english arabic

اللاعنف في فلسطين

 

بِنْ رِمْبِل

 

في عصر يوم ثلاثاء حارٍّ من أيام آذار سرتُ مع مجموعة من الفلسطينيين والمؤيدين الدوليين والصحافيين نحو خندق يفصل بين مدينة رام الله الفلسطينية وجامعة بير زيت. وبينما كانت ثلة من الجنود الإسرائيليين تراقب من على قمة رابية مُطِلَّة انكببنا على أيدينا ورُكَبِنا وشرعنا في ردم الحفرة الفاغرة التي أحدثتْها الجرَّافات الإسرائيلية في الطريق. بدا ذلك من قبيل المقاومة اللاعنفية في أصفى صورها وأجملها. فلقد نظَّمت المظاهرةَ قيادةٌ فلسطينية محترمة؛ وكانت أهدافها واضحة، والمشاركون ملتزمين. غير أني، مع سيل غاز الدموع المنهمر من الأعلى، وجدتُني بعدئذٍ بنصف ساعة مكتفيًا بالمشاهدة، فيما كان الجنود الإسرائيليون يفرغون مؤنهم من غاز الدموع والرصاص الفولاذي المغلَّف بالمطاط والذخيرة الحية على حفنة من الشباب يرمونهم بالحجارة.

تحول المشهد إلى لعبة "الحجارة ضد البنادق" النمطية التي كثيرًا ما تُشاهَد في نشرات الأخبار. وفيما كانت اللعبة تتمادى، والعشرات من الفلسطينيين يُسعَفون إلى المستشفى المحلي، طفق رهطٌ من الدوليين ينظِّم اعتصامًا احتجاجيًّا جلوسًا على الطريق. كانت تلك محاولة للحيلولة دون الجرَّافة الإسرائيلية القادمة وإعادة حفر الخندق الذي تكبَّد الجميع مشقة ردمه. وعندما دنوت من امرأة فلسطينية شابة وسألتها فيما إذا كان أيٌّ من رفاقها مهتمًّا بالانضمام إلى الرهط من أجل أن تنتهي المظاهرة نهاية لاعنفية أجابت: "ما أظن أحدًا يريد لها أن تنتهي نهاية لاعنفية!"

إن المشهد والعبارة الختامية يجلجلان بقوة كلما طُرِحَتْ قضيةُ تربية اللاعنف في فلسطين.

ماذا كان قصدها من ذلك؟ قطعًا لم تكن تتصور مشهد صدِّ الجرَّافة ومشاهدة الجنود، حائري النظرات، مرعوبيها، يركبون سياراتهم الجيب ويقودونها مبتعدين. لا بدَّ أنها تصورت مشهدًا مغايرًا: صورة قومها يولُّون الأدبار خانعين، متقبِّلين العجز عن الذهاب إلى المدرسة وممتثلين لمظالم الاحتلال.

لقد جعل طلبُ الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية من الفلسطينيين "وقفَ العنف" والانخراط، بدلاً من ذلك، في المفاوضات، بدون أيِّ دعم أو "نفوذ"، موقفَ غالبية المجتمع الفلسطيني من اللاعنف موقفَ اشمئزاز وإحباط. وفيما نحن ندخل عامنا الثالث من عقد السلام واللاعنف الذي أعلنتْه الأمم المتحدة، كيف لنا أن نطالب مجتمعًا باعتناق تعاليم السلام واللاعنف حين يجأر كلُّ شيء من حوله بالحرب والطغيان والعنف؟ غير أننا عندما ندقق النظر في نشاطات الفلسطينيين في وجه الاحتلال الإسرائيلي نجد التاريخ الفلسطيني حافلاً بالمقاومة اللاعنفية، ولاسيما نشاطات الأطفال.

إن الحياة اليومية للطفل الفلسطيني العادي، وهو يعبر نقاط التفتيش المغلقة ذاهبًا إلى المدرسة، لا تخلو من المقاطعة واللاتعاون والمطالبة بحقوق الإنسان وخرق منع التجول غير المشروع. لكن هذه الأحداث، لسوء الحظ، لم تحظَ بالاعتراف كنشاطات مقاومة لاعنفية؛ إذ يُنظَر إليها كاستراتيجيات صريحة للبقاء ليس إلا. وبالمثل، عندما يُحفَر خندقٌ في الطريق المؤدي إلى الجامعة، لا يُنظَر إلى الإقدام على ردمه كنشاط ملتزم من النشاطات اللاعنفية، بل كردِّ فعل تُمليه السليقة وحسب.

من المهم أن نبحث في أسباب عدم تجذُّر تربية اللاعنف في مناطق الحرب المحتلة تجذُّرًا أقوى. وفلسطين مثال نموذجي على ذلك.

إن تاريخ حركات المقاومة اللاعنفية، أولاً، يكاد يكون مغيَّبًا تمامًا من التربية الفلسطينية. إن القوم المنخرطين في النضال من أجل الحرية ينبغي أن يتلقوا تربية معمَّقة في كافة أشكال المقاومة، العنفي منها واللاعنفي على حدٍّ سواء، وفي النتائج التي تؤول إليها. فلقد أسهمت استراتيجيات المقاومة اللاعنفية التي سَبَقَ للفلسطينيين وغيرهم أن استعملوها على الصعيدين الفردي والجماعي إسهامًا عظيمًا في نجاح حركات التحرر في العالم أجمع. ومعرفة هذا الأمر من شأنها أن تمكِّن حركةً أكثر تنظيمًا تمكينًا هو من الكفاية بحيث يحضُّها على العمل.

علينا أن نقرَّ، ثانيًا، أنه ليس من المصلحة الذاتية لكلا القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية السماح لحركة كهذه بالتنامي. فالعسكر الإسرائيلي مدرِّب جيِّدًا على استعمال العنف ضدَّ العنف. لكنه، على الأغلب، غير مؤهَّب لمواجهة اللاعنف. (الرد عادة ما يكون حيرةً يعقبها العنف.) بالإضافة إلى ذلك فإن من شأن حركة كهذه في المآل أن تستميل إليها الجمهور الإسرائيلي، إلى جانب الجمهور الدولي، بحيث تجد الحكومة لإسرائيلية نفسها تحت ضغط قضايا نجحتْ سابقًا في تجنُّبها. كذلك من شأن حركة مقاومة لاعنفية موحَّدة أن تمارس ضغوطًا على السلطة الفلسطينية هي ليست مستعدة للتعاطي معها. فاللاعنف، كأسلوب حياة وكحركة، يتطلب مستوى من الإبداع ما فتئت السلطة الفلسطينية عاجزة عن التحلِّي به منذ نشأتها. ومثل هذا التطور لا بدَّ أن يشكِّل تهديدًا مباشرًا لسيطرتها على الشعب الفلسطيني، وقد يجبرها على اتخاذ تدابير ديموقراطية دأبتْ على تفاديها.

هذه العقبات كأْداء، ولن تختفي بين ليلة وضحاها. غير أن العقد الأخير وضع أرضية ما للتربية والنشاط اللاعنفيين بين الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك، يبدو أن جوَّ التغيير – مع انزياح المزاج العالمي الناجم عن أحداث الحادي عشر من أيلول، ومع انحسار التسامح مع الإرهاب، بوصفه شكلاً من أشكال المقاومة، في أعقابه – بات أكثر نضجًا منه في أيٍّ يوم.

وبما أنه من المستبعد أن تنمو ثقافة اللاعنف في ظلِّ القيادة الفلسطينية الحالية، لا بدَّ لها من أن تأتي من التربية ومن التنظيم غير الحكومي. لقد أضحت ترجماتٌ لكتابات غاندي ومارتن لوثر كنغ وجيني شارب وباولو فريري متوفرة في فلسطين منذ أكثر من عقد. وقد حاول فلسطينيون أن يطوروا مناهج تربوية تركز على أصول تعليم فريري في التمكين وعلى نشاطات لاعنفية قامت إبان الانتفاضة الأولى؛ وبالوسع إحياء هذه الجهود. وهناك الآن أيضًا عدد من المنظمات الفلسطينية غير الحكومية تساهم في بناء المجتمع المدني والتأسيس لثقافة تمكين لاعنفية. ومن الحيوي أن تُواصِل هذه المنظمات نموَّها بصرف النظر عن مقدار العنف النازل بالشعب الفلسطيني.

أمل الفلسطينيين ضعيف في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي عبر العنف. وبالمثل، ليس قبول الاحتلال بالخيار. وبالنظر إلى هاتين الحقيقتين، يبدو أنه لا توجد غير بضعة خيارات أخرى ماعدا خيار اللجوء إلى اللاعنف كاستراتيجية منظمة للمقاومة. وهذا الخيار قد يكون الخيار المؤدي إلى الحرية.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود