ليعشقوا. فلما شاخوا استيقظوا فلم
يلحقوا." ويوصونكم أن لا تجدوا
غضاضة في كون أحدكم على سبيل والآخر على سبيل
آخر. ففي العشق تصبح هذه المسافات تفاصيل. أما
مَن أصْلُ مَن؟ ومن أتى من الآخر أو أتى الآخر
منه، أو انحدر أو تحدَّر من السابق ومن
اللاحق؟ فقد يلحق سابقون سبقوا، ويسبق لاحقون
لحقوا. والحالُ حالٌ دائمة الإنجاز؛ الحالُ
حالُ سَفَر وأسفار وإسفار. وما على المطرب إلا
أن يُعرِب. والواصلون، العاشقون، ليسوا أهل
ارتكابات. إن اقترفوا عشقًا، فلا يسائلهم أحد
أو يسألهم. لهم أسماؤهم، ولنا منهم ما يكدحون
إليه وينتهدون. "ولا فرق بينك
وبينهم إلا أنهم عبادك وخلقك." وهذه قاطعة
الكلام وبداية السفر. لا يُحرِّمنهم علينا
وعلى أنفسنا وذراريهم عالٍ أو متعلِّم على
سبيل نجاة، ولا مستعلم لا يدري أين الخيط من
سُمِّ الخياط. لا يَحْرِمنَّهم لونُ عيونهم،
ولا يحرمنا مرامي بصائرهم – والغيب واحد،
وكلُّ شوق إلى الشهود هو إطراح آخر لمسافة
فائضة بين الذات والآخر، بين الذات والمرآة. سلام عليهم ما نبتتْ
زوفى في الجليل وهبَّت خماسين في
وادي مِنى وأربى سيلُ العشق في
وادي العشق. *** *** *** عن
النهار، الأحد 16 تشرين الثاني 2003
|
|
|