فلسفة الحريَّة والعبوديَّة

ندره اليازجي

 

البحث في الحرية بحثٌ في الوجود وفي الوجوب، في الإمكان وفي الفعل، أي في "التحقيق" realization. فالوجود، على مستوى الكرة الأرضية، تغلُّف على ذاته وانغلاق: تغلُّف ينطوي على إمكان الانفتاح والحرية؛ والوجوب انفتاح وكشف، أي حرية. فالوجود يشير إلى تطور داخلي في المادة والإنسان، يفصح عن ذاته في حركة داخلية – هي "التفاف داخلي" involution – تتفتح أكثر فأكثر في ظاهرة "التطور" evolution.

في الوجود حركة داخلية، ملتفة على ذاتها ومقيَّدة، تفعل في ذاتها لكي تتحرر وتنعتق، لتصير إلى حركة جديدة تتغلَّف على ذاتها في شكل جديد، لتتحرَّر مرة أخرى في تسلسُل غائي عظيم. وفي هذه المسيرة الطويلة، تتعرف المادة إلى ذاتها بفعل تطور – هو حرية – يظهر فيه الوعيُ الكامن من خلال الظاهرات الجديدة التي تتسامى وتتعالى، أي تتجاوز مرحلة دنيا أو أولية كانت قيدًا لها أو انغلاقًا يطويها ويُقصيها عن تحقيق كينونتها. لذا فإن التطور فعل حرية، أي حركة داخلية تفصح عن ذاتها في ظاهرة، تعود لتنطلق منها إلى مجال أوسع وأعظم في حقل الوجود الصائر إلى الوجوب، أي إلى ما يجب أن يكون.

وهكذا يكون التطور حركة بطيئة هادفة، تفعل فيه طاقةٌ مكبَّلة بقيود الذات المادية، أي الموضوعية، التي لا تتعرف بذاتها ما لم تتحرر من لاوعيها، أي من وجودها الأدنى المغلق، في صيرورة تسمو بها إلى ظاهرات جديدة أخرى في مسيرة الحياة. وعلى هذا الأساس، تمثل الحرية فعل الحركة المتطورة؛ ونعني أن الكون يحقق مثالَه سائرًا من الأدنى إلى الأعلى: ليس الأدنى غير تنازُل في انقباض الوعي والانغلاق والتغلُّف والتكاثف؛ وليس الأعلى غير تصاعُد في انبساط الوعي والانفتاح والانكشاف واللطافة.

إن مبدأ من هذا النوع يقودنا إلى الاعتراف بالقدرة الداخلية في الكون، أو بالطاقة التي تعتمل فيه، أو بالحياة التي تتفتح فيه، أو بالروح التي تنطلق فيه من عقالها الأكثر ماديةً وكثافةً إلى حرية أكثر، معبِّرة عن حالة انعتاق داخلية لما هو أسمى وأجلّ. وهذا ما فعلتْه المادة في سيرها الطويل البطيء عِبْرَ أعماق العصور داخل تطور الكون. ولما كنَّا نعتقد أن "لا شيء يأتي من لا شيء"، فلا بدَّ لنا أن نقرَّ بأن الحرية التي نالتْها المتعضِّيات organisms والكائنات المتطورة عن ظاهراتها الأسبق والأدنى والمتحررة منها كانت كامنة ضمنًا، في الإمكان، في سابقاتها. لذا كان واجبًا على الكون – وهذا وجوب – أن ينعتق من حالته الراهنة – وهو الوجود. فالتطور وجوب ينتقل من خلاله الكون إلى وجود أفضل، ويعبِّر عن حالة راهنة جديدة، تتطلب وجودًا أفضل، هو وجوب، حتى يصل في نهاية المطاف إلى الإنسان: ظاهرة الوجود الأرضي الكبرى، والوجوب الأعظم، والتطور الغائي الأقصى لحركة تحرُّر الوعي من أغلفته وكثافته.

إن مَن يدرس شجرة الحياة التي تمثل مجرى تطور الحياة على سطح الأرض يحدس وجود قوة فاعلة تدرك ذاتها أكثر فأكثر في عملية شاقة، وتسعى إلى تحقيق مزيد من الوعي. وهكذا بدأت الكائنات الدنيا أو الأولية البسيطة تخلع عن ذاتها "عبودية" كانت تقيِّدها، فتلبس رداء جديدًا أو مظهرًا جديدًا. ولم تكن الحياة الممثَّلة في هذه الكائنات لتكتفي بحدٍّ معيَّن أو بظاهرة بعينها، بل كانت تسير إلى الأمام، وتصعد لتحقِّق مزيدًا من الحرية، أي مزيدًا من الوعي. وبهذه الطريقة، تتابعت الأنواعُ ضمن الجنس، وتعددت الأشكالُ ضمن الحقيقة الواحدة والحياة الواحدة؛ فانتهت أنواعٌ لتحلَّ محلَّها أنواعٌ أخرى، تشتمل على سابقاتها دون أن تكون هي ذاتها في أشكالها السابقة، وذلك من خلال تطور تجاوَز ذاته إلى نوع أكمل أو حلقة أخرى جديدة متصلة بما سبقها وبما يليها. فليس التطور "بقاء الأفضل" بمعنى الأقوى والأنسب، كما كان يقول داروِن، بل هو تجاوُز مستمر لعملية حياتية واحدة، تبدأ من الأدنى لتنتهي إلى الأعلى – إلى الإنسان. وليست هذه العملية الحياتية إلا انتقالاً في حلقات متتابعة ضمن قدرة نسمِّيها الحياة–الحرية–الوعي، يتخطَّى فيها الوجودُ المنغلقُ على ذاته – الوجودُ المتمثل في زمان ومكان معيَّنين بكائنات معيَّنة – إلى حالة أكثر فاعلية وسموًّا في عالم الحياة والوعي. لذا فقد عجز داروِن عن فهم عملية التحرر هذه (أو التجاوز أو التطور) عندما حاول إقامة علاقة بين انقراض نوع وظهور نوع آخر. والخطأ – كل الخطأ – يكمن في فكرة "الانقراض" هذه، لأن القدرة الخلاقة كانت دومًا هي ذاتها؛ وهي تسير إلى درجات أعلى من وجودها بفعل وجوب، إلى ما يجب أن تكون، بفعل حرية تكشف فيها عن حقيقتها أكثر فأكثر. فالتطور لم يكن "صراعًا"، كما سبق وذكر بعض العلماء والمفكرين، بل تكامُل لقدرة واحدة، تتعدد وتتفرع في ظاهرات عديدة، وتسير شيئًا فشيئًا إلى الأعلى في تسلسُل حياتيٍّ عظيم، معبِّرٍ عن كشف للوعي في كلِّ حلقة جديدة، حتى تصير إلى كيان مبدع خلاق، يتغلَّف على ذاته من جديد بعد أن يكون قد أعاد مادته إلى ذاته، وحَصَرَ الطاقةَ كلَّها و"عَقَلَها" في ذاته، في عقله. وليس هذا الكيان إلا الإنسان.

إن مثال البذرة والشجرة، كمثال عياني بسيط، يرينا حقيقة الوجود في صورته الناصعة: ليست الشجرة سوى بذرة تسعى إلى التحقيق، وليست البذرة سوى شجرة في الإمكان. فالشجرة – وقد مرت بمراحل تطورها: الجذع والأغصان والبراعم والأزهار والثمار – هي فكرة واحدة تمتد من الأدنى إلى الأعلى، لتحقِّق، في كلِّ درجة أو شوط أو نقطة من التفتح، مزيدًا من الحياة والحرية والكمال. إنها لا تحقِّق الحياة وهي جذع بسيط أو عندما تشكِّل غصنًا، بل تكون عندئذٍ سائرة في طريق تحقيق ذاتها وحسب؛ وهي تبلغ درجة النضج والوعي عندما تحقق الغاية التي من أجلها وُجِدَتْ – هذه الغاية التي كانت قائمة في البذرة في الإمكان؛ إذ لا شيء في الشجرة لم يكن كامنًا في البذرة من قبل. لقد فعلت البذرة لكي تتحرر من ذاتيتها المغلقة، لتنتشر في رحاب الحياة، ولتحقق وجودًا أسمى بفعل الطاقة المبدعة الكامنة فيها، فسارت في ركاب سلسلة من الانعتاق التدريجي، إلى أن بلغت نضجَها، أي كمالَ حياتها، لتعود فتنغلق كرَّة ثانية في البذرة، وهكذا دواليك.

التطور حركة ذاتية تلقائية داخلية في الوجود، تسير من خلاله روحُ الكون، أي الطاقة المنغلقة فيه التي تغلِّفها ذاتيةُ المادة، حتى تصل إلى تحقيق غاية الكون والهدف الذي يظهر فيه الوعي من خلال أغلفته، الروح من خلال المادة، والعقل من خلال كثافته (أي الدماغ)، والحركة من خلال السكون. فكأن الكون ينشد ذاته ضمن هذه العملية التطورية التي تتحرر فيها طاقتُه، ليشعر بوجوده ويعي حقيقته و"فكرته". ولقد أشار تِلار دُهْ شاردان إلى هذه الحقيقة عندما صرَّح بأن تطور الحياة مرَّ بمراحل كانت الحياةُ خلالها تكشف عن ذاتها بدرجات أعلى وأسمى بفعل الطاقة الحيوية المنطوية في المادة والفاعلة فيها. ونحن نوافق هذا المفكر العظيم الذي أشار إلى عظمة التحرر أو التطور الكوني في خطَّين متوازيين متداخلين: خطٍّ مادي وآخر طاقي–نفسي، يسيران جنبًا إلى جنب ويتقدمان معًا، يدًا بيد، ليصلا أخيرًا إلى إظهار الطاقة الكونية عندما بلغ الكونُ أشُدَّه وتحقَّق في الإنسان بظهور العقل الإنساني. فالعقل، أي ملكة الوعي والفكر، لم يوجد مصادفة، بل كان حصيلة تطور شاق، تغلَّف على ذاته في مادته[1]، وصعَّد تلك المادة في حركة داخلية، فسَمَتِ المادةُ بتعقيدها، أي باتجاهها نحو تحقيق ذاتها بالوعي، حتى وصلت إلى الإنسان. فالإنسان هو نتاج الحرية، أي التطور – الحرية التي وَعَتْ ذاتَها من خلال المسيرة التطورية. والتطور، أي الحرية، هو انفتاح وانعتاق وانبعاث دائم وتحوُّل إلى أشكال أسمى في سلَّم الارتقاء، يبتغي الوصول إلى الحقيقة التي سُنَّتْ على هيئة قانون في الطبيعة لتعرف ذاتها.

تشير صورة الحرية هذه إلى الفكرة المتضمنة في الكون التي تفعل فعلاً حقيقيًّا لتصل إلى إدراك ذاتها. ولكن، لمَّا كانت هذه الفكرة مغلَّفةً في غياهب الكثافة ومتخذةً صورةَ السلب وفاعلةً لتحرير ذاتها منه، فإننا نميل إلى القول بوجود إرادتين في الوجود الأرضي: سلبية وإيجابية.

الإرادة السلبية مقاومة تُبديها الكثافةُ المادية لتحول دون تطور المثال الكامن فيها أو لتقف عائقًا بينه وبين بلوغ الغاية؛ والإرادة الإيجابية مقاومة يُبديها المثالُ المنطوي على نحو صورة في المادة لينعتق ويتحرر. وكل عملية صعود إلى الغاية تسمَّى تطورًا، أي حرية. وكل تحرُّر من ربقة الإرادة السلبية هو صعود للوجود، أي انعتاق للمادة من ذاتها لتعي ذاتها. فالمادة تتطور وتتحرر من سلبيتها في كلِّ مرحلة تحقِّق فيها الإرادةُ الإيجابيةُ – ونسمِّيها الروح أو الطاقة أو الحياة أو المثال أو الصورة – ظاهرةً جديدة تسمو على تلك التي سبقتْها. في الوجود، إذن، إرادتان – سلبية وإيجابية – تتلاحمان وتتنافران، تتقاربان وتتباعدان، تتعارضان وتتكاملان، لتنصهرا في النهاية في إرادة إيجابية واحدة، وذلك عندما تتحرر طاقةُ الكون لتعود بالمادة، أو بالوجود، إلى ما كان عليه. ولا عجب أن تكون هذه العملية طويلة الأمد، لم تكتمل في الكون المادي وحده. لذا فإنها تتطلب ظهورَ الإنسان كعنصر فعَّال في تحريض المادة على الفعل والتحقيق على مستويات الوعي والحياة أكثر فأكثر.

هكذا ندرك أن الحرية وجود ووجوب: إنها وجود منغلق على ذاته، مغلَّف بظاهرة السلبية وملتف بها، يدأب دومًا على التحرر من ذاته ليعي ذاتَه؛ وهي وجوب، أي تعبير عما يجب أن يكون. فالحرية تشير إلى حقيقة هامة نلخِّصها كما يلي: هي الوجود كما يجب أن يكون. وكيف يكون الوجود كما يجب أن يكون؟ إنه يجب أن يتحرر من كثافته وتغلُّفه في سير حثيث نحو الروح، نحو الحقيقة السامية. إذن فالحرية فعل أخلاقي وعقلي وروحي.

تكلَّل وعيُ الوجود بظهور الإنسان، بظهور الوعي الإنساني. فالإنسان هو مثال حرية الوجود المادي. وهكذا يمثل مثال هذا الوجود الذي يتمخَّض عن "فكرته" الكامنة فيه التي تغلَّفت بأنماط الحياة وأشكالها التي سادت من الأدنى إلى الأعلى، وانطلقت من العبودية إلى الحرية، من الانغلاق واللاوعي والمادة إلى الانفتاح والوعي والروح، من الكثافة إلى اللطافة، ومن الظلام إلى النور. وكما أن الإنسان مثالُ الوجود وحريتُه، فإن الحقيقة السامية مثال الإنسان وحريته.

إن ظهور الإنسان يمثل فكرة الكون المشتمِلة على الوعي وانغلاقه، على الروح والمادة، على المقاومة السلبية والمقاومة الإيجابية، على الخير وانعدامه. لقد عاد الإنسان يكرِّر ما قام به الكون؛ لكن الفرق واضح بين العمليتين: ففي الإنسان يعيد الكونُ ذاتَه إلى نقطة انطلاقه، أي التغلُّف على ذاته في الخلية، لينطلق إلى الإنسان وينفتح عليه في وعي وحرية؛ وفي المادة ينفتح الكون على ذاته لينفض عنه قيود مادته دون وعي بما يفعل. لذا يكون صعود الكون إلى الإنسان عملية داخلية تتسم بتوجيه داخلي لطاقة مكنونة تفصح عن ذاتها لتعي ذاتها. ومتى وَعَتْ ذاتها تحقَّق الإنسان.

يعود الإنسان ليمثِّل مثالَ كمال المادة، أي الوجود المادي؛ لكنه لا يمثل كمال الروح والكيان والحقيقة والمطلق إلا في الإمكان. لذا فهو يجمع العالمَين في وجوده، المادي والروحي، في اتحاد عجيب يُعرَف بالكينونة أو بالكيان. ويعود المثال لكي يفصح عن ذاته مرة أخرى عن وعي وإدراك. فكلما تسامى المثال، أي كلما تحرر من عبوديته، أي من مقاومته السلبية المادية، استطاع أن يسجِّل نقطةً هامةً جديدةً في التطور والحرية.

إن انطلاق الإنسان من الخلية، في رحم الأم، دليل على تغلُّفه في "غيبوبة" يبدأ منها بالكشف عن ذاته في سلسلة من الوجودات والتطورات، يتحرر ضمن كلِّ واحد منها من انغلاق سابق وعبودية سابقة لينفتح إلى خليقة جديدة. وهكذا فإن حياة الإنسان مرحلةٌ تبدأ بالغيبوبة وتنتهي بالوعي: تبدأ بجهل الوعي القائم فيها وتنتهي بإدراكه، أو تستمر في الوعي إلى أن تحقق غاية المطلق، أي صورة المطلق فيها. وعلى هذا الأساس، يكون الإنسانُ هو الكائن الوحيد المسؤول لأنه يعي.

