أطوطميون نحن أم مسيحيون[1]

(3 من 4)

 

جورج فرح أبو داود

 

3

الأنبياء التوراتيون والرؤية اليهودية

إن خدمة القداس والأسرار الإلهية، في جميع الكنائس المسيحية على اختلاف مذاهبها، مشحونة بشذرات وشواهد من التوراة. وفي ظلِّ رؤيتنا المعاصرة للأصول التوراتية يحقُّ للمرء أن يتساءل عن مدى قيمة هذه الشواهد بالنسبة للإيمان المسيحي. ولطالما طرحتُ على نفسي أسئلة من مثل:

-       ألا يمكن أن يكون المرء مسيحيًّا دون توراة؟ بعبارة أخرى، هل الإيمان المسيحي مرتهَن للتوراة؟

-       هل تجوز إعادة النظر في خدمة القداديس الإلهية، وبخاصة بالجزء منها الذي يتضمن الشواهد التوراتية، بهدف تطويرها على ضوء المعارف المعاصرة؟

-       في حال جواز إعادة النظر في خدمة القداديس الإلهية فمن هو المخوَّل بذلك؟ وما هو السبيل؟

إن الوصول إلى أجوبة شافية على هذه التساؤلات يعيدنا تلقائيًّا إلى الألِف الاصطلاحية للتوحيد، وأعني به التوراة. كما يُملي علينا العودة إلى المصدر الأهم للعقيدة المسيحية، أي الإنجيل. وأخيرًا، لا بدَّ من النظر في كتابات الآباء التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العقيدة ومصدرًا رئيسيًّا لها.

يرغمنا هذا السعي إلى تقويم التوراة المتداوَل حاليًّا، من حيث عصمتُه أو قدسيَّتُه (وهي أهداف المقالة الأولى من هذا البحث). أما الجزء الثاني فقد تناول تضمين التوراة في البشائر، أي سبب الاستشهاد به، وإلى أيِّ مدى حدث ذلك وكيف. وهذا الهدف بالذات يقتضينا العودة إلى أصول البشائر المتداوَلة حاليًّا وإلى مدى انطباق ما وصل إلى أيدينا على الأصول المفقودة.

قبل الدخول في هذا البحث، أودُّ الإشارة إلى أنني استخدمت تعبير "التوراة" للدلالة على كامل ما يُعرَف اصطلاحًا بـ"العهد القديم" أو "العهد العتيق"، علمًا بأن مصطلح التوراة، بالمعنى المقيَّد، ينطبق على الأسفار الخمسة الأولى فقط التي تُنسَب إلى موسى.

في هذا الجزء من البحث نتعرف إلى ماهية التوراة، كيف كُتِبَ ومتى، وكيف تم ضبطه؟ وهل كُتِبَ على حرف (نسخة) واحد، أم أن هناك عددًا من الحروف؟ وما مدى مصداقيته التأريخية وقدسية الشخصيات التوراتية؟ ما هي طبيعة شخصية يهوه التي وردت في التوراة، وهل تتفق طبيعة هذه الشخصية مع الرؤية المسيحية؟

يشتمل التوراة على قصة الخليقة، وشريعة موسى، وتاريخ الشعب اليهودي، وملوكه، وما يُدعى بكتب الحكمة والأشعار والنبوءات. وقد بات معروفًا لدى الباحثين التوراتيين أن الشروع في كتابة التوراة قام به، إبان السبي البابلي (587 ق م)، الأحبارُ اليهود، وانتهى بعد العودة، وذلك خوفًا من ضياع التقاليد المعرفية التي كانت متداوَلة فيما بين الشعب اليهودي. وقد كُتِبَ التوراة باللغة العبرية التي لم تكن إلا كنعانية فلسطين مكتوبة بالأبجدية الآرامية الساكنة الخالية من الحركات الصوتية. لذا فقد اعتبره المؤرخ فراس السواح بحقٍّ ظاهرة ثقافية كنعانية. وقد أدى خلوُّ تلك الكتابة من الحركات الصوتية إلى تعدد القراءات وتعدد النصوص واختلافها، الأمر الذي دعا علماء الكتاب المقدس، في نهاية المطاف، إلى اعتماد نصٍّ واحد. وقد تم ذلك في مجمع جمنيا في أواخر القرن الأول الميلادي.[2] وإذا كان المجمع المذكور قد حلَّ مشكلة اعتماد النص، فهو لم يحل مشكلة تعدد القراءات الناجم عن فقدان الحركات الصوتية. وكان على هذه المشكلة أن تنتظر العلماء "المسوريين" الذين عملوا على شَكْلِ التوراة بين القرنين السادس والتاسع الميلاديين. وقد اعتمد العلماء المسوريون في حلِّ مشكلة تحريك الحروف الساكنة، إضافة إلى معرفتهم اللغوية، على الترجمة اليونانية السبعينية التي تمَّت في القرن الثالث ق م على يد سبعين عالمًا يهوديًّا، بحسب الروايات المتداولة، جَمَعَهم الإمبراطور بطليموس فيلاديلفوس في مصر لهذا الغرض.

ظل العلماء اليهود على اعتماد النص المسوري، بينما اعتمدت الكنائس المسيحية الترجمةَ السبعينية. وجاءت المفاجأة الكبرى عند اكتشاف مخطوطات البحر الميت عام 1947، حيث تبيَّن أن هذه المخطوطات – وهي أقدم من النسخة المسورية – تتفق مع النسخة المسورية في أجزاء منها ومع الترجمة السبعينية في أجزاء أخرى، الأمر الذي سحب البساط من تحت أقدام النسخة المسورية التي لم تعد تستطيع ادِّعاء احتكار الحقيقة.[3]

لقد ثبت، مثلاً، بعد اكتشاف المخطوطات اليهودية القديمة وإخضاعها للدراسات اللغائية، أن المزامير، مثلاً، ليست من تأليف إنسان واحد، وأعني الملك داود. فضلاً عن ذلك، فإن مكتشفات أوغاريت، وبخاصة الكتاب المقدس الكنعاني، ألقت الضوء على الأصل الكنعاني لبعض المزامير (المزامير 29، 48، 104).[4] فقداسة المزامير لا أصل لها إلا في المخيِّلة اليهودية التي تبنَّتْها المسيحية فيما بعد. ولقد أعلن بعضُ الباحثين، منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، من أمثال E. Meyer وH. Gunkel، أن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكايات الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداوَلة شفاهًا عند تحرير أسفار التوراة.[5]

بعد الترجمة السبعينية، ظهرت ترجمات أخرى إلى اليونانية، لعل أشهرها ترجمة أكويلا في القرن الثاني الميلادي. أكويلا هذا كان وثنيًّا اعتنق المسيحية؛ ثم تحول إلى اليهودية بعد أن قطعه المسيحيون من الشركة؛ فتعاون مع كاهن يهودي في وضع ترجمة يونانية للتوراة معارضة للترجمة السبعينية، حذف منها كلَّ ما استشهد به المسيحيون لتأييد عقيدتهم.[6]

ولعل أهم ما يلخِّص تعددية نصوص التوراة هو العمل الذي قام به عالم المسيحية أوريجينس الإسكندري في أوائل القرن الثالث الميلادي، حيث صنف نسخ التوراة المتداوَلة في حينه في كتاب عُرِفَ بالـ"هيكسابلا" Hexapla، وهو مصنف يحتوي على ست نسخ مختلفة من النصِّ التوراتي ذاته، مكتوبة على شكل أعمدة متقابلة.[7]

نتوقف عند هذا القدر من التفصيل؛ إذ إن الأمر الذي يعنينا بيانُه هو أن ما دُعِيَ بالتوراة أو العهد القديم إنْ هو إلا نص مجهول المصدر، متعدد النسخ، وأن المتداوَل منه حاليًّا لا تشكِّل كلُّ منه إلا نسخة تعجز عن ادِّعاء المصداقية.

من الناحية التأريخية، يشتمل التوراة على مقدار كبير من المبالغات والافتقار إلى الدقة، لاسيما في سفري التكوين والخروج؛ إذ إن كتابتهما تنحو نحوًا ملحميًّا وأسطوريًّا يستبطن بعض ملاحم الشعوب السابقة وأساطيرها، كملحمة جلجامش التي يظهر جزءٌ منها في قصة الطوفان.

حاول بعض المؤرخين اللاهوتيين، المؤمنين بعصمة التوراة، تحديد بدء الخليقة استنادًا إلى التواريخ وأعمار الأشخاص الذين ذُكِروا فيه؛ فكانت النتيجة أن الخليقة حدثت عام 4004 ق م. فإذا عرفنا أن عمر الإنسان المنتصب يعود إلى حوالى مئة ألف عام، وأن الإنسان الذي سبقه والمخلوقات الأخرى يعود وجودُها على سطح الأرض إلى ملايين السنين، يبدو واضحًا أن روايات مؤلفي التوراة لا يمكن الركون إليها من الناحية التأريخية.

أما النَّفَس الملحمي وكذلك الأسطوري في التوراة فشواهده أكثر من أن تحصى. الإنسان يعيش مئات السنين تربو على التسعمئة، ويلد له أولادٌ وعمرُه يزيد عن مئتين؛ حتى إن نوحًا كان عمره خمسمئة سنة عندما رُزِقَ بِسام وحام ويافث (تكوين 5)، وقايين ابن آدم يبني مدينة في هذا الزمن المبكر من تاريخ الإنسانية يسميها على اسم ابنه حنوك أو أخنوخ؛ والجيل السادس من ذرية قايين كان منهم يابل، أبًا لسكان الخيام والرعاة، ويوبل أبًا لعازفي الكنارة والمزمار، وتوبل قاين الحداد، أبًا لصنَّاع النحاس والحديد (علمًا بأن عصري البرونز الأول والحديد يعودان إلى الألفين الثالثة والأولى ق م). وهذا يذكِّرنا بتقسيم المسؤوليات فيما بين الآلهة، حيثما تعددت الآلهة. ثم إن أبناء الله يرون بنات الناس حسناوات، فيتخذون منهنَّ زوجات، فيلدن لهم أولادًا هم الجبابرة (تكوين 6). إبراهيم يأخذ حجمًا كبيرًا من حيث دعم الله الدائم له، فينتصر على أربعة ملوك ويطاردهم من نهر الأردن حتى أطراف دمشق، ويخلِّص ابن أخيه لوط كلَّ ذلك بثلاثمئة محارب (تكوين 15). أما يعقوب فيضع أمام الغنم قضبانًا مخططة، فتتوحَّم عليها وتنجب حملانًا منقطة (تكوين 30). ويوسف يصبح متسلِّطًا على كلِّ أرض مصر، بحيث يبعث فرعون بعجلات إلى كنعان لتجلب يعقوب أبا يوسف وعشيرته إلى مصر.

ثمة قصة ذات دلالة خاصة بالنسبة لعلاقة العبرانيين بالكنعانيين، إضافة إلى تأكيدها لكتابة التوراة في تأريخ لاحق. فعندما جاء العبرانيون إلى أرض كنعان في القرن الثالث عشر ق م كانوا مجموعة من البدو نزلت في نواحي المدن الكنعانية التي بَهَرَتْهم بحضارتها واضطرَّتهم إلى الرضوخ إلى حكم الكنعانيين ومُساكنتهم على مضض ما يقرب من مئتي عام. وبقي الغلُّ في صدورهم، حتى كشفوا عنه بقصة نوح مع ابنه حام الذي رأى عورة أبيه المتعتع بالسكر، فلعنه أبوه قائلاً: "ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته... وليكن كنعان عبدًا لهم" (تكوين 9). وقد أُلصِق اسم كنعان، الذي كان معروفًا منذ الألف الثاني ق م،[8] بحام، فكان أحد أولاده الأربعة.

أما قصة موسى مع العماليق فهي أشبه بمسرحية منها بقصة دينية. فقد أوعز موسى إلى يشوع لينتخب رجالاً لمحاربة العماليق، بينما يقف موسى على رأس التل وعصا الإله في يده... فكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين قام هارون أخوه وحور بدعم يدي موسى حتى تبقيا مرفوعتين (خروج 17).

وهل ننسى ملحمية قصة سقوط أريحا (يشوع 6) التي دار حولها الجيش العبراني سبع مرات في سبعة أيام، ونفخ في كلِّ مرة سبعة كهنة في سبعة أبواق، ثم صرخ الشعب فسقطت أسوار أريحا؟ أو احتفال سليمان بتدشين الهيكل، حيث اجتمع "جمهور كبير من مدخل حماه إلى وادي مصر" (الملوك الأول 8)؟

مثل هذه الروايات التي يضيق بها التوراة إنما تدل دلالة قاطعة على أن التوراة كُتِبَ بتأثير الجوِّ الحضاري الذي أحاط بالشعب اليهودي، إنْ في مصر أو في السبي البابلي أو في أرض كنعان. هذه الأجواء الحضارية كانت قد أوجدت آلهتها وأدبها الأسطوري والملحمي الذي أثَّر في الشعب اليهودي، إضافة إلى تأثير الحقد الذي حمله هذا الشعب طوال تاريخه على الشعوب الأخرى.

الموضوع الهام التالي، الذي لا بدَّ من النظر إليه مباشرة، عاريًا عن الأغلفة الدينية، هو قدسية الشخصيات التوراتية، وعلى رأسها إبراهيم واسحق ويعقوب وسارة ورفقة وداود وسليمان وغيرهم. هل كان هؤلاء بالفعل أشخاصًا بَرَرَة استحقوا رضا الله، أم أن المخيِّلة الدينية هي التي جعلتهم منزَّهين؟ وللجواب على هذا السؤال لن أستعين بأيِّ مرجع سوى التوراة؛ ومن خلاله نتعرف على حقيقة تلك الشخصيات.

يتصف الفكر الديني البدائي بردِّ كلِّ ما ينوب الإنسان من خير أو شر إلى الله، مع تفسيره على أنه إما ثواب أو عقاب على أفعال الإنسان؛ وإن أعياه ذلك قال إن "الله يجرِّب خائفيه". والتوراة يحفل بأخبار غضب الله وعقابه ورضاه وثوابه. فكلُّ ما يصيب بني إسرائيل إما أن يكون غضبًا من الله أو رضى منه. وعلى هذا الأساس فإن إبراهيم كان مَرضيًّا ومقدسًا من الله، إلى الحدِّ الذي طرح البركة بنسله ومواشيه وعبيده، وأقطعه الأراضي التي تقع بين النيل والفرات، وجعل شعوبها عبيدًا له. ومع ذلك فإن سلوك إبراهيم، كما رواه التوراة، لم يخلُ من طرائف، أورِدها كما جاءت، تاركًا للقارئ أن يستخلص استنتاجاته بنفسه:

1.    "وحدث لما قرب أن يدخل [ابراهيم] مصر أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك."

2.    "وانتقل إبرهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار. وقال إبرهيم عن سارة امرأته هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة [وكان عمرها التوراتي يربو على تسعين سنة]."

وعندما عاتب أبيمالك ابرهيم على كذبه:

3.    "قال إبرهيم إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة فيقتلونني لأجل امرأتي. وبالحقيقة أيضًا هي أختي ابنة أبي غير أنها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة."

إبراهيم لا يؤمن برعاية الله له، فيخاف ويلجأ إلى الكذب، ويُبدي استعدادًا غريبًا للتساهل في استباحة عرضه مادام سيصيبه خيرٌ كثيرٌ من جراء ذلك. ومن طريف الأمور أن إسحاق بن إبراهيم كرَّر كذبة أبيه مع أبيمالك ملك جرار ذاته، حسبما جاء في التوراة. وقبل أن نختم قصة هذا النبي إبراهيم يُستحسَن أن نشير إلى أنه تزوج، إضافة إلى سارة، هاجر وقطورة؛ كما كان يتمتع بما ملكت يمينه من السراري.

نعرِّج قليلاً على قصص النساء، أي سارة (زوجة إبراهيم) ورفقة (زوجة إسحاق) وراحيل (زوجة يعقوب): ثلاثتهن يشتركن في صفة العاقر التي حلَّتْ عليها فيما بعد بركة الله فحملت، باستثناء أن سارة كانت، حسب رواية التوراة، قد تجاوزت التسعين. ولكن الراوي ينسى، في واقعة أخرى، أن سارة كانت قد تجاوزت التسعين، فيجعل أبيمالك يشتهيها. وكما أخطأ الراوي في هذه الواقعة يمكن أن يخطئ، أو يكذب بحسن نية، في عمرها أيضًا عندما حملت بإسحاق. أما عن سلوكهن الفردي فنورده مختصَرًا بما يلي:

سارة هذه لم تكن تلك المرأة المؤمنة البارة. فقد أغرقت في الضحك الساخر حين بشَّرها الملاك بالحمل. وسارة هي التي دفعت بجاريتها هاجر إلى أحضان زوجها إبراهيم لكي تنجب لها (لسارة) ولدًا. ومن بعدُ انقلبت على هاجر مرتين: الأولى عندما حملت هاجر، فحاولت سارة إذلالها، حتى دفعتْها إلى الهرب؛ ولكن الجوع والخوف أعاداها إلى إبراهيم؛ والمرة الثانية كانت بعد أن ولدت سارة إسحاق، إذ حرضت زوجها إبراهيم على طرد هاجر وابنها إسماعيل خوفًا من أن يشارك إسحاق في الإرث؛ وقد انصاع إبراهيم.

أما تلك "البارَّة" الثانية – وأعني رفقة كنة سارة وزوجة إسحاق – فقد كانت نموذجًا للمرأة المحابية بين أولادها والغشاشة والمتآمرة على زوجها، وهي أسوأ الثلاثة. فقد تآمرت مع ابنها الأثير يعقوب كي يخدعا الزوج والأب إسحاق الذي كان قد فقد بصره: ألبستْ ابنها يعقوب ثياب أخيه لتخدع زوجها بالرائحة، ووضعت على يدي ابنها جلد جَدْيٍ كي تخدع حاسة اللمس – كلُّ ذلك لكي يستأثر ابنُها المفضَّل ببركة والده ويرثه دون أخيه الأكبر.

راحيل، ثالثة الأثافي، كانت تنافس أختها ليَّا على يعقوب. ولما تأخر حملُها وسبقتْها أختُها وضرَّتُها بالحمل، دفعت إلى زوجها يعقوب بجاريتها بلها كي تنجب لها منه ولدًا، كما فعلتْ سارة بهاجر.

نعود إلى يعقوب – هذا البار الذي دعاه الله "إسرائيل" وأصبح الأب الشرعي لاثني عشر ولدًا هم رؤساء الآباء، ولدهم من أربع نساء: أختين وجاريتاهما – يعقوب هذا ارتكب أفعالاً أقل ما توصف به هو الخساسة: أولها حين استغل جوع أخيه الأكبر عيسو وأرغمه على التنازل عن حقه بالبكورية مقابل وجبة من العدس والخبز؛ وثانيها عندما وافق أمه على التآمر على أخيه وخداع أبيه كما سلف؛ وثالثها عندما اتفق مع خاله لابان على اقتسام نتاج القطيع عند ولادته، على أن يأخذ لنفسه الغنم الرقطاء والمخططة، فوضع في سقاية القطيع قضبانًا قام بتخطيطها كي تتوحَّم عليها الغنم فتنتج نعاجًا وحملانًا مخططة. وبغضِّ النظر عن لاعقلانية القصة فإن يعقوب، في ذهن الراوية التوراتي، شخصية ماكرة حاذقة لا مأخذ عليها؛ أما في عرف الأخلاق الدينية والوضعية فإن يعقوب كان أيضًا سارقًا وغشاشًا.

