|
قيم خالدة
من بين القناعات التي لم يكن يرقى إليها كثيرٌ من الشك لدى مفكري القرن التاسع عشر أن المكانة المركزية التي يحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئًا من الماضي. فقد اعتبر هيغل، مثل مفكِّري عصر الأنوار من قبله، أن العقل، بدقته المفهومية المتفوقة، قد تخطَّى الدين. وصوَّر فويرباخ، في كتابه جوهر المسيحية (1841)، علاقةَ الإنسان بالألوهية على أنها لعبةُ قوى محصِّلتها الصفر، ورأى أن الإلحاح على الإيمان والتقوى ينتقص من رفعة الغايات الإنسانية. فيما رأى ماركس أن الإنسان، بوصفه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان؛ ذلك أن الدين، في نظره، هو "زفرة المخلوق المضطهَد، قلبُ عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح – الدين أفيون الشعوب". وهذا ما يقتضي، في عرف ماركس، إلغاء الدين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنقد السماء والدين واللاهوت، بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق السماء والدين واللاهوت. أما نيتشه، فقد أعلن، على لسان زرادشت، أن "الله قد مات"، ووصف المسيحية بأنها "أخلاقية العبيد"، أو منظومة اعتقادية عامية مبتذلة تلائم الخانعين الجبناء، ولم يقرِّظ من بين ممثلي المسيحية سوى أولئك الذين وجدوا متعةً بالغة في وقوفهم أمام محاكم التفتيش التي كانت تأمر بإحراقهم، مثل إغناطيوس دي لويولا.
يهدف هذا البحث، الذي يتمثل في مقولة حضارية تنضوي تحت عنوان "الحوار"، إلى تأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة تصلح لإجراء حوار بين أبناء وبنات الإنسان، متجاوزةً الأُطُر المحدودة والمناهج أحادية البُعد التي أشرطت العقل والنفس، فحالت دون تطويرهما والسموِّ بهما إلى مستويات مثالية، وأدَّتْ إلى عدم تحقيق المغزى المضمون في الوجود وإلى إسقاط المعنى والقيمة الكامنين في الحياة.
البحث في الحرية بحثٌ في الوجود وفي الوجوب، في الإمكان وفي الفعل، أي في "التحقيق" realization. فالوجود، على مستوى الكرة الأرضية، تغلُّف على ذاته وانغلاق: تغلُّف ينطوي على إمكان الانفتاح والحرية؛ والوجوب انفتاح وكشف، أي حرية. فالوجود يشير إلى تطور داخلي في المادة والإنسان، يفصح عن ذاته في حركة داخلية – هي "التفاف داخلي" involution – تتفتح أكثر فأكثر في ظاهرة "التطور" evolution.
|
|
|