ولما كان الإنسان يحمل في كيانه العالمَين، الروحي والمادي، فإنه يعمل على رفع هذا الأخير إلى مرتبة المثال. ويتطلب هذا الفعلُ طاقةً خلاقةً تحرِّره من مقاومة سلبية تجذبه إلى الأسفل. وهكذا يكمن تطور الإنسان في العودة بالوجود الكوني إلى نقطة انطلاقه الأولى؛ فيترَوْحَن الوجود ويعود إلى سابق عهده، كما كان في البدء. إن العودة بالوجود كلِّه الممثَّل فيه إلى نقطة انطلاقه الأولى، الـΑ (ألفا) أو الألف، وتقدُّمه إلى نهاية تطوره، إلى انعتاقه الكامل وانفتاحه على الوعي، الـΩ (أوميغا) أو الياء، هو فعل حرية.

هكذا يحقق الإنسان ما كان قد انطلق منه: لقد انطلق من بداية هي ألف، أي Α، وسوف يحقق نهايةً هي ياء، أي Ω. وليست نقطة الانطلاق، الألف، إلا نقطة النهاية–القمة، الياء. وهكذا يحقق الوجود والإنسان نقطة البداية في نقطة النهاية؛ وتكون بداية النهاية ونهاية البداية. فالوجود دائري، تتصل فيه البدايةُ بالنهاية.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة من الموضوع فإننا نسأل أنفسنا السؤال المزدوج التالي: ما الحرية؟ وما العبودية؟

يطرح الموضوع ذاته علينا في صورة أولية هي: مقاومة سلبية ومقاومة إيجابية، أو إرادة سلبية وأخرى إيجابية: هنالك السلب وهنالك الإيجاب. ويتمثل الإيجاب في كلِّ القيم التي ترفع الإنسان إلى الأعلى: المحبة والتضحية والمعرفة؛ بينما يتمثل السلب في كلِّ ما يجذب الإنسان إلى الأسفل: الكراهية والأنانية والجهل. وبكلمة موجزة، يتمثل الإيجاب في الخير، ويتمثل السلب في انعدام الخير.

تتمثل المقاومة الإيجابية – وهي مظهر روحي للطاقة – التي تفعل في الإنسان لترفعه في الحرية؛ وتتمثل المقاومة السلبية التي تجذب الإنسان إلى الأسفل لتقيِّده بعالم المادة – وهي مظهر مادي للطاقة – في العبودية. فالعبودية هي كلُّ ما يتمثل في العوائق التي تسيطر على الإنسان لتُبقيه في عالم كثافته وسلب وعيه، فيكون منفيًّا في عالم غربته. وتتبدى هذه العبودية في المظاهر التالية: الأنانية، المتمثلة في كلِّ ما يجعلها تُواصِل بقاءها، مثل التملُّك والكراهية والجهل إلخ؛ والحرية هي كلُّ ما يتمثل في القيم التي يتبنَّاها الإنسان لترفعه إلى عالم وعيه وحقيقته، كالتجرد عن الملكية التي تعيق تقدُّم الروح في سيرها، وكالمحبة والتضحية والمعرفة والترفع الخلقي إلخ. وهكذا تعيق العبوديةُ كلَّ تقدم، أي كلَّ تحرُّر وانفتاح.

إن دراسة من هذا النوع ترينا أن الإنسان مازال عبدًا، مازال يجهل الحرية: فهو لم يتجرد من قيوده المادية التي تشده إلى الأنانية، أي مقاومة المادة السلبية. إنه مازال يكره، يحارب، يشتهي، يتملك، يتسلط، ويتعثر في الكثافة المادية وظلماتها، في متاهاتها وسلبياتها. وهكذا يكون كلُّ خضوع للكثافة المادية لاوعيًا – وكل لاوعي عبودية؛ ويكون كلُّ فكاك من إسار الكثافة المادية معرفة ووعيًا – وكل معرفة أو وعي حرية.

لماذا نفكر في الغد؟ لأننا لا نفكر إلا في عبوديتنا. إننا نحصر تفكيرنا في مأكلنا وملبسنا ومالنا. ولما كان تفكيرُنا يدور حول أمور من هذا النوع فقط، فإن إنسانيتنا تظل رهينة عبودية قاتلة تعرف الحرف وتتنكر للروح. ولما كنَّا لا نفكر في الحياة إلا من خلال معيشتنا وشهواتنا، بأشكالها كلِّها، فإننا مازلنا عبيدًا لذواتنا الأنانية. وهكذا لا تتحقق الحرية أو الوعي، وبالتالي، لا تتقدم الإنسانية، ولا نفعل نحن في حقل تقدُّمها الذي هو حرية، ولا يقوم الإنسان بالدور المنوط به. وليس هذا الدور إلا رفع الوجود من عبوديته إلى حريته، من سلبيته إلى إيجابيته. وهكذا يسيطر الشر والألم السلبي والفاقة، وتسود البشريةَ أنواعُ المظالم والمآسي كافة. ويحقِّق الإنسان، في عبوديته هذه، مملكة الشر.

في كلِّ عمل نعمله في مضمار الخير والوعي، ثمة حريةٌ وانتصار وانعتاق من العبودية. فلِمَ لا نعمل؟ ولِمَ نحن عبيد؟ ولِمَ لا يحقق الإنسان الطاقةَ الخلاَّقة الكامنة فيه؟ – وهي صورة المطلق اللامحدود. ألا نعلم أن تحقيق هذه الطاقة أو الصورة مثال رائع للحرية؟

الحرية في الإنسان تُناظِر الحتمية في المادة: فإذا كانت المادة، بفعل طاقتها الداخلية، أي الحياة المنبثة فيها، قد فعلت لتحقيق "الفكرة" الكامنة فيها التي تجلَّتْ في الإنسان، فإنه جدير بالإنسان أن يسير بالمادة، مرة أخرى، حاملاً مشعلها لينير طريق الوجود، ويحقق النور في فعل حريةٍ ووعي.

الإنسان، إذن، يحمل في كيانه الحتمية والحرية: الحتمية القائمة في مادته، والحرية القائمة في سيره الحثيث على طريق الوعي والروح. لذا تتدرَّج طاقةُ الإنسان في مراحل ثلاث، متشابكة كلَّ التشابك في وحدة لا تنفصم:

1.     مرحلة أولى هي الحتمية: وفيها يخضع الإنسان لقوانين وُضِعَتْ لمادته، هي قوانين طبيعية وسرمدية في آنٍ واحد.

2.     مرحلة ثانية هي العقلانية: وفيها يحاول الإنسان أن يعقل وجوده، أي مادته، ليتعرف إليها ويتحرَّر من حتمية الطبيعة، فيكتمل في سرمدية الروح.

3.     مرحلة ثالثة هي الروحانية: وفيها يتم وجوبُ الإنسان ويكتمل بفعل ماهية الحرية والوعي.

نفصِّل ما سبق كما يلي:

1.     في المرحلة الأولى، يوجد الإنسان الذي لا يعرف غايةَ حياته، فيكون عبدًا لمادته و"أناه". وعندئذٍ يعيش الإنسان في تلقائية خالية من الوعي، تدفع به الدوافعُ الحيوية دون ارتباط بعالم العقل الفوقي، فتكون أعمالُه مجرد انعكاسات لاواعية. وتتمثل هذه المرحلة في الإنسان الحيواني.

2.     في المرحلة الثانية، يوجد الإنسان العاقل، الذي يدرك، من خلال دراسته للكون والطبيعة والوجود، مغزى لمعنى حياته، فيفعل في مجال عقليٍّ يتوِّجه الفكرُ ويدفع به إلى مزيد من المعرفة والوعي. وتتمثل هذه المرحلة في الإنسان العاقل، العالِم، وتتصف بالسعي الحثيث إلى الحرية والوعي للتماثل مع الطبيعة ثم تجاوُزها.

3.     وفي المرحلة الثالثة، يوجد الإنسان الحر، الإلهي، الذي يتحرَّر من "أناه" كليًّا ويحقق كونيَّته.

هكذا تشير الحياة إلى تطوُّر متصاعد بفعل ماهية الحرية. ويتمثَّل هذا التطور في تجاوُز الظلمة من خلال النور، وتجاوُز الشر من خلال الخير، وتجاوُز السلب من خلال الإيجاب. وليس هذا التطور إلا انعتاقًا من العبودية وتحقيقًا للحرية.

ولما كانت الحرية غايةً في حدِّ ذاتها، فإن الإنسان يعمل على تحقيقها في النطاق الاجتماعي. ونحن، عندما ندرس تاريخ الإنسان، نجد أن الحرية كانت تمثِّل الفكرةَ المحورية في الوجود الاجتماعي: فقد كان الإنسان – ومازال – يعمل جاهدًا ليتخلص من العبودية والثقل الطبقي، ويناضل لكي يتحرر من ظلم الحكام ومن نير الطغيان والاستبداد. ويدل هذا السعي إلى التحرر على تشوق أكيد لدى الإنسان إلى الحرية.

لمَّا كان الإنسانُ يكره العبودية الاجتماعية بأشكالها كلِّها، الاقتصادية والسياسية، فإنه ثار على الأنظمة التي كبَّلتْه – ومازالت تكبِّله – وتمرَّد على القوانين الجائرة وعلى الأوضاع الاجتماعية الفاسدة. ومازال تاريخُ الإنسان يشير إلى حقيقة واحدة: ثورة الإنسان على كلِّ ما يعيقه عن التقدم، كالمرض والجوع والفاقة والحرمان والظلم والجهل والكراهية والحرب – وهذه كلها عوائق أقامها الإنسان الأناني، ونختصرها بكلمة "العبودية".

لكننا، مع هذا، نتساءل عن سبب فشل الإنسان في توطيد حريته في الحقل الاجتماعي. لقد ارتبط فشل الإنسان في توطيد حريته الاجتماعية بعوامل عديدة، نذكر أهمَّها:

1.     لم تكن الحرية نابعة من صُلب تفكيره.

2.     لم يحقق الحرية في جوهرها، بل حقَّق أعراضَها وحسب.

3.     لم ينطلق مفهومه للحرية من وعيه، بل من وضعه الاجتماعي.

4.     لم يعبِّر مفهومُه للحرية عن معنى وجوده ومغزاه.

5.     لم يقم الإنسان ذاته بدور الحر، بل ترك المجال مفتوحًا للحكام أو للَّذين قاموا بدورهم عنه، فظلت الحرية بعيدة عن مرادها.

إن الإنسان، في الحالة الاجتماعية، أراد أن يفهم الحرية من خلال أشكالها الاجتماعية المتبدلة. لذلك لم يتحرر كليًّا، وظل عبدًا لأمور عديدة في حقله الاجتماعي هذا. ويعود هذا كله إلى أن حريته لم تنبع منه، من روحه، بل من القوانين الآنية أو الطارئة التي تعبِّر عن جانب ضيق من جوانب الوجود الإنساني الاجتماعي.

نرى، إذن، أن الوجود يتَّجه نحو الحرية، وأن الإنسان لا يحقق إنسانيته إلا بها. إن الطاقة الكامنة في الإنسان و"الفكرة" القائمة فيه تحثُّه على السير في درب الحقيقة – إذ لا حقيقة من دون حرية: فالمعرفة تحرِّر من الجهل، والخير يحرِّر من الشر، والنور يحرِّر من الظلام، والحرية تعتق من العبودية.

كل ما في الكون ينشد الحرية: المادة، من خلال طاقتها الباطنية الفاعلة التي تعمل بوعي معيَّن؛ والإنسان، من خلال روحه الفاعلة الكامنة التي تعمل بوعي صحيح من خلال ظواهر الوجود المادية. فالحرية ثورة داخلية تفعل في الوجود وفي الإنسان؛ وهي انعتاق من غلاف يغلِّفنا ويحدُّنا بحجاب أو برقع يحجب عنا رؤية الحقيقة. وبواسطة هذه الحرية نصل إلى الحقيقة كما يجب أن تكون. فالحقيقة موجودة – هي وجود؛ وتحتاج إلى وجوب – إلى ما يجب أن تكون. وبفعل ماهية الحرية ننتقل إلى الوعي، إلى الحقيقة التي هي حرية في المطلق – وهي الغاية التي من أجلها وُجِدْنا.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] الوعي أو الفكر موجود أصلاً في الخصائص العقلية المتمثلة في الدقائق الأولية العائدة إلى مرحلة ما قبل تشكُّل العالم العضوي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود