|
بوذية
زِنْ والتحليل النفسي* حين
نربط بين بوذية زِنْ Zen
Buddhism والتحليل النفسي
فإننا نناقش منظومتين تُعنيان كلتاهما
بنظرية في طبيعة الإنسان وبممارسة تُفضي إلى
كينونته الحق. وفي حين تمثِّل المنظومة
الأولى تعبيرًا مميزًا عن الفكر الشرقي، فإن
المنظومة الثانية تمثِّل تعبيرًا مميزًا عن
الفكر الغربي. فبوذية زِنْ مزيج من العقلانية
والتجريد الهنديين ومن الواقعية والعيانية
الصينيتين. وبقدر ما هو زِنْ شرقي، فإن
التحليل النفسي غربي قح: فهو ابن المذهب
الإنساني والعقلانية الغربيين، وابن البحث
الرومانسي الذي عرفه القرن التاسع عشر في تلك
القوى الغامضة التي تروغ من البحث العقلاني.
وبمزيد من العودة إلى الوراء، نجد أن الحكمة
اليونانية والأخلاق اليهودية هما السلفان
الروحيان للتحليل النفسي الذي يمثل نوعًا من
المقاربة العلمية–العلاجية للإنسان. غير أن عناية كلٍّ من
التحليل النفسي وبوذية زِنْ بطبيعة الإنسان
وبالممارسة المفضية إلى تحوُّله وتغيُّره لا
تلغي تلك الفروق التي تفوق ما بينهما من أوجُه
تَشابُه. فالتحليل النفسي منهج علمي، بعيد
كلَّ البعد عن الدين؛ أما زِنْ فهو نظرية وفن
في التوصُّل إلى "الاستنارة"؛ وهو تجربة
لطالما وَصَفَها الغرب بأنها "دينية" و"صوفية".
كما أن التحليل النفسي ضَرْبٌ من معالجة
المرض الذهني؛ أما زِنْ فطريقة للخلاص الروحي.
والسؤال الذي يطرح نفسه، إذًا، هو: هل يمكن
لمناقشة العلاقة بين التحليل النفسي وبوذية
زِنْ أن تفضي بنا إلى ما يتعدَّى القول بعدم
وجود أية علاقة تربط بينهما سوى الاختلاف
الجذري الذي لا يمكن ردم هوَّته؟ ثمة اهتمام متزايد وصحِّي
ببوذية زِنْ بين المحلِّلين النفسانيين.[1] فما هي مصادر
هذا الاهتمام؟ وما معناه؟ إن ما أحاول القيام
به هو تقديم جواب عن هذين السؤالين، دون
التنطُّح لعرض الفكر البوذي الزِنِّي عرضًا
كاملاً ومفصَّلاً، أو لعرض التحليل النفسي
عرضًا كاملاً وتامًّا. فالمهمة الأولى
تتخطَّى كلاً من معارفي وتجربتي؛ أما المهمة
الثانية فهي أبعد من منظور هذه الدراسة. إلا
أنني سبق أن قدَّمت، بشيء من التفصيل، تلك
الأوجُه من التحليل النفسي ذات الصلة
المباشرة بالعلاقة بينه وبين بوذية زِنْ،
وتمثِّل، في الوقت ذاته، مفاهيم أساسية خاصة
بذلك الشكل من التطور الذي طرأ على التحليل
النفسي الفرويدي، والذي يُطْلَق عليه في بعض
الأحيان اسم "التحليل النفسي الإنسانوي"؛
كما ناقشت هنالك أيضًا مسألة الوجود الإنساني
والسؤال الذي يطرحه هذا الوجود؛ وكذلك طبيعة
الكينونة الحق، بوصفها تغلُّبًا على
الاغتراب والانفصال؛ والطريقة الخاصة التي
يحاول التحليل النفسي من خلالها تحقيق غايته
المتمثِّلة بالنفاذ إلى اللاوعي. وعُنيتُ
أيضًا بطبيعة كلٍّ من الوعي واللاوعي؛ وما
يعنيه "العرفان" و"الإدراك" في
التحليل النفسي؛ وناقشت أخيرًا دور المحلِّل
النفسي في هذه العملية.[2] ولكي أمهِّد لمناقشة
العلاقة بين التحليل النفسي وبوذية زِنْ كان
من الواجب أن أقدِّم لوحة متماسكة لهذه
الأخيرة. غير أنه لَمِنْ حُسْن الطالع ألا
أضطر إلى مثل هذه المحاولة؛ ذلك أن محاضرات د.
سوزوكي دراسات في زِنْ[3]،
فضلاً عن كتاباته الأخرى، تهدف بالضبط إلى
شرح طبيعة زِنْ وجعلها مفهومة بالقدر الذي
يمكن فيه التعبير عن هذه الطبيعة بالكلمات.
إلا أن ذلك لا يعفيني من الحديث عن مبادئ زِنْ
ذات العلاقة المباشرة بالتحليل النفسي. مبادئ بوذية
زِنْ جوهر زِنْ هو تحقيق
الاستنارة (ساتوري satori)
كاملاً. ومَن لم يَخُضْ هذه الخبرة لا يمكن
أبدًا أن يفهم زِنْ فهمًا كاملاً. ولأنني لم
أخُضْ خبرة ساتوري، فلا يمكن لي أن
أتكلَّم على زِنْ إلا ملامسةً من بعيد، وليس
كما ينبغي التحدث عنه انطلاقًا من التجربة
الكاملة. وسبب ذلك ليس أن ساتوري "يمثِّل
طريقة وفنًّا يستحيل على الأوروبي أن يفهمهما"[4]،
كما يقول كارل غوستاف يونغ – فزِنْ ليس أصعب
على الأوروبي من هيراقليطس أو المعلم
إيكهَرْت أو هيدغِّر – وإنما تكمن الصعوبة في
ذلك الجهد المضني الذي ينبغي بَذْلُه في
الوصول إلى ساتوري؛ هذا الجهد الذي يفوق
كثيرًا ما يرغب معظم الناس في بذله. وذلك هو
السبب في أن خبرة ساتوري نادرة حتى في
اليابان. وإذ لا أملك أية سلطة أو
مرجعية تخوِّلني الحديث عن زِنْ، فقد كان من
حسن حظي أنني قرأت كتب د. سوزوكي، وأصغيت
جيدًا إلى بعض محاضراته، واطَّلعت على ما
توفَّر لي من مؤلَّفات أخرى في بوذية زِنْ،
لتتكوَّن لديَّ فكرةٌ تقريبية عما يشكِّل
زِنْ؛ وهي فكرة آمل أن تمكِّنني من القيام
بمقارنة حذرة بين بوذية زِنْ والتحليل النفسي. د.ت.
سوزوكي، أول مَن أدخل الزِنْ إلى الغرب، جامعًا
بين الخبرة الروحية والمنهج الأكاديمي. ما هي غاية زِنْ الأساسية؟
يقول سوزوكي: إن
زِنْ في جوهره هو فن تبصُّر المرء بطبيعة
كينونته؛ وهو يشير إلى السبيل من العبودية
إلى الحرية... ويمكن القول إن زِنْ يحرِّر كلَّ
الطاقات المخزونة بصورة طبيعية في داخل كلٍّ
منَّا، التي تكون، في الأحوال العادية،
محبوسةً ومشوهة، فلا تجد قناةً كافية لنشاطها...
وهكذا تكون غاية زِنْ هي أن ينقذنا من الجنون
أو من العجز والقُعَاد. أما ما أعنيه بالحرية،
فهو إفساح المجال أمام كلِّ الدوافع الخلاقة
والخيِّرة، الكامنة أصلاً في قلوبنا، بحيث
يمكن لها أن تتحرك حرَّة. فنحن، في صورة عامة،
عُمْيٌ تجاه هذه الحقيقة، حقيقة أن في حوزتنا
كلَّ المقدرات الضرورية لجعلنا سعداء، يحبُّ
واحدنا الآخر.[5] يشتمل هذا التعريف على عدد
من أوجُه زِنْ الأساسية التي يجب التأكيد
عليها. فزِنْ هو فن تبصُّر المرء بطبيعة
كينونته؛ وهو سبيل من العبودية إلى
الحرية؛ كما أنه يحرر طاقاتنا الطبيعية،
ويحول بيننا وبين الجنون أو العجز والقُعاد؛
ويدفعنا إلى التعبير عن مقدرتنا على السعادة
والحب. والغاية النهائية لزِنْ هي
خبرة الاستنارة، التي تُدعى ساتوري. ولقد
قدَّم د. سوزوكي في محاضراته، وفي مؤلَّفاته
الأخرى، أكمل وصف يمكن تقديمه عن هذه الخبرة.
وأودُّ هنا أن أؤكد على بعض الأوجُه ذات
الأهمية الخاصة بالنسبة للقارئ الغربي،
وخاصة لأولئك المشتغلين في علم النفس. وأول ما
أودُّ لفت الانتباه إليه هو أن ساتوري ليس
حالة ذهنية بعيدة عن السواء normality؛
وليست غيبوبة يختفي فيها الواقع، أو حالة
نرجسية، كالتي نجدها في بعض الظاهرات الدينية.
إن ساتوري "حالة ذهنية سوية تمامًا..."،
كما قال جوشو، وهي "فكرك اليومي"[6]،
كما يقول سوزوكي. ويمارس ساتوري تأثيرًا
محددًا على الشخص الذي يختبره، حيث تعمل
سائر نشاطاته الذهنية عملاً مختلفًا، أكثر
إرضاءً، وأمنًا، وبهجةً من كلِّ ما تمَّ
اختباره من قبل. وهكذا تتغير نغمة الحياة؛ ذلك
أن ثمة شيئًا يجدِّد الشباب في امتلاك زِنْ،
فتبدو زهرة الربيع أجمل، ويبدو ينبوع الجبل
أبرد وأصفى.[7] من الواضح تمامًا أن ساتوري
هو التحقق الفعلي لحالة الكينونة الحق التي
وصفها د. سوزوكي في المقطع السابق. وإذا ما
عبَّرنا عن الاستنارة بلغة التحليل النفسي
فإن هذه الاستنارة هي حالة يتناغم فيها الشخص
تناغمًا تامًّا مع الواقع الخارجي والداخلي،
فيدرك هذا الواقع ويقبض عليه قبضًا محكمًا: لا
بدماغه، ولا بأيِّ جزء آخر من أجزاء عضويته organism،
بل بكلِّيته – هو الإنسان الكلِّي. وهكذا
فإنه لا يدرك هذا الواقع بوصفه موضوعًا
خارجيًّا يقبض عليه بفكره، وإنما يدركه هو نفسه
– الزهرة، والقلب، والإنسان – في واقعيته
الكاملة. ومن يستيقظ أو يستنير يكون منفتحًا
على العالم ومستجيبًا له؛ وانفتاحه هذا
واستجابته تلك هما نتاجٌ لكفِّه عن النظر إلى
نفسه بوصفه شيئًا، فيصبح خليًّا وجاهزًا
للاستقبال والتلقِّي. فالاستنارة تغني "الاستيقاظ
التام الذي تستيقظه الشخصية بأكملها تجاه
الواقع". ومن الأهمية بمكان أن نفهم
أن حالة الاستنارة ليست حالة تفكُّك[8]
أو غيبوبة، يَحْسَب فيها المرءُ أنه مستيقظ،
بينما هو يغطُّ في نوم عميق. والحقيقة أن
المشتغل الغربي بعلم النفس يميل إلى الاعتقاد
بأن ساتوري لا يعدو كونه حالة ذاتية subjective،
وضربًا من الغيبوبة محرَّضًا ذاتيًّا، حتى إن
عالِمًا نفسانيًّا متعاطفًا مع زِنْ من
وَزْنِ د. يونغ لم يستطع تفادي الوقوع في مثل
هذا الخطأ. يقول يونغ: إن
التخيل ذاته هو حادث نفسي. ولهذا ليس مهمًّا
أن نصف استنارةً ما بأنها واقعية أو خيالية.
فالشخص الذي يستنير، أو يتصور أنه مستنير،
يعتقد في الحالتين أنه قد استنار…
وحتى لو كان يكذب، فإن كذبته هذه هي بمثابة
واقعة روحية.[9] بخلاف يونغ، الذي لم أعرض
هنا سوى لجزء من موقفه المتعلِّق بـ"حقيقة"
التجربة الدينية، فإنني أعتقد أن الكذبة لا
يمكن أبدًا أن تكون "واقعة روحية"، أو
غيرها، ما عدا كونها كذبة. وطبيعي أن بوذيي
زِنْ لا يشاطرون يونغ هذا الرأي، مهما تكن
الفضائل التي ينطوي عليها. وعلى العكس، فإن
التفرقة بين خبرة ساتوري الأصلية، التي
يتم فيها اكتسابُ نظرة جديدة حقيقية، وبين
التجربة الزائفة التي يمكن أن تكون من طبيعة
هستيرية أو ذُهانية psychotic،
هي تفرقة تحظى بأهمية كبيرة في نظرهم؛ وحين
يعتقد تلميذ زِنْ أنه قد بلغ ساتوري بتلك
التجربة الزائفة، يكون على معلِّم زِنْ أن
يبيِّن له العكس. والحقيقة أن إحدى مهمات
المعلم الأساسية هي الحيلولة دون خلط تلميذه
بين الاستنارة الفعلية والاستنارة الوهمية
أو الخيالية. وإذا استخدمنا مصطلحات
نفسية فإن من الممكن القول إن اليقظة الكاملة
تجاه الواقع تعني التوجُّه "توجهًا منتجًا
ومثمرًا" تمامًا. وهذا بعيد كلَّ البعد عن
ربط الذات بالعالم ربطًا متلقيًا
واستغلاليًّا وادِّخاريًّا، وكأن هذا العالم
مجرد سوق؛ وهو يحيل مباشرة إلى ربط الذات
بالعالم ربطًا خلاقًا وفاعلاً (بالمعنى الذي
يضفيه سبينوزا على هذه الكلمة). وفي حالة
الإثمار أو الإنتاج الكامل لا يعود ثمة حُجُب
تفصلني عما هو "ليس أنا". والموضوع لا
يعود موضوعًا؛ فهو لا يقف قبالتي، بل معي.
والوردة التي أراها لا تكون موضوعًا لفكري –
كما هي الحال حين أقول "أرى وردة"؛ وأعني
أن الموضوع، أي الوردة، من صنف "الورود"
– بل تكون على النحو الذي أعني فيه أن "وردة
هي وردة هي وردة". كما أن حالة الإنتاج هذه
هي، في الوقت ذاته، حالة الموضوعية objectivity
الأرفع؛ حيث أرى الموضوع من غير تلك التشوهات
التي يُداخِلها خوفي وجشعي، فأراه كما هو، لا
كما أرغب في أن يكون أو لا يكون عليه. وبهذه
الطريقة من الإدراك الحسي لا تعود ثمة تشوهات
ناجمة عن سوء الربط، بل حيوية كاملة، ومؤالفة
بين الذاتية subjectivity
والموضوعية. فأنا أختبر الموضوع إلى أبعد
حدٍّ، في الوقت الذي يبقى فيه هذا الموضوع ما
هو عليه، فآتي به إلى الحياة. وساتوري لا
يبدو غامضًا محيِّرًا إلا لِمَن لا يدرك مدى
الطابع الذهني المحض، أو مدى التشوهات، في
إدراكه الحسي للعالم. فإذا ما أدرَكَ هذا
المدى، فإنه يدرك أيضًا إدراكًا آخر، إدراكًا
يمكن أن نصفه بأنه واقعي تمامًا. ومع أننا قد
لا نختبر سوى لمحات من هذا الإدراك، إلا أن من
الممكن أن نتصور ما هو عليه. فالصبي الصغير
الذي لا يزال يتعلم العزف على البيانو لا يعزف
مثل معلِّم عظيم، إلا أن عزف المعلِّم ليس في
نظره ذلك الأمر المبهم الغامض، بل هو اكتمال
تجربته التي لا تزال غرَّة وفي بدايتها. ثمة قصتان من قصص زِنْ
تعبِّران تعبيرًا واضحًا عن أن الإدراك غير
المشوَّه وغير الفكري للواقع هو عنصر جوهري
في خبرة زِنْ. وأول هاتين القصتين هي قصة
المحادثة التالية بين معلِّم وراهب: قال
الراهب: "يا معلِّم، هل قمت بأيِّ جهد كي
تصل إلى الحقيقة؟" فأجاب
المعلِّم: "أجل، لقد فعلت." قال
الراهب: "وكيف تختبر نفسك؟" قال
المعلم: "حين أجوع، آكل؛ وحين أتعب، أنام." قال
الراهب: "هذا ما يفعله الجميع؛ فهل نقول
إنهم قد اختبروا أنفسهم على النحو الذي
اختبرت فيه نفسك؟" فرد
المعلِّم: "لا." وسأله
الراهب: "لماذا؟" قال
المعلِّم: "لأنهم حين يأكلون، لا يأكلون،
بل يفكرون في أشياء أخرى كثيرة، فتضطرب
نفوسهم؛ وحين ينامون، لا ينامون، بل يحلمون
بآلاف الأشياء. ولذا فهُمْ ليسوا مثلي."[10] هذه القصة تكاد لا تحتاج إلى
شرح. فالشخص العادي يسوقه الطمع والخوف
وانعدام الأمن إلى الوقوع الدائم في شراك
عالم من التهويم fantasy
(دون أن يدرك ذلك أو يعيه بالضرورة)، حيث يسبغ
على العالم خصائص هو الذي يُسقِطها عليه دون
أن تكون موجودة حقًّا. فإذا ما كان ذلك صحيحًا
في الزمن الذي جرت فيه هذه المحادثة، فما بالك
به اليوم، حيث يرى الجميع ويسمعون ويشعرون
ويتذوقون بأفكارهم، لا بتلك القوى الموجودة
في دواخلهم وتقدر أن ترى وتسمع وتشعر وتتذوق. أما القصة الثانية فهي قصة
واحد من معلِّمي زِنْ قال: قبل
أن أستنير كانت الأنهُر أنهُرًا والجبال
جبالاً. وحين بدأت بالاستنارة لم تعد الأنهُر
أنهُرًا ولا الجبال جبالاً. أما الآن، وقد
استنرت، فقد عادت الأنهُر أنهُرًا والجبال
جبالاً من جديد. وهذا يعني أننا أمام مقاربة
جديدة للواقع. فالشخص العادي هو مثل الرجل في
كهف أفلاطون الشهير، لا يرى سوى الظلال،
ويخلط بينها وبين جوهر الأشياء. وحين يدرك
خطأه، فإن معرفته لا تتجاوز معرفة أن الظلال
ليست الجوهر. أما حين يستنير، فإنه يغادر
الكهف وظلمته إلى النور، وهناك يرى الجوهر،
لا الظلال، ذلك أنه قد استيقظ. أما إذا بقي في
الظلام، فلا يستطيع أن يفهم النور (وكما يقول الإنجيل،
فإن "النور يشرق في الظلمة والظلمة لا
تدركه"). فإذا ما خرج من الظلمة لا يلبث أن
يدرك الفارق بين رؤيته السابقة للعالم، بوصفه
ظلالاً، ورؤيته له الآن، بوصفه واقعًا. إن ما يرمي إليه زِنْ هو
معرفة المرء طبيعته الخاصة، وسعيه وراء "معرفة
ذاته". غير أن هذه المعرفة ليست المعرفة "العلمية"
التي يدعو إليها عالِم النفس الحديث، معرفة
العارف–المفكِّر الذي يعرف نفسه بوصفها
موضوعًا. فمعرفة الذات في زِنْ ليست معرفة "فكرية"،
ليست معرفة مغترِبة alienated،
بل خبرة كاملة يصبح فيها العارف والمعروف
كلاً واحدًا. وكما يقول سوزوكي فإن الفكرة
الأساسية في زِنْ هي تماس المرء مع كينونته
الداخلية، وذلك بطريقة مباشرة تمامًا، دون
لجوء إلى أيِّ شيء خارجي أو إضافي.[11] ونفاذ المرء هذا إلى طبيعته
الخاصة ليس نفاذًا فكريًّا، خارجيًّا، بل
نفاذ تجريبي، داخلي، على الدوام. وهذا الفارق
بين المعرفة الفكرية والمعرفة التجريبية
يتَّسم بأهمية عظيمة بالنسبة لزِنْ، كما
يشكِّل، في الوقت ذاته، واحدًا من المصاعب
الكبرى التي تواجه التلميذ الغربي في محاولته
فهم زِنْ. فلطالما اعتقد الغرب، طوال ألفي عام
(مع استثناءات قليلة جدًّا، على غرار
المتصوِّفة)، أن من الممكن تقديم إجابة
نهائية بواسطة الفكر على مسألة الوجود؛
وقد اكتسبت هذه "الإجابة النهائية الصائبة"
أهمية بالغة في كلٍّ من الدين والفلسفة. ولقد
مهَّد هذا الأمرُ الطريقَ لازدهار العلوم
الطبيعية. فهاهنا يكون الفكر الأرثوذكسي
متأصِّلاً في المنهج وضروريًّا لإدخال الفكر
في حيِّز التطبيق، أي ضروريًّا للتقنية، وإن
لم يكن يقدِّم إجابة نهائية على مشكلة الوجود.
أما زِنْ، من الجانب الآخر، فيقوم على أساس
مغاير، مفاده أن الفكر لا يمكن له أن يقدِّم
الإجابة النهائية على مسألة الحياة. ذلك أن المجرى
الفكري لـ"نعم" و"لا" يكون ساريًا
تمامًا حين تجري الأمور في مسارها المعتاد؛
ولكن ما أن يبرز سؤالُ الحياة الجوهري حتى
يخفق الفكر في تقديم الإجابة الوافية.[12] وهذا هو السبب في أن من غير
الممكن نقل خبرة ساتوري بواسطة الفكر. فهي خبرة
لا يمكن نقلها إلى الآخرين، مهما بذلنا من جهد
في الشرح وفي المناقشة، إلا إذا كان هؤلاء قد
بلغوها من قبل. وساتوري الذي يمكن تحليله،
بحيث يصير بذلك واضحًا تمامًا لمَن لم يصل
إليه، ليس ساتوري. فحين يتحول ساتوري
إلى مفهوم يكفُّ عن كونه ساتوري، وتنعدم
خبرة زِنْ.[13] ولا يقتصر الأمر على
استحالة تقديم إجابة نهائية عن سؤال الحياة
عن طريق الصياغة الفكرية؛ فلكي يتم بلوغ
الاستنارة لا بدَّ من الإطاحة ببناءات الذهن
الكثيرة التي تعيق النفاذ والتبصُّر
الحقيقيين. فزِنْ "يريد ذهن المرء حرًّا
ومنفتحًا؛ وحتى فكرة الواحد والكلِّ هي حجر
عثرة وأحبولة خطيرة تهدِّد حرية الروح
الأصيلة"[14].
وهذا يعني أن مفهوم المساهمة أو المشاركة أو
التعاطف، الذي يلح عليه كثيرًا علماء النفس
الغربيون، ليس مقبولاً في فكر زِنْ: ففكرة
المشاركة أو التعاطف هي تأويل فكري لخبرة
بدئية. أما حين تكون الخبرة ذاتها هي
المعنيَّة، فلا يكون ثمة مجال لأيِّ نوع من
الانقسام. فالفكر يُقحِم نفسه ويشقُّ الخبرة
كي يجعلها في متناول المعالجة الفكرية، الأمر
الذي يعني التمييز والانقسام. وعندئذٍ يضيع
الشعور الأصلي بالهوية ويُتاح للفكر أن
يتَّخذ سبيله المميز في شقِّ الواقع وتمزيقه
إربًا. وهكذا تكون المشاركة أو التعاطف نتيجة
للفكْرَنة. والفيلسوف الذي لم يَخُضْ خبرة
أصيلة هو عرضة للانغماس في هذه الفَكْرَنة.[15] وما يحدُّ من عفوية الخبرة
ليس الفكر وحده، وإنما أيُّ مفهوم أو تصور
مرجعي؛ ولذا فإن زِنْ "لا يعزو أية أهمية
جوهرية إلى السوترا المقدسة[16]
أو تأويلاتها عند الحكماء والمتعلِّمين.
فالخبرة الشخصية تفعل فعلها القوي ضد المرجع
وضد الإلهام الموضوعي..."[17].
ففي زِنْ ليس ثمة إلحاح على الله، مع أنه ليس
ثمة إنكار له. فما يبغيه زِنْ هو "التحرر
المطلق، حتى من الله"[18]،
وحتى من البوذا؛ ومن هنا قول زِنْ: "طهِّر
فمك حين تنطق باسم بوذا." وانسجامًا مع هذا الموقف
الذي يتخذه زِنْ حيال التبصُّر الفكري، فإن
الغاية من التعليم فيه ليست، كما في الغرب،
دقة التفكير المنطقي وحذاقته المتزايدة على
الدوام؛ وإنما تقوم طريقة زِنْ على "وضع
المرء في مأزق، عليه أن يتدبَّر أمر الخروج
منه، لا بواسطة المنطق بل بواسطة عقل ذي نظام
أرفع"[19]. وهكذا، فإن
المعلِّم ليس معلِّمًا بالمعنى الغربي،
وإنما هو سيِّده، بقدر ما يتسيَّد على عقله
الخاص ويكون قادرًا، بالتالي، على أن ينقل
إلى التلميذ ذلك الشيء الوحيد الذي يمكن
نقله، ألا وهو وجوده. فعلى الرغم من كلِّ
ما يستطيع السيد فعله، فإنه "عاجز عن جعل
المريد يقبض على الشيء ما لم يكن هذا المريد
مهيئًا لذلك تمامًا... فالقبض على الواقع
الجوهري ينبغي أن تقوم به الذات"[20]. إن موقف معلِّم زِنْ من
تلميذه هو موقف يحيِّر القارئ الغربي الحديث،
العالق في الاختيار بين سلطة لاعقلانية تحدُّ
من الحرية وتستغل موضوعها، وبين الغياب التام
والمنفلت لأية سلطة. أما زِنْ فيمثل شكلاً آخر
من السلطة، هو شكل "السلطة العقلانية".
فالسيد لا يستدعي التلميذ، ولا يريد منه
شيئًا، حتى لو كان هذا الشيء هو الاستنارة
ذاتها. والتلميذ هو الذي يأتي بإرادته الحرة،
وهو الذي يمضي بإرادته الحرة. وإذا ما كان
يريد أن يتعلِّم من السيد، فإن عليه أن يعلم
أن السيد سيد، أي أنه يعرف ما يريد
التلميذ أن يعرفه ولم يعرفه بعد. ويدرك السيد
في زِنْ أن "ليس ثمة ما يحتاج إلى الشرح
بواسطة الكلمات، أو ما يجب تقديمه كمذهب مقدس:
"لا تبقَ صامتًا، ولا تضع نفسك موضع الخطيب:
ثلاثون صفعة، سواء أَثْبتَّ أم نفيت"[21].
فما يميِّز معلِّم زِنْ هو الغياب التام
للسلطة اللاعقلانية، والإظهار الواضح لتلك
السلطة غير المتطلِّبة في الوقت ذاته. ولا يمكن فهم زِنْ ما لم
يأخذ المرءُ بالحسبان أن تحقيق النفاذ إلى
الواقع الجوهري والتبصُّر به مرتبطان
صميميًّا بتغيير الطبع. وهذه الفكرة الزنِّية
تضرب بجذورها في التفكير البوذي الذي يرى أن
تغيير الطبع شرط للخلاص. فلا بدَّ من التخلِّي
عن جشع التملُّك، وعن سائر أنواع الجشع، وعن
التيه والخيلاء وتمجيد الذات. فالموقف من
الماضي مسؤولية. والعيش في زِنْ "يعني
التعامل مع ذاتك ومع العالم في إطار عقلي من
الاحترام والتقدير الرفيعين". فمثل هذا
الموقف هو أساس "الفضيلة السرية، التي هي
سمة تميِّز الانضباطَ في زِنْ، وتعني عدم هدر
الموارد الطبيعية، والانتفاع الكامل،
اقتصاديًّا وأخلاقيًّا، بكلِّ ما تصادفه". أما غاية زِنْ الأخلاقية
فهي تحقيق "الأمان التام وانعدام الخوف"،
والانتقال من العبودية إلى الحرية. وزِنْ "مسألة
طبع، لا مسألة فكر. وهذا يعني أن زِنْ ينبع من
الإرادة بوصفها مبدأ الحياة الأول"[22]. إزالة الكبت
والاستنارة ما هي حصيلة هذا النقاش فيما
يخص العلاقة بين التحليل النفسي[23]
وبوذية زِنْ؟ لا بدَّ أن تكون قد لفتتْ
انتباهَ القارئ حقيقةُ أن افتراض التعارُض
بين بوذية زِنْ والتحليل النفسي لا يصدر إلا
عن نظرة سطحية إلى كليهما. فالألفة بين
الاثنين، على العكس تمامًا، تثير الاهتمام
كثيرًا وتسترعي الانتباه. وسوف نلقي الضوء
فيما يلي على هذه الألفة بصورة مفصَّلة. فلنبدأ بما أوردناه من قبل
للدكتور سوزوكي بخصوص الغاية التي يتوخَّاها
زِنْ. فزن في
جوهره هو فنُّ تبصُّر المرء بطبيعة كينونته؛
وهو يشير إلى السبيل من العبودية إلى الحرية…
ويمكن القول إن زِنْ يحرِّر كلَّ الطاقات
المخزونة بصور طبيعية داخل كلٍّ منا، التي
تكون، في الأحوال العادية، محبوسة ومشوَّهة،
فلا تجد قناة لنشاطها… وهكذا فإن غاية زِنْ هي أن ينقذنا من
الجنون أو من العجز والقُعاد. أما ما أعنيه
بالحرية، فهو إفساح المجال أمام سائر الدوافع
الخلاقة والخيِّرة، الكامنة أصلاً في
قلوبنا، بحيث يمكن لها أن تتحرك حرة. فنحن في
صورة عامة عُمْيٌ تجاه هذه الحقيقة، حقيقة أن
في حوزتنا كلَّ المقدرات الضرورية لجعلنا
سعداء، يحبُّ واحدنا الآخر. يمكن القول إن غاية زِنْ هذه
هي بالضبط ما يطمح التحليل النفسي إلى تحقيقه:
أي تبصُّر المرء بطبيعة كينونته والحرية
والسعادة والحب وإطلاق الطاقات والخلاص من
الجنون والعجز والقُعاد. وقد يبدو القول عن مواجهتنا
الاختيار بين الاستنارة والجنون مفزعًا
ومخيفًا. إلا أن هذا القول هو وليد الوقائع
المرصودة وثمرتها. وفي حين يُعنى الطب النفسي
بالسؤال عن سبب جنون بعض البشر، فإن
السؤال الفعلي هو عن سبب عدم جنون معظم
البشر. ذلك أننا، حين ننظر إلى موقع الإنسان
في العالم، وانفصاله، ووحدته، وعجزه،
وإدراكه لذلك كلِّه، نتوقع ألا يكون قادرًا
على تحمُّل هذا العبء كلِّه وأن "يتمزق"،
بالمعنى الحرفي للكلمة، تحت وطأة هذا التوتر.
إلا أن معظم الناس يتفادون هذه النتيجة عن
طريق آليات تعويضية لتغيير روتين حياتهم،
والانسجام مع القطيع، والبحث عن السلطة
والهيبة والمال، والتعويل على أوثان
يتقاسمونها مع آخرين في العبادات الدينية،
وحياة التضحية المازوخية بالنفس والتضخُّم
النرجسي، والعجز والعطالة. ويمكن القول إن
هذه الآليات التعويضية جميعًا يمكن لها أن
تقي من الجنون بصورة من الصور، شرط أن تعمل
عملها. أما الحل الجوهري الوحيد الذي يتغلب
فعلاً على الجنون المحتمل فهو الاستجابة
للعالم استجابة منتجة كاملة، ليست، في شكلها
الأرفع، سوى الاستنارة. وقبل أن نصل إلى القضية
الأساسية الخاصة بالعلاقة بين التحليل
النفسي وبوذية زِنْ، أودُّ أن أتعرَّض لبعض
أوجُه الألفة الثانوية بين الاثنين. وأول ما
ينبغي ذكره هو التوجُّه الأخلاقي الذي
يتقاسمه كلٌّ من زِنْ والتحليل النفسي. فلكي
تتحقق غايات زِنْ لا بدَّ من التغلب على
الجشع، سواء كان جشع التملك، أو جشع المجد، أو
أيَّ شكل آخر من أشكال الجشع ("الحسد
والشهوة"، بالمعنى الذي أشار إليه العهد
القديم). وهذا بالضبط ما يهدف إليه التحليل
النفسي: ففي النظرية تتطور الليبيدو من الطور
الفموي الاستقبالي، مرورًا بالطور الفموي
السادي والشرجي، وصولاً إلى الطور التناسلي.
وقد عبَّر فرويد ضمنًا عن أن الطبع السليم
يتطور من الطمع والقسوة والبخل نحو التوجُّه
الفاعل والمستقل. ولقد قمت، من جهتي،
باستخدام مصطلحاتي الخاصة، بإلقاء مزيد من
الضوء على هذا العنصر القيِّم في ملاحظات
فرويد العِيادية، فتحدثت عن التطور من
التوجُّه الاستقبالي المتلقِّي، مرورًا
بالتوجُّه الاستغلالي، الادِّخاري،
التسوُّقي، وصولاً إلى التوجُّه المنتج.[24]
ويبقى الأمر الأساسي، بصرف النظر عن
المصطلحات المستخدَمة، أن الجشع، في المفهوم
التحليلي النفسي، هو ظاهرة مَرَضية، تسود حين
لا يكون المرءُ قد طوَّر قدراته المنتجة
الفاعلة. إلا أن التحليل النفسي ليس منظومة
أخلاقية في المقام الأول؛ وكذلك زِنْ. فغاية
زِنْ تتعالى على الغاية التي يضعها السلوك
الأخلاقي نصب عينيه؛ وكذلك غاية التحليل
النفسي. إلا أن من الممكن القول إن كلا
المنظومتين تفترضان أن يتماشى تحقيقُ
غايتهما مع تحوُّل أخلاقي، يتمثَّل في التغلب
على الجشع والقدرة على الحبِّ والرحمة. فهما
لا يريدان دفع الإنسان إلى عيش حياة فاضلة عن
طريق قمع الرغبة "الشريرة"، وإنما
يتوقعان أن تذوب هذه الرغبة الشريرة وتتلاشى
تحت نور الوعي المتعاظم ودفئه. ومن الخطأ أن
نعتقد أن من الممكن فَصْل غاية زِنْ (أي
الاستنارة) عن هذا التحول الأخلاقي من دون
تغلُّب على الطمع وتمجيد الذات والحماقة، أو
أن من الممكن تحقيق ساتوري دون التواضع
والمحبة والرحمة. ومن الخطأ أيضًا أن نفترض أن
من الممكن تحقيق غاية التحليل النفسي ما لم
يحدث تحوُّل مماثل في طبع الشخص. فمَن يبلغ
الطور المنتج يكون قد كفَّ عن الجشع،
وتغلَّب، في الوقت ذاته، على إحساسه بالعظَمة
وعلى أوهام القدرة والمعرفة الكلِّيتين؛
فتراه متواضعًا، ينظر إلى نفسه كما هي عليه
حقًّا. وإذًا، فإن ما يرمي إليه كلٌّ من زِنْ
والتحليل النفسي يتعالى على الأخلاق؛ إلا أن
من غير الممكن تحقيقه ما لم يحصل تحوُّل
أخلاقي. ومن العناصر الأخرى
المشتركة بين هاتين المنظومتين ذلك الإلحاحُ
على الاستقلال عن أيِّ نوع من أنواع المرجعية
أو السلطة. وهذا هو السبب الأساسي الذي دفع
فرويد إلى نقد الدين، حيث رأى جوهر الدين في
وَهْم إحلال الاتِّكال على الله محلَّ
الاتكال الأصلي على الأب المُعاقِب والمُثيب.
ففي الإيمان بالله، كما يرى فرويد، يواصل
الإنسان اتِّكاله الطفولي البعيد عن النضج،
بدلاً من التعويل على قواه الخاصة وحدها. ولكن
ما الذي كان يمكن لفرويد أن يقوله عن "دين"
يقول: "حين تذكر اسم بوذا، اغسل فمك!" وما
الذي كان يمكن له أن يقوله عن "دين" ليس
فيه إله، ولا أية سلطة لاعقلانية، مهما يَكُ
نوعها، وتتمثَّل غايتُه الأساسية في تحرير
الإنسان من الاتِّكال، وتفعيله، وتبيان أنه
هو الذي يتحمل مسؤولية مصيره، وليس أيُّ أحد
آخر؟ وقد يتساءل البعض: ألا
يتعارض هذا الموقف المناهض للسلطوية مع أهمية
شخص المعلِّم–السيد في زِنْ، ومع أهمية شخص
المحلِّل في التحليل النفسي؟ الحق أن هذا
التساؤل يشير إلى عنصر جدِّي تقوم عليه صلةٌ
عميقة بين زِنْ والتحليل النفسي. ففي كلتا
المنظومتين ثمة حاجة إلى مرشد أو دليل، إلى
شخص خاضَ هو نفسُه خبرة المريض (التلميذ) التي
يجب خوضها الآن بإشرافه ورعايته. فهل يعني هذا
أن التلميذ يتَّكل على السيد (أو أن المريض
يتَّكل على المحلِّل النفساني)، وأن ما يقوله
هذا الأخير هو الحقيقة المطلقة؟ لا شكَّ أن
المحلِّلين النفسانيين يُعنَوْن بـواقعة
مثل هذا الاتِّكال (النقلة أو التحويل[25])،
ويعلمون ما قد يكون لها من تأثير شديد. غير أن
غاية التحليل النفسي هي فهم هذه الرابطة
وإزالتها في النهاية، وإيصال المريض إلى حدٍّ
يتحرر عنده من المحلِّل تحررًا كاملاً، بعد
أن يكون قد اختبر في نفسه ما كان من قبلُ غير
موعيٍّ وأعاد دمجه في وعيه ومُكامَلَته معه.
ولأن معلِّم زِنْ يعرف أكثر من التلميذ –
الأمر الذي ينطبق على المحلِّل النفساني
ومريضه أيضًا – فإن بمقدور التلميذ أن يثق
بأحكام المعلِّم؛ لكن ذلك لا يعني أن يفرض
المعلِّمُ أحكامَه فرضًا. فهو لم يَسْتَدْعِ
التلميذ، كما أنه لا يمنعه من تركه ومغادرته.
وحين يأتي إليه التلميذ طواعيَةً، طالبًا
إرشاده وهدايته على درب الاستنارة، فإن
المعلِّم يكون جاهزًا لذلك، شرط أن يفهم
التلميذ أن عليه العناية بنفسه بالقدر الذي
يريد فيه المعلِّم أن يساعده. فليس بمقدور أحد
أن يخلِّص المرء سوى ذاته. وكلُّ ما يمكن
للمعلِّم أن يفعله هو أن يلعب دور القابلة، أو
دور الدليل في شعاب الجبال. ولقد قال أحد
المعلِّمين لتلميذه: ليس
لديَّ ما أعطيكه في حقيقة الأمر. ولو حاولت أن
أفعل ذلك لجعلت من نفسي موضع سخريتك. كما أن
كلَّ ما يمكن لي أن أقوله لك هو لي، ولا يمكن
له أبدًا أن يكون لك. ثمة مثال ملموس يورده
هرِّيغل في كتابه عن زِنْ وفن الرماية
بالقوس والنشاب[26]،
يوضح فيه توضيحًا لافتًا للانتباه موقف
معلِّم زِنْ. فهذا الأخير يلح على سلطته
العقلانية، أي على أنه يعرف معرفة أفضل كيفية
التوصل إلى فنِّ الرماية؛ ولذا فإنه يؤكد على
طريقة معينة في تعلُّم هذا الفن، إلا أنه لا
يبتغي أية سلطة لاعقلانية يفرضها على
التلميذ، ولا يبتغي اتِّكال التلميذ
المتواصل عليه. وعلى العكس من ذلك، فإن
التلميذ، ما أن يصبح معلِّمًا هو نفسه، حتى
يمضي في سبيله؛ وكلُّ ما ينتظره المعلِّم منه
هو صورة من حين لآخر تُريه ما يفعله التلميذ.
ومحبة المعلِّم للتلميذ محبة واقعية ناضجة،
قائمة على بذل كلِّ ما في وسعه لمساعدته على
تحقيق غايته، مع أنه يعلم أن لاشيء مما يفعله
يمكن أن يحلَّ مشكلة التلميذ بدلاً عنه، أو أن
يصل به إلى تحقيق مبتغاه. وواقعية هذه المحبة،
وبُعدها عن العاطفية، يكمنان في تقبُّل واقع
المصير البشري الذي لا يمكن فيه لأحد أن
يخلِّص الآخر، ومع ذلك ينبغي ألا نكفَّ فيه عن
القيام بكلِّ ما يسعنا لمساعدة ذلك الآخر على
تخليص نفسه. وكلُّ محبة لا تعرف هذا الحدَّ،
وتزعم أنها قادرة على "تخليص" نفْس أخرى،
هي محبة لم تتخلص من الطموح والشعور بالعظَمة. رسم
ياباني مختزَل يمثل الرماية بالقوس والنشاب ولا حاجة لمزيد من البراهين
على أن ما قيل عن معلِّم زِنْ يصح كذلك على
المحلِّل النفساني (أو ينبغي أن يصح عليه). فقد
رأى فرويد أن من الممكن تحقيق استقلال المريض
عن المحلِّل على أفضل وجه باتخاذ المحلِّل
موقفًا لاشخصيًّا، شبيهًا بالوقوف أمام
المرآة. إلا أن محلِّلين آخرين، مثل فيرينشي
وسوليفان وأنا نفسي وآخرين، ممَّن ألحُّوا
على الحاجة إلى العلاقة بين المحلِّل والمريض
كشرط للتفهم، متفقون تمامًا على أن هذه
العلاقة ينبغي أن تكون خالية من أية عاطفة أو
تشوهات غير واقعية، وخاصةً من أيِّ تدخُّل
للمحلِّل في حياة المريض، مهما يكن هذا
التدخل حاذقًا وغير مباشر، ولو كان في ذلك
تحسُّن حالة المريض. فإن كان المريض يريد أن
يتحسَّن، فذلك أمر حَسَن، والمحلِّل جاهز لأن
يساعده. أما إن كانت مقاومته للتغير شديدةً،
فتلك ليست مسؤولية المحلِّل. فمسؤولية هذا
الأخير كلُّها تقع في بذل أفضل ما لديه من
معرفة وجهد سعيًا وراء الغاية التي قصده من
أجلها المريض. وهنالك ألفة أخرى بين بوذية
زِنْ والتحليل النفسي ترتبط بموقف كلٍّ من
المحلِّل ومعلِّم زِنْ. فطريقة "التعليم"
في زِنْ تتمثل في حَشْر التلميذ في الزاوية،
ذلك أن الـكُوان[27]
يجعل من المتعذر على التلميذ أن يلجأ إلى
التفكير الذهني، وبذا يكون هذا الـكُوان
مثل حاجز يتعذر الفرارُ منه. وما يفعله
المحلِّل هو شيء مشابه لهذا، أو ينبغي أن يكون
مشابهًا. ذلك أن على المحلِّل أن يتفادى
حَشْوَ رأس المريض بالشروح والتأويلات التي
لا تفيد إلا في الحيلولة بينه وبين القيام
بقفزة من التفكير إلى الخبرة. وبالعكس، فإن
على المحلِّل أن يدحض تبريرًا إثر آخر، ويكسر
عكازًا إثر آخر، إلى أن لا يعود بمقدور المريض
الفرار، فيخترق الأوهامَ التي تملأ رأسه
ويختبر الواقع، ويعي ما لم يَعِه من قبل.
وغالبًا ما تُحْدِث هذه العملية قَدْرًا
كبيرًا من القلق الذي يحول، في بعض الأحيان،
دون عملية الاختراق، ويحدُّ من حضور المحلِّل
المُطمئِن. فهذه الطَّمْأَنَة هي مسألة "حضور"،
لا مسألة كلمات تمنع المريض من اختبار ما لا
يستطيع اختباره سواه. لقد تركَّز نقاشُنا، إلى
الآن، على عناصر التشابُه أو الألفة الثانوية
بين بوذية زِنْ والتحليل النفسي. إلا أن مثل
هذه المقارنة لن تكون وافية ما تُعْنَ
بالقضية الأساسية في زِنْ، ألا وهي
الاستنارة، والقضية الأساسية في التحليل
النفسي، ألا وهي التغلُّب على الكبت وتحويل
اللاوعي إلى وعي. فلنُجْمِل ما قلناه، إلى
الآن، عن هذا الأمر من جهة التحليل النفسي: إن
غاية التحليل النفسي هي تحويل اللاوعي إلى
وعي. إلا أن الكلام على "الـ"وعي و"الـ"لاوعي
يعني إحلال الكلمات محلَّ الوقائع. لذا فإن
علينا أن نتمسك بحقيقة أن الوعي واللاوعي
يشيران إلى وظيفتين، لا إلى موقعين أو إلى
محتويات. ويمكن القول، إذًا، إننا لا نستطيع
الكلام إلا على درجات مختلفة من الكبت، أي على
حالة لا يُتاح فيها اختراقُ المصفاة
الاجتماعية المكوَّنة من اللغة والمنطق
والمحتوى، إلا لتلك التجارب التي يُسْمَح لها
بالوصول إلى الإدراك.[28]
وبقدر ما يمكن لي أن أتخلَّص من هذه المصفاة،
وأختبر ذاتي بوصفي الإنسان الكوني، يزول
الكبت. وبقدر ما أتصل مع أعمق المنابع داخل
ذاتي، أتَّصل مع الإنسانية جمعاء. فإذا ما
رُفِعَ الكبتُ برمَّته، لا يبقى هناك ذلك
اللاوعي الذي يقف قبالة وعيي ويعارضه، بل
خبرة آنية ومباشرة. فبقدر ما أكف عن كوني
غريبًا حيال نفسي، تكفُّ الأشياء جميعًا عن
كونها غريبة بنظري. وبقدر ما يكون جزءٌ منِّي
مغتربًا عن نفسي، وبقدر ما يكون "لاوعيي"
منفصلاً عن وعيي (أي بقدر ما أكون أنا،
الإنسان الكلِّي، منفصلاً عن الأنا، الإنسان
الاجتماعي)، يكون فهمي للعالم زائفًا من
نواحٍ شتى. فيكون زائفًا، أولاً، بسبب
التشوهات الناجمة عن سوء الربط (النقلة أو
التحويل)، حيث أختبر الشخص الآخر لا بذاتي
الكلِّية، بل بذاتي المنفصمة، الطِّفلية،
فأختبره بوصفه شخصًا هامًّا من شخصيات
طفولتي، لا بوصفه الشخص الفعلي. ويكون هذا الفهم زائفًا،
ثانيًا، لأن الإنسان، في حالة الكبت، يختبر
العالم بوعي زائف، فلا يرى ما هو موجود، بل
يضع صورته الفكرية في الأشياء، ويراها في ضوء
صوره الفكرية وهُواماته، لا كما هي في الواقع.
والصورة الفكرية – ذلك الحجاب المشوِّه – هي
التي تخلق أهواءه وضروب قلقه. أخيرًا، فإن المكبوت، بدلاً
من أن يختبر الأشياء والأشخاص كما هم عليه،
يختبرهم من خلال الفَكْرَنَة؛ فهو واقع تحت
تأثير وَهْمِ اتصاله مع العالم، في حين أنه
متصل مع الكلمات وحدها. والحقيقة أن
النقلة والوعي الزائف والفَكْرَنَة ليست
سبلاً مختلفة للابتعاد عن الواقع، بقدر ما هي
أوجُه مختلفة – إنما متشابكة – لظاهرة
الابتعاد هذه، التي توجد مادام الإنسان
الكوني منفصلاً عن الإنسان الاجتماعي. ونحن،
حين نقول إن الشخص الذي يعيش حالة كبت هو شخص
مغترب، لا نفعل سوى وصف هذه الظاهرة ذاتها.
فهذا الشخص يُسْقِط مشاعرَه وأفكارَه الخاصة
على الأشياء، ولذا لا يختبر ذاته بوصفها ذاتَ
مشاعره، بل تتحكَّم فيه الأشياء المشحونة
بمشاعره. أما نقيض التجربة المغتربة،
المشوَّهة، الزائفة، المُفَكْرَنة، فهو
الفهم الآني المباشر، الكلِّي، للعالم الذي
نراه رُضَّعًا وأطفالاً قبل أن تغيِّر سلطةُ
التربية هذا الشكل من الخبرة. فالرضيع
المولود حديثًا لا يعاني أيَّ انفصال بين "أنا"
وما "ليس أنا". وهذا الانفصال يحدث
تدريجيًّا، وتعبِّر عن نتيجته النهائية
واقعةٌ تمكِّن الطفل من قول "أنا". إلا أن
فهم هذا الطفل للعالم يبقى آنيًّا ومباشرًا
نسبيًّا. وحين يلعب بكرة، يرى الكرة فعلاً،
وينغمس تمامًا في هذه التجربة. وهذا هو السبب
في أنها تجربة يمكن تكرارها إلى ما لانهاية،
وبمتعة لا حدَّ لها. وبالطبع، فإن البالغ
يعتقد أيضًا أنه يرى الكرة تتدحرج. وهذا صحيح
طبعًا بقدر ما يرى هذا البالغ أن الكرة–الشيء
تتدحرج على الأرض–الشيء. إلا أنه لا يرى
الدحرجة. فهو يفكر بالكرة المتدحرجة على
السطح. وحين يقول: "الكرة تتدحرج"، لا
يثبت عمليًّا سوى 1.
معرفته
أن ذلك الشيء المكوَّر يدعى كرة؛ و 2.
معرفته
أن تلك الأشياء المكوَّرة تتدحرج على سطح
أملس عندما ندفعها. أما عيناه فتعملان بهدف
إثبات معرفته، وبذا تجعلانه آمِنًا في هذه
الدنيا. وبالمقابل، فإن المرء في
حالة زوال الكبت يكتسب من جديد فهمًا للواقع
مباشرًا وغير مشوَّه، ويكتسب بساطة الطفل
وعفويته. إلا أن المرور السابق بسيرورة
الاغتراب، ونموَّ الفكر يجعلان من زوال الكبت
عودةً إلى البراءة على مستوًى أرفع؛ أي أن هذه
العودة إلى البراءة لا تكون ممكنة إلا بعد أن
يفقد المرء براءته. ويعبِّر العهد القديم
عن هذه الفكرة بوضوح في قصة الخروج من جنة عَدْن،
وفي المفهوم النبوئي الخاص بالمسيح المنتظر.
ففي القصة الأولى يجد الإنسان نفسه في حالة
عضوية في جنة عَدْن: فليس ثمة وعي، ولا
تمايُز، ولا اختيار، ولا حرية، ولا خطيئة. فهو
جزء من الطبيعة، لا يدرك أية مسافة بينه
وبينها. إلا أن حالة الوحدة الأصلية، السابقة
على الفردية هذه، تضطرب ما أن يقوم الإنسان
بأول فعل اختيار، الذي هو، في الوقت ذاته، أول
فعل تمرد وتحرر. وتكون ثمرة هذا الفعل ظهور
الوعي، فيدرك الإنسان–الرجل نفسه كما هي
عليه، ويدرك انفصاله عن حواء المرأة، وعن
الطبيعة والحيوان والأرض. وما أن يختبر هذا
الانفصال حتى يشعر بالخجل، على النحو الذي لا
نزال نشعر فيه بالخجل (وإنْ شعورًا لاواعيًا)
حين نختبر الانفصال والتمايُز عن أقراننا.
وهكذا يغادر جنة عَدْن، لتكون بداية التاريخ
البشري. فهو لا يستطيع العودة إلى حالة
الانسجام الأصلية؛ إلا أن بمقدوره أن يكافح
لبلوغ حالة انسجام جديدة بتطويره لعقله
وموضوعيته ووعيه وحبِّه تطويرًا كاملاً،
بحيث "تمتلئ الأرض بمعرفة الربِّ كالمحيط
الممتلئ ماءً". والتاريخ، في المفهوم
المسياني المتعلق بالمسيح المنتظر، هو
المكان الذي سيحدث فيه هذا التطور من
الانسجام السابق على الفردية والوعي إلى
انسجام جديد، قائم على تمام تطور العقل
واكتماله. وتُدعى حالة الانسجام الجديدة هذه
بالزمن المسياني messianic time
الذي يختفي فيه الصراع بين الإنسان والطبيعة،
بين الإنسان والإنسان، وتصبح فيه الصحراء
واديًا مثمرًا، ويسير فيه الحَمَل والذئب
جنبًا إلى جنب، وتُحَوَّل فيه السيوفُ إلى
محاريث. والزمن المسياني هو زمن جنة عَدْن،
وهو نقيضه في الوقت ذاته. فهو زمن الوحدة
والكلِّية والآنية؛ لكنه زمن الإنسان الذي
تطور تطورًا كاملاً، فعاد طفلاً من جديد، على
الرغم من مغادرته مرحلة الطفولة. ويعبِّر العهد الجديد
عن الفكرة ذاتها فيقول: "الحقَّ الحق أقول
لكم: مَن لا يقبل ملكوت الله مثل طفل لا يدخله."[29]
والمعنى واضح هنا: فعلينا أن نعود أطفالاً من
جديد، وأن نفهم العالم فهمًا مبدعًا، غير
مغترب؛ لكننا، إذ نعود أطفالاً من جديد،
فإننا لسنا بأطفال في الوقت ذاته، بل بالغون
قطعوا في التطور شوطًا كاملاً. وعندئذٍ نمتلك
حقًّا تلك التجربة التي يصفها العهد الجديد
بقوله: "نحن اليوم نرى في مرآة رؤية ملتبسة؛
وأما يومذاك فتكون رؤيتنا وجهًا لوجه. اليوم
أعرف معرفة ناقصة؛ وأما يومذاك فسأعرف مثلما
أنا معروف."[30] أن "أعي اللاوعي" يعني
أن أتغلَّب على الكبت والاغتراب عن ذاتي،
وعلى الاغتراب عن الغريب بالتالي. وهو يعني أن
أستيقظ، وأن أبدِّد الأوهام والتخيلات
والأكاذيب، وأرى الواقع كما هو. مَن يستيقظ هو
الإنسان المتحرِّر، الذي لا يمكن، لا للآخرين
ولا له هو نفسه، تقييد حريته. وهذه السيرورة
من إدراك المرء ما لم يكن يدركه من قبل هي
بمثابة ثورة الإنسان الداخلية؛ وهي اليقظة
الحقيقية الموجودة في جذر كلٍّ من الفكر
الذهني الخلاق والكشف الحدسي المباشر. أما
الكذب فلا يكون إلا في حالة اغتراب، حيث لا
يُخْتَبَر الواقعُ إلا بوصفه فكرًا، في حين
يصير الكذب مستحيلاً بانفتاح المرء على
الواقع عند اليقظة؛ إذ تعمل قوة الاختبار
الكامل للواقع على سَحْقِ الكذب وإذابته.
إذًا، فإن تحويل اللاوعي إلى وعي يعني، في
التحليل الأخير، العيش في الحقيقة: فلا يعود
الواقع مغتربًا، وأنفتح عليه، فأدعه يكون،
وبذا تكون استجابتي له "حقيقية". إن هذا القبض المباشر
والكامل على العالم هو ما يهدف إليه زِنْ.
واستنادًا إلى ما كتبه د. سوزوكي عن اللاوعي
في كتابه دراسات في زِنْ، سأحاول أن ألقي
مزيدًا من الضوء على الصلة التي تربط بين
مفاهيم التحليل النفسي وزِنْ. وبدايةً، أود أن أشير إلى
صعوبة المصطلحات التي أرى أنها تزيد المسائل
تعقيدًا بلا طائل؛ كاستخدام مصطلحي "الـ"وعي
و"الـ"لاوعي، بدلاً من المصطلح الوظيفي
المتعلق بإدراك الإنسان الكلِّي للتجربة،
إلى هذا الحدِّ أو ذاك. وقناعتي أننا إذا ما
أزلنا هذه العقبات الاصطلاحية من طريق
نقاشنا، يمكن لنا أن نتوصل بسهولة أكبر إلى
الصلة بين المعنى الحقيقي لتحويل اللاوعي إلى
وعي وفكرة الاستنارة. تقتضي "مقاربة زِنْ" أن
"تدخل في الموضوع ذاته وتراه، كما هو، من
الداخل"[31].
وهذه الطريقة في القبض المباشر على الواقع
"يمكن لنا أن ندعوها طريقة نزوعية[32]
أو إبداعية"[33]. ثم يتحدث د.
سوزوكي عن مصدر الإبداع هذا بوصفه مصدرًا لـ"لاوعي
زِنْ". ويواصل قائلاً إن "اللاوعي هو شيء
نشعر به، ليس بالمعنى العادي، بل بما أسمِّيه
المعنى الأشد مباشرة وجوهرية"[34].
وهكذا يتم الحديث هنا عن اللاوعي بوصفه
مجالاً ضمن الشخصية، لكنه متعالٍ عليها. و"الشعور
باللاوعي"، كما يقول سوزوكي، "هو أساسي
وبدئي". فإذا ما ترجمنا هذا القول بتعبيرات
وظيفية، فإن الحديث لا يكون عن الشعور بـ"الـ"لاوعي،
بل عن إدراك مجال للخبرة عميق وغير مألوف، أو
بعبارة أخرى، عن إنقاص الكبت، وبالتالي،
الحدِّ من التشوه الناجم عن سوء الربط،
وعمليات الإسقاط الصُّوَرية، وفَكْرَنَة
الواقع. وبدلاً من حديث سوزوكي عن "رجل زِنْ"
الذي هو "في اتصال مباشر مع اللاوعي العظيم"[35]،
أفضِّل أن أصوغ ذلك بالقول إن هذا المرء يدرك
واقعه الخاص وواقع العالم إدراكًا عميقًا،
دون حُجُب. والحقيقة أن سوزوكي لا يلبث أن
يستخدم هذه اللغة الوظيفية ذاتها حين يقول: فهو
[أي
اللاوعي] في الواقع، وبخلاف ذلك، أقرب
الأشياء إلينا؛ ونظرًا لهذا القرب بالضبط
يكون من الصعب الإمساك به، بالطريقة ذاتها
التي لا تستطيع بها العين أن ترى ذاتها. ولذا
فإننا لكي نصبح واعين باللاوعي يتطلَّب الأمر
تدريبًا خاصًا للوعي.[36] هاهنا يختار سوزوكي صياغة
هي الصياغة ذاتها التي اختارها التحليل
النفسي: فالغاية هي وعي اللاوعي؛ ولكي يتم ذلك
لا بدَّ من تدريب خاص للوعي. فهل يعني ذلك أن
لزِنْ وللتحليل النفسي الغايةَ ذاتها،
وأنهما لا يختلفان سوى في الشكل الذي قدَّمه
كلٌّ منهما لتدريب الوعي؟ قبل مناقشة هذا الأمر، أود
أن أناقش بعض الأمور التي تحتاج إلى إيضاح.
فالدكتور سوزوكي يشير في كتابه إلى تلك
المشكلة التي سبق أن ذكرتُها والخاصة
بالمعرفة ووقوفها قبالة حالة البراءة. فما
أسماه الكتاب المقدس بفقدان البراءة عبر
اكتساب المعرفة، يدعوه زِنْ والبوذية بـ"التلوث
الوجداني" (كليشا klesha)،
أو بتدخُّل الذهن الواعي المحكوم بالفكر
مسبقًا (فِجنانيا vijnanya).
ومصطلح "الفكر" هذا يطرح مشكلة بالغة
الأهمية. فهل الفكر هو الوعي ذاته؟ لأنه لو
كان كذلك فإن تحويل اللاوعي إلى وعي سيعني
توسيع أبعاد الفكر، مما يؤدي في الحقيقة إلى
غاية معاكسة لغاية زِنْ. وعندئذٍ ستكون غاية
التحليل النفسي وغاية زِنْ متعاكستين
تمامًا، حيث يكافح الأول سعيًا وراء مزيد من
الفكر، بينما يكافح الثاني من أجل التغلُّب
على الفكر. ولا بدَّ من الإقرار بأن
فرويد، في سنوات عمله الأولى، قبل أن يتخلَّى
عن اعتقاده بكفاية المعلومات التي يقدمها
المحلِّل النفساني لشفاء المريض، كان يضع
الفكر غايةً للتحليل النفسي. ولا بدَّ من
الإقرار أيضًا بأن العديد من المحلَّلين
النفسانيين لم يتخلوا بعد عن هذا التصور
للفكر، وكذلك أن فرويد لم يعبِّر أبدًا
تعبيرًا واضحًا عن الفارق بين الفكر والخبرة
الوجدانية الكلِّية. ومع ذلك، فإن هذا التبصر
أو النفاذ، القائم على الخبرة وغير الفكري،
يبقى غاية التحليل النفسي. وكما قلت في غير
مكان، فإن إدراكي لتنفسي لا يعني أن أفكر
فيه، وإدراكي حركة يدي لا يعني التفكير
فيها؛ على العكس، فإنني ما أن أفكر في
تنفسي أو في حركة يدي، حتى لا أعود مدركًا
لهما. وينطبق الشيء ذاته على إدراكي زهرة أو
شخصًا، أو خبرة الابتهاج أو الحب أو السلام.
وما يميز التبصُّر والنفاذ الحقيقيين في
التحليل النفسي هو عدم إمكانية صياغتهما
بالفكر، بخلاف التحليل الرديء الذي يُصاغ فيه
"التبصُّر" في نظريات معقدة لا علاقة لها
بالخبرة المباشرة. إذًا، فإن التبصُّر
التحليلي النفسي الجدير بالثقة هو تبصُّر
مفاجئ، يأتي دون أن يُفْرَض فرضًا، ودون أن
يكون مُتَعَمَّدًا أو مقصودًا. وهو لا يبدأ في
الدماغ، بل "في الجوف"، كما يقول
اليابانيون. ولا يمكن صياغته بكلمات وافية،
بل يتملَّص منَّا حين نحاول فعل ذلك – على
الرغم من كونه واقعيًّا وواعيًا، ويغيِّر مَن
يختبره. إن قبض الرضيع على العالم
قبضًا مباشرًا هو قبض سابق على الوعي وعلى
الموضوعية والإحساس بالانفصال بين الواقع
والذات. وفي هذه الحالة يكون "اللاوعي
غريزيًّا، لا يتجاوز لاوعي الحيوانات أو
الأطفال. ولا يمكن له أن يكون لاوعي الرجل
الناضج"[37].
فخلال مرحلة الخروج من اللاوعي البدئي إلى
وعي الذات، يتم اختبار العالم بوصفه عالمًا
مغتربًا، على أساس الانشطار بين الإنسان
الكوني والإنسان الاجتماعي، بين اللاوعي
والوعي. وبقدر ما يتدرَّب الوعي على أن يكون
منفتحًا، وعلى الحدِّ من فعل المصفاة
الاجتماعية ذات الطبقات الثلاث، فإن
التفارُق بين الوعي واللاوعي يختفي. وباختفاء
هذا التفارُق تمامًا نكون أمام خبرة واعية
مباشرة وغير انعكاسية reflexive
أو فكرية، هي، على وجه الدقة، ذلك النوع من
الخبرة الذي يقوم دونما تفكير أو انعكاس. وهذه
المعرفة هي ما يدعوه اسبينوزا بالشكل الأرفع
من المعرفة، أو الحدس intuition؛
وهي المعرفة التي يصفها سوزوكي بأنها
المقاربة القائمة على "الدخول في الموضوع
ذاته ورؤيته من الداخل"؛ وهي الطريقة
النزوعية أو الإبداعية في رؤية الواقع. ففي
خبرة الفهم المباشر هذه، يصبح الإنسان "فنان
الحياة المبدع"، الحاضر في كلٍّ منَّا،
لكننا نسيناه. وكلُّ فعل من أفعال فنان الحياة
المبدع هذا هو فعل يعبِّر
عن أصالته وإبداعه وشخصيته الحية. فليس ثمة
محاكاة في هذه الشخصية، ولا امتثال، ولا
دوافع مكفوفة... وهو غير منغلق على نفسه في
وجوده المتشظِّي والمحدود والمحصور
والأناني؛ إذ لقد غادر هذا السجن.[38] فإذا ما نظَّف "الإنسان
الناضج" نفسه من "التلوث الوجداني"
ومن تدخُّل الفكر، أصبح بمقدوره أن يحقق "حياة
حرية وعفوية، حيث لا مجال لأن تُغِير عليه
المشاعر المنغِّصة، كالخوف والقلق أو انعدام
الأمن"[39].
وما يقوله سوزوكي هنا عن القوة أو الوظيفة
المحرِّرة التي تتمتَّع بها هذه المنجزات هو
في الحقيقة ما يمكن للتحليل النفسي قوله عن
الأثر المُنْتَظَر للتبصُّر والنفاذ
الكاملين. وتبقى هنا مشكلة المصطلحات
أيضًا؛ لكنني لن أشير إليها إلا باقتضاب،
لأنها، شأن كلِّ المشكلات الاصطلاحية، ليست
بتلك الأهمية الكبيرة. لقد ذكرت من قبل أن
سوزوكي يتحدث عن تدريب الوعي؛ لكنه يتحدث في
مواضع أخرى عن "اللاوعي المدرَّب الذي
تمَّ فيه اندماج كلِّ الخبرات الواعية التي
خاضها المرء منذ الطفولة بوصفها مكوِّنة
لكيانه كلِّه"[40].
وهكذا يجد المرء تناقضًا في استخدام "الوعي
المدرَّب" مرة و"اللاوعي المدرَّب"
مرة أخرى. لكنني لا أرى أن ثمة تناقضًا هنا:
ففي سيرورة تحويل اللاوعي إلى وعي، في سيرورة
التوصل إلى واقع الخبرة الكامل، لا بدَّ
لكلٍّ من الوعي واللاوعي من أن يكونا
مدرَّبين. فالوعي ينبغي أن يتدرب لكي يحدَّ من
اتكاله على المصفاة التقليدية؛ واللاوعي
ينبغي أن يتدرب لكي يخرج من وَجْدِه السرِّي،
المنفصل، إلى النور. والحق أن الكلام على
تدريب الوعي واللاوعي هو كلام مجازي: فلا
الوعي ولا اللاوعي في حاجة إلى تدريب (حيث ليس
ثمة إما وعي وإما لاوعي)، بل الإنسان هو
الذي ينبغي أن يتدرَّب كي يطيح بكبته ويختبر
الواقع اختبارًا كاملاً، واضحًا، وبإدراك
تام، دون انعكاس فكري، إلا حين يكون مثل هذا
الانعكاس مطلوبًا أو ضروريًّا، كما في
المجالات العلمية والتطبيقية. ويقترح سوزوكي أن نطلق على
هذا اللاوعي اسم اللاوعي الكوني Cosmic Unconscious.
ونحن لا نعترض على هذا المصطلح، شرط أن
يُشْرَح بوضوح، كما هي الحال في نصِّ سوزوكي.
إلا أنني أفضل استخدام مصطلح "الوعي الكوني"
Cosmic
Consciousness، الذي يستخدمه
ريتشارد. ر. بوك في الإشارة إلى شكل منبثق،
جديد، من الوعي.[41]
وما يدفعني إلى تفضيل هذا المصطلح هو أن
تحوُّل اللاوعي إلى وعي، تبعًا لدرجة هذا
التحول، يعني أن يكفَّ عن كونه لاواعيًا (شرط
أن نتذكر على الدوام أن هذا التحول لا يعني أن
يصبح اللاوعي فكرًا انعكاسيًّا). واللاوعي
الكوني ليس لاوعيًا إلا إذا بقينا منفصلين
عنه، أي غير واعين للواقع. فبقدر ما نستيقظ،
ونتصل بالواقع، ينقص لاوعينا بالأشياء. ولا
بدَّ من القول أيضًا إن استخدام مصطلح "الوعي
الكوني" بدلاً من "الوعي" يجعل
التشديد على وظيفة الإدراك، وليس على موقع أو
مكان ضمن الشخصية. إلامَ يفضي بنا كلُّ هذا
النقاش بشأن العلاقة بين بوذية زِنْ والتحليل
النفسي؟ إن غاية زِنْ هي الاستنارة،
أي القبض المباشر، غير الانعكاسي، على
الواقع، دون تلوث وجداني أو فَكْرَنَة،
وإقامة علاقة بيني وبين الكون. وهذه الخبرة هي
تكرار لقبض الطفل على الواقع قبضًا مباشرًا
وسابقًا على الفكر، إلا أنه تكرار على مستوى
جديد، هو مستوى التطور الكامل لعقل الإنسان
وموضوعيته وفرديته. وفي حين تسبق خبرةُ الطفل
هذه تجربةَ الاغتراب وانشطار الذات–المو ضوع،
فإن خبرة الاستنارة تأتي بعدها. وغاية التحليل النفسي، كما
قال فرويد، هي تحويل اللاوعي إلى وعي، وإحلال
الأنا Ego
محلَّ الهو Id،
قَصْرُ محتوى اللاوعي على قطاع صغير من
الشخصية، أي على تلك الدوافع الغريزية التي
كانت حيوية في الطفولة الباكرة، لكنها خضعت
للنسيان؛ وما ترمي إليه تقنية التحليل هو
إخراج هذه الدوافع من حالة الكبت. إلا أن كشف
هذا الانقطاع، وبصرف النظر عن مقدمات فرويد
النظرية، كانت تحدِّده الحاجات العلاجية
الرامية إلى شفاء عَرَض محدد؛ فلم يكن هناك
سوى اهتمام قليل بكشف اللاوعي خارج القطاع
المرتبط بتشكُّل الأعراض. ومع الإدخال
التدريجي لمفهومي غريزة الحياة (إيروس Eros)
وغريزة الموت (ثاناتوس Thanatos)
وتزايد البحث في جوانب الأنا في السنوات
الأخيرة، جرى نوعٌ من التوسيع في المفاهيم
الفرويدية الخاصة بمحتويات اللاوعي. أما
المدارس الفرويدية الجديدة فقد وسَّعت قطاع
اللاوعي الذي ينبغي كشفه توسيعًا كبيرًا.
وكان يونغ قد أسهم إسهامًا أساسيًّا في هذا
التوسيع، وكذلك أدلر ورانك وآخرون ممَّن
ينتمون إلى الفرويدية الجديدة. إلا أن المدى
الذي ينبغي كشفُه من هذا القطاع ظلَّ مرتبطًا
باستهداف علاج هذا العَرَض أو ذاك، أو هذه
الصفة العُصابية أو تلك، ولم يَطَلْ هذا
المدى الشخصَ كلَّه، على الرغم من هذا
التوسيع (وذلك باستثناء يونغ). وإذًا، فإن السعي وراء
النتائج الكاملة للغاية التي توخَّاها فرويد
– وهي تحويل اللاوعي إلى وعي – يقضي بتحرير
هذه الغاية من القيود التي فَرَضَها عليها
توجُّه فرويد الغريزي الخاص، ومن المهمة
المباشرة المتعلقة بشفاء الأعراض. والكشف
الكامل عن اللاوعي لا يقصر المهمة على
الغرائز أو على قطاعات محدودة أخرى من
التجربة، بل يركِّزها على تجربة الإنسان
الكلِّي؛ فتصبح الغاية عند ذاك هي التغلب على
الاغتراب وعلى الانشطار بين الذات والموضوع
في تلقِّي العالم واستقباله؛ وعند ذاك يأخذ
كشف اللاوعي معنى التغلب على التلوث الوجداني
والفَكْرَنِة، ومعنى إزالة الكبت، ووضع حدٍّ
للانفصام داخل الذات بين الإنسان الكوني
والإنسان الاجتماعي، ومعنى زوال التضاد
والاستقطاب بين الوعي واللاوعي، والوصول إلى
حالة من القبض المباشر على الواقع، دون
تشوُّه أو تدخل فكري انعكاسي، والتغلب على
عبادة الأنا، والتخلِّي عن وهم الأنا الخالد
المستقل، الذي يجب نفخه وتضخيمه والحفاظ
عليه، مثلما أَمِلَ الفراعنة أن يحفظوا
أنفسهم إلى الأبد باستخدام المومياءات. إن
وعي اللاوعي يعني أن تكون منفتحًا ومستجيبًا،
أن لا تملك شيئًا، وأن تكون to be. ومن الواضح تمامًا أن الكشف
الكامل للاوعي من قِبَل الوعي هو غاية أكثر
جذرية من الغاية التحليلية النفسية العامة.
ويمكن أن نرى أسباب ذلك بسهولة: فتحقيق هذه
الغاية الكلِّية يتطلب جهدًا أكبر بكثير من
الجهد الذي يرغب في بذله معظم الأشخاص في
الغرب، فضلاً عن أن تحقيق هذه الغاية يتطلب
شروطًا معينة: وأول هذه الشروط أن من غير
الممكن التطلع إلى هذه الغاية الجذرية إلا من
وجهة نظر فلسفية معينة أو موقع فلسفي معين.
ولا حاجة إلى وصف هذا الموقع وصفًا مفصَّلاً؛
إذ يكفي القول إنه موقع لا نرمي منه إلى تحقيق
الغاية السلبية المتمثلة بغياب المرض، بل إلى
غاية إيجابية هي تحقيق الكينونة الحق،
التي نتصورها بوصفها وحدة كاملة مع العالم،
وقبض مباشر عليه، دون تلوث. ولربما كان وصف
سوزوكي لهذه الغاية بأنها "فن الحياة" هو
أفضل وصف ممكن. وعلينا أن نتذكر أن مفهومًا
مثل هذا المفهوم ينم على تربة التوجه
الإنسانوي humanistic
الروحي الذي يشكَّل أساس تعاليم بوذا
والأنبياء والمسيح والمعلم إيكهَرْت، وأشخاص
مثل بليك ووالت ويتمان وبوك. وما لم ننظر إلى
مفهوم "فن الحياة" في هذا السياق، فإنه
يفقد كلَّ ما هو نوعي فيه، ويتردَّى إلى ذلك
المفهوم الدارج هذه الأيام باسم "السعادة".
وينبغي ألا ننسى أيضًا أن هذا التوجُّه ينطوي
على غاية أخلاقية. فعلى الرغم من تعالي زِنْ
على الأخلاق، إلا أنه يشتمل على تلك الغايات
الأخلاقية الأساسية في البوذية، والتي هي، في
جوهرها، أخلاق التعاليم الإنسانوية ذاتها.
وتحقيق غاية زِنْ، كما أوضح سوزوكي في دراسات
في زِنْ، ينطوي على التغلب على الجشع بكلِّ
أشكاله، سواء كان جشع التملك أو الشهرة أو
العاطفة؛ كما ينطوي على التغلب على تمجيد
الذات النرجسي ووهم القدرة الكلِّية، بل
وينطوي على التغلب على الرغبة بالخضوع لسلطة
مَن يحلُّ للمرء إشكالية الوجود الخاصة به.
أما من يريد قَصْر استخدام الكشف عن اللاوعي
على مجرد شفاء المرض، فلن يحاول بالطبع تحقيق
الغاية الجذرية المتمثلة في التغلب على الكبت. إلا أن من الخطأ الاعتقاد
بغياب الصلة بين غاية إزالة الكبت والغاية
العلاجية. فكما ينبغي على المرء أن يدرك أن
شفاء الأعراض والوقاية من تشكُّلها لا يمكن
لهما أن يتمَّا دون التحليل وتغيير الطبع،
عليه أن يدرك أيضًا أن تغيير هذه الصفة
العُصابية neurotic
أو تلك لا يكون ممكنًا دون السعي وراء الغاية
الجذرية المتمثلة في تحوُّل الشخص تحولاً
كاملاً. أما ما جاء به تحليل الطبع من نتائج
مخيبة للآمال نسبيًّا (التي لم يعبِّر عنها
أحد بتلك الأمانة التي عبَّر بها فرويد في
مقالته "تحليل منتهٍ أم غير منته؟")
فتعود بالضبط إلى حقيقة أن غايات الشفاء من
الطبع العُصابي لم تكن جذرية بما يكفي، وإلى
حقيقة أن الكينونة الحق، والتحرر من القلق
وانعدام الأمن، لا يمكن بلوغها ما لم يتم
التعالي على تلك الغاية المحدودة، أي ما لم
يدرك المرء أن الغاية العلاجية المحدودة لا
يمكن تحقيقها مادامت محدودة ولم تَصِرْ جزءًا
من إطار مرجعي إنسانوي أوسع. ولعل من الممكن
تحقيق هذه الغاية المحدودة بطرائق محدودة هي
الأخرى وأقل مضيعة للوقت؛ إلا أن استخدام
الوقت والطاقة المبذولين في عملية التحليل
المديدة لا يكون مثمرًا ما لم تكن غايته "التغيير"
الجذري، لا "الإصلاح" الضيق. ويمكن تدعيم
هذا الاقتراح أو الطرح بالإشارة إلى أن
الإنسان، ما لم يتوصل إلى ذلك الترابط الخلاق
الذي يمثل ساتوري مأثرته الأكمل، فإنه
سيتوقف، في أفضل الأحوال، عند حدِّ التعويض
عن ذلك الهمود وتلك الكآبة المتأصِّلين
اللذين يولدهما الروتين وعبادة الذات
والتدمير وجشع التملك والشهرة إلخ. فإذا ما
تعطلت أية من آليات الإعاضة compensation
هذه، أضحت سلامة عقله في خطر. والمنقذ الوحيد
من هذا الخطر المحتمل أو الجنون هو التحول من
موقف الانفصال والاغتراب إلى فهم العالم
والاستجابة له استجابة إبداعية ومباشرة. فإذا
ما أمكن للتحليل النفسي أن يساعد على هذا
النحو، غدا بإمكانه أن يساعد في التوصل إلى
صحة عقلية فعلية؛ وإلا لاقتصرتْ مساعدتُه على
تحسين آليات الإعاضة. وبعبارة أخرى، فإن من
الممكن "شفاء" أحد ما من عَرَض ما، لكن من
غير الممكن "شفاؤه" من طبع عُصابي.
فالإنسان ليس شيئًا[42]، وليس "حالة"؛
والمحلِّل لن يشفي أحدًا إن عالجه بوصفه
موضوعًا أو شيئًا. وحريٌّ بهذا المحلِّل إذًا
أن يساعد هذا الإنسان على الاستيقاظ،
بانخراطه مع هذا "المريض" في عملية يفهم
من خلالها أحدهما الآخر، ويختبران وحدتهما. ونحن، حين نقول هذا، ينبغي
أن نكون مهيئين لمواجهة اعتراض مفاده ما يلي:
إذا كان التوصل إلى تحويل اللاوعي إلى وعي
تحويلاً كاملاً غايةً جذرية وصعبة، شأنه شأن
الاستنارة، فلماذا نناقش هذه الغاية، وكأنها
يمكن أن تنطبق على العامة؟ أليس ضربًا من
التأمل المحض أن نطرح جديًّا أن هذه الغاية
الجذرية وحدها يمكن أن تبرر آمال المعالجة
التحليلية النفسية؟ لو أن الخيار كان محصورًا
بين الاستنارة الكاملة واللاشيء، لكان هذا
الاعتراض مشروعًا تمامًا؛ غير أن الأمر ليس
كذلك. والاستنارة في زِنْ تشتمل على مراحل أو
درجات كثيرة، يمثل ساتوري آخرها وخطوتها
الحاسمة. وبقدر ما أعلم، فإن المهم هو الخبرات
التي هي خطوات باتجاه ساتوري، الذي قد لا
يتم بلوغُه أبدًا. ولقد أوضح د. سوزوكي هذا
الأمر كما يلي: إذا جئنا بقنديل إلى غرفة
مظلمة تمامًا، فإن هذه الظلمة ستختفي، وسيعم
الضوء الغرفة. أما إذا جئنا بعشرة قناديل أو
مئة أو ألف، فإن الغرفة سوف تشع وتسطع. وكذا
فإن التغيير الحاسم يبدأ منذ أول قنديل يخترق
الظلمة.[43] ما الذي يحدث في عملية
التحليل؟ إننا هنا أمام شخص يحس لأول مرة أنه
مختال ومغرور، أو أنه يعاني الخوف والرعب أو
الكراهية، في حين يحسب في وعيه أنه متواضع
وشجاع ومحب. ولعل نفاذه الجديد إلى لاوعيه أن
يؤذيه، إلا أنه يفتح له بابًا، ويتيح له أن
يكفَّ عن إسقاط ما يكبته في داخله على الآخرين.
ثم يواصل التقدم، ويختبر في داخله ذلك
الوضيع، والطفل، والمجرم، والمجنون،
والقديس، والفنان، والذكر، والأنثى؛ ويمضي
إلى أعمق في صلته بالإنسانية، بالإنسان
الكوني؛ ويضعف كبته، وتقوى حريته، وتقل حاجته
إلى الإسقاط والفَكْرَنَة؛ ولعله يختبر
آنذاك، لأول مرة، كيف يرى الألوان، وكيف يرى
كرة تتدحرج، وكيف تنفتح أذناه فجأة للموسيقى،
بعد أن كان يسمعها وحسب؛ وفي إحساسه بتوحده مع
الآخرين، قد يلقي أول نظرة إلى ذلك الوهم الذي
يدفعه إلى التمسك بأناه الفردي المنفصل
وتعزيزه وحمايته؛ كما يكتشف عبث البحث عن
جواب الحياة عن طريق التملك to have،
لا عن طريق الكينونة to be.
وهذه الخبرات كلُّها هي خبرات فجائية، غير
مُنْتَظَرة، ودون أيِّ محتوى فكري؛ إلا أن
الشخص يشعر بعدها أنه أصبح أكثر حرية من ذي
قبل بما لا يُقَاس، وأقوى وأقل قلقًا. لم نتناول إلى الآن سوى
الغايات. وقد أشرت إلى أن المضيَّ بمبدأ فرويد
الخاص بتحويل اللاوعي إلى وعي، والوصول به
إلى نتائجه النهائية، يعني الاقتراب به من
مفهوم الاستنارة. أما من حيث الطريقة التي
تتحقق بها هذه الغاية، فإن زِنْ والتحليل
النفسي مختلفان في حقيقة الأمر. ويمكن القول
إن طريقة زِنْ هي الهجوم الجبهي على الإدراك
الحسِّي المغترب، من خلال "الجلوس" [زازِنْ]
والـكُوان وسلطة المعلِّم، دون أن يتحول
ذلك كلُّه إلى "تقنية" يمكن عزلها عن
منطق التفكير البوذي وعن السلوك الأخلاقي
والقيم الأخلاقية التي يجسِّدها المعلِّم
والجو العام في المعبد. وينبغي أن نتذكر أن
ذلك ليس نوعًا من الشغل "خمس ساعات في
الأسبوع"، وأنه بمجرد مجيء التلميذ للتعلم
يكون قد اتخذ قرارًا بالغ الأهمية، قرار هو
جزء هام مما يجري لاحقًا. زازِنْ
أو "الجلوس الصامت": هو عينه ساتوري،
بحسب زِنْ سوتو، من
حيث إن الاستنارة هي طبيعة الإنسان الحقيقية
الأصلية. أما طريقة التحليل النفسي
فتختلف تمامًا، حيث تدرِّب الوعي على احتواء
اللاوعي بأسلوب مغاير. فهي توجِّه الاهتمام
إلى ذلك الإدراك الحسِّي المشوَّه، وتسوق إلى
تبيُّن التخييل من الواقع في داخل الذات،
وتوسِّع مدى التجربة الإنسانية عن طريق رفع
الكبت. والطريقة التحليلية النفسية هي طريقة
تجريبية–نفسانية، تفحص عن تطور الشخص النفسي
منذ الطفولة فصاعدًا، وتحاول الكشف عن تجاربه
الباكرة لكي تساعده في اختبار ما هو مكبوت.
وتتواصل بكشف ما تحمله الذات من أوهام عن
العالم، خطوة خطوة، لنزول التشوهات القائمة
على سوء الربط وعمليات الفَكْرَنَة المغتربة.
فالحدُّ من غربة المرء تجاه ذاته يحدُّ من
غربته تجاه العالم؛ واتصال هذا المرء مع
الكون داخل ذاته يدفعه إلى الاتصال مع الكون
في الخارج. وهكذا يختفي الوعي الزائف، ومعه
الاستقطاب المتضاد بين الوعي واللاوعي. ويبزغ
فجر واقعية جديدة تعود فيها "الجبال جبالاً
من جديد". ولا شكَّ أن طريقة التحليل النفسي
هذه مجرد طريقة، أو مجرد إعداد وتهيئة؛ وكذلك
هي طريقة زِنْ أيضًا. ولكونها مجرد طريقة،
فإنها لا تضمن أبدًا تحقيق الغاية. فالعوامل
التي تتيح تحقيق هذه الأخيرة متجذِّرة عميقًا
في شخصية الفرد، ولا نعرف عنها سوى القليل. ولقد أشرت إلى أن طريقة كشف
اللاوعي، إذا ما أُجْرِيَتْ بحيث تبلغ
نتائجَها النهائية، قد تكون خطوة باتجاه
الاستنارة، شرط أن تؤخذ ضمن السياق الفلسفي
الذي يعبِّر عنه زِنْ بالصورة الأشد جذرية
وواقعية. إلا أن التجربة العميقة في تطبيق هذه
الطريقة هي وحدها التي ستُظْهِر إلى أيِّ مدى
يمكن لها أن تصل. أما وجهة النظر التي عبَّرنا
عنها هنا فلا تنطوي إلا على إمكانية وحسب؛
ولذا فإن لها طابع الفرضية التي يجب أن توضع
موضع الاختبار. وما يمكن قوله بمزيدٍ من
اليقين هو أن معرفة زِنْ والاهتمام به يمكن
لهما أن يتركا أثرًا مفيدًا على نظرية
التحليل النفسي وعلى قضيته. فزِنْ، باختلافه
عن التحليل النفسي من حيث الطريقة، يمكن أن
يزيد التركيز، ويلقي ضوءًا جديدًا على طبيعة
النفاذ والتبصُّر، ويزيد الإحساس بما ينبغي
رؤيته، وبما هو خلاق، وبما يلزم للتغلب على
التلوث الوجداني والفَكْرَنَة الزائفة –
هاتين النتيجتين الحتميتين للتجربة القائمة
على انشطار الذات والموضوع. إن فكر زِنْ، بجذريَّته
حيال الفَكْرَنَة والسلطة وضلال الأنا،
وبإلحاحه على الكينونة الحق كغاية، يمكن له
أن يعمِّق التحليل النفسي ويوسِّع أفقه وأن
يساعده على التوصل إلى مفهوم أكثر جذرية بشأن
القبض على الواقع بوصفه الغاية النهائية
للإدراك الواعي الكامل. وإذا ما أتيح لنا مزيدٌ من
التأمل في العلاقة بين زِنْ والتحليل النفسي،
فقد تخطر على الذهن إمكانية أن يحظى التحليل
النفسي بأهمية لدى تلميذ زِنْ. فمن الممكن
للتحليل النفسي أن يساعد هذا التلميذ على
تفادي خطر الاستنارة الزائفة، التي هي حالة
ذاتية محض، قائمة على ظواهر هستيرية أو
ذُهانية، أو على غيبوبة مُحْدَثَة ذاتيًّا؛
كما يمكن أن يساعده على تجنب الأوهام التي
يشكِّل غيابُها الشرط الحقيقي للاستنارة. وبصرف النظر عن تلك الفوائد
التي قد يستمدها زِنْ من التحليل النفسي،
فإنني أعبِّر، كمحلِّل نفساني غربي، عن
امتناني لهذه الهبة النفيسة التي قدَّمها لنا
الشرق، وللدكتور سوزوكي خاصة، الذي نجح في
التعبير عن زِنْ بطريقة لم تُفقِده أيَّ شيء
من جوهره لدى محاولته ترجمة الفكر الشرقي إلى
فكر غربي، بحيث يمكن للغربي أن يتوصل إلى فهم
زِنْ – بالقدر الذي يمكن التوصل إليه قبل
تحقيق غاية زِنْ. فإلى أيِّ حدٍّ يمكن التوصل
إلى هذا الفهم، مادامت "طبيعة بوذا في داخل
كلِّ منا"، ومادام الإنسانُ والوجود
مقولتين كونيتين، والقبضُ المباشر على
الواقع والاستيقاظ والاستنارة خبراتٍ كونية؟ ***
*** *** ترجمة:
ثائر ديب** تنضيد:
نبيل سلامة *
مصدر هذا البحث هو كتاب: Erich
Fromm, Psychoanalysis and Buddhism, London, Unwin, 1986. [1]
انظر تقديم يونغ لكتاب د.ت. سوزوكي بوذية
زِنْ (لندن، Rider،
1949)، وكتاب الطبيب النفساني الفرنسي هوبير
بُنوا عن بوذية زِنْ بعنوان المذهب
الأسمى (Pantheon Books،
1955). وكذلك فقد اهتمت كارين هورني، في أواخر
سني حياتها، اهتمامًا شديدًا ببوذية زِنْ.
أما المؤتمر الذي انعقد في كورناكافا،
مكسيكو، فهو علامة أخرى على اهتمام
المحلِّلين النفسانيين ببوذية زِنْ. وفي
اليابان أيضًا، ثمة اهتمام كبير بالعلاقة
بين العلاج النفساني وبوذية زِنْ. انظر،
مثلاً، مقالة كوجي ساتو، "استخدام زِنْ
في العلاج النفساني"، مجلة Psychologia،
المجلة الدولية لعلم النفس في الشرق،
المجلد I،
العدد 4، 1958، وكذلك مقالات أخرى في العدد
ذاته. [2]
انظر المقالة المنشورة لفروم، بترجمتي،
بعنوان "صورة الإنسان المغترب في
التحليل النفسي الجديد"، المعرفة،
السنة الثامنة والثلاثون، العدد 430، تموز
1999، ص 95-132. (م) [3]
انظر الترجمة العربية لهذا الكتاب بعنوان التصوف
البوذي والتحليل النفسي، بترجمة ثائر
ديب، دار الحوار، اللاذقية، 1996. (م) [4]
في تقديمه لكتاب د.ت. سوزوكي، مدخل إلى
بوذية زِنْ (لندن، Rider،
1949)، ص 9-10. (م) [5]
د.ت. سوزوكي، بوذية زِنْ (نيويورك، 1956)،
ص 3. [6]
د.ت. سوزوكي، مدخل إلى بوذية زِنْ (لندن،
1949)، ص 97. [7]
المصدر السابق، ص 97-98. [8]
"التفكُّك" dissociation:
انقطاع في الترابطات أو التداعيات associations
داخل الذهن، مما يؤدي إلى خروج مجموعة أو
أكثر من الأفكار عن نطاق الشخصية الواعية،
فتصير خارج متناول التذكُّر أو الوعي.
ويسفر التفكُّك عن السهو والنسيان
والهلوسات وظواهر الكبت الفرويدي. (م) [9]
في تقديمه لكتاب سوزوكي مدخل إلى بوذية
زِنْ، ص 15. [10]
سوزوكي، مدخل إلى بوذية زِنْ، ص 86. [11]
المصدر السابق، ص 44. [12]
المصدر السابق، ص 67. [13]
المصدر السابق، ص 92. [14]
المصدر السابق، ص 41. [15]
د. ت سوزوكي، التصوف المسيحي والتصوف
البوذي (Harper،
نيويورك، 1957)، ص 105. [16]
سوترا sutra:
كلمة سنسكريتية تعني حرفيًّا "الخيط".
لم يكن فلاسفة الهند الأوائل يميلون إلى
تأليف الكتب، ثم ظهرت حاجة ماسة إلى إعداد
شروح دينية موجزة تهدي المؤمنين، فظهرت "خيوط"
مرشدة هي الـسوترا، وهي مجموعة من
النصوص الموجزة أضحت هامة في البوذية، بصرف
النظر عن استخداماتها الهندوسية؛ ومن هنا
أصبحت كلمة سوترا تدل على كتب العقائد
أو النصوص الشارحة في آن واحد. (م) [17]
د.ت. سوزوكي، مدخل إلى بوذية زِنْ، ص 34. [18]
المصدر السابق، ص 97. [19]
المصدر السابق، ص 40. [20]
سوزوكي، بوذية زِنْ، ص 96. [21]
سوزوكي، مدخل إلى بوذية زِنْ، ص 49. [22]
المصدر السابق، ص 131. [23]
حين أتحدث هنا عن "التحليل النفسي"،
فإنني أشير إلى التحليل النفسي الإنسانوي
بوصفه تطويرًا للتحليل الفرويدي، مع أنه
يشتمل على تلك الجوانب من التحليل الفرويدي
التي تشكِّل جذور هذا التطور. [24]
انظر، إريش فروم، الإنسان من أجل ذاته (نيويورك،
Reinhart،
1947)، الفصل III. [25]
"النقلة" أو "التحويل" transference:
مصطلح شهير في التحليل النفسي. ففي سياق
العلاج قد يبدأ المريض بـ"تحويل" أو
"نقل" الصراعات النفسية التي يعاني
منها إلى شخص المحلِّل النفساني نقلاً غير
موعي. فإذا كانت لديه مصاعب مع والده، على
سبيل المثال، فإنه قد يخص المحلِّل بهذا
الدور ويختاره له. وهو أمر يطرح إشكالية على
المحلِّل؛ ذلك أن هذا التكرار، أو التمثيل
الطقسي للصراع، هو واحد من سُبُل المريض
اللاواعية في تجنُّب التوصل إلى حلٍّ لهذا
الصراع. بيد أن التحويل يوفر للمحلِّل، في
الوقت ذاته، فرصة مميزة لسَبْر حياة المريض
النفسية والتبصر بها، وذلك في وضعية يمكن
له التدخل فيها والسيطرة عليها. (م) [26]
أويغن هرِّيغل، زِنْ وفن الرمي بالقوس (نيويورك،
Pantheon
Books، 1953). [27]
الكُوان koan:
أحجية أو سؤال عويص يعبِّر عن مأزق ذهني
يطرحه المعلِّم على التلميذ. مثال على ذلك:
"عندما تصفق اليدان تُحدِثان صوتًا – هل
تستطيع الإصغاء إلى صوت يد واحدة؟" (م) [28]
انظر مقالة فروم المشار إليها سابقًا في
مجلة المعرفة. (م) [29]
إنجيل لوقا 18: 17. [30]
رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس
13: 12. [31]
د.ت. سوزوكي، دراسات في زِنْ (لندن، 1986)،
ص 11 (ص 30 في الترجمة العربية). [32]
"النزوع" conation:
هو الاتجاه إلى الفعل. ويمكن فهمه فهمًا
أفضل بوضعه قرب الإدراك والوجدان
وقبالتهما. وهو قريب جدًّا من فكرة
الإرادة، بصرف النظر عن التنفيذ أو عدمه. (م) [33]
المصدر السابق، ص 12 (ص 31 في الترجمة العربية). [34]
المصدر السابق، ص 14 (ص 34-35 في الترجمة
العربية). [35]
المصدر السابق، ص 16 (ص 38 في الترجمة العربية). [36]
المصدر السابق، ص 18 (ص 40 في الترجمة العربية). [37]
المصدر السابق، ص 19 (ص 42 في الترجمة العربية). [38]
المصدر السابق، ص 16 (ص 37 في الترجمة العربية). [39]
المصدر السابق، ص 20 (ص 43 في الترجمة العربية). [40]
المصدر السابق، ص 19 (ص 42 في الترجمة العربية). [41]
انظر، ريتشارد. ر. بوك، الوعي الكوني:
دراسة في تطور الذهن البشري (ص 1901). ولا
بدَّ من أن نشير، ولو مرورًا، إلى أن كتاب
بوك هذا هو الكتاب الأقرب إلى موضوع
دراستنا هذه. إن بوك – وهو طبيب نفساني ذو
معرفة وخبرة واسعتين واشتراكي ذو إيمان
عميق بضرورة وإمكان قيام المجتمع
الاشتراكي الذي سيعمل على "إلغاء
الملكية الفردية ويخلِّص الأرض بضربة
واحدة من شرَّين هائلين: الغنى والفقر" –
يقدِّم في كتابه هذا فرضية خاصة بتطور
الوعي البشري. وتبعًا لهذه الفرضية، فإن
الإنسان قد تقدَّم من "الوعي البسيط"
الحيواني إلى وعي الذات البشري؛ وهو الآن
على عتبة تطور الوعي الكوني – هذا الحدث
الثوري الذي سبق له أن حصل لدى عدد من
الشخصيات الاستثنائية خلال الأعوام
الألفين السابقة. وما يصفه بوك بالوعي
الكوني هو، باعتقادي، تلك الخبرة التي
تُدعى بالاستنارة، أو ساتوري، في بوذية
زِنْ. [42]
انظر مقالتي، "حدود علم النفس ومخاطره"،
في كتاب الدين والثقافة، بتحرير أ.
ليبريخت (نيويورك، 1959)، ص 31 وما يليها. [43]
في لقاء شخصي مع سوزوكي، على ما أذكر. **
باحث من سورية، يعمل في مجال الترجمة. ترجم
عن الإنكليزية عددًا من المؤلَّفات، من
أهمها نظرية الأدب والتصوف البوذي
والتحليل النفسي. وهو يساهم في مقالات موسوعة
تاريخ الأديان، بتحرير فراس السواح.
|
|
|