|
طبيعة
الأحلام[1]
اختلفت
الآراءُ التي اعتُنِقَتْ حول طبيعة الأحلام
على مدى القرون وفي شتى الحضارات والثقافات
اختلافًا شاسعًا. ولكن سواء آمن الفرد أن
الأحلام تعبيرات حقيقية عن أرواحنا
المنطلقة، التي تغادر الجسم في أثناء النوم،
أم اعتقد أن الأحلام موحى بها من الله، أو من
أرواح شريرة، وسواء رأى فيها تعبيرًا عن
العواطف اللامعقولة، أم بالعكس، عن أرفع
قدراتنا الأخلاقية وأنبلها، فإن فكرة واحدة
لم تكن خِلافية، هي الرأي القائل بأن كلَّ
الأحلام ذات معنى وذات مغزى: ذات معنى، لأنها
تشتمل على رسالة يمكن فهمها إذا امتلك المرء
مفتاح ترجمتها؛ وذات مغزى، لأننا لا نحلم
بأيِّ شيء تافه، وإنْ كان من الممكن أن يعبَّر
عنه بلغة يختبئ فيها مغزى رسالة الحلم خلف
واجهة لا مضمون لها ولا معنى. ولم يحدث
الافتراق الجذري عن هذا الرأي إلا في القرون
الحديثة. إذ أُقْصِيَ تفسيرُ الحلم إلى حقل
الخرافات، ولم يكن من شك لدى الشخص المثقف
المستنير، المختص وغير المختص، أن الأحلام
مظاهر من أذهاننا ليس لها معنى ولا مغزى،
وأنها، في خير الأحوال، انعكاسات ذهنية
لإحساسات جسمانية يختبرها المرءُ في أثناء
النوم. وكان فرويد،
في مطلع القرن العشرين، هو الذي عاد فأثبت
المفهوم القديم: أي أن الأحلام ذات معنى وذات
مغزى، وأننا لا نحلم بأيِّ شيء ليس تعبيرًا
هامًّا عن حياتنا الداخلية وأن كلَّ الأحلام
يمكن أن تُفهَم شريطة أن نملك المفتاح؛
وتفسير الأحلام هو الطريق الملكية
المفضية إلى فهم اللاوعي،[2]
ومن ثم إلى فهم أشد القدرات والطاقات التي
تعلِّل السلوك السوي والمرضي على حدٍّ سواء.
ووراء هذا الوصف الأعم لطبيعة الأحلام عاد فرويد
فأثبت مؤكِّدًا، وبشيء من الصرامة، نظرية من
أقدم النظريات: هي أن الحلم تحقيق للأمنيات
اللامعقولة، المكبوتة في حياتنا الصاحية. وبدلاً من تقديم
نظريات فرويد والنظريات الأقدم منها حول
الحلم في هذا المجال، سوف أعود إليها في بحث
لاحق، شارحًا الآن طبيعة الحلم كما توصَّلتُ
إلى فهمها، بعون من أعمال فرويد وبنتيجة
خبرتي، حالمًا ومفسِّرًا للحلم. وبالنظر إلى أنه
ليس هناك تعبير عن فاعلية النفس والنشاط
الذهني إلا ويظهر في الحلم، فأنا أعتقد أن
الوصف الوحيد لطبيعة الأحلام الذي لا يحرِف
الظاهرة أو يضيِّقها هو الوصف الرحب بأن
الحلم تعبير، له معناه ومغزاه، عن أيِّ نشاط
ذهني في حالة النوم. ومن الواضح أن
هذا التعريف أوسع من أن يقدِّم عونًا كبيرًا
على فهم طبيعة الأحلام، إلا إذا أضفنا إليه
شيئًا أكثر تحديدًا حول "حالة النوم"
والتأثير الخاص لهذه الحالة في نشاطنا الذهني.
فإذا تمكنَّا من أن نكتشف ما هو التأثير الخاص
للنوم في نشاطنا الذهني، ربما اكتشفنا
مقدارًا أكبر عن طبيعة الحلم. إن النوم،
فسيولوجيًّا، هو حالة التجدُّد الكيميائي
للكائن الحي؛ فالطاقة تتجدد حين لا يكون ثمة
عمل، ويكون الإدراك الحسِّي متوقفًا بكامله
تقريبًا. والنوم، بسيكولوجيًّا، يرجئ
الوظيفة الرئيسية المميِّزة لحياة الصحو:
استجابة الإنسان للواقع بالإدراك الحسِّي
والعملي. وهذا الفارق بين الوظائف البيولوجية
للصحو والنوم هو في حقيقته الفارق بين حالتين
من الوجود. ولكي نقدِّر أثر النوم في العملية
الذهنية، علينا أولاً أن نتفكَّر في مشكلة
أعم، هي مشكلة الاتِّكال المتبادل لكلِّ نوع
من النشاط أشركْناه في عملية تفكيرنا.
فالطريقة التي نفكِّر بها محدَّدة إلى درجة
كبيرة بما نفعله وبما نحن مهتمون بتحقيقه.
وهذا لا يعني أن تفكيرنا تشوِّهه اهتماماتنا،
بل يعني ببساطة أنه يختلف وفقًا لها. ما هو، مثلاً،
موقف أناس مختلفين من الغابة؟ الرسَّام – أي
رسَّام كان – يذهب إلى الغابة –أية غابة –
ليرسم؛ ومالك الغابة يودُّ تقدير ما سيدرُّ
عليه مشروعه من الربح؛ والشرطي – أيًّا كان –
يهتم للمسألة
التكتيكية في حماية المنطقة؛ والمتنزِّه –
أيًّا كان – يطلب المتعة – إن لكلٍّ من هؤلاء
مفهومًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن الغابة
بسبب الأهمية التي أوْلاها كلٌّ منهم لوجه
مختلف منها. فتجربة الرسام ستكون تجربة الشكل
واللون، وتجربة التاجر تتناول حجم الأشجار
وعددها وعمرها، وتجربة الشرطي إمكان الرؤية
والحماية، وتجربة المتنزِّه التجوال والحركة.
وعلى حين أنهم يستطيعون الاتفاق حول القول
المجرد بأنهم وقفوا عند حدود الغابة، فإن
الأنواع المختلفة من النشاط التي قاموا بها
هي التي ستحدِّد تجربتهم في "رؤية الغابة". والفارق بين
الوظائف البسيكولوجية والبيولوجية في النوم
والصحو أشد جوهرية من أيِّ فارق بين أنواع
النشاط المختلفة. وعلى هذا، فإن الفارق بين
الأنظمة المفهومية التي تُصاحِب الحالتين
أكبر بما لا يقاس. ففي حالة الصحو تستجيب
الأفكار والمشاعر أولاً للتحدِّي – مهمة
السيطرة على البيئة، وتحويلها، والدفاع عن
أنفسنا منها. والبقاء مهمة الإنسان الصاحي؛
فهو خاضع للقوانين التي تسود الواقع. وهذا
يعني أن عليه أن يفكِّر بلغة الزمان والمكان،
وأن أفكاره خاضعة لقوانين منطق الزمان
والمكان. وحين ننام لا
نهتم بإخضاع العالم الخارجي لأغراضنا؛ إذ
نكون ضعفاء – ولذلك دُعِيَ النوم بحق "شقيق
الموت" – ولكننا نكون
أحرارًا، وأشد حرية منَّا حين نصحو. نتحرَّر
من عبء العمل، من مهمة الهجوم أو الدفاع عن
النفس، من مراقبة الواقع والسيطرة عليه.
ولسنا في حاجة إلى أن نعبأ بالعالم الخارجي،
بل ننظر إلى عالمنا الداخلي، المشغول حصرًا
بأنفسنا. حين نكون نيامًا يصحُّ أن نقارن
أنفسنا بجنين أو بجثة، أو حتى بالملائكة،
التي لا تخضع لقوانين "الواقع". وفي
النوم يُخلِي عالم الضرورة السبيل لعالم
الحرية، حين يكون "وجود الأنا" هو الأمر
الوحيد الذي ترتبط به الأفكار والمشاعر. إن للنشاط
الذهني، في أثناء النوم، منطقًا مختلفًا عنه
في حال الصحو. فلا تحتاج تجربة النوم إلى
الانتباه إلى الخصائص التي لا تكون مهمة إلا
حين يكون المرء على مستوى الواقع. فإذا شعرت،
مثلاً، أن شخصًا من الأشخاص جبان، فقد أحلم
أنه تحول من إنسان إلى دجاجة. وهذا التحول
منطقي بلغة ما أشعر به نحو الشخص، وغير منطقي
بلغة التوجُّه إلى العالم الخارجي فقط (بلغة
ما بوسعي أن أفعل، واقعيًّا، للشخص أو معه).
وتجربة النوم لا تفتقر إلى المنطق، ولكنها
خاضعة لقواعد منطقية مختلفة، صحيحة كلَّ
الصحة في تلك الحالة الخاصة من الخبرة. إن حياة النوم
وحياة الصحو هما عمودا الوجود الإنساني. حياة
الصحو تتبنى وظيفة العمل، فيما النوم
متحرِّر منها؛ إذ إن النوم
يتبنَّى وظيفة الخبرة الذاتية. وحين نستيقظ
من نومنا، ننتقل إلى مجال العمل. ومن ثمَّ
فإننا نتوجَّه حينذاك بلغة هذا النظام،
وذاكرتنا تعمل في نطاقه: فنتذكَّر ما يمكن أن
يُستدعى بمفهومات مكانية–زمانية. إن عالم
النوم قد توارى، والتجارب التي كنَّا فيها –
أي أحلامنا – نتذكرها بأشد الصعوبة.[3]
وهذا الموقف كثيرًا ما صُوِّر رمزيًّا في الحكايات
الشعبية: ففي الليل تحتل المشهد الأشباحُ
والأرواح، الخيِّرة والشريرة، حتى إذا ما
انبلج الفجر تبددتْ، ولا شيء يبقى من كلِّ هذه
التجربة العنيفة. من هذه الاعتبارات تصح
بالضرورة بعض النتائج حول طبيعة اللاوعي: إنه
ليس، كما قال يونغ، المجالَ الأسطوري للخبرة
الموروثة عرقيًّا؛ ولا ما قاله فرويد من
أنه مركز القوى الليبيدية اللامعقولة؛ بل إن
علينا أن نفهمه بلغة المبدأ القائل: "إن ما
نفكر فيه ونشعر به يتأثر بما نفعله." إن الوعي هو
النشاط الذهني في وجودنا المشغول بالواقع
الخارجي – بالعمل. واللاوعي هو التجربة
الذهنية في حالة الوجود التي تتوقف فيها
صِلاتنا بالعالم الخارجي، فلا تعود مشغولة
بالعمل بل بالخبرة الذاتية. إن اللاوعي تجربة
متصلة بنمط معين من الحياة – نمط اللافعالية،
ومميزات اللاوعي تنشأ من طبيعة هذا النمط من
الوجود. وخصائص الوعي، من جانب آخر، محددة
بطبيعة العمل ووظيفة الإبقاء على حالة الصحو
في الوجود. فلا يكون "اللاوعي" لاوعيًا
إلا فيما يتصل بـ"الحالة السوية"، حالة
النشاط فقط. فعندما نتحدث عن "اللاوعي"
لا نقول بالفعل إلا أن التجربة مغايرة لتلك
الصورة للذهن التي توجد حين نعمل. وعندما نحن
نعمل نشعر بإزائها أنها أشبه بالشبح، وأنها
عنصر متطفل رهيب من العسير الإمساك به ومن
العسير تذكره. ولكن عالم النهار هو كاللاوعي
في تجربة النوم وكعالم الليل في تجربة الصحو.
ومصطلح "اللاوعي" لا يُستخدَم عادة إلا
من وجهة نظر تجربة النهار، وبذلك يخفق في
الدلالة على أن الوعي واللاوعي كليهما مجرد
حالتين مختلفتين للذهن تشيران إلى حالتين
مختلفتين من الوجود. وسيكون مجالاً
للنقاش أنه في حالة الصحو من الوجود، أيضًا،
لا يكون التفكير والشعور خاضعين تمامًا لقيود
الزمان والمكان، وإن خيالنا الإبداعي يسمح
لنا بالتفكير في أمور الماضي والمستقبل
وكأنها حاضرة، وفي الأمور البعيدة وكأنها
ماثلة أمام أعيننا، وأن الوعي الصاحي لا
يعتمد على الحضور المادي للشيء ولا على
تواجده الزمني؛ وأن غياب النظام الزماني–المكاني،
بناءً على ذلك، ليس خصيصة وجود النوم في حالة
من التضاد مع وجود الصحو، بل خصيصة التفكير
والشعور في حالة من التضاد مع العمل. إن هذا
الاعتراض المرحَّب به يتيح لي أن أوضح النقطة
الجوهرية في محاججتي. علينا أن نميز
بين محتويات عمليات الفكر والمقولات
المنطقية المستخدمة في أثناء التفكير. فعلى
حين أن محتويات أفكارنا في الصحو غير خاضعة
لحدود المكان والزمان، فإن مقولات وتعابير
التفكير المنطقي هي مقولات ذات طبيعة مكانية–زمانية.
إن في وسعي، مثلاً، أن أتذكَّر أبي وأن أعلن
أن موقفه، في وضع ما، مماثل لموقفي؛ وهذا القول صحيح
منطقيًّا. ومن ناحية أخرى، فإنني إذا قلت: "أنا
أبي" فالقول "غير منطقي"، لأنه ليس
مفهومًا بالرجوع إلى العالم المادي. والجملة
منطقية، على أية حال، في مجال الخبرة
الخالصة؛ إذ إنها تعبِّر عن خبرة التواحُد مع
أبي. ثم إن عمليات الفكر المنطقي في حالة
الصحو خاضعة لمقولات لها جذورها في نمط خاص من
أنماط الوجود – في النمط الذي نربط فيه
أنفسنا إلى الواقع بلغة العمل. وفي وجود
النوم، الذي يتميَّز حتى إلى العمل
الاحتمالي، تُستخدَم المقولات المنطقية التي
لا ترتبط إلا بالخبرة الذاتية. ويصح الأمر
نفسه على الوعي. فحين أشعر، في
حالة الصحو، بشخص لم أرَه مدة عشرين سنة،
أظلُّ مدركًا أن الشخص المذكور ليس حاضرًا.
أما إذا حلمت بالشخص، فإن
وعيي
يتعامل مع الشخص (ذكرًا كان أم أنثى) وكأنه
حاضر. ولكن قولي "كأنه حاضر" هو تعبير عن
شعوري بمفهومات تنطبق على حياة الصحو. أما في
النوم فلا مجال لـ"كأن"؛ إذ إن الشخص
المذكور يكون حاضرًا. في الصفحات
السابقة كانت المحاولة ترمي إلى وصف حالات
النوم وانتزاع بعض النتائج المتعلقة بخاصية
نشاط الحلم. وعلينا الآن أن نشرع في دراسة
عنصر خاص من حالة النوم سوف يتكشَّف لنا أنه
ذو أهمية كبيرة لفهم عمليات الحلم. ولقد قلنا
إننا حين نكون نيامًا لا نهتم بأمور الواقع
الخارجي؛ فنحن حينئذٍ لا نراها ولا نؤثر
فيها، ولا نكون خاضعين لتأثيرات العالم
الخارجي فينا. ويصح بالضرورة أن أثر هذا
الانفصال عن الواقع يتوقف على خاصية الواقع
نفسه. فإذا كان التأثر بالعالم الخارجي ذا نفع
جوهري، فإن غياب هذا التأثير في أثناء النوم
سوف يؤدي، ربما، إلى
إضعاف قيمة نشاط الحلم، فيصبح متدنيًا في
نشاطنا الذهني في أثناء النهار حين نكون عرضة
للتأثير النافع من العالم الخارجي. ولكن هل
نحن على حقٍّ في افتراض أن تأثير الواقع هو
حصرًا تأثير نافع ومؤاتٍ؟ ألا يمكن ألا يكون
كذلك وأن يكون مؤذيًا أيضًا، وأن غياب تأثيره
يتَّجه إلى إحداث خصائص أعلى من تلك الخصائص
التي رأيناها حين كنَّا صاحين؟ في الحديث حول
الواقع خارج نفوسنا، تكون الإشارة متَّجهة
إلى عالم الطبيعة في المقام الأول. فالطبيعة،
في حدِّ ذاتها، ليست خيرًا ولا شرًّا. وهي قد
تكون مفيدة لنا أو خطرة علينا؛ وغياب إدراكنا
الحسِّي لها يحررنا حقًا من مهمة محاولة
السيطرة عليها أو الدفاع عن أنفسنا منها،
ولكنه لا يجعلنا أشد حماقة أو أشد حكمة، لا
أفضل ولا أسوأ. إنها مختلفة كلَّ الاختلاف
عن العالم الذي صنعه الإنسان من حولنا، وعن
الحضارة التي نحيا فيها. إن تأثيرها فينا غامض
كلَّ الغموض، رغم أننا ميالون إلى الافتراض
أنها بكلِّيتها لنفعنا. والواقع أن الدليل على أن
التأثيرات الحضارية ذات نفع لنا يبدو ساحقًا
تقريبًا. وإن ما يميِّزنا عن عالم الحيوان هو
قدرتنا على صنع الحضارة؛ فما يميِّز المراحل
العليا عن المراحل الدنيا في التطور الإنساني
إنما هو التنوع في المستوى الحضاري. واللغة،
التي هي العنصر الأساسي في الحضارة، هي الشرط
المسبق لكلِّ مأثرة إنسانية. والإنسان قد
سُمِّيَ بحق حيوانًا يصنع الرمز؛
فلولا قدرتنا على النطق، لكان من العسير أن
نسمَّى بشرًا. على أن كلَّ وظيفة إنسانية أخرى
تعتمد على احتكاكنا بالعالم الخارجي. ونحن
نتعلَّم التفكير بمراقبة
الآخرين وبالتعلُّم منهم؛
وننمِّي قدراتنا الانفعالية والفكرية
والفنية بتأثيرٍ من اتِّصالنا بتراكُم
المعرفة والإنجازات الفنِّية التي أبدعها
المجتمع؛
ونتعلَّم حبَّ الآخرين والاهتمام بهم من
الاتصال بهم؛
ونتعلَّم أن نكبح دوافع الخصومة والأنانية من
حبِّنا للآخرين، أو على الأقل، من خوفنا منهم. أليس الواقع الذي صنعه
الإنسان، خارج نفوسنا، أهم عامل، إذن، في
تطوير أفضل ما فينا؛ وألا يجب أن نتوقع، إذ ما
حُرِمْنا من الاتصال بالعالم الخارجي، أن
نرتدَّ مؤقتًا إلى حالة ذهنية غير عاقلة وشبه
حيوانية؟ من الممكن أن يقال الكثير لصالح هذا
الافتراض؛ والرأي القائل بأن مثل هذا
الارتداد هو السمة الجوهرية لحالة النوم قد
تبنَّاه عددٌ من دارسي الحلم، من أفلاطون
إلى فرويد. وبذلك فهو أيضًا سمة من سمات
عمل الحلم وفعاليته. وانطلاقًا من
وجهة النظر هذه، من المتوقع أن تكون الأحلام
تعبيرات عن الدوافع البدائية اللامعقولة
فينا، ونسياننا أحلامنا بسهولة قد فُسِّر
بإسهاب بأننا نخجل من تلك الدوافع اللامعقولة
والآثمة التي نعبِّر عنها حين لا نكون تحت
رقابة المجتمع. ولا مراء والواقع أن
الحضارة لم تكن نافعة وحسب، بل كانت كذلك ذات
تأثير ضارٍّ في الوظائف الفكرية والأخلاقية.
فالبشر يعتمدون بعضهم على بعض، ويحتاج بعضهم
إلى بعض. على أن التاريخ البشري قد تأثر إلى
الآن بحقيقة هي أن الإنتاج المادي لم يكن
كافيًا لإشباع الحاجات الأصلية لكلِّ الناس.
فالمائدة أُعِدَّتْ لنَفَرٍ قليل فقط من
العدد الغفير من الناس الذين يريدون أن
يجلسوا إليها ويأكلوا. وقد حاول الأقوياء أن
يحصلوا على أماكن لهم، وأن يمنعوا الآخرين،
بالتالي، من الحصول على المقاعد. فلو أنهم أحبُّوا
إخوتهم بقدر ما طالب البوذا
والأنبياء ويسوع، لكان عليهم أن يقاسموهم
خبزهم بدلاً من أن يأكلوا اللحم ويشربوا
الخمرة من دونهم. ولكن، بما أن المحبة أرفع
إنجازات الجنس البشري وأصعبها طرَّا، فإنها
لا تتغافل عن كون أولئك استطاعوا أن يجلسوا
إلى مائدة ممدودة ويتمتعوا بطيِّبات
الحياة، رافضين أن يشاركهم الآخرون، ولهذا
سَعَوْا إلى أن يفرضوا هيمنتهم على هؤلاء
الذين يهدِّدون امتيازاتهم. وهذه الهيمنة
كانت، في أغلب الأحيان، هيمنة
المنتصر، الهيمنة المادية التي ترغم
الأكثرية أن ترضى بنصيبها. إلا أن الهيمنة
المادية لم تكن على الدوام متاحة أو كافية.
فكان على المرء أن يسيطر على أذهان الناس
ليجعلهم يُحجِمون عن استخدام قبضاتهم. وكانت
السيطرة على الذهن والشعور عنصرًا ضروريًّا
للاحتفاظ بامتيازات الأقلية. وفي هذه العملية
صارت أذهان الأقلية شوهاء
كأذهان الأكثرية. فالحارس الذي يراقب الأسير
يصبح أسيرًا كالأسير نفسه. و"الصفوة"
التي ستسيطر على أولئك الذين لم "يُصطَفَوْا"
يصبحون أسرى ميولهم المقيِّدة. وهكذا ينصرف
العقل والروح، عند الحاكم المحكوم على حدٍّ
سواء، منحرفًا عن هدفه الإنساني الجوهري،
الذي هو الشعور والتفكير إنسانيًّا،
واستخدام قوى العقل والحبِّ المتأصِّلة في
الإنسان وتطويرها. فهو من دون النموِّ
الكامل لها يغدو كسيحًا. وفي أثناء عملية
الانحراف والتحريف هذه تصبح شخصية الإنسان
مشوهة وتصبح السلطة العليا في يد الأغراض
المغايرة لمصالح الذات الإنسانية الحقَّة.
ويكون الإنسان مسلوب القدرات على الحبِّ،
ومدفوعًا إلى طلب السيطرة على الآخرين.
وتتضاءل طمأنينته الداخلية، ويندفع إلى
التعويض عنها بالاشتهاء
الانفعالي الملحِّ إلى الشهرة والنفوذ. ويفقد
الإحساس بالكرامة والعفة والكمال، ويكون
مرغمًا على أن يتحول إلى سلعة، وأن ينتزع
عزَّة نفسه من ترويج نفسه ومن نجاحه. وكلُّ
هذا يحدث لأننا لا نتعلَّم ما هو صحيح وحسب،
بل ما هو خطأ أيضًا؛ وإننا لا نسمع ما هو خيِّر
فقط، ولكننا دائمًا تحت تأثير الأفكار
الضارَّة بالحياة. وهذا يصح على
القبيلة البدائية التي تسري فيها قوانين
صارمة وتسود عادات وأعراف تتسلَّط على
الأذهان؛ ولكنه صحيح أيضًا بالنسبة إلى
المجتمع الحديث الذي يزعم التحرر من الطقسية
الصارمة. ففي الكثير من الأحوال أدى محو
الأمية وانتشار وسائل الاتصال الجماهيرية
إلى جعل تأثير القوالب الثقافية المبتذلة من
الفعالية ما للثقافة القبلية الصغيرة المقيِّدة
بشدة. والإنسان الحديث معرَّض لـ"الضجة"
التي تكاد لا تتوقف: ضجة المذياع،
والتلفزيون، واللافتات البارزة الخطوط،
والإعلانات، والأفلام – ومعظمها لا ينوِّر
أذهاننا، بل يفسدها. ونحن معرَّضون للأكاذيب
المسوَّغة التي تتنكَّر
بالحقائق، وللهراء الخالص الذي يتستَّر
بالحسِّ المشترك وبالحكمة الرفيعة التي
يقولها المختص، وللكلام المزدوج، والتبلُّد
الفكري، أو للتضليل الذي يتحدث باسم "الشرف"
أو يتظاهر بـ"الواقعية"، حسبما تكون
الحال. ونحن نشعر بالتفوق على خرافات الأجيال
السابقة والثقافات التي تُدعى بدائية، ويطرق
رؤوسَنا على الدوام النوعُ نفسه من
الاعتقادات الخرافية التي تقدِّم نفسها على
أنها آخر مكتشفات العلم. أيدهشنا، إذن، أن
الصحو لا يعني حصرًا أنه نعمة، بل هو لعنة
أيضًا؟ أيدهشنا أننا في حالة النوم، حين نخلد
إلى أنفسنا، حين يمكننا النظر إلى دواخل
نفوسنا دون أن يزعجنا الصخب والهراء اللذان
يحيطان بنا في النهار، نكون أقدر على الشعور
والتفكير في أصدق
المشاعر والأفكار وأكثرها قيمة؟ هذه هي، إذن،
النتيجة التي توصَّلنا إليها: إن لحالة النوم
وظيفة ملتبسة، تحتمل أكثر من معنى. وفيها
يسبِّب عدم الاتصال بالحضارة ظهور أفضل ما فينا وأسوئه. وعلى
ذلك، فإننا حين نحلم، قد نكون أقل فطنة وحكمة
واحتشامًا، ولكننا قد نكون كذلك أفضل وأعقل
منَّا في حياة الصحو. وبوصولنا إلى هذه
النقطة تنهض مشكلة صعبة: أنَّى لنا أن نعلم أن
الحلم يُفهَم منه أنه تعبير عن أفضل أو أسوأ
ما فينا؟ هل هناك مبدأ يهدينا في هذه
المحاولة؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن
نتخلَّى عن المستوى العام إلى حدٍّ ما في
بحثنا، وأن نكتسب مزيدًا من التبصُّر بدراسة
عدد من أمثلة الحلم العيانية الملموسة. إن الحلم التالي
رواه رجل قابَل "شخصًا بالغ الأهمية" قبل
يوم من رؤيته لهذا الحلم. وكانت سمعة هذا
الرجل أنه على قدر كبير من الحكمة والدماثة.
وجاء الحالم ليراه، فانطبع بما رواه الجميع
عن هذا العجوز. وقد غادره بعد ساعة أو نحوها
بشعور أنه قابل رجلاً عظيمًا ولطيفًا. أرى
السيد فلان [الشخص
بالغ الأهمية]. وجهه يبدو مختلفًا كلَّ
الاختلاف عمَّا كان يبدو بالأمس. أرى فمًا
وحشيًّا ووجهًا قاسيًا. إنه يخبر شخصًا ما وهو
يضحك أنه أفلح في أن يحتال على أرملة فقيرة
ويجرِّدها من آخر نقودها القليلة. أشعر
بالاشمئزاز. وحين طُلِبَ إلى
الحالم أن يتحدث عما خطر بباله بعد هذا الحلم،
قال إنه يستطيع أن يتذكَّر شعورًا عابرًا
بخيبة الأمل عندما دخل حجرة السيد فلان
وألقى أول نظرة خاطفة إلى وجهه. ولكن سرعان ما
اختفى هذا الشعور حين بدأت المحادثة الودية
الجذابة. كيف علينا أن
نفهم هذا الحلم؟ ألعلَّ الحالمَ
حاسدٌ للسيد فلان على سمعته، ولهذا السبب
يكرهه؟ إن الحلم في هذه الحالة سيكون تعبيرًا
عن البغض اللامعقول الذي يضمره الحالم دون أن
يكون مدرِكًا له.
ولكن الأمر مختلف في الحالة التي رويتُها هنا.
ففي اللقاءات التالية، بعد أن أصبح الحالم
مدركًا لشكِّه في أحلامه، أخذ يراقب بعناية،
فاكتشف أن في الرجل شيئًا من القسوة
واللامبالاة التي رآها أول مرة في حلمه.
وأيَّدتْ انطباعَه ثلةٌ كانت لديها الجرأة
على أن تشكِّك في رأي الأكثرية بأن فلانًا
كان ذلك الإنسان اللطيف. تأيَّد الانطباع
السيئ ببعض الوقائع من حياة فلان، لم تكن
صريحة كالحلم أبدًا، ولكنها، مع ذلك، كانت
تنمُّ عن روح مشابهة. ما نراه، إذن، هو
أن تبصُّر الحالم في شخصية فلان كان أذكى
في نومه منه في صحوه. كانت "ضجة" الرأي
العام، التي تلحُّ أن فلانًا إنسان فذ،
تحول دون إدراكه لشعوره النقدي نحو فلان
حين رآه. ولم يستطع إلا بعد ذلك، حين رأى حلمه
هذا، أن يتذكر لحظة عدم الثقة التي ساورتْه
وأن يشكِّك فيما شعر به. ففي حلمه، حين كان في
حِمًى من هذه "الضجة" ومختليًا إلى نفسه
وانطباعاته ومشاعره، تمكَّن من أن يصدر حكمًا
أدقَّ وأصْوَبَ من حكمه في حالة الصحو. وفي هذا الحلم،
كما في أيِّ حلم آخر، لا نستطيع أن نقرِّر هل
الحلم معبِّر عن هوًى لامعقول أم عن العقل،
إلا إذا تأملنا شخص الحالم، وأخذنا بالحسبان
مزاجه حين استسلم للنوم، وراعينا كلَّ ما
لدينا من معلومات عن وجه الحقيقة حول الوضع
الذي حلم به. وفي هذه الحال يتأيَّد تفسيرُنا
بعدد من العوامل. فقد استطاع الحالم أن يتذكر
انطباع الكره الأوليِّ العابر. ولم يكن لديه
أيُّ سبب لكي يضمر أية مشاعر عدائية نحو فلان،
ولم يضمرها. والمعلومات عن حياة فلان
والملاحظات اللاحقة أكَّدتْ انطباع الحالم
الذي رآه في النوم. فلو لم تكن هذه العوامل
كلُّها موجودة لاختلف تفسيرُنا. فإذا كان،
مثلاً، ميالاً إلى أن يكون حسودًا للناس
المشهورين، وما استطاع أن يجد أيَّ دليل على
حكم الحلم على فلان، ولو لم يخطر بباله أن فلانًا
بدا سمجًا ثقيل الظل حين رآه أول مرة، فسوف
نميل إلى الافتراض بأن هذا الحلم لم يكن
تعبيرًا عن التبصُّر، بل تعبير عن بغضه
اللامعقول. والتبصُّر وثيق
الصلة بالنبوءة. والنبوءة تعني الاستدلال على
سير الحوادث المقبلة من اتجاه القوى التي
نستطيع أن نراها فعالة في الحاضر ومن شدتها.
وأية معرفة شاملة، لا للانطباع السطحي، بل
للقوى التي تعمل تحته، سوف تؤدي إلى خلق
التنبؤات؛ وأية نبوءة قيِّمة يجب أن تقوم على
مثل هذه المعرفة. فلا عجب أننا كثيرًا ما
نتنبأ بالتطورات والأحداث، فتؤيِّدها
الوقائعُ فيما بعد. وبصرف النظر عن مسألة
التخاطُر، فإن الكثير من
الأحلام التي يتكهَّن فيها الحالمُ بالحوادث
المقبلة تقع في خانة النبوءات
اللاعقلية التي عرَّفنا بها لتوِّنا. ومن
أقدم الأحلام المأثورة نبوءة يوسف في الحلم:[4] ورأى
يوسف رؤيا فأخبر بها إخوته، فازدادوا له
بغضًا. قال لهم: "اسمعوا هذه الرؤيا التي
رأيتها: رأيت كأننا نحزم حِزَمًا في الحقل، فإذا حزمتي
وقفت ثم انتصبت، فأحاطت حِزَمُكم
بحزمتي وسجدتْ لها." فقال له
إخوتُه: "أتراكَ تملك علينا أو تتسلَّط
علينا؟" واشتدَّ بغضُهم له بسبب أحلامه
وأقواله. ورأى أيضًا رؤيا أخرى،
فقصَّها على إخوته وقال: "رأيت رؤيا أيضًا
كأنَّ
الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا ساجدة لي."
ولما قصَّها على أبيه وإخوته، وبَّخه أبوه
وقال له: "ما هذه الرؤيا التي رأيتَها؟
أترانا نأتي أنا وأمُّك وإخوتك فنسجد لكَ إلى
الأرض؟" فحسده إخوتُه،
أما أبوه فكان يحفظ هذا الأمر. تُظهِر لنا هذه
القصة في الكتاب المقدس حالةً كان الحلم فيها
ما يزال مفهومًا فهمًا مباشرًا من المرء غير
المختص، ولا يتطلب عونًا من خبير في تفسير
الحلم لفهم حلم بسيط نسبيًّا. (أما تفسير
الحلم الأشد تعقيدًا والذي يحتاج إلى خبير،
فتُظهِرُه قصة أحلام فرعون، حيث عجز مفسِّرو
الأحلام في القصر عن فهم أحلامه، فاستدعى
يوسف.[5])
والإخوة يفهمون فورًا أن الحلم تعبير عن
أخيولة يوسف أنه سيصبح ذات يوم أرفع مقامًا من
أبيه ومن إخوته، وأنهم سوف يتهيَّبونه صاغرين.
وما من ريب أن هذا الحلم تعبير عن طموح يوسف؛
ولعلَّه لولاه لما توصَّل إلى المكانة
الرفيعة التي أحرزها. ولكن ما حدث هو أن الحلم
قد تحقَّق، وذلك أنه لم يكن مجرد تعبير عن
طموح لامعقول، بل كذلك نبوءة في الحوادث التي
حدثت بالفعل. كيف أمكن ليوسف أن يتنبأ بمثل
هذه النبوءة؟ إن تاريخ حياته في الرواية
التوراتية يُظهِر أنه لم يكن مجرد إنسان
طموح، بل كان إنسانًا ذا مواهب فذة. وفي حلمه
كان أشد إدراكًا لمَلكاته النادرة منه في
حياة الصحو، حيث كان مطبوعًا بأنه أصغر إخوته
وأضعفهم. فحَمَلَه مزيجٌ من طموحه العاطفي
وتبصُّره في مَلَكاته التي لولاها لما أمكن
لحلمه أن يتحقق. إن نبوءة من نوع
مختلف تحدث في الحلم التالي: كان لدى أ،
الذي قابل ب ليتباحث معه في صفقة تجارية
مقبلة، انطباعٌ إيجابي بأنه سوف يُدخِل ب
شريكًا في متجره. وفي الليلة التي تَلَت
اللقاء رأى هذا الحلم: أرى
"ب" في مكتبنا المشترك. إنه يراجِع
الدفاتر ويبدِّل أرقامها ليخفي أنه اختلس
مبالغ كبيرة من المال. يستيقظ أ،
وإذ هو متعوِّد أن يولي بعض الانتباه
لأحلامه، يتحيَّر ويخاف. وبما أنه مقتنع أن
الأحلام هي دائمًا تعبير عن رغباتنا
اللامعقولة، يقول في نفسه إن هذا الحلم تعبير
عن خصومته ومنافسته لغيره من الرجال، وأن
خصومته وشكَّه قاداه إلى أن ب لص.
وبتفسيره للحلم على هذا النحو، أخذ يرجع إلى
الماضي ليتخلَّص من شكوكه اللامعقولة
ويسوِّغها. وبعد أن باشر الشراكة في المشروع
مع ب حدثت سلسلة من الأحداث أيقظت شكَّ أ.
ولكنه، إذ تذكَّر الحلم وتفسيره له، عاوده
الاقتناع بأنه تحت تأثير الشكوك والمشاعر
اللامعقولة في الخصومة، وقرَّر أن ينتبه إلى
تلك الظروف التي جعلتْه
شَكوكًا. وهكذا اكتشف بعد سنة أن ب كان
يختلس مبالغ طائلة من المال ويخفي ذلك بقيود
زائفة في الدفاتر. لقد تحقَّق حلمُه تحقُّقًا
شبه حرفي. إن تحليل تداعيات
أ يكشف أن حلمه قد عبَّر عن تبصُّر في طبع ب
توصَّل إليه في اللقاء الأول، ولكنه لم يكن
مدركًا له في فكره النهاري الصاحي.
فالملاحظات الكثيرة المعقَّدة، التي نلمحها
في لحظة،
من دون أن ندرك عمليات فكرنا، جعلتْ أ
يميِّز أن ب غشاش. ولكن مادام ليس هناك "دليل"
على هذا الرأي، ومادام أسلوب ب يجعل من
الصعب على فكر أ الواعي أن يؤمن بعدم
أمانة ب، فقد كَبَتَ الفكرة كبتًا
كاملاً، أو بالأحرى، لم تكن الفكرة مدوَّنة
في رأسه حين كان مستيقظًا. أما في حلمه، على
أية حال، فكان
لديه الإدراك الواضح لشكِّه. ولو أصغى إلى هذا
الهاتف الذاتي لتجنَّب
قدرًا كبيرًا من المتاعب. فاقتناعه أن
الأحلام هي على الدوام تعبير عن أخيولاتنا
ورغائبنا اللامعقولة جَعَلَه لا يُحسِن
قراءة الحلم، ولا حتى الملاحظات الأخرى
الواقعية بعده. ومن الأحلام التي
تعبِّر عن الحُكم الأخلاقي حلمُ كاتبٍ عُرِضَ
عليه عملٌ يدرُّ عليه من المال أكثر بكثير مما
يكسب في وظيفته الحالية، ولكنه سيكون مكرَهًا
كذلك أن يكتب أشياء لا يؤمن بها، وأن ينتهك
حرمة استقامته الشخصية. وبالرغم من ذلك، فقد
كان العرضُ
مغريًا بقدر ما كان المالُ
والمقامُ
كبيرين؛ فلم يكن متأكدًا أنه سيستطيع أن
يرفضه. وعاش كلَّ التسويغات النموذجية التي
يعيشها معظم الناس في مثل هذا الوضع، واقتنع،
بعد كلِّ حساب، أنه، وإن كانت الوظيفة شديدة
السواد، فإن التنازلات التي سيقوم بها، في
النهاية، ربما ستكون واهية
جدًّا. يُضاف إلى ذلك أنه حتى إذا لم يستطع أن
يكتب كما يشاء، فإن هذا الوضع لن يدوم إلا بضع
سنوات، ثم يتخلَّى عن العمل؛ وبامتلاكه
الكثير من المال، سيكون مستقلاً وحرًّا في أن
يؤدي العمل الذي له معنى عنده. وفكَّر في
أصدقائه وأسرته وذويه وما بوسعه أن يفعله لهم.
والواقع أن المشكلة كانت تتمثَّل له أحيانًا
على هذا النحو: فقبوله العمل يبدو له التزامًا
أخلاقيًّا، على حين أن رفضه له سيكون تعبيرًا
عن موقف أناني منغمس في الأهواء الذاتية. ورغم
ذلك، لم يُرضِه في الواقع أيُّ تبرير من هذه
التبريرات، واستمر في شكوكه دون أن يتمكَّن
من أن يعزم على قرار، حتى رأى في ليلة من
الليالي الحلم التالي: كنت
جالسًا في السيارة على سفح جبل مرتفع، حيث
بداية طريق ضيق وشاهق للغاية يؤدي إلى قمة
الجبل. وكنت مترددًا في أن أقود السيارة،
مادام الطريق يبدو شديد الخطورة. إلا أن رجلاً
كان يقف بالقرب من السيارة أخبرني أن أقودها
إلى الأعلى وألا أخاف. واستمعت إليه وقررت أن
أعمل بنصيحته. فقُدْتُ السيارة، وأخذتْ
خطورة الطريق تشتد شيئًا فشيئًا. ومع ذلك لم
أستطع أن أتوقف، لأنه لم تكن هناك إمكانية
للانعطاف. وحين أوشكتُ
أن أبلغ القمة توقف المحرك، وتعطَّلتْ
الفرامل، وأخذت السيارة تتقهقر، ثم سقطت إلى
الهاوية! فاستيقظت مذعورًا! من أجل الفهم
الكامل للحلم لا بدَّ لنا من أن نورِدَ
تداعيًا آخر. لقد قال الحالم إن الرجل الذي
شجَّعه على قيادة السيارة في الطريق الجبلي
كان صديقًا سابقًا، رسامًا، "نفدت بضاعتُه"،
ليصير رسَّام وجوه على النمط الحديث. وقد جنى
من ذلك بعض المال، إلا أنه، في الوقت نفسه،
خسر قدراته الإبداعية. وكان يعلم أن هذا
الصديق، بالرغم من نجاحه، ليس سعيدًا ويعاني
من اعتقاده أنه يخون نفسه. وفَهْمُ الحلم
بكامله ليس صعبًا: إن الجبل الشاهق الذي كان
هذا الرجل يودُّ صعوده إنما هو تعبير رمزي عن
المهنة الناجحة التي كان عليه أن يتخذ قرارًا
بشأنها. وهو يدرك أنه لو قَبِلَ العرض فسيفعل
بالضبط ما فعله صديقُه،
الشيء الذي كان يحتقره عليه، ومن أجله أعرض
فجأة عن صداقته. وهو في حلمه يدرك أن هذا
القرار لن يؤدِّي إلا إلى التهلكة. وصورة
الهلاك في الحلم هي هلاك ذاته الجسدية، التي
ترمز إلى أن ذاته الفكرية والروحية هي التي
يتهدَّدها خطرُ
الانهيار. رأى الحالم المشكلة
الأخلاقية في نومه بوضوح، وتبيَّن أن عليه أن
يختار بين "النجاح"، من جانب، والسلامة
والسعادة، من جانب آخر. وأدرك ما سيكون عليه
مصيرُه
إذا ما اتخذ قرارًا خاطئًا. وفي حالة الصحو لم
يكن يستطيع أن يرى الخيار بوضوح.
كان مطبوعًا بـ"الضجة" التي تقول إن
الأبله وحده لا يقبل فرصة الحصول على المزيد
من المال والسلطان والهيبة. وكان شديد التأثر
بالأصوات القائلة إنه من الطفولية
واللاعملية أن يكون "مثاليًّا"، فتعلَّق
بالتسويغات الكثيرة التي يستخدمها المرء لكي
يُسكِتَ صوت ضميره. وهذا الحالم بالذات،
بإدراكه أننا كثيرًا ما نعلم في أحلامنا أكثر
مما نعلم في حالة الصحو، أيقظه الحلمُ من
سباته وروَّعَه بشدة، فانقشع الضبابُ
عن ذهنه، واستطاع أن يرى الخيار بوضوح،
وحَكَمَ
للنزاهة والاستقامة ضدَّ الإغراء المدمِّر
للذات. ولا يقتصر التبصُّر في
أحلامنا على علاقتنا بالآخرين أو علاقتهم
بنا، وعلى ما ينجم عنه من أحكام
قيمة وتنبؤات، بل يرتبط كذلك بالعمليات
الفكرية التي تتفوَّق على مثيلاتها في حالة
الصحو. وليس هذا بمُستغرَب مادام التفكير
النفَّاذ يتطلب قدرًا من التركيز كثيرًا ما
يتأبَّى علينا في حالة الصحو، بينما تكون
حالة النوم مفضية إليه. وأشهر مثال على هذا
النوع من الحلم حلم كيكولي، مكتشف حلقة
البنزين. كان قد بحث فترة طويلة من الوقت عن
الصيغة الكيميائية للبنزين، وذات ليلة
مَثُلَت الصيغة الصحيحة أمام عينيه في الحلم.
وكان من حسن حظِّه أنه تذكَّرها عندما استيقظ.
وهناك أمثلة كثيرة عن أناس يبحثون عن حلول
لمشكلة في الرياضيات أو الهندسة أو الفلسفة،
أو للمشكلات العلمية التطبيقية، وذات ليلة
يحلمون بالحلِّ في وضوح كامل. وفي بعض الأحيان
يجد المرء في الأحلام آراء فكرية معقدة جدًّا.
والمثال التالي هو مثل هذا الحلم، رغم أنه يتضمن، في
الوقت نفسه، عنصرًا
شخصيًّا
جدًّا. والحالمة امرأة ذكية، وهذا هو حلمها: رأيت
هرَّة والعديد من الفئران. وفكرت: سأسأل
زوجي صباح الغد لِمَ لا تقوى مئة فأرة على
هرَّة واحدة، ولماذا لا تستطيع أن تتغلَّب
عليها؟ وأعلم أنه سيجيبني أن هذا لا يختلف عن
المشكلة السياسية ٍالتاريخية، وهي أن
المستبدَّ يستطيع أن يحكم ملايين
الناس دون أن يكون لهؤلاء قِبَلٌ به. وعلى أية
حال، كنت أعلم أن هذا السؤال خادع وأن جوابه
غلط. وفي الصباح الذي
أعقب هذا الحلم قصَّتْ على زوجها الشطر الأول
من الحلم وسألتْه: "ماذا يعني
أنني حلمت أن مئة فأرة لم تستطع أن تهزم هرَّة
واحدة؟" فأعطاها فورًا الجواب الذي
استبقتْه في حلمها. وبعد يومين ألقتْ على
زوجها قصيدة صغيرة من نَظْمها. كانت القصيدة
تتناول هرَّة سوداء في حقول مغطاة بالثلج
تحيط بها مئات من الفئران. وكانت الفئران
كلُّها تضحك على الهرَّة لأنها، بسبب سوادها
الفاحم، تميَّزتْ بوضوح
في الثلج – وكانت الهرة تتمنى أن تكون بيضاء
لكي لا تكون مرئية. وأحد أبيات القصيدة يقول:
"والآن أفهم ما حيَّرَني في الليلة الفائتة." وفي تلاوتها لهذه
القصيدة على زوجها، لم تدرك أية صلة بين
القصيدة والحلم. أما زوجها فقد انتبه إلى
الصلة فقال: "طيب، وهكذا فقصيدتكِ
تقدِّم الإجابة عن حلمك. لقد تشبَّهتِ، لا مع
الفئران كما ظننتِِ، بل
مع الهرَّة؛ وفي حلمكِ
كنت مفتخرة بأن مئة فأرة لم تستطع أن تتغلب
عليك؛ ولكنك، في الوقت نفسه، عبَّرْتِ عن
شعور بالخزي أن الفئران الضعيفة التي تشعرين
نحوها بالتفوُّق قد سخرتْ منكِ لأنها
كانت تستطيع رؤيتكِ
بكلِّ
وضوح." (إن الحالمة تحب الهررة وتشعر
بالتعاطف معها وبالقربى منها.) *** *** *** ترجمة:
محمود منقذ الهاشمي وصلاح
حاتم تنضيد:
نبيل سلامة
[1]
الفصل الثالث من كتاب إريش فروم الحكايات
والأساطير والأحلام: Erich
Fromm, Märchen,
Mythen, Träume:
Eine Einführung
in das Verstänis
einer vergessenen Sprache. [2]
راجع: تسيغموند فرويد، تفسير الأحلام،
1900؛ ص 613. [3]
حول مشكلة وظيفة الذاكرة في علاقتها بنشاط
الحلم راجع المقالة المثيرة جدًّا لـ Dr.
Ernest G. Schnachtel, “On Memory and Childhood Amnesia,” Psychiatry,
February, 1947. [4] العهد
القديم، سفر التكوين، 37: 5-11. (المحرِّر) [5] العهد القديم، سفر التكوين، 41. (المحرِّر)
|
|
|