|
ليس من الضَّروري فَهْمُ ذلك!
[كلمة] لا هي التي تحترق في جهنم. المعلِّم إيكهرت لا ريب في أن للمعلِّم إيكهرت (حوالى 1260 – حوالى 1327) منزلة على حدة في تاريخ التصوف العالمي. فالمسائل التي طرحها الحكيم الريناني المتألِّه والتأويلات التي أتاحها هي عينها القضايا الكبرى التي شغلت التصوف، النظري والعملي، حول شَخْصَنَة الإله وطبيعة علاقته بالعالم وبالنفس الإنسانية. صحيح أنه تأثر لاهوتيًّا بتوما الأكويني، وصحيح كذلك أن إلهياته استمرار لنهج روحيٍّ أفلاطوني يمر من ألبرتوس الكبير (المذكور في الموعظة أدناه) وتييري الفرايبرغي، لكنه نسيج وحده من حيث دفعُه إلهياته حتى تخومها القصوى – تخوم العدم الصوفي التام الذي يشكل "مادة" الإله نفسها – ومن حيث ترجمتُه إلى لغة العوام خبرةً أراد لها أن تلبي حاجاتِ مستمعين متعطشين إلى الروحانية، كما يظهر من مواعظه بالألمانية، حيث جرأة العباراتِ الظاهرةِ التناقضِ تؤلِّف تأليفًا خلاقًا بين الخبرة الداخلية والفلسفة العالِمة – تأليفًا جلب عليه، في الوقت نفسه، تكفير الفقهاء واتهامهم له بالزندقة. راهب واعظ أمام محكمة التفتيش انضم إيكهرت، المولود في هوخهايم (تورنغه) في أسرة من صغار الأشراف، إلى رهبنة "الإخوة الواعظين" (الدومنكان) في إرفورت، ثم ذهب مبعوثًا إلى كولن لمتابعة تحصيله. وقد جرى تأهيلُه اللاهوتي في جوٍّ مشبع بالروح الأفلاطونية السارية في نهج ألبرتوس الكبير (الذي ربما تتلمذ عليه). وحوالى العام 1293، عُيِّن محاضرًا في دير القديس يعقوب في باريس، ثم قبل حلول العام 1298، رئيسًا لدير إرفورت ونائبًا رعويًّا عن مقاطعة تورنغه. وفي العام 1300 عاد إلى التدريس في باريس، حيث شرع يُساجِل ضد أفكار الفرنسسكاني دَنْس سكوتُس. أغلب الظن أنه طُرِدَ من فرنسا في تموز من العام 1303. وبعد تعيينه في بداية العام 1304 نائبًا رعويًّا عن إقليم ساكس الجديد، حضر بصفته هذه في العام 1307 مجلس ستراسبورغ الكنسي، حيث كُلِّف، إلى ذلك، النيابةَ الرعوية العامة عن مقاطعة بوهيميا. وعندما قرر مجلس بليزانس (1311) تجديد الدراسات في الرهبنة الدومنكانية، أُرسِل إيكهرت مرة ثالثة إلى السوربون، حيث كرَّس نفسه غالبًا للشروح على الكتب المقدسة. وفي العام 1314، نجده مرة أخرى في ستراسبورغ، حيث تولَّى إدارة المدرسة studium الدومنكانية وانهمك في عمل رعوي، وعظي وإرشادي، في عدة أديرة للراهبات الدومنكانيات. وفي العام 1324، عادة إلى كولن، حيث ترأس المدرسة العامة وواصل تعليمه بين الراهبات، من دومنكانيات وغيرهن.
بُعيد ذلك اصطدم بهاينريش الفرنبورغي، رئيس أساقفة كولن، الذي كان يضمر العداء للدومنكان، مفضلاً عليهم الفرنسسكان صراحةً. ومنذ نهاية العام 1324، حامت شكوكٌ حول سُنِّية آراء إيكهرت، مما اضطره إلى تدبيج دفاع أول عن مذهبه. لكن الزائر الحَبري نكولاوس الستراسبورغي، الدومنكاني واللاهوتي الذائع الصيت، دافع عنه بقوة. عندئذٍ عهد رئيس أساقفة كولن بالقضية إلى قاضيين من ديوان التفتيش يبدو أنهما كانا قليلي الإنصاف، أحدهما دومنكاني والآخر كاهن في الكاثدرائية. وإبان صيف العام 1326، وضع هذان قائمة أولى من 49 عبارة "مريبة" لاهوتيًّا مقتطَفَة من مصنفات إيكهرت ومواعظه. وقد أجاب عنها إيكهرت في 26 أيلول، طاعنًا في أهلية قاضيي كولن، رافضًا عددًا من العبارات الواردة في القائمة باعتبارها ملفقة، وشارحًا عبارات أخرى شرحًا سُنيًّا. بُعيد ذلك وجَّه إليه قاضيا التفتيش قائمة جديدة من 52 عبارة، مشابهة جزئيًّا للعبارات السابقة، أجاب عنها الجواب نفسه. وفي الـ24 من كانون الثاني، رفع إيكهرت استئنافًا إلى الكرسي الرسولي وأعلن في 13 شباط احتجاجًا عامًّا ورسميًّا بسُنيَّته. ومع أن محكمة كولن رفضت استئناف إيكهرت في 22 شباط، فقد أحيلت القضية إلى أفينيون، حيث كان البابا يوحنا الثاني عشر مقيمًا آنذاك؛ فذهب إيكهرت إلى هناك للدفاع عن نفسه. ويبدو أنه توفي فيها. وبعد مناقشات طويلة، يبدو فيها أن القضاة اشتغلوا على قوائم العبارات المرسَلة من كولن، وليس على مؤلَّفاته، حُكِمَ على إيكهرت بعد وفاته بمقتضى مرسوم In argo dominico الصادر في 27 آذار 1329، الذي حرَّم نشر 28 من العبارات المنسوبة إليه، وفيه جاء: "لقد أراد أن يعلَم أكثر مما يجوز." وهذا المرسوم، المُرسَل إلى رئيس أساقفة كولن، لم يُنشَر رسميًّا إلا ضمن نطاق صلاحية أبرشيته الكنسية. مؤلَّفات إيكهرت تتوزع المصنفات التي خلفها إيكهرت إلى مجموعتين متميزتين: المؤلَّفات اللاتينية والمؤلَّفات الألمانية. أما الكتابات اللاتينية، المخصصة للاهوتيين المحترفين، فهي ذات طابع نظري واصطلاحي، وذات شكل فقهي توماوي ملحوظ؛ لكنها تمتاز بأنها بقلم إيكهرت مباشرة وتقدم قاعدة مأمونة دقيقة لتأويل فكره. أهمها: رسالة في الصلاة الربانية، شرحان على سِفْر الأحكام (يشك بعضهم في صحة نسبة الشرح الثاني إلى إيكهرت)، مسائل باريسية (هي ذكريات عن خلافات مدرسية)، شروح على الكتاب المقدس (أسفار التكوين والخروج والحكمة والجامعة والإنجيل بحسب يوحنا) تتسم بتأويل مغرق في الرمزية والمجاز والميتافيزياء، 58 موعظة، وبضعة مقاطع أخرى. وأما المؤلَّفات الألمانية، التي كُتِبَتْ باللغة الألمانية الوسطى العليا المتأخرة Spätmittelhochdeutsch، فلا تضم إلا ثلاث رسائل كتبها إيكهرت مباشرة: حوارات حول التمييز الروحي، التي ألقاها في إرفورت قبل العام 1298؛ كتاب بندكتوس Liber Benedictus، المسمَّى هكذا بحسب الكلمة الأولى للنص، الذي كُتِبَ من أجل ملكة هنغاريا أغنِس بعد العام 1308، وهو يضم رسالة في العزاء الإلهي وفي شرف الإنسان؛ وأخيرًا رسالة موجزة في الزهد، لم يُعرَف تاريخُ كتابتها، ولم تتأكد صحةُ نسبتها إلا في القرن العشرين. أما ما تبقى من المؤلَّفات الألمانية فلا تعدو كونها ملحوظات (ينوف عددها على الستين) دوَّنها مستمعون في أثناء إلقاء المواعظ؛ وبالطبع، لا تجوز الثقة التامة في أصالة نسبتها. اللاهوتي الصوفي مؤلَّفات إيكهرت عسيرة على الفهم. فالكتابات اللاتينية تتسم بخاصية ميتافيزيائية، وأسلوبها الفقهي التوماوي عويص للغاية. ومع ذلك، فإن فكر إيكهرت ليس نظريًّا بحتًا: إنه مسكون بالهواجس الروحية ويحاول أن يطاوِل أسُس الخبرة الصوفية نفسها ويشملها. فكما قال الباحث راينر شورمن: "إذا كانت المؤلَّفات اللاتينية تمهِّد الطريق فإن المؤلَّفات الألمانية تدعونا إلى السفر." وبهذا الخصوص فإن إيكهرت يعاني من لغة عصره الفنية المغرقة في الاصطلاح. أما الكتابات الألمانية فهي تستعمل لغةً ما تزال في طور التشكل، لغة عملية جدًّا وغير مؤهلة بعدُ بما يكفي للتعبير عن الحقائق الروحية. قلما يستعمل إيكهرت لترجمة معطيات الخبرة الصوفية الرمزَ المألوف عند أقرانه، بل يستحسن اللجوء إلى عبارات شديدة التناقض ظاهريًّا؛ وهذه العبارات، إذ تعزل أحد مظاهر الحقيقة وتُبرِزه، تصير شديدة الخطورة والتضليل إذا أُخِذَتْ على محمل الحرف، ولم تُفهَم في سياقها الطبيعي، وفي ضوء الخبرة الداخلية، كما جرى حصرًا لمحرِّري مرسومُ الإدانة. من الألوهة إلى الله مذهب إيكهرت عبارة عن تأملات في الوجود، الذي، مأخوذًا في مطلقيَّته، يتماهى مع الله. ويميز إيكهرت تمييزًا دقيقًا بين الألوهة Gottheit وبين الله Gott. فالألوهة هي الذات الإلهية المطلقة، واجبة الوجود بذاتها، المتعالية على الأسماء والصفات والعلاقات، والتي لا نستطيع أن نقول فيها شيئًا غير أنها أحدية مطلقة؛ وبالتالي لا يجوز لنا أن نتكلم عليها إلا بلغة لاهوتية سلبية، بحيث إن مصطلحات، من نحو "الوجود" و"الخير"، كما نستعملها في اللغة البشرية، لا تصح عليها. أما الله، على العكس، فهو الألوهة بوصفها داخلة في علاقة. فهي تقيم أولاً علاقة أولى داخلية وضرورية مع ذاتها، تفضي إلى انبثاق الأقانيم الإلهية للثالوث؛ والأقانيم تفيض فيضًا مستمرًّا من الذات الإلهية وترجع إليها. كذلك فإن الألوهة تصير الله عبر علاقة ثانية، خارجية، هي علاقة الخلق. وبحسب عبارة إيكهرت (التي يتقاطع فيها مع مذهب الشيخ الأكبر ابن عربي)، ليس الله إلهًا إلا بوجود المخلوقات؛ فلو لم تكن لما كان.[1] الخلق: سمة إلهية وعدم الوجود يرتبط التصور الإيكهرتي للخلق بثيمة أفلاطونية هي ثيمة النموذج البدئي archetype ("العين الثابتة"، بحسب ابن عربي). فالله يعلم منذ الأزل، في كلمته، "أعيان" الخلق كافة. والخلق هو الفعل الإلهي الذي يمر عبره بعضُ هذه الكائنات من عالم الأعيان المثالي إلى عالم الظواهر. كل مخلوق فهو كائن مزدوج: موجود بالقوة في الله، وموجود بالفعل في العالم. وهكذا فإن كلَّ مخلوق، من حيث ارتباطُه بنموذجه أو عينه الثابتة في العلم الإلهي الكلِّي، يحمل نوعًا من "السمة" الإلهية التي هي شرفه الأصلي. ولكن من منظور آخر، فإن الفارق الجذري بين الكائن غير المخلوق وبين الكائن المخلوق هو من السعة بحيث إن هذا الأخير، قياسًا إلى الله، يمكن أن يوصف بالعدم. وهنا يقترب إيكهرت من الفيدنتا الهندوسي الذي ينكر على "المخلوق" أيَّ وجود مستقل عن برهمن ويصفه بـ"الوهم" māyā. أعماق النفس تسمح ثيمة النموذج البدئي لإيكهرت برفع شرف الإنسان على أساس مكين. فهو، ككلِّ الصوفية، ينظر إلى النفس الإنسانية كواقع مركَّب، فيه أقاليم ومناطق. وفي سرِّها الأعمق تُستودَع عينُها الأزلية (آتمن ātman الفيدنتا) التي تربطها إلى الذات الإلهية. وإيكهرت مرارًا ما يشير إلى هذه النقطة المركزية للنفس بمصطلحات من نحو "الكُنْه" أو "النور" أو "الشرارة". وهو يشدد على أن هذا السر متوجِّه بكلِّيته إلى الله، ويسميه أحيانًا "العقل". وعن "كُنْه" النفس هذا يقول إيكهرت في إصرار شديد إنه "غير مخلوق وغير قابل للخلق"! وهكذا فإن النفس، متحدةً بالله عبر مركزها، تشارك مشاركة فاعلة ومنفعلة في حياة الثالوث الإلهي. ففيها يولد الكلمة ولادةً متجددة من الآب، في الوقت الذي تولد هي مع الكلمة من الآب. وهذه النظرات واحدة من قمم التصوف الإيكهرتي، لكنها أيضًا من أصعب جوانبه. نفي المتعدِّد يرى إيكهرت أن السلوك الصوفي محكوم هو الآخر بثيمة النموذج البدئي، كما وبرؤية دورية، أفلاطونية هي الأخرى. فالنفس تصدر أصلاً عن الوحدة الإلهية، لكن الخلق يضعها في القلب من عالم الكثرة، وعليها أن تستخلص نفسها منه من أجل أن ترجع إلى الوحدة. وهذا يقتضي حالاً جذرية من "الفقر"، تستغني فيه النفسُ عن الخلق كلِّه: عليها أن تزهد في كلِّ إرادة خاصة تفصلها عن الله؛ وعليها أن تتخطَّى العناصر المخلوقة كلَّها، بما فيها طبيعة المسيح البشرية بوصفها مخلوقة؛ وعليها أن تتخطَّى الصور، لا بل أدق الآثار التصورية التي يمكن أن ترسب فيها. ويجب عليها أن تبلغ إلى حالة من الزهد المطلق، بحيث لا يبقى فيها أثرٌ لرغبة، حتى في الخير. وهكذا تفنى النفس، فتنكفئ على ذاتها في حركة يطلق عليها إيكهرت اسم "الانطواء". وهي، إذ تتعالى على الكون المخلوق عبر "اختراق" حقيقي، تبلغ عينها (أو نموذجها البدئي) في مركزها، وتلتحق فيه بأحدية الذات الإلهية، محققة نوعًا من عدم التمايز عن الله، نوعًا من "التألُّه". وبهذا يتوصل إيكهرت إلى نظرية أفلاطونية أصيلة، متماسكة، في الاتحاد الصوفي. ما بعد إيكهرت لم يكن لمرسوم التكفير في حقِّ إيكهرت غير مدى محدود، فلم يحُلْ دون انتشار مؤلَّفاته؛ وجميع مريدي المعلِّم اعتبروه إدانة في حقِّ مذهب سُنِّي لم يُفهَم حقَّ فهمه. وهذا الانتشار يؤكده العدد الذي لا يستهان به من المخطوطات، ولاسيما للمؤلَّفات الألمانية (أكثر من 200 مخطوطة للمواعظ). وقد دافع عن مذهبه ودققه ونَشَرَه خليفتاه، الصوفيان الدومنكيان الكبيران يوهان تويلر (حوالى 1300-1361) وهاينريش سوسو (حوالى 1295-1366). وقد واصل الفلمنكي يان فان رويسبروك (1293-1381) العمل على الثيمات الأساسية للمذهب الإيكهرتي في تأليف شخصي أصيل. يبقى أن نقول إن علامة كبيرًا في بوذية زِنْ، جمع العلم إلى الخبرة، هو د.ت. سوزوكي، وضع كتابًا بيَّن فيه نقاط التقاطُع بين البوذية ومذهب إيكهرت الصوفي. واللاهوتي الإنجيلي رودولف أوتو (مؤلِّف الكتاب المرجعي الحرام) خصَّص جانبًا كبيرًا من كتابه تصوف الشرق وتصوف الغرب للتمعن في نقاط الافتراق والوحدة بين مذهب شنكرا الأدفيتي وإلهيات إيكهرت. وكذلك فعل اللاهوتي الروسي المرموق فلاديمِر لوسكي حين بيَّن أن نظرية المعرفة عند إيكهرت تتقاطع مع اللاهوت "السلبي" (كما نجده عند ذيونيسوس الأريوباغي وغيره) الذي يُعَد من المصادر الأساسية للتصوف المسيحي المشرقي. وإن مقاربة مماثلة، تبيِّن التطابق بين مذهب إيكهرت و"وحدة الوجود" الأكبرية، وبينه وبين التصوف الإسلامي إجمالاً (ولاسيما نظرية الجنيد والحلاج في "وحدة الشهود")، لا بدَّ أن تكون مصدر إغناء كبير للخبرات الروحية المعاصرة. إعداد: ديمتري أفييرينوس ***
مراجع - Ancelet-Hustache, Jeanne, Maître Eckhart et la mystique rhénane, Paris, 1956. - Lossky, Vladimir, Théologie négative et connaissance de Dieu chez Maître Eckhart, Paris, 1960. - Œuvres de Maître Eckhart – sermons-traités, traduits de l’allemand par Paul Petit, préface de Jean-Pierre Lombard, Paris, 1988. - Otto, Rudolf, Mystique d’Orient et mystique d’Occident – distinction et unité, Paris, 1951. - Suzuki, D.T., Mysticism: Christian and Buddhist, New York, 1957.
نص موعظة في الفقر بالروح
طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات. إنجيل متى 5: 3
من فم حكمتها أعلنت الغبطة: "طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات." والملائكة والقديسون وكل ما لم يولد قط يجب أن يصمتوا جميعًا حيت تتكلَّم حكمة الآب الأزلية؛ إذ إن حكمة الملائكة والخلائق كلِّها ليست إلا محض عدم أمام حكمة الله التي لا يُسبَر لها غور. وهذه الحكمة قالت: "طوبى للفقراء." بيد أن هناك نوعين من الفقر: الفقر الخارجي، الحسن والمحمود جدًّا حين يعتنقه المرء طوعًا، حبًّا بسيدنا يسوع المسيح، مثلما تمرَّس فيه هو على الأرض. وعن هذا الفقر لن أسترسل في الكلام. ولكن بحسب كلام سيدنا، هناك فقر آخر، فقر داخلي، وإليه يجب إرجاعُ قول سيِّدنا: "طوبى للفقراء بالروح." ناشدتكم أن تكونوا مثل هؤلاء "الفقراء"، وبوصفكم كذلك، أن تفهموا هذا الخطاب؛ لأنكم – وأقول لكم هذا باسم الحقيقة الأزلية – إذا لم تتشبَّهوا بهذه الحقيقة لن تستطيعوا أن تفهموني. وقد سألني آخرون عن الفقر الحقيقي وعما ينبغي أن يُفهَم من مصطلح "فقير"، ولسوف أجيبهم الآن. قال الأسقف ألبرتوس: "الفقير هو مَن لا يقدر أن يكتفي بكلِّ الأشياء التي خلقها الله طرا" – وهذا قول حسن. لكننا سنذهب إلى أبعد منه، ونضع الفقر على مرتبة أرفع بكثير: الفقير هو مَن لا يريد شيئًا، ولا يعرف شيئًا، ولا يملك شيئًا. وسوف أكلِّمكم على هذه النقاط الثلاث، وأناشدكم، حبًّا بالله، أن تحاولوا أن تفهموا هذه الحقيقة إذا أمكن لكم ذلك. أما إذا لم تفهموها فلا تضطربوا، لأني سأتكلَّم على وجه من وجوه الحقيقة قلَّ مَن يستطيع أن يدرك كنهه، حتى بين أعمق الناس فهمًا. سنقول، أولاً، إن الفقير هو مَن لا يريد شيئًا. والكثير من القوم لا يفهمون هذا المعنى حقَّ فهمه. إنهم الذين يتعاطون الكفَّارات والرياضات الخارجية، التي يعدُّونها من حُسْنِ البلاء، في حين أنهم لا يفعلون غير تمجيد أنفسهم. إذا حُسِبَ أمثالُ هؤلاء كبارًا فليرأف الله لحالهم! فما أضأل معرفتهم بالحقيقة الإلهية! يُحسَبون قديسين بحسب صورتهم الخارجية، لكنهم في الداخل حمير لا يفقهون المعنى العميق للحقيقة الإلهية. هؤلاء القوم يقولون أيضًا بأن الفقير هو مَن لا يريد شيئًا؛ وعلى المرء، بحسب تأويلهم لهذه العبارة، أن يعيش حريصًا، في كلِّ حال، ألا يذعن لمشيئته الخاصة، بل ينحو إلى العمل بمشيئة الله المقدسة. هؤلاء قوم لا خبث فيهم، وهم ذوو نية طيبة، ونحن لا نتردد في الثناء عليهم! فالله، في واسع رحمته، لا بدَّ أن يهبهم ملكوت السماوات. لكني من جانبي أقول، على لسان الحقيقة الإلهية، إن هؤلاء القوم ليسوا فقراء حقيقيين، ولا حتى أشباه هؤلاء. يُحسَبون كبارًا في أعين مَن لا يعرفون خيرًا من ذلك؛ غير أنهم حمير لا يفهمون شيئًا من الحقيقة الإلهية. نواياهم الحسنة قد تجعلهم يفوزون بملكوت السماوات؛ لكنهم عن هذا الفقر الذي نزمع أن نتكلَّم عليه الآن لا يفقهون شيئًا. لو سُئِلتُ عمَّا ينبغي أن يُفهَم من عبارة "فقير لا يريد شيئًا"، لأجبت: مادام للمرء شيء تتوجَّه إليه إرادتُه – حتى إذا كانت إرادته هي العمل بمشيئة الله الحبيبة – فإنه ليس على الفقر الذي نود أن نتكلَّم عليه. فهذا المرء مازالت له إرادةٌ يريد بها العمل بمشيئة الله – وهذا ليس بعدُ ما ينبغي. فعلى المرء، لكي يكون فقيرًا حقًّا، أن يكون من الخلوِّ من مشيئته المخلوقة خلوَّه منها حين لم يكن بعدُ.[2] أقول ذلك على لسان الحقيقة الأزلية: مادامت فيكم إرادةُ العمل بمشيئة الله، وأدنى رغبة – حتى في الأبدية، حتى في الله – فأنتم لستم فقراء حقًّا! إذ وحده فقير حقًّا مَن لا يريد شيئًا، ولا يعرف شيئًا، ولا يرغب في شيء. حين كنت في علَّتي الأولى لم يكن لي إله، وكنت علَّة نفسي! حينذاك لم أكن أريد شيئًا، ولم أكن أرغب في شيء، لأني كنت كائنًا حرًّا غير متعيِّن، وكنت أعرف ذاتي بحسب الحقيقة الإلهية التي كنت مغتبطًا بها. هناك، كنت أريد ذاتي، ولم أكن أريد شيئًا سواها، لأن ما كنت أريده كنتُه، وما كنتُه كنت أريده. كنت خلوًا من الله ومن كلِّ شيء. لكني حين خرجت من هذه الإرادة الحرة التي كانت لي واتخذتُ طبيعتي المخلوقة، إذ ذاك اتخذت لنفسي إلهًا؛ لأنه قبل أن تكون الخلائق لم يكن الله إلهًا: كان ما كان! ولكن حين وُجِدَت الخلائقُ واتخذتْ طبيعتَها المخلوقة، لم يعد الله إلهًا في ذاته، بل إلهٌ في الخلائق. ونحن نقول إن الله، بوصفه هذا الإله، ليس الغاية الأسمى للخليقة، لأن المخلوقات، بمقدار ما هي في الله، فإن لأتفهها ملءَ غنى طبيعة الله عينه. فلو اتفق لذبابة أن تتحلَّى بالعقل وأمكنها، بواسطته، أن تحيط بالغور الأزلي للذات الإلهية التي صَدَرَتْ عنها، لقلنا إن الله، بحسب كلِّ ما هو بوصفه إلهًا، ليس في وسعه أن يُرضي هذه الذبابة! لهذا فلنصلِّ لكي نكون أحرارًا من الله، فتستولي علينا هذه الحقيقة، وننعم بها أبدًا هناك، حيث الملائكة الأعلون والذبابة والنفوس جميعًا واحد؛ هناك، حيث كنت واقفًا، حيث كنت أريد ما كنت، وكنت ما أريد. نقول، إذن، إن على الإنسان أن يكون من فقر الإرادة كما كان حين لم يكن. وبهذا فإن هذا المرء، وقد تحرر من كلِّ مشيئة، يكون فقيرًا حقًّا. فقير، ثانيًا، هو مَن لا يعرف شيئًا. مرارًا ما قلنا إن على الإنسان أن يحيا كما لو لم يكن يحيا لذاته، ولا للحقيقة، ولا لله. والآن سنمضي إلى أبعد من ذلك لنقول إن على الإنسان الذي يؤول إلى هذا الفقر أن يصح فيه ما كان يصح فيه حين لم يكن يحيا لذاته، ولا للحقيقة، ولا لله. لا بل أكثر من ذلك: عليه أن يكون من الحرية والخلوِّ بحيث لا يمكن لأيِّ تصور عن الله أن يظل حيًّا فيه. إذ حين كان الإنسان واقفًا في كينونة الله الأزلية لم يكن شيء سواه يحيا فيه غير ذاته.[3] ولهذا نقول إن على الإنسان أن يكون خليًّا من كلِّ علم خاص به كما كان حين لم يكن، وأن يترك لله أن يفعل بحسب مشيئته، مع بقائه خليًّا من كلِّ تعيُّن. كل ما يصدر عن الله غايته فعل محض. أما الفعل الخاص بالإنسان فهو أن يحب وأن يعرف. والسؤال المطروح هو عن ماهية الغبطة أصلاً. بعض المعلِّمين يقول إنها تقوم على المعرفة؛ وسواه يقول إنها تقوم على المحبة؛ وآخرون سواهما يقولون إنها تقوم على المعرفة والمحبة معًا – وخطاب هذا الفريق الثالث هو الأفضل. أما نحن، فنقول إنها لا تقيم في المعرفة ولا في المحبة، بل إن هناك في النفس شيئًا ما ينبجس منه كلا المعرفة والمحبة؛ وهذا الغور لا يعرف نفسه ولا يحب شأن ملَكات النفس الأخرى. مَن يعرف ذاك يعرف مقام الغبطة. فذاك لا قَبْل له ولا بَعْد، ولا انتظار فيه لحدوث شيء، وهو عصيٌّ على الغنى والفقر معًا. وبالمثل، ذاك خلوٌ من أيِّ علم في ذاته بشيء يجب تحقيقه. إنه الشيء عينه أبدًا، لا يحيا إلا ذاته – كالله تمامًا! بهذا المعنى نقول إن على الإنسان أن يقف خالصًا وخاليًا من الله، ويُخلي نفسه من أية خواطر أو تصورات عما يعمله الله – وبهذا فقط يمكن للفقر الحقيقي أن يتفتح فيه. بعض المعلِّمين يقول: الله كائن، عاقل، وبكلِّ شيء عليم. أما نحن فنقول: الله ليس كائنًا، ولا هو بالعقل، وهو لا يعلم هذا ولا ذاك. الله خلو من كلِّ شيء، ولهذا فهو ماهية كلِّ شيء. لذا فعلى الفقير الحقيقي بالروح أن يكون فقيرًا من كلِّ علم، بحيث لا يعرف أيَّ شيء مطلقًا عن أيِّ شيء: لا عن الله، ولا عن الخلق، ولا عن نفسه. وبهذا لا يقدر المرءُ أن يطلب معرفة ماهية الله أو أن يتصورها؛ وبهذا فقط يمكن للمرء أن يكون فقيرًا بالعلم. فقير، ثالثًا، هو المرء الذي لا يملك شيئًا. كثيرون مَن قالوا إن الكمال هو في عدم امتلاك أيِّ شيء من خيرات هذه الدنيا – وهذا صحيح تمامًا من أحد الوجوه: حين يحمل المرء هذا العبء طوعًا – لكني أعني به شيئًا آخر تمامًا. قلنا فيما سبق إن الفقير لا يسعى حتى إلى العمل بمشيئة الله، بل يحيا خلوًا من مشيئته هو ومن مشيئة الله خلوَّه منهما حين لم يكن. وهذا الفقر نعلن أنه الفقر الأسمى. وقلنا، ثانيًا، إن الفقير هو مَن لا يعرف شيئًا عن أعمال الله. والخلو من كلِّ علم ومن كلِّ معرفة خلوَّ الله من كلِّ شيء – ذلك هو الفقر الأنقى. لكن الفقر الثالث الذي نود أن نتكلَّم عليه الآن هو الأقرب: هو فقر المرء الذي لا يملك شيئًا. كونوا الآن آذانًا مصغية! مرارًا ما قلنا – وقال معلِّمون كبار أيضًا – إن على المرء أن يتجرد من كلِّ شيء، من كلِّ عمل، خارجيًّا كان أم داخليًّا، بحيث يكون لله محلاً خاصًّا يقدر أن يفعل فيه. لكننا، اليوم، سوف نمضي إلى أبعد من ذلك. إذا كان المرءُ خلوًا من كلِّ شيء – من الخلائق كلِّها، من نفسه، وحتى من الله – لكنْ ما زال فيه محلٌّ يمكن لله أن يعمل فيه – مادام في المرء شيء من هذا القبيل، فليس المرءُ فقيرًا بعدُ ذلك الفقر الأقرب. فالله ليس في تقديره بحسب أعماله أن يكون للإنسان في دخيلته محلٌّ يمكن لله أن يفعل فيه. الفقر الحقيقي بالروح هو أن يكون المرء من الخلوِّ من الله ومن أعماله كافة بحيث إن الله، إذا أراد أن يعمل في النفس، اضطر إلى أن يكون هو ذاته محلَّ عمله. والله يفعل ذلك طوعًا، لأن الله، حين يجد امرأ في مثل هذا الفقر، فإنه يضطر إلى العمل فيه. هناك يكون الله نفسه محلاً لعمله، حتى إذا كان هنا عملاً موجَّهًا داخل ذاته. وفي هذا الفقر، يجد المرءُ الوجودَ الأزلي الذي كانه، الذي هو إياه الآن، والذي سيكونه إلى أبد الآبدين. عندئذٍ يظهر اعتراضٌ مستقى من قول القديس بولس: "بنعمة الله ما أنا عليه."[4] غير أن خطابنا، على ما يبدو، يتعالى على النعمة – كما وعلى الكينونة والمعرفة والإرادة وكلِّ رغبة. فكيف نفهم، إذن، قول القديس بولس؟ سنجيب بأن هذا القول من أقوال القديس بولس ليس إلا قول القديس بولس، وبأنه لم ينطق به وهو في حال النعمة. فالنعمة لم تكن تعمل فيه إلا في كمال كيانه في الوحدة نفسها؛ وهنا يُستنفَد عملُها. ولكن حالما كانت النعمة تعلق عملها كان بولس، بالطبيعة، يعود إلى ما كان عليه. نقول، إذن، إن على المرء أن يكون من الفقر بحيث لا يكون محلاً يمكن لله أن يعمل فيه، ولا يكون فيه مثلُ هذا المحل. فمادامت فيه محلِّية ما، أية كانت، فهو يستبقي فرقًا لنفسه. لهذا أصلي إلى الله كي أكون خالصًا من الله، لأن كياني الذاتي يتعالى على الله بوصفه إله الخلائق. ففي هذه الألوهة التي يكون فيها الوجودُ المعدوم أعلى من الله، وأعلى من الفرق، هناك، كنت ذاتي وحسب: كنت أريد ذاتي، كنت أعرف ذاتي، بوصفي خالق الإنسان الذي أنا هو. وبهذا فأنا علَّة ذاتي بحسب هويتي الأبدية، وليس بحسب صيرورتي الزمنية. ولهذا فأنا غير مولود، وبالتالي، أتعالى على الموت. وبحسب كياني غير المولود، كنت أزلاً، وأنا كائن الآن، وسأكون أبدًا! وحده ما أنا إياه بوصفي كيانًا زمنيًّا سيموت ويفنى من جراء صفته الزمنية. لكنْ في ولادتي الأزلية تولد الأشياء كلُّها، وأكون علَّة ذاتي وعلَّة الأشياء كلِّها. ولو شئتُ ذلك، لما كنت ولا كان أي شيء آخر، ولو لم أكن لما كان الله أيضًا. أنا علَّة كون الله إلهًا؛ فلو لم أكن لما كان الله. ولكن فهم ذلك ليس ضروريًّا. قال علاَّمة كبير إن اختراقه أشرف من صدوره الأول – وهذا صحيح. فحين صدرتُ عن الله قال كل شيء: الله كائن. لكن هذا لا يمكن له أن يطوِّبني لأنني بذلك أدرك مخلوقيَّتي. أما في الاختراق، على العكس، فأتخلَّى عن إرادتي الخاصة، كما وعن إرادة الله، وعن أعماله كافة، وعن الله نفسه – فأكون متعاليًّا على الخلائق كافة، ولا أكون مخلوقًا ولا إلهًا. أكون أكثر من ذلك بكثير: أكون ما كنت، وما أكونه الآن وإلى الأبد. تنتابني قشعريرةٌ ترفعني وتحملني إلى ما فوق الملائكة الأعلين. وفي هذه القشعريرة، أوهَبُ من الغنى ما يعجز الله عن أن يكفيني به بحسب كلِّ ما هو بوصفه إلهًا وبحسب أعماله الإلهية كافة. وبالفعل، فإن اليقين الذي أتلقَّاه في هذا الاختراق هي أنني والله واحد. هناك أكون ما كنتُه، لا أزيد ولا أنقص، كوني العلَّة السرمدية التي تحرِّك كلَّ شيء. وعندئذٍ لا يجد الله محلاً له في الإنسان، لأن الإنسان هاهنا، في هذا الفقر، يستعيد ما كانه أزلاً وما سيكونه أبدًا. الله هنا يحلُّ في الروح – وهذا هو الفقر الجوهري الأقرب، عسانا نحقِّقه! مَن لا يفهم هذا الخطاب، فلا يشغلنَّ قلبَه به؛ فمادام الإنسان لم يتسع لهذه الحقيقة فهو لا يقدر أن يفهمه. إذ إنها حقيقة غير منعكسة وغير محتجبة، صادرة مباشرة عن قلب الله. استعنَّا بالله كي نوهَب حياةً نكابد فيها ذاك بأنفسنا أبدًا. آمين. *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس [1] يقول ابن عربي في فصوص الحِكَم: "نحن الذين جعلناه بمألوهيتنا إلهًا؛ فلا يعرف حتى نعرف"؛ ومن هنا فإن التصوف، كما يقول أبو القاسم الجنيد، هو "أن تكون مع الله بلا علاقة". [2] يقول الجنيد في تعريف التصوف: "هو أن يرجع آخرُ العبد إلى أوَّله، فيكون كما كان قبل أن يكون." (المحرِّر) [3] قول الحلاج: "لا كنتُ إن كنتُ أدري كيف كنتُ، ولا "لا كنتُ" إن كنتُ أدري كيف لم أكنِ" المبهم يجد في سياق مذهب إيكهرت تأويلَه الصحيح. (المحرِّر) [4] الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 10. (المحرِّر) |
|
|