أما داود فقصته مع امرأة أوريا الحثي وأوريا جديرة بالرواية الحرفية كما جاءت في التوراة في سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الحادي عشر: "وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي. فأرسل داود رسلاً وأخذها إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إني حُبلى. فأرسل داود إلى يوآب [قائد جيشه] أن أرسل إلي أوريا الحثي فأرسله [...] قال داود لأوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك فخرج أوريا وخرجت وراءه حصة [عطايا من بيت الملك] ونام أوريا على باب بيت الملك ولم ينزل إلى بيته [ربما أُخبِرَ بما فعل الملك بامرأته] فأُخبِر داود بأن أوريا لم ينزل إلى بيته. فقال داود لأوريا أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ [يريده داود أن ينام مع امرأته ليتبرأ من فعلته] فقال أوريا لداود إن التابوت [تابوت العهد الذي يحوي الوصايا العشر، وكان اليهود يحملونه معهم في الحرب تيمنًا] وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون في وجه الصحراء وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي [إذا لم يكن هذا الموقف إجهاضًا لخدعة داود فهو موقف شهم يدل على سيادة قيم معينة] [...] ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره [لعله يتوق إلى مضاجعة امرأته وهو في حال السكر] فخرج [أوريا] عند المساء لينام في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود إلى يوآب [...] أن اجعلوا أوريا في وجه الحرب وارجعوا من ورائه فيُضرَب ويموت." قام يوآب بما أمره به الملك داود وقُتِل أوريا. "فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات رجلُها ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابنًا."

هل تحتاج هذه القصة إلى تعليق؟

سليمان، كما تروي التوراة (الملوك الأول 11)، أحبَّ نساءً كثيرات ممَّن حرَّم الله: فكانت له سبعمئة من النساء السيدات وثلاثمئة من السراري. وبسببهنَّ مال قلبُه وراء آلهة أخرى، فذهب وراء عشتروت وملكوم.

النتيجة التي يتوصل أيُّ قارئ للتوراة، إذا كان على شيء قليل من النباهة، هو أن تلك الشخصيات التي أحيطت بهالة من التقديس والاحترام لا تستحق في الواقع هذا التقديس أو الاقتداء بها.

والآن، ما هي الرؤية التوراتية بالنسبة للإله الخالق المدبِّر؟ لا شك أن التوراة تميَّز عن الكتب الدينية التي سبقتْه بتطور في الرؤية نحو إلغاء تعددية الآلهة في مرحلة متأخرة نسبيًّا، ولكن دون تطور يُذكَر في صفات الإله الواحد؛ فهو، كسابقيه من الآلهة، يتصف بكلِّ الصفات البشرية، المحمودة منها والمذمومة، إلى الحدِّ الذي يدفع المرء للتساؤل ما إذا كان هذا الإله التوراتي يستحق العبادة.

وعلى أية حال، فإن العبرانيين لم يصلوا إلى إدراك الإله الواحد بين ليلة وضحاها. فلو تجاوزنا حوارات الله مع إبراهيم وموسى، ونظرنا إلى تاريخ اليهود منذ خروجهم من مصر (حسبما تروي قصص التوراة) في القرن الثالث عشر ق م، نجد أنهم تأثروا دومًا بعبادات الشعوب التي جاوروها وتعايشوا معها، وكانوا يتذبذبون بين عبادة الإله الواحد وبين عبادة الآلهة المتعددة. فلم يكادوا يخرجون من مصر حتى عبدوا العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون أخو موسى دون سواه (خروج 32). وفي كنعان تبنوا الإله إيل وجعلوه يهوه. ومنذ بناء هيكل سليمان في أورشليم كانت الآلهة "عشيرة" زوجة إيل تُعبَد فيه. ولم يكتفِ سليمان بإدخال أنصاب آلهة نسائه إلى المعبد، بل بنى مرتفعات (يرجح أن المقصود زقورات شبيهة بالزقورات البابلية) لآلهة الموآبيين والعمونيين (ملوك 1: 11)، كما تبعه في ذلك بنو إسرائيل، فبنوا الزقورات وأقاموا الأنصاب (ملوك 1: 14).

الإله يتعب، شأنه شأن البشر: فهو خلق العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع (تكوين 2 وخروج 20). الله لا يدرك نتيجة عمله، وأفعاله عشوائية: "فقال الله ليكن نور، ورأى النور حسنًا" (تكوين 1). الله غافل عما يجري في الفردوس: فهو ينادي آدم، فيكتشف أنه كان مختبئًا لأنه شعر بعريه، فيسأله ما إذا كان قد أكل من الشجرة التي نهاه عنها، ويستمر الحوار (تكوين 3). الله فاخوري: إذ جبل آدم ترابًا (تكوين 2)، وكأنه عاجز عن أن يخلقه من العدم، كما خلق الأرض والسماء. والله فلاح أيضًا: إذ غرس جنة في عدن شرقًا (تكوين 2). والله مزاجي ومتحامل ويبدو أنه يحب رائحة الشواء: "فقد نظر إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر" (تكوين 4). والله مشخَّص: فقد قال: "نعمل الإنسان على صورتنا وشبهنا"؛ كما أن آدم وحواء سمعا صوت مشيته في الجنة (تكوين 3). والله يفكر ويراجع أعماله: فقد قال في قلبه بعد الطوفان: "لا أعود ألعن الأرض من أجل الإنسان" (تكوين 8). وهو يندم أحيانًا على ما فعل: إذ ندم أن خلق الإنسان على الأرض (تكوين 6). ويوقِع بين بني البشر: "فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. قال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كلُّ ما ينوون أن يعملوه. هلمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض [...] فكفوا عن بنيان المدينة لذلك دُعِيَ اسمُها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كلِّ الأرض" (تكوين 11). ويحاور موسى وإبراهيم ولوط حوار الندِّ للند؛ ويصارع يعقوب ليلة كاملة، ثم يمسكه يعقوب ويمنعه من الذهاب قبل أخذ بركته (تكوين 32). وهو عاجز بمفرده، ويحتاج لمساعدة الإنسان: فقد أمر موسى بني إسرائيل بتلطيخ أبوابهم بالدم ليتمكَّن ملاك الربِّ من تمييز منازل اليهود من منازل المصريين، لا سيما وأنه كان عليه أن يمرَّ على حوالى مئة ألف منزل لليهود، وربما مثلها من منازل المصريين، في ليلة واحدة (خروج 12). وهو مهندس ديكور: إذ يصف لموسى أبعاد تابوت العهد وتفاصيل صنعه ومواده ومحتوياته وزينته وتفاصيل المائدة التي يوضع عليها والغرفة التي تؤويه والمذبح، بما يستغرق عددًا من الصفحات (خروج 25 و26). وهو مصمم أزياء: حيث يصف لموسى نوع الأردية التي يصنعونها لهارون أيضًا، بما احتاج إلى صفحتين (خروج 28). وهو عطار: إذ يقول لموسى: "تأخذ أفخر الأطياب، مرًّا قاطرًا خمسمئة شاقل وقرفة عطرة مئتين وخمسين شاقلاً وقصب الذريرة مئتين وخمسين وسليخة خمسمئة وزيت زيتون" – كل ذلك لتعطير غرفة تابوت العهد – وكل ذلك ومازال موسى وقومه تائهين في صحراء سيناء. والله بورجوازي: لا يرضى بالسكنى البسيطة، فيطلب تقدمات من ذهب وفضة ونحاس وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص (كتان) وشعر معزى وجلود كباش محمرة وجلود دلفين وخشب سنط و... و... ليصنعوا له مسكنًا وسطهم (خروج 25) – كلُّ ذلك وموسى وقومه مازالوا تائهين في صحراء سيناء.

هذا هو الله بنظر كتبة التوراة الذين جاؤوا بعد إبراهيم (إذا صحَّ وجودُه) بحوالى ألف وثلاثمئة سنة، وبعد موسى بحوالى سبعمئة سنة. وكما نرى فإن هذه الرؤية لطبيعة الربِّ، لمزاجيَّته وتصرفاته وطباعه ومهاراته وملاحمه مع بني البشر، لا تختلف عن رؤية شعوب الرافدين التي سبقت بني إسرائيل أو عاصرتْهم ورؤية الكنعانيين لآلهتهم.

يبقى ذاك الجزء من التوراة الذي، شأنه شأن الأسفار الأخرى، يُشَكُّ كثيرًا في مصادره ومؤلِّفيه، وأعني به النبوءات. فهذه الأسفار، التي استُخدِم بعضُها بكثافة في البشائر لإثبات مصداقية المسيح، تفتقر هي بالذات إلى المصداقية: فنبوءة أشعيا التي تتألف من ستة وستين فصلاً تمتد عبر حقبة تاريخية تزيد عن مئتي سنة؛ ونبوءة دانيال مجهولة المؤلف أو المؤلفين؛ ونبوءة إرميا كُتِبَ الجزءُ الأكبر منها بعد وفاته، مع إضافات من تلاميذه. إن ما في هذه النبوءات من أمل بمجيء المسيح المنتظر يصوِّر هذا المسيح ملكًا مخلِّصًا للشعب اليهودي من حكم الأمم بالمفهوم المادي.

هذا هو التوراة، بأساطيره وملاحمه وبشخصياته التي خَلَتْ من القداسة واتصفت بأنواع الخداع والغش والكفر وتسخير العرض في سبيل المنفعة وبرؤيته المادية للإله. فهل يمكن، بعد كلِّ ذلك، أن يُحمَل التوراة على محمل الجدِّ، ويُتَّخذَ متكأً للمسيحية، ويدخل في صلب الطقوس الكنسية؟

لقد دخلت التوراة في نسيج المسيحية لأسباب لا علاقة لها بالإيمان المسيحي المجرد، كما بينَّا سابقًا؛ ولكنها أسباب كانت موضوعية في مرحلة ما من تاريخ الكنيسة، وتبقى، على الرغم من ذلك، مرتبطة بوعي البشر وقراراتهم واجتهادهم. ويبقى التوراة تراثًا لادينيًّا، على الأقل بالنسبة للديانة المسيحية.

أودُّ التوقف أخيرًا عند مصطلحي "العهد القديم" و"العهد الجديد"، لأحاول الإجابة عن مصدر هذه التسمية، وعما إذا كانت لا تزال صحيحة بالنسبة للدين المسيحي.

إن اليهود الأوائل الذين آمنوا بالمسيح نبيًّا توراتيًّا مخلِّصًا، وآمنوا برسالته وباليوم الآخر وبالوعد بملكوت الله، رأوا في ذلك كلِّه "عهدًا جديدًا" من الله – هذا العهد، الذي ثبت نصًّا بعد ذلك بأجيال، في صيغة البشائر والرسائل، لم يُلْغِ في نظرهم العهدَ السابق الذي أعطاه الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بسيطرة نسلهم على الأمم الأخرى وبإقامة مملكته من النيل إلى الفرات. كما أن الكنيسة، بتأثيرات سوف نتطرق إليها لاحقًا، اتَّكأتْ في قداديسها على التوراة. فكان لا بدَّ من التمييز بين الكتاب الذي سبق المسيحية والكتاب الذي عبَّر عنها. وجاء هذا التمييز بصيغة يهودية توحي بأن الله أعطى عهدًا جديدًا مع الاحتفاظ بالعهد السابق.

إن الدين المسيحي قد تجاوز ذاك العهد الموهوم، المشحون بمركب النقص وجنون السيطرة وإرادة إذلال الأمم واحتقارها وتحقيق مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات. ثمة عهد واحد أعطاه الله، لا عهدين – وهو العهد الذي أعطاه لجميع أبناء الجنس البشري الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويؤمنون أن الله، أولاً وأخيرًا، محبة.

***


[1] من وحي عنوان مقال للمرحوم الشيخ عبد الله العلايلي: "أطوطميون أنتم أم فقهاء؟"

[2] فراس السواح، الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، ص 216.

[3] Deuel, Leo, Testaments of Times (N.Y.: Alfred Knopf, 1965) p. 398.

[4] Ibid., pp. 244-246.

[5] فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل، ص 10.

[6] أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (المكتبة البولسية، 1988)، الجزء الأول، ص 63.

[7] Deuel, Leo, Testaments of Times, p. 370

[8] فراس السواح، الحدث التوراتي، ص 250.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود