ما لقيصر لقيصر!

 

عهد فاضل

 

شكَّل الغرب – في تسميته القديمة: روما – هاجسًا قوي التأثير في ثقافة منطقتنا. فقد ذُكِرَت روما في شخص إمبراطورها في الإنجيل ("أدوا لقيصر ما لقيصر" – متى 22: 21)، وذُكِرَت روما (بيزنطة) باسمها العلني في القرآن ("غُلِبَتِ الرومُ في أدنى الأرض..." – سورة الروم 2-3)، وكذلك ذُكِرَ ملوكُ مصر ("فرعون") في التوراة والقرآن كرموز تدل على الاستبداد والطغيان آنذاك.

لم تغبْ الإمبراطورية، في أيِّ زمن وجنس لها، عن النص الديني، ولا عن الأنبياء وما يمثلونه من نموذج ميتافيزيقي ينقض نموذج القوة المتمثل بالدولة الأقوى. فقد اصطدم المسيح بروما في المحاكمة المشهورة المتداولة؛ كذلك اصطدم النبي موسى بفرعون مصر؛ وأيضًا كتب النبي محمد كتابًا إلى ملك الروم، هذا عدا الحروب التي جرت ونتائجها. فإما روما، وإما الفراعنة، وإما الفرس – يقابلهم وعيٌ ديني، مثالي، يبدل بالعنف المادي القوةَ الروحية، بعبادة الفرد عبادةَ الله، وبالشرق الغرب.

عندما دخل العربُ المسلمون إلى إسبانيا كان الغطاء الإيديولوجي لهذا الدخول نشرُ الدعوة الإسلامية، على الرغم من أن العرب الذين احتلوا إسبانيا كانوا فارين من بلادهم مخافة التطهير الطائفي–السلطوي. فأول أمراء بني أمية في الأندلس هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وكان هاربًا من أبي جعفر المنصور! كذلك، نجد الحكم بن هشام، أحد أمراء الأندلس، وكان المؤرخون العرب يصفونه بأنه "طاغ مسرف وله آثار سوء قبيحة". عدا قتل الأمراء الأمراءَ وصلب بعضهم بعضَهم الآخر، وغير مؤامرات نساء الأولاد وأخوالهم كلها.

هذا كله كان بسبب البطش الذي يميِّز قوة الدولة، ولو كان الغطاءُ نشر دين أو سواه. إن نشر الدين في الأندلس يحمل المعطيات ذاتها في "الانتداب" الفرنسي والبريطاني: فالأخير كان يمثل مدًّا أعظميًّا للكولونيالية والعصر الصناعي. ومثلما قامت الثورات في وجه الحكام العرب في إسبانيا حتى انهزموا، كذلك قامت الثورات على الوصاية والانتداب. لكن عندما انهزم العرب في الأندلس خرجوا من التاريخ.

الخطأ البنيوي الرهيب الذي ارتكبه العرب هو أنهم اعتبروا الاحتلال العثماني لبلادهم "فتحًا": فهم مثلما احتلوا إسبانيا بغطاء نشر الدين، كذلك اعتبروا الاحتلال العثماني حمايةً لدينهم – وقد استمر هذا الاحتلال أكثر من أربعة قرون! ومثلما هرب ملوكُ بني أمية مخافةَ أن يبطش بهم العباسيون، وصاروا أمراء في الأندلس، كذلك كان أهم سبب لـ"الفتح" العثماني، كما درسنا في المناهج، هو ازدياد المدِّ الصفوي في بلاد الشام.

القوة واحدة – في الغرب والشرق – والمعنى واحد، إنْ في نشر دين أو في نشر علبة تبغ. لكن المشكلة الأساسية: الخطاب.

في علاقة العرب، الأشهر، مع الغرب، في الأندلس، نتجت ثلاثةُ خطابات: أولها عقلانية ابن رشد الأرسطية؛ وثانيهما "ضبط" التصوف واللامعقول على يد محيي الدين بن عربي من خلال تكريسه اصطلاحاتٍ روحانيةً محددة؛ وثالثهما ما سُمي المجون والإباحية، المتمثلَين في شعر الموشح في تيك المرحلة. والنتيجة؟ الغزالي أطاح ابن رشد. ومن بعد مطاردته وحرق كتبه، تكفير الشوام لمحيي الدين بن عربي. ومن بعدُ تحريم قصائد الجنس والاشتهاء واللذة.

العلاقة الثانية مع الغرب – وهي العلاقة العريضة – هي الاتجاه الفردي الذي مثله مثقفون دينيون في الأصل (الأفغاني ومحمد عبده وآخرون كما هو معلوم) وغيرهم مع دخول القرن التاسع عشر.

ماركسية من روسيا. قومية من ألمانيا. پراغماتية من أمريكا. أشعار عظيمة وأدب عظيم من الغرب كله. روما كلها. وعندما تم الاصطدام، مرة أخرى، بالقوة، رمى العديد من الأنظمة العربية بأوراق الغرب إلى المدفأة (حملات التخوين بعد ثورة "الضباط الأحرار" في مصر 1952، وحملات التخوين بعد 1967، والتخوين الأشهر الذي راج في الثمانينيات حين تم إطلاق النار في الاتجاهات كلها).

والآن، في آخر اصطدام بالقوة، متمثلاً بدعم أمريكا (روما الجديدة!) لإسرائيل، نجد رمي أوراق الغرب في نار المدفأة، مرة أخرى. لكن الشعوب هي التي تقوم بذلك، وليس الأنظمة. أي أن الداء استفحل. روما التي لم تغب عن ذهن الأنبياء في حاجة إلى هذا المستوى من العلاقة. فبعدما دخلت روما النص، صار على الجميع معرفة أن الموضوع معقد وخطير. فكيف يأتي بعضهم ليعتبر امتناعه عن شراء علبة تبغ أو بنطلون جينز أو نوع من الطعام طريقةً جيدةً في التعامل مع روما، أمريكا؟!

روما التي لم يتغافل عنها النص المقدس هي المستوى التاريخي للقوة – القوة التي ينشدها النبي، يحلم بها. ولسوف تتركب القصة المنقولة في دقة تاريخية عجيبة عندما نسمع عن "جنود" من عند الله يقاتلون! هؤلاء الجنود المتخيَّلون هم البدائل الميتافيزيقية لروما.

الكل يحلم بالقوة، بالإمبراطورية. ومن حيث لا يعلم يهاجم العادي الإمبراطورية، فيما هو يهاجم حلمه، "روماه" الخاصة. في هذا المكان، مرة أخرى، نفهم قولة السيد المسيح في المستوى المسكوت عنه: "أدوا لقيصر ما لقيصر." لا تُفهَم القوة، الإمبراطورية، أمريكا، إلا في هذا المعنى – في مستوى النبي.

وحدهم الأنبياء، وحدهم، يُحْسِنون التعامل مع روما!

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود