الإصغاء في حدِّ ذاته: شروطه وثماره*

 

الأب فرانس فاندرلَخت اليسوعي

 

في غالب اللغات فعلان للتعبير عن عملية السمع. ففي اللغة العربية نقول: أسمع فلانًا وأُصغي إلى فلان. وفي الفرنسية نستعمل فعل écouter للدلالة على الإصغاء وللدلالة على السمع entendre، ونستعمل في الإنكليزية فعل to hear للسمع وto listen للإصغاء. ومن خلال استعمال هذين الفعلَين ندرك أن المرء يميِّز بين أمرين. فمن جهة أولى، نحن "نسمع" عن طريق استعمال حاسة السمع. وهذا أمر لا يحتاج إلى جهد، لأنه فطري طبيعي، إذ إننا نسمع لأننا نسمع. وهنا نستعمل الأفعال: سمع،  to hear،entendre. لكن الإنسان لا يسمع لأنه يسمع فقط، بل لأنه يريد أن يسمع. إنه يحب أن يكون حاضرًا للآخر بانتباه كله دقة ومحبة، ويتخذ منه موقف المستمع. وهذا الموقف لا يعتبر طبيعيًا وفطريًا، بل هو نتيجة اختيار يتجدد في كل مرة. وللتعبير عن هذا الموقف نستعمل الأفعال: اصغى، écouter، to listen. ولكن، كيف يمكن أن نعرِّف الإنسان المصغي؟ إنه الإنسان الحاضر للآخر بأذنين مفتوحتين صامتتين عاريتين. فهو يفسح بصمت إصغائه في المجال لكلام الآخر كي يخرج بكل حرية من ذاته الباطنية الواعية واللاواعية، كما يخرج الماء المتدفق من النبع. وبقدر ما يخرج كلام الآخر من ذاته، يكون هذا الآخر موجودا وساكنًا في كلامه، فيصبح بالتالي أكثر حرية واستقلالية وقيامًا بذاته وحضورًا لنفسه وللآخر.

لنعد الآن إلى العناصر التي يتكون منها هذا التعريف.

قلنا أولاً إن المصغي يكون حاضرًا بأذنين مفتوحتين عاريتين وصامتتين. هنا نجد صمتًا في أذني المصغي. ومن خلال هذا الصمت يقول للآخر: "أنا حاضرٌ كليًا لاستقبال كلامك. كلامك مهم، لأنك أنت مهم. أنا في انتظارك".

إن المصغي، بصمته، يدعو كلمة الآخر إلى الخروج من أجل استقبالها بدون أية امتلاكية. فهو يقول بصمته لكلمة الآخر: "تفضلي، أهلاً وسهلاً، بيتي هو بيتك... في بيتي يمكنك أن تكون حرًا في كلامك، استمر في الإحساس، أنت في بيتك. لكن بيتي يجب ألا يصبح بيتك، لأنني لا أريد أن أحبسك وأخنقك في بيتي وأجعلك بلا بيت. لا أريد أن أربطك بي، فعليك بعد ذلك أن تغادر بيتي. وبما أنك سكنت في بيتي، ستستطيع – إن شاء الله – أن تكون حرًا ومستقرًا وأكثر حضورًا في بيتك".

إن المصغي يستقبل كلمة الآخر في مزود قلبه، كي تزداد ولادةً فيه. لكنه، بعد ذلك يدعو كلمة الآخر إلى الخروج لتتمكن أن تعيش حياةً مستقلة.

وقلنا في تعريفنا للإصغاء إن المصغي يملك أذنين عاريتين، أي أنه يصغي وهو عار لا يملك شيئًا، فهو يصغي إلى كل كلمة تخرج من فم الآخر وكأنها كلمة جديدة، وكأنه يصغي إليها للمرة الأولى. فليس في إصغائه أي شيء مسبق، كما أنه لا يظن إنه سيسمع من الآخر ما قد عرفه عنه من قبل، لأن إصغاءه مجاني. والحق أنه لا يريد شيئًا من الآخر، لكنه يريد الآخر بكلامه فقط. وهو - أي المصغي- لا يريد أن يمارس أية سلطة على الآخر، كما أنه لا يريد أن ينصحه أو يعلِّمه أو يحلِّله أو يصلحه أو يعزيه أو يحكم عليه ويصنِّفه. فعلى المصغي أن يكون فقيرًا على الإطلاق، كي يتسنى للمصغى إليه أن يشعر بحقه المطلق في الكلام. إن المصغي هو كالصحراء قبل طلوع الشمس. فكما أن الصحراء تنتظر بعريها وصمتها طلوع الشمس، وهي تشرق شيئًا فشيئًا، لتغمرها بنورها ووهجها، كذلك يكون المصغي، فهو الصحراء العارية الصامتة التي تنتظر طلوع شمس كلمة الآخر عليها. ونستطيع أن نضيف أن المصغي يحرِّر طاقات الحب عند المصغي إليه ويحرِّك حريَّته واستقلاليته ويجعله يطير في فضاء الحياة.

لقد تحدَّثنا عن أشياء جميلة حول الإصغاء، ولكن يجب ألا ننسى أن الإصغاء أمر عسير، إذ ليس هو كالسمع السهل، فهو فطريٌّ وطبيعيٌّ. وهنا نتساءل: ما الذي يجعل الإصغاء إلى الآخر أمرًا عسيرًا؟ قبل كل شيء، يسعنا أن نقول إن الإنسان يواجه صعوبة في الإصغاء، لأنه لا يريد أن يصغي إلى نفسه. فهناك أشياء يرفضها في نفسه. وهكذا تراه يكبتها بدل أن يصغي إليها. إذا وجدت هذه الأشياء المكبوتة في نفسه عند الآخر أيضًا فإنَّه يعجز عن الإصغاء إليها. ونلاحظ بالتالي أنه، بقدر ما يكون هناك كبتٌ في حياته، يعجز عن الإصغاء إلى نفسه وإلى الآخر. أما المشكلة هنا فتكمن في كون هذا الكبت لاواعيًا أحيانًا، أي أن الإنسان لا يعرف، طوال حياته، ما هو الشيء الذي يكبته. والحق أنه لأمر شاقٌ أن يتوصَّل الإنسان إلى معرفة هذا الشيء المكبوت. لكن، إذا ما وجد هذا الإنسان أُذنين مصغيتين تصغيان إلى عمق ذاته، استطاع عندئذ أن يخرج شيئًا من هذا المكبوت في نفسه من عمق ظلام الكبت، وذلك بفضل الإصغاء الحقيقي.

ويعسر الإصغاء أيضًا على الذي لا يعرف ماهيَّة مجَّانية الصمت. إنه يشعر في ذاته بضجَّة حاجته "المصلحية" إلى الآخر، وهذه الحاجة تجعله يستغل الآخر بدل أن يستقبله مجانًا في صمت إصغائه المملوء حبًا. وأحيانًا ما قد لا يحتمل الإنسان العزلة، فيكون في حاجة "مصلحية" إلى الآخر كي لا يبقى وحيدًا. فإذا ما كان الإنسان في حاجة إلى الآخر من أجل التعويض عن نقصٍ ما، فهو يحب أن يحبسه في علاقة امتلاكية خوفًا من أن يخسره فيعود إلى عري نقصه. وإن ظلَّ الإنسان عبدًا لهذه الضجة الامتلاكية "المصلحية"، دون أن يقبل عزلته ونقصه، بقي عاجزًا عن الوصول إلى صمتٍ داخليٍّ وعن الإصغاء إلى الآخر كآخر. وفي هذه الحالة، لا يكون حاضرًا للآخر، بل يكون الآخر حاضرًا له، لكي يعوِّض له عن نقصه.

وهنا يطرح علينا سؤال كبير: كيف يمكن الإنسان أن يقبل عزلته ونقصه فلا يستغل الآخر، بل يصغي إليه؟ في الواقع، لا يقبل الإنسان العزلة لأنه لا يحتمل نقصه. وإذا كان يهرب من هذه العزلة فلأنه يهرب من نقص نفسه. وهكذا، فبدل أن يحاول قبول هذا النقص، نراه يملأه فورًا بعلاقة استهلاكية مع الحياة. وعندما يعود هذا النقص، نراه يملأه مرة أخرى، ويعيش بالتالي في حلقة مفرغة: نقص - امتلاء النقص أو الحاجة – إرضاء الحاجة – رجوع الحاجة. وفي هذا النظام الاستهلاكي، يعيش الإنسان ذاته كنقص وينطلق منه. وما دام عبدًا لهذا النظام القهري، فمن المستحيل عليه أن يتمكن من عيش العزلة والإصغاء والصمت. إنه يقتل لغة الآخر وحياته بسبب ميله الاستهلاكي هذا. ولكن كيف يستطيع الإنسان أن يخرج من هذا النظام؟ لنأخذ مثل الإنسان الذي يعجز عن الجلوس مع نفسه وفي نفسه. فهو يشعر دائمًا بحاجة ملحة إلى التفاف الناس حوله. ولكن، كيف يستطيع هذا الإنسان أن يصبح حرًا في حاجته إلى الناس، دون أن يستهلكهم؟ في الحقيقة، يجب عليه ألا يحاول الهرب من عزلته، بل أن يعيش مع نفسه وينظر إلى ذاته ونقصه. وعندها، قد يكتشف أنه لا يحب العيش مع نفسه لأنه لا يحبها، أي أنه يكره نفسه بسبب أخطائه. لقد فقد الثقة أيضًا بنفسه وبإمكاناته، وأصبح حزينًا وكئيبًا في باطنه بسبب اختباراته وتجاربه المؤلمة... لقد كسر الفشل شوكته.

أمام هذه الأحداث الكائنة في باطنه، يفضِّل هذا الإنسان عدم استقبال هذه التجارب والاختبارات، بل يهرب منها ويبقى دائمًا مع الناس وفي واجهة ظواهر الحياة. ولكن لعل هذا الإنسان قادر وراء هذه الأحداث المؤلمة على استقبال الأحداث الحلوة التي وقعت في حياته والتي تركت أثرًا إيجابيًا في نفسه وكيانه. وفي هذه الأثناء، لا يعود ضروريًا أن يرى هذا المرء نقصه فقط ويهرب منه، ولا يعود يرى كل تقطيع من تقاطيع وجهه على حدة، بل يرى وجهه ككل ويحبه كما هو.

ويمكننا أن نشبِّه باطن الإنسان بغرفة، فإذا لم يجد الإنسان غرفته الجميلة، يعمد إلى إغلاقها وعدم الدخول إليها والعيش خارجها. فبقدر ما تبقى هذه الغرفة مغلقةً، تميل رائحتها إلى العفونة ويغدو الدخول إليها أكثر صعوبة. أما إذا فتح الإنسان باب هذه الغرفة - باب غرفته الباطنية - مرة أخرى، فعليه أن يتحمل هذه الرائحة العفنة في البداية. لكنه قد يكتشف بعد التهوية أنَّ هذه الغرفة ليست بالبشاعة التي كان يظنها. صحيح أنه قد يعثر فيها على بعض الكراسي المخلَّعة وبقايا "عفش" قديم، لكنه قد يعثر أيضًا على كراسٍ أخرى في حالة جيدة وعلى طاولة كبيرة ولوحات جميلة تزِّين الحائط. وانطلاقًا من ذلك، سوف يكتشف شيئًا فشيئًا أنه قادر على السكن والراحة فيها.

رأينا كيف أن الآخر، الذي يحب أن يصغي إلينا، يجعلنا نحن أيضًا نصغي إلى أنفسنا وإلى كل شيء مرفوض ومجروح ومكبوت في باطننا. وكما أن المصغي المحبَّ يستقبل نقصنا ويصغي إلى ما وراءه، يمكننا أن ندخل معه في هذه المسيرة الإصغائية إلى أنفسنا، وذلك عن طريق الإيمان بأن الحياة التي في باطننا سوف تتفجر في هذا النقص ومن وراءه.

وهكذا يتَّضح لنا أنه، بقدر ما نقبل نقصنا، نزداد قدرة على الإصغاء إلى الآخر. سنرى في القسم الثاني كيف أن المصغي لا يحب الآخر فحسب، بل يستقبل حبًا من الآخر أيضًا. وإذا ما ملأ الله، ذلك المحبَّ، قلب المصغي بحبه الصافي، فإنه يزيده قبولاً لنقصه، فيزداد إصغاء وحبًا.

لقد بيَّنا حتى الآن ثلاثة أشياء تقوم بدور هام في قبول العزلة والنقص: إصغاء الآخر إلينا أولاً، ثم إصغاؤنا إلى أنفسنا (من خلال إصغاء اللآخر إلينا أحيانًا)، والإصغاء إلى كلمة الآخر. وإن بقينا عبيدًا لحاجتنا المباشرة، فنحن نعجز عن تلقي الإصغاء من الآخر أو من أنفسنا، وبالتالي، لا نستطيع أن نصغي إلى كلمة الآخر. فعلينا أن نخلق هنا "مسافة" بين حاجتنا المباشرة وإرضاء هذه الحاجة، إذا ما أردنا أبدًا أن نصغي إلى ما وراء حاجتنا من رغبات عميقة. وفي هذا الإطار نفهم معنى الصوم. وعلى هذا النحو، فإن هذه المسافة تمكِّن الحياة من الخروج من باطننا والدخول فينا من الخارج.

ولا بد، في آخر هذا الفصل الأول، أن نلفت الانتباه إلى أمرين هامين: أولاً، نحن لا نصغي إلى كلام الآخر وصمته وبأذنين فقط، بل يمكننا أن نصغي أيضا بيدنا أو نظرتنا إلى يد الآخر أو نظرته، أو إلى وجهه وصمته. فعلى فراش الموت مثلاً، غالبًا ما يعجز الإنسان عن الكلام، في حين أنه يفضِّل أن يتكلم من خلال يده أو نظرته. وبالفعل، إذا ما أمسكنا يده، نستطيع أن نصغي إلى صوت الحياة في جسمه الذي يفارق الحياة، وإذا ما نظرنا إلى وجهه، يمكننا أن نصغي بنظرته إلى آخر كلمة يحبُّ أن يوصلها إلينا.

ومن المستحسن أن نذكر أيضًا، في نهاية هذا الفصل، أن هناك أنواعًا مختلفة من السمع والإصغاء، بحسب شخصية المتكلم وكلامه. فإذا أمرنا أحد الأشخاص بسماعه، فلا يسعنا إلا أن نسمعه، في حين أننا نقدر أن نصغي بحرِّيَّة إلى كلام الشاعر والشاهد والحبيب. لكن لننتبه هنا، فكلُّ واحدٍ من هؤلاء يتطلب منا إصغاءً خاصًا، إذ إننا لا نصغي إلى الشاعر كما نصغي إلى الحبيب. والإصغاء لا يختلف بحسب شخصية المتكلم فقط، بل بحسب كلامه أيضًا. فهناك كلام صحيح وكلام كاذب، وهناك كلام واضح وكلام غير واضح. هناك أناس يسمعوننا كلامًا يفرضون علينا أن نسمعه بأذن ثالثة وأن نحاول الإصغاء إلى ما وراء هذا الكلام الملفوظ، إذا ما أردنا أن نفهم ما يقولون.

ففي الكلام يتجلَى البعد اللاواعي أيضًا، والإصغاء إليه يتطلَّب أذنًا خاصة.

*** *** ***


 

horizontal rule

*  الفصل الأول من كتاب الإصغاء والحب.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني