قانون المحبة وقانون العنف 3
ليف تولستوي
XIV
النفس الإنسانية مسيحية بطبيعتها.
يُدرك البشر المسيحية دائمًا كشيء ما منسيٍّ، وقد تذكَّروه لتوِّهم...
إنَّ المسيحية ترتقي بالإنسان إلى علوٍّ ينكشف فيه له عالمٌ سعيد، يخضع
لقانونٍ حكيم. الشعور الذي يختبره الإنسان، العارف بالمسيحية الحقِّ،
يشبه الشعور الذي قد يختبره إنسانٌ سجينٌ في برجٍ مظلمٍ خانق عندما
يصعد سطح البرج المفتوح حيث يرى منه عالمًا رائعًا لم يكن قد رآه من
قبل.
إنَّ الوعي الناتج عن الخضوع لقانون بشري يستعبد، بينما الوعي الناتج
عن الخضوع للقانون الإلهي يُحرِّر.
أحد الشروط المحدَّدة لسعي الإنسان يكمن في أنه كلما كانت غاية
طموحاتنا أبعد، وكلَّما تمنَّينا أقلَّ رؤية ثمار جهودنا، كلَّما كانت
إمكانية نجاحنا أكبر وأوسع. إنَّ أهمَّ أعمال الإنسان وأكثرها ضرورةً
له وللآخرين هو ذاك الذي لا يشهد نتائجه.
(جون ريوسكين)
«هذا كله ممكن، ولكن لكي يستطيع البشر التحرُّر من الحياة القائمة على
العنف، التي هم متبلبلون فيها وتُمسك بخناقهم، يلزم أن يكون البشر كلهم
متدينين، أي أن يكونوا مستعدين، من أجل تطبيق شرع الله، للتضحية
بآلهتهم الشخصية الدنيوية، وأن لا يعيشوا بموجب المستقبل وإنما تبعًا
للحاضر فقط، طامحين فقط في هذا الحاضر إلى تحقيق مشيئة الله المكشوفة
لهم في المحبَّة. لكن بشر عالمنا ليسوا متدينين، ولهذا لا يمكنهم العيش
على هذا النحو». -هذا ما يقوله بشر زماننا، وكأنهم يفترضون أنَّ الوعي
الديني، أي الإيمان، عبارة عن حالة ليست من طبيعة الإنسان، أنَّ الوعي
الديني في الإنسان شيء ما شاذ، تربوي ومغروس. لكن الناس يمكنهم أن
يُفكِّروا ويتحدثوا على هذا النحو بسبب الوضع الخاصِّ للعالم المسيحي
الذي فقدَ مؤقتًا الشرط الأكثر ضرورةً وطبيعيةً للحياة الإنسانية:
الإيمان.
إنَّ هذا الاعتراض مثل اعتراض إنسان على ضرورة العمل من أجل خير البشر
بقوله إنَّ الإنسان، لكي يعمل، يجب أن يتمتَّع بالقدرة على ذلك، ولكن
ما العمل مع الذين كفّوا عن العمل بحيث أنهم لا يستطيعون ولا يجيدون
العمل، ولم تعد لديهم قدرة على العمل العضلي. ولكن، كما أنَّ العمل ليس
شيئًا مصطنعًا أو مبتكرًا أو مختلقًا من قِبل البشر، وإنما هو ضروري
ولا بدَّ منه، ولا يستطيع البشر العيش من دونه، كذلك تمامًا الإيمان،
أي وعي الإنسان لعلاقته مع اللامتناهي، ومع مرشد الأفعال النابع عنه.
إنَّ إيمانًا كهذا ليس شيئًا تربويًا أو مصطنعًا أو شاذًا، وإنما هو،
على العكس، سمة فطرية للطبيعة البشرية، والتي لم يعش البشر، ولا يمكنهم
أن يعيشوا من دونها، مثلها مثل الأجنحة بالنسبة للطير.
وإذا كنا نرى الآن، في عالمنا المسيحي، أناسًا فاقدين للوعي الديني، أو
الأصحُّ القول، أناسًا ذوي وعيٍّ دينيٍّ مُعتَّمٍ عليه، فإنَّ هذه
الحال البشعة وغير الطبيعية مؤقَّتة وعَرَضية فحسب، إنها حال قلَّة.
وهذه الحال، البعيدة عن الشروط الخاصة التي عاش، ويعيش، فيها بشر
العالم المسيحي، هي حال شاذة بالضبط مثل حال الذين يعيشون، ويمكنهم
العيش، دون أن يعملوا. وبالتالي؛ فلكي يستعيد البشر، الذين فقدوا هذا
الشعور الطبيعي والضروري لحياة البشر، اختباره من جديد، ما من حاجة
لابتكار أو إنشاء أي شيء، وإنما يجب وحسب إزالة تلك الكذبة التي حجبت
عنهم هذا الشعور وعتَّمت عليه.
فقط حرِّر بشر عالمنا من العقيدة الكنسية الباطلة التي أفسدت الدين
المسيحي، ومن ليس فقط تبرير بل وتعظيم النظام الدولتي المبني على
العنف، والذي لا يتعايش مع المسيحية، المستند إليها، وسيزول، من تلقاء
ذاته، من نفوس الناس، ليس في العالم المسيحي فقط بل في العالم أجمع،
العائق الرئيسي نحو وعيٍّ دينيٍّ لقانون المحبة السامي، دون إمكانية
لأية استثناءات أو أي عنف، والذي كُشف للبشرية منذ 1900 سنة، والوحيد
الذي يلبِّي متطلبات الضمير الإنساني في الوقت الراهن.
وما إن يلج هذا القانون الوعي، كقانون أعلى للحياة، حتى ينتهي وضع
البشر، المفسد للأخلاق، الذي في ظلِّه يُعدُّ أعظم ظلم وقسوة، مما
يرتكبه البشر في حقِّ بعضهم بعضًا، أفعالاً طبيعية فُطِر عليها البشر،
وسيتحقق ما يحلم به، ويتمنَّاه، ويعِد به، كلُّ بناة مجتمعات المستقبل،
من الاشتراكيين والشيوعيين، بل وأكثر من ذلك بكثير. وسيتمُّ بلوغ ذلك
عبر وسائل معاكسة تمامًا، وفقط لهذا السبب سيتمُّ بلوغه. وسيتم بلوغه
بوسائل مناقضة، بذاتها، لوسائل العنف التي تحاول، عن طريقها، بلوغه،
سواء الحكومات أم معارضوها. وما سيتم بلوغه هو تحرُّر البشر من الشرِّ
الذي يعذِّبهم ويُفسدهم، والذي لا يناسب الحياة الإنسانية للبشر، رغم
أنه يبدو كذلك فحسب، فقد عاش البشر ويعيشون خارج صيغة الدولة. هكذا
عاشت وتعيش الآن كل الشعوب "المتوحشة" التي لم تصل إلى ما يسمَّى
"الحضارة"؛ وهكذا يعيش الناس الذين يضعون معنى الحياة أعلى من الحضارة:
إنهم يعيشون في أوروبا وأمريكا، وبشكل خاص الطوائف المسيحية في روسيا،
والتي تنبذ الدولة، ولا تحتاج إليها، وتحتمل تدخلها مرغمةً وحسب.
إنَّ نمط الحياة الدولتية مؤقَّت، وليس نمطًا لحياة البشرية على
الإطلاق. فكما أنَّ حياة الفرد ليست ساكنة، وتتغير وتتحرَّك وتتكامل
باستمرار، كذلك تتغير دون توقَّف، وتتحرَّك وتتكامل، حياة البشرية
برمَّتها. كل فرد، في وقتٍ من الأوقات، رضع من صدر أمه، ولعب بالألعاب،
ودرس، وعمل، وتزوَّج، وربَّى الأولاد، وتحرَّر من الأهواء، وصار حكيمًا
في شيخوخته. كذلك تمامًا تغدو حياة الشعوب حكيمةً وكاملة، ولكن ليس
خلال سنوات كما في حالة الإنسان، وإنما خلال قرون وألفيات. وكما أنَّ
التغيُّرات الرئيسية بالنسبة للإنسان تحدث في المجال الروحي اللامرئي
للإنسان، كذلك تحدث التغيُّرات الرئيسية في الإنسانية، قبل كل شيء، في
المجال اللامرئي، في وعيها الديني.
وكما أنَّ هذه التغيرات تحدث لدى الإنسان الفرد بالتدريج بحيث لا
يمكننا مطلقًا معرفة الساعة، أو اليوم أو الشهر، التي لم يعد فيها
الطفل طفلاً، وأصبح شابًا، والشابُّ رجلاً، غير أننا نعلم دائمًا،
دونما خطأ، متى حدثت هذه الانتقالات، كذلك بالضبط لا يمكننا مطلقًا
معرفة السنوات التي تجاوزت فيها البشرية، أو معظمها، سنًّا دينية
معينة، وانتقلت إلى أخرى تليها، لكننا، كما نعلم بالنسبة للطفل السابق
بأنه أصبح شابًا، نعلم بالنسبة للبشرية، أو لمعظمها، بأنها قد تجاوزت
سنًّا دينية معينة، وانتقلت إلى أخرى أعلى منها، بعد أن يتحقق هذا
الانتقال. وهذا الانتقال للبشرية من سنٍّ إلى أخرى حدث في زماننا، في
حياة شعوب العالم المسيحي.
إننا لا نعلم الساعة التي أصبح فيها الطفل شابًّا لكننا نعلم أنَّ
الطفل السابق لم يعد يلعب بالألعاب، كذلك لا يمكننا تسمية العام الذي
انتقل فيه بشر العالم المسيحي من نمط الحياة السابق إلى سنٍّ أخرى
حدَّدها وعيها الديني، لكن لا يمكننا ألاَّ نعلم، وألاَّ نرى، أنَّ بشر
العالم المسيحي لم يعودوا قادرين على اللعب بالغزوات، ولقاءات الملوك،
والخدع الدبلوماسية، والدساتير، بمجالسهم وهيئاتهم، بالأحزاب والثورات
الاشتراكية الثورية والديمقراطية والأنارخية، وبشكل خاص لم يعودوا
قادرين على القيام بهذه الأعمال، مؤسِّسين إياها على العنف.
وهذا ملحوظ بصورة خاصة لدينا في روسيا فيما يتعلق بالتغييرات الخارجية
لنظام الدولة. فالمفكِّرون الجادُّون من الروس لا يمكنهم ألاَّ يشعروا،
فيما يتعلق بكلِّ الأشكال الجديدة للقيادة، بأنَّ هذا يشبه إهداء شخصٍ
بالغ لعبةً جديدة لم يحصل عليها أثناء طفولته. فمهما كانت اللعبة جديدة
وممتعة، فلا حاجة له بها، وقد يداعبها مبتسمًا فحسب. هكذا هي الحال
عندنا، في روسيا، بالنسبة لكلِّ المفكِّرين من الناس ولجمهورٍ غفير من
الشعب، مع دستورنا وبرلماننا ومختلف مجالسنا وأحزابنا الثورية. إذ لم
يعد روس زماننا - أعتقد أني لن أكون مخطئًا إذا قلت: الذين بدأوا
يتلَّمسون، وإن بشكل مبهم، جوهر التعليم الحقيقي للمسيح - قادرين على
أن يُصدِّقوا، بصورة جدية، أنَّ رسالة الإنسان في هذا العالم تكمن في
استخدام الفترة الزمنية القصيرة بين الولادة والموت، المعطاة له، لكي
يُلقي الخطب في المجالس أو في اجتماعات الرفاق الاشتراكيين أو في
المحاكم، ولكي يُدين أقرباءه ويعتقلهم ويسجنهم ويقتلهم، أو أن يُلقي
القنابل عليهم، أو أن يستولي على أراضيهم، أو أن ينشغل بضمِّ فنلندة أو
الهند أو بولونيا أو كوريا إلى دولٍ تسمَّى روسيا وإنكلترة وبروسيا
واليابان، أو لكي يُحرِّر هذه الأراضي عن طريق العنف، ويكون مستعدًا في
سبيل ذلك لارتكاب إبادات جماعية في حقِّ الآخرين. لا يمكن لإنسان
زماننا ألاَّ يعلم في أعماقه كل جنون أفعالٍ كهذه.
إننا لا نرى كلَّ أهوال الحياة، غير المتوافقة مع الطبيعة الإنسانية،
التي نعيشها فقط لأنَّ كلَّ هذه الأهوال، التي نعيش في وسطها باطمئنان،
قد حلَّت بالتدريج بحيث أننا لم نلحظها.
أُتيح لي، في حياتي، أن أرى شيخًا مهجورًا في وضع مرعب: كان جسده يعجُّ
بالديدان، ولم يكن قادرًا على تحريك أيٍّ من أعضاء جسده دون أن يشعر
بالألم، ولم يكن يلحظ كل هَول حالته، التي وصل إليها كذلك دون أن يشعر،
وكان يطلب فقط الشاي والسكَّر. كذلك نحن أيضًا في حياتنا: لا نرى
أهوالها كلها فقط لأننا وصلنا إلى حالنا هذه بخطواتٍ غير ملحوظة، مثل
ذلك الشيخ، ولا نرى أهوالها كلها فقط لأننا سعداء بأفلام السينما
والسيارات الحديثة، مثل الشيخ الذي كان سعيدًا بالشاي والسُّكَّر.
ناهيكم عن عدم وجود أي احتمال بأنَّ القضاء على عنف الإنسان ضدَّ
الإنسان، العنف الذي ليس من طبيعة الإنسان الحصيفة والمُحبِّة، لن
يُحسِّن حال البشر وأنه سيجعلها أسوأ، ناهيكم عن هذا فإنَّ الوضع
الراهن للمجتمع سيئ بشكل مخيف بحيث لا يمكن تصوُّر وضعٍ أسوأ منه.
ولهذا؛ فإنَّ السؤال: هل يستطيع البشر العيش من دون حكومة؟ ليس فقط ليس
مخيفًا، حسبما يتصوَّر المدافعون عن النظام القائم، وإنما هو مضحك
فحسب، مثلما هو مضحك السؤال الموجَّه إلى إنسانٍ يُعذَّب حول: كيف
سيعيش إذا ما كفُّوا عن تعذيبه.
الناس، الذين يتواجدون في وضع استثنائي مفيد بسبب وجود نظام الدولة
يتصوَّرون حياة البشر من دون سلطة الدولة كفوضى، صراع الكلِّ ضدَّ
الكلِّ، تمامًا كأنما الحديث يجري عن تعايش ليس فقط الحيوانات
(الحيوانات تعيش بسلام من دون عنف الدولة)، وإنما عن كائنات مخيفة،
منقادة في نشاطها بالكراهية والجنون. لكنهم يتصوَّرون البشر على هذا
النحو فقط لأنهم ينسبون للبشر صفات معاكسة لحقيقتهم، والتي ربَّاها
لديهم نظام الدولة الذي يعيشون فيه، والذي يستمرون بالمحافظة عليه
بغضِّ النظر عن أنهم لا يحتاجون إليه، وأنه ضارٌّ فحسب.
ولهذا؛ فعن السؤال المتعلِّق بكيفية عيش البشر دون سلطة، ودون دولة،
يمكن أن يكون هناك جواب واحد فقط، وهو أنه ربما لن يكون هناك كل تلك
الشرور التي تُسبِّبها الدولة: لن يكون هناك إقطاع، ولا الضرائب التي
تستخدم لأمورٍ لا يحتاج الشعب إليها، ولن تكون هناك تفرقة بين الشعوب،
ولا استعباد بعض الناس لآخرين، ولن يكون هناك استهلاك أفضل قدرات
الشعوب من أجل الإعداد للحروب، ولن يعود هناك خوف: من جهة القنابل، ومن
الجهة الأخرى المشانق، ولن يعود هناك الترف اللامعقول لبعضهم، والفاقة
الأكثر لامعقوليةً لآخرين.
XVI
إننا نعيش في عصر العلم والثقافة والحضارة، ولكن ما زلنا بعيدين عن عصر
الأخلاق. ففي ظلِّ وضع البشر الراهن يمكن القول إنَّ سعادة الدولة
تزداد مع ازدياد بؤس البشر. ويبقى قائمًا السؤال: ألم نكن أكثر سعادةً
في العصر البدائي عندما لم تكن لدينا هذه الثقافة، مما نحن عليه الآن.
إذ كيف يمكن للبشر أن يصبحوا سعداء إذا لم يصبحوا خلوقين وحكماء.
(كانط)
حاول أن تعيش بطريقة لا تكون بحاجة فيها إلى العنف.
لقد اعتدنا جدًا على الأفكار المتعلِّقة بكيفية تنظيم حياة الآخرين،
حياة البشر عمومًا، ولا تبدو لنا هذه الأفكار غريبة، في حين أنَّ
أفكارًا كهذه ما كان لها أن توجد قط بين الناس المتدينين، وبالتالي
الأحرار. هذه الأفكار هي نتاج الاستبداد: قيادة الآخرين من قِبل شخص
واحد أو بضعة أشخاص. هكذا يُفكِّر الطغاة، وكذلك البشر المفسَدين من
قِبلهم. وهذه الضلالة مؤذية ليس فقط لأنها تعذِّب وتُشوِّه البشر
المعرَّضين لعنف الطغاة، ولكن لأنها تُضعف لدى البشر إدراك ضرورة
إصلاحهم لأنفسهم، في حين أنها الوسيلة الفعلية الوحيدة للتأثير على
الآخرين.
ليس الفرد فقط لا يحقُّ له الهيمنة على الكثرة، بل والكثرة لا يحقُّ
لها الهيمنة على الفرد.
(ف. جرتكوف)
"ولكن، رغم ذلك، كيف سيكون شكل حياة الناس الذين يُقرِّرون العيش من
دون حكومة؟" - يتساءل الناس، ومن الواضح أنهم يفترضون أنَّ البشر
يعلمون دائمًا شكل الحياة الذي سيتكوَّن، وشكل الحياة الذي ستستمر
حياتهم بموجبه، ولهذا فإنَّ الناس، الذين قرَّروا العيش دون حكومة، يجب
أن يعلموا مسبقًا الشكل الذي ستتَّخذه حياتهم. لكن البشر لم يكونوا
يعلمون، ولا يمكنهم أن يعلموا أبدًا، الشكل الذي ستتَّخذه حياتهم.
فالاعتقاد بأنَّ البشر يمكنهم أن يعلموا، بل حتى أن يبنوا، هذا الشكل
المستقبلي، إنما هو خرافة غبية وقديمة وواسعة الانتشار. فسواء خضع
البشر للحكومات أم لا، فإنهم لا يعلمون، ولا يمكنهم أن يعلموا، الشكل
الذي ستتَّخذه حياتهم، ناهيكم عن أنَّ عددًا قليلاً من الناس لا يمكنهم
تنظيم حياة الجميع حسبما يرغبون، وذلك لأنَّ شكل حياة البشر يتراكم
دائمًا ليس حسب مشيئة بعض الناس، وإنما بموجب أسباب كثيرة جدًا
ومعقَّدة ومستقلَّة عن مشيئة بضعة أشخاص، الأسباب التي على رأسها:
الحالة الدينية والأخلاقية لمعظم أفراد المجتمع. أما خرافة أنَّ بعض
الناس لا يمكنهم معرفة الشكل الذي ستتَّخذه حياة الآخرين، أي معظم
البشر، مسبقًا فحسب بل ويمكنهم تنظيم هذه الحياة في المستقبل؛ فقد ظهرت
هذه الخرافة، ومازالت مستمرة، بناءً على رغبة الناس، من ممارسي العنف،
في تبرير أفعالهم، وعلى رغبة الناس، من الخاضعين للعنف، في تفسير
وتخفيف عبء العنف الذي يعانون منه. ممارسو العنف يقنعون أنفسهم
والآخرين بأنهم يعرفون ما الذي ينبغي القيام به لكي تتَّخذ حياة البشر
الشكل الذي يعتبرونه الأفضل، في حين أنَّ الخاضعين للعنف، ماداموا
عاجزين عن إزالة العنف، يُصدِّقون ذلك لأنَّ هذا التصديق فقط يعطي
لوضعهم معنى ما.
المفروض أنَّ تاريخ الشعوب كان يجب أن يُحطِّم هذه الخرافة بمنتهى
الحسم.
بعض الناس من الشعب الفرنسي، في نهاية القرن الثامن عشر، حافظوا على
النظام الملكي الاستبدادي عن طريق العنف ولكن، رغم جهودهم كلها، تمَّ
تحطيم هذا النظام، وظهر النظام الجمهوري. وكذلك بالضبط، رغم كل جهود
قُوَّاد الجمهورية للمحافظة على هذا النظام، ورغم أقسى أشكال العنف،
مكان الجمهورية ظهرت الإمبراطورية النابولوينية، وكذلك مكان
الإمبراطورية الوراثية ظهر - على الضد من مشيئة الحكَّام - النظام
الاتحادي. شارل الخامس، الدستور، الثورة ثانيةً، وثانيةً الجمهورية
الجديدة، ومرَّة أخرى مكان الجمهورية حلَّ لودوفيك فيليب، وهكذا دواليك
وصولاً إلى الجمهورية الحالية. والأمر ذاته بالنسبة لكلِّ أعمال البشر
العنفية؛ فكل جهود البابوية ليست فقط لم تقضِ على البروتستانتية، وإنما
حرَّضتها فحسب، وجهود الرأسمالية كلها تقوِّي وحسب الميول الاشتراكية.
وإذا كانت هناك أنظمة، أُقيمت عن طريق العنف، تبقى قائمة لبعض الوقت،
أو يتمُّ تغييرها كذلك عن طريق العنف، ففقط لأنَّ بعض الأنظمة في الوقت
الراهن لم تعد تلائم الوضع العام للشعب، وخاصةً الحالة الروحية، وليس
لأنَّ أحدهم يسندها أو يبنيها.
وبالتالي؛ فالاعتقاد بأنَّ بعض الناس - الأقلية - يمكنهم تنظيم حياة
الأكثرية؛ ذلك الاعتقاد الذي يُعتبر حقيقةً لا شكَّ فيها، والذي باسمه
تُرتكب أعظم الجرائم، ليس سوى خرافة. أما النشاط المبني على هذه
الخرافة، النشاط السياسي للثوريين، ونشاط الحكام وأعوانهم، مما يُعدُّ
الأكثر تبجيلاً وأهميةً، فهو في حقيقته نشاط فارغ، ناهيكم عن أنه
ضارٌّ، ويعيق خير البشرية الحقيقي أكثر من أي شيء آخر. وقد جرت وتجري
أنهار من الدماء باسم هذه الخرافة، وأُنزلت وتُنزل آلام لا تحصى بالبشر
بسبب النشاط الأحمق والضارِّ الذي انبثق عن هذه الخرافة. وأسوأ ما في
الأمر هو أنَّ أنهارًا من الدماء جرت وتجري باسم هذه الخرافة، رغم أنَّ
هذه الخرافة بالذات أعاقت وتُعيق، أكثر من أيِّ شيء آخر، إنجاز تلك
التحسينات على الحياة في النظام الاجتماعي، الملائمة للعصر ولمستوى
تطور الوعي الإنساني. هذه الخرافة تعيق التطور الحقيقي خاصةً وأنَّ
البشر، بدعوى المحافظة على النظام الاجتماعي وتعزيزه، أو تغييره
وتحسينه، إذ يُوجِّهون قواهم كلها إلى التأثير في الآخرين يحرمون
أنفسهم، بهذا الأمر بالتحديد، من العمل الداخلي لبلوغ الكمال؛ العمل
الوحيد القادر على تحقيق تغييرٍ للبناء الاجتماعي برمَّته.
الحياة الإنسانية بمجملها تتحرَّك، ولا يمكنها إلاَّ أن تتجِّه نحو
المثال الأبدي للكمال، وفقط عبر دنوِّ كل فرد من كماله الشخصي،
اللامحدود كذلك.
أية خرافة مرعبة ومميتة تلك التي بتأثيرٍ منها يقوم البشر، متجنِّبين
العمل الداخلي على أنفسهم، أي الأمر الوحيد اللازم فعلاً لخير المرء
وللخير العام، والوحيد الخاضع لسلطة الإنسان، بتوجيه قواهم كلها نحو
تنظيم حياة الآخرين، الأمر الذي لا يخضع لسلطتهم، ولبلوغ هذا الهدف
المستحيل يستخدمون وسائل العنف الغبية والضارَّة لهم وللآخرين، الأمر
الذي يبعدهم، أكثر من أي شيء آخر، عن الكمال، الخاص منه والعام؟!
XVII
يكفي أن يُدير الإنسان ظهره لحلِّ المسائل الخارجية، وأن يطرح على نفسه
السؤال الحقيقي الوحيد الجدير بالإنسان: كيف له أن يعيش حياته بشكل
أفضل، حتى تحصل المسائل الخارجية على أفضل الحلول.
إننا لا نعلم، ولا يمكننا أن نعلم، فيمَ يكمن الخير العام، لكنَّنا
نعلم يقينًا أنَّ بلوغ هذا الخير العام، ممكن فقط عبر تطبيق قانون
الخير المعروف لكلِّ البشر.
لو اكتفى الإنسان بإنقاذ نفسه بدلاً من إنقاذ العالم، وتحرير نفسه
بدلاً من تحرير البشرية؛ فكم سيكون هائلاً ما سيفعله لإنقاذ العالم
وتحرير البشرية.
(هِرتسِن)
هناك قانون واحد ومشترك للحياة الخاصة والعامة: إذا كنت تريد تحسين
الحياة؛ فكن مستعدًا للتضحية بها.
عش حياتك منفِّذًا مشيئة الله، وكن واثقًا من أنك، فقط بهذه الطريقة،
سوف تساعد على تحسين الحياة العامة بأكثر الأشكال إنتاجيةً.
"هذا كلُّه قد يكون صحيحًا، لكن الكفَّ عن العنف سيكون حصيفًا فقط
عندما يفهم جميع البشر، أو معظمهم، لا جدوى وعدم لزوم وحماقة العنف.
ومادام الأمر ليس كذلك؛ فماذا على الأفراد أن يفعلوا؟ لا يُعقَل ألاَّ
يحموا أنفسهم، وأن يُسلِّموا أنفسهم وحياة أقربائهم ومصائرهم لظلم
وقسوة الأشرار من البشر؟"
لكن السؤال القائل: ماذا عليَّ أن أفعل لمقاومة العنف الذي يُرتكب أمام
ناظريَّ؟ إنما هو سؤال مبنيٌّ على تلك الخرافة الغبية حول قدرة الإنسان
على بناء المستقبل حسب مشيئته هو، وليس معرفته فحسب. فبالنسبة للإنسان
المتحرِّر من هذه الخرافة، لا وجود لهذا السؤال، ولا يمكن له أن يوجد.
"وضع مجرمٌ ما سكينًا على رقبة ضحيته، وكان في يدي مسدس؛ فقتلته. لكني
لا أعلم، ولا يمكنني أن أعلم، هل كان المجرم سينفِّذ تهديده أم لا.
ربما ما كان سينفِّذ تهديده الإجرامي، وأنا قد ارتكبت جريمة".
ولهذا فالشيء الوحيد الذي يمكن للإنسان، ويجب عليه، القيام به في هذه
الحالة، وفي كلِّ الحالات المماثلة، هو ما يجب أن يفعله دائمًا في كلِّ
الحالات المحتملة: أن يفعل ما يراه واجبًا أمام الله، وأمام ضميره. وقد
يطلب ضمير الإنسان منه أن يُضحِّي بحياته، وليس بحياة شخصٍ آخر على
الإطلاق. والأمر ذاته فيما يتعلَّق بمقاومة الشرِّ المجتمعي. وبالتالي؛
فعن السؤال القائل: ماذا على الإنسان أن يفعل عند رؤية جريمة يرتكبها
شخص واحد أو الكثير من الأشخاص؟ جواب الإنسان المتحرِّر من خرافة
إمكانية معرفة الوضع المستقبلي للبشر، وإمكان بناء هذا الوضع عن طريق
العنف، هو جواب وحيد: أن تعامل الآخرين كما تريدهم أن يعاملوك.
"لكنه يسرق وينهب ويقتل، وأنا لا أسرق، ولا أنهب، ولا أقتل. لنفترض أنه
يُطبِّق قانون المعاملة بالمثل، حينها يمكنه أن يطالبني
بتطبيقه" - عادةً ما يقول بشر عالمنا هذا الكلام، ويقوله بثقة أكبر
الناس المتواجدون في المستويات الأعلى من حيث الوضع الاجتماعي. "أنا لا
أسرق، ولا أنهب، ولا أقتل" - يقول الحاكم والوزير والجنرال والقاضي
والإقطاعي والجندي والشرطي. لقد عتَّمت خرافة النظام الاجتماعي، الذي
يسوِّغ شتَّى أنواع العنف، على إدراك بشر عالمنا إلى درجة أنهم، دون أن
يلحظوا النهب المستمرِّ وجرائم القتل التي تُرتكب باستمرار، باسم خرافة
التنظيم المستقبلي للعالم، يرون فقط عمليات العنف النادرة التي يرتكبها
من يُسمَّون القتلة واللصوص والناهبين الذين ليس بمقدورهم تبرير عنفهم
بدعوى المصلحة. "إنه لص. إنه ناهب. إنه قاتل. إنه لا يتَّبع قاعدة: لا
تفعل بالآخرين ما لا تريدهم أن يفعلوا بك"، من يقول ذلك؟ أولئك الناس
أنفسهم الذين، دونما انقطاع، يقتلون في الحروب، ويرغمون الناس على
التجهُّز للقتل والنهب، ويسرقون شعوبهم والشعوب الأخرى.
إذا كانت القاعدة القائلة: "افعل للآخرين ما تريدهم أن يفعلوا لك" لا
تكفي لمواجهة الذين يسمُّونهم، في مجتمعنا، مجرمينَ وناهبينَ ولصوصًا؛
ففقط لأنَّ هؤلاء الناس يُشكِّلون جزءًا من الأكثرية الساحقة للشعب
التي، دون توقَّف، وجيلاً بعد جيل، تقتل وتنهب وتسرق الناس، وبسبب
خرافتها لا تلاحظ إجرامية أفعالها. وبالتالي؛ فعن السؤال المتعلِّق
بكيفية التعامل مع الناس الذين قد يتجرَّأون على ممارسة شتَّى أشكال
العنف هناك جواب واحد فقط: الكفُّ عن الفعل بالآخرين ما لا تريدهم أن
يفعلوا بك. ولكن، ناهيكم عن عدم عدالتنا في تطبيق قانون الجزاء في بعضٍ
من حالات العنف، تاركين دون عقاب أشدَّ أشكال العنف رعبًا وقسوةً، مما
تمارسه الدولة باسم خرافة النظام المستقبلي؛ فمن الواضح أنَّ تطبيق
قانون الجزاء القاسي على العنف الذي يمارسه الذين يُسمَّون قطاعَ طرقٍ
ولصوصًا، ليس عملاً حصيفًا، ويؤدي إلى أهدافٍ مناقضةٍ للأهداف التي
تُطبَّق لأجلها.
وهذه المحاكمة تُستخدم، بمنتهى الإذهال، في العلاقات الدولية. "ما
العمل إذا ما جاءت الشعوب المتوحِّشة لتنتزع منَّا ثمار جهودنا
وزوجاتنا وبناتنا؟" - يقول الناس، وهم يُفكِّرون فقط بإمكانية تعرُّضهم
لتهديد تلك الشرور والجرائم ذاتها التي يرتكبونها، دون توقَّف، في حقِّ
الشعوب الأخرى. يقول البِيض: الخطر الأصفر. ويقول الهنود والصينيون
واليابانيون: الخطر الأبيض، ولقولهم هذا أساس أكبر بكثير. ولكن يكفي
وحسب التحرُّر من الخرافة التي تُسوِّغ العنف حتى نشعر بالرعب من تلك
الجرائم التي ارتكبتها، وترتكبها، الشعوب ضدَّ بعضها بعضًا دون توقَّف،
وأن نشعر برعبٍ أكبر أمام الغباء الأخلاقي للشعوب، الناتج عن هذه
الخرافة، والذي بموجبه يمكن للإنكليز والروس والألمان والفرنسيين
والأمريكيين الجنوبيين أن يتحدَّثوا بخصوص الجرائم التي ارتكبوها
ويرتكبونها في الهند والهند الصينية وبولونيا ومنشوريا والجزائر، ليس
فقط عن مخاطر العنف التي تتهدَّدهم، وإنما عن ضرورة حماية أنفسهم منها.
وبالتالي يكفي أن يتحرَّر الإنسان في ذهنه، ولو مؤقتًا، من تلك الخرافة
المرعبة حول إمكانية معرفة النظام المستقبلي للمجتمع، التي تبرِّر
شتَّى أنواع العنف في سبيل هذا النظام، وأن ينظر، بإخلاص وجدية، إلى
حياة البشر، وسيتَّضح له أنَّ الاعتراف بضرورة مقاومة الشرِّ بالعنف
ليس سوى تبريرٍ من قِبل البشر لعيوبهم المفضَّلة المعتادة: الانتقام،
الجشع، الحسد، حبُّ الرّفعة، حبُّ السُّلطة، الغرور، الجبن، الحقد.
XVIII
لقد حدَّد الخالق ذاته أنَّ معيار أفعال البشر هو المصلحة، وليس
العدالة، وبمقتضى ذلك؛ فإنَّ كلَّ الجهود لتحديد المصلحة دائمًا ليست
مثمرة. ما من إنسان كان يعلم، أو يعلم، أو يمكنه أن يعلم، على الإطلاق
النتائج النهائية لتصرُّف معيَّن، أو لسلسلة كاملة من التصرُّفات، سواء
بالنسبة له أو بالنسبة للآخرين. وكذلك تمامًا، يمكن لنا جميعًا أن نعرف
أنَّ نتائج العدالة سوف تكون أفضل في نهاية المطاف، سواء للآخرين أم
لنا، رغم أنَّنا لا نستطيع أن نقول مسبقًا كيف سيكون هذا الأفضل، وفيمَ
سوف يكمن.
(جون ريوسكين)
وتعرفون الحقَّ، والحقُّ يحرِّركم.
(إنجيل يوحنّا: 8، 32)
الإنسان يفكِّر؛ فقد خُلق على هذا النحو. وواضح أنَّ عليه أنْ يفكِّر
بعقلانية. والإنسان الذي يفكِّر بعقلانية يفكِّر، قبل أيِّ شيء آخر،
بالغايات التي عليه العيش من أجلها: إنه يفكِّر في روحه، في الله.
فانظروا فيمَ يفكِّر الناس الدنيويون: إنهم يفكرون في كل ما يخطر في
البال، ولكن فقط ليس في ذلك. إنهم يفكرون في الرقص والموسيقى والغناء
وغيرها من الملذَّات؛ إنهم يفكرون في العقارات والثروة والسلطة؛
ويحسدون الأثرياء والملوك، لكنهم لا يفكرون مطلقًا ماذا يعني أن يكون
الإنسان إنسانًا.
(باسكال)
فقط تحرَّروا جميعًا، أنتم بشر العالم المسيحي الذين تعانون، سواء
المتسلِّطين والأغنياء أم المقموعين والفقراء، من أكاذيب المسيحية
الباطلة والدولة التي تحجب عنكم ما كشفه لكم المسيح، وما تطلبه منكم
عقولكم وقلوبكم، وسيتَّضح لكم أنَّ أسباب كلِّ عذاباتكم الجسدية:
الفاقة، والروحية: إدراك الجور والحسد والغضب، مما تعانون منه، تكمن
فيكم، أنتم المقهورون والفقراء، وفيكم فقط. أما أنتم، أيها المتسلِّطون
والأغنياء، ففيكم تكمن أسباب تلك المخاوف، وتأنيب الضمير، وإدراك
خطيئية حياتكم، وكل الأمور التي تُقلقكم، بدرجة تزيد أو تنقص تبعًا
لدرجة رهافتكم الأخلاقية.
اِفهموا، أنتم وأولئك، أنكم لم تولدوا عبيدًا ولا أسيادَ للآخرين، أنكم
أناسٌ أحرار، لكنكم أحرار وعقلاء فقط عندما تُطبِّقون قانون حياتكم
الأسمى. وهذا القانون مكشوفٌ لكم، وحقيقٌ بكم أن تنبذوا الأباطيل التي
تحجبكم عنه حتى تتجلى لكم حقيقة هذا القانون، وحقيقة خيركم. وهذا
القانون يكمن في المحبَّة، ويكمن خيركم في تطبيق هذا القانون فقط.
افهموا هذا وسوف تصبحون أحرارًا بحقٍّ، وستحصلون على كلِّ ما تحاولون
بإصرار الحصول عليه عن طريق تلك السُّبل العسيرة التي يجرُّكم إليها
أناسٌ فاسدون تائهون لا يؤمنون بأيِّ شيء.
تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم. احملوا
نيري عليكم وتعلَّموا منِّي، لأنِّي وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً
لنفوسكم. لأنَّ نيري هيِّنٌ وحِملي خفيف.
(إنجيل متّى: 11، 28-30)
لن تُخلِّصكم، ولن تنقذكم من الشرِّ الذي تعانون منه، ولن تمنحكم الخير
الذي بالكاد يمكنكم التطلُّع إليه، رغبتكم في مصلحتكم، ولا حسدكم، ولا
التزامكم ببرنامجٍ حزبيٍّ، ولا كراهيتكم، ولا حقدكم، ولا رغبتكم في
المجد، ولا حتى حسُّ العدالة لديكم، وبشكل خاص ليس الانشغال بتنظيم
حياة الآخرين من البشر، وإنما يخلِّصكم فقط العمل لأجل نفوسكم، مهما
بدا لكم هذا الأمر غريبًا؛ العمل الذي ليست له غايات خارجية، ولا أية
تصوُّرات حول ما قد ينتج عنه.
افهموا أنَّ الافتراض بأنَّ الإنسان قادر على تنظيم حياة الآخرين إنما
هو خرافة فجَّة يُقرُّها البشر فقط لقِدمها. افهموا أنَّ الناس
المستبدِّين المنشغلين بتنظيم حياة الآخرين، ابتداءً من الملوك
والرؤساء والوزراء وانتهاءً بالمخبرين والجلاَّدين، وكذلك أعضاء
وقيادات الأحزاب، ليسوا أشخاصًا رفيعي المستوى، كما يعتقد كثيرون،
وإنما هم - على العكس - أناسٌ يثيرون الشفقة، تائهون جدًا، منشغلون
بالعمل الذي ليس مستحيلاً وغبيًا فحسب، وإنما هو أحد أكثر الأعمال
خِسَّةً مما قد يختاره إنسانٌ لنفسه.
البشر يدركون دناءة المُخبِر والجلاَّد المثيرة للشفقة، وباتوا يدركون
هذا الأمر فيما يتعلَّق بالدَرَكي والشرطي، والعسكري إلى حدٍّ ما،
ولكنهم لم يفهموا هذا بعد فيما يتعلَّق بالقاضي والسيناتور والوزير
والملك والقائد والثوري، في حين أنَّ عمل السيناتور والوزير والملك
ورئيس الحزب دنيء كذلك تمامًا، ولا يتوافق مع الطبيعة البشرية، وهو
شنيعٌ أكثر حتى من عمل الجلاَّد أو المخبر في كونه، مثل عمل الجلاَّد
والمخبر، مغطَّى بالنفاق.
افهموا، يا أيها الناس جميعًا، وخصوصًا أنتم الشباب، أنَّ اشتغال
المرء، وليس تكريس حياته فقط، من أجل تنظيم حياة الآخرين عن طريق
العنف، تبعًا لأفكاره، ليست خرافة فظَّة فحسب، بل وعمل شنيع وإجرامي
ومميت للنفس. افهموا أن تمنِّي الخير للآخرين، الأمر الذي هو من طبيعة
الإنسان، لا يُلبَّى قطعًا عن طريق أضلولة تنظيم حياتهم عن طريق العنف،
وإنما فقط عبر العمل الداخلي للإنسان على ذاته، وهو العمل الوحيد الذي
يكون فيه الإنسان حرًا ومهيمنًا كليًا. فقط هذا العمل، الكائن في زيادة
المحبة في الذات، يمكنه تحقيق هذه الأمنية. افهموا أنَّ أي عمل موجَّه
نحو تنظيم حياة الآخرين عبر العنف لا يمكنه أن يخدم مصلحة البشر، وإنما
هو دائمًا كذب مرائٍ مُدرَك، بدرجة أو بأخرى، يخفي، باسم خدمة البشر،
شهوات شخصية دنيئة: الغرور، الفخر، الطمع، الخ.
افهموا هذا بشكل خاص أنتم الشباب، جيل المستقبل. لا تفعلوا ما يفعله
معظمنا الآن، وتوقَّفوا عن البحث عن السعادة المتخيَّلة في العمل لصالح
الشعب عن طريق المشاركة في الإدارات والقضاء، في تعليم الآخرين،
والالتحاق لأجل ذلك بشتى أنواع المدارس والجامعات المفسدة، والتي
تُعلِّمكم التكاسل والاعتداد بالنفس والغرور. توقَّفوا عن الانخراط في
مختلف المنظمَّات التي يبدو كأنَّ هدفها مصلحة الجماهير، وابحثوا عن
الشيء الوحيد الذي يحتاج إليه كل الناس دائمًا، والذي هو في متناول
الجميع، ويمنح الخير الأكبر للمرء ذاته، ويخدم مصلحة قريبه أوثق من
أيِّ شيء آخر. ابحثوا في أنفسكم عن شيء واحد: زيادة المحبة عن طريق
الخلاص من كل ما يلي: الأخطاء والخطايا والشهوات، التي تعيق تجلِّي
المحبة، وسوف تساعدون على خير البشر بأكثر السُّبل فعَّاليةً. افهموا
أن تطبيق قانون المحبة السامي الذي نعرفه، في زماننا، والذي ينبذ
العنف، حتمي بالنسبة لنا بقدر حتمية الطيران وبناء الأعشاش بالنسبة
للطيور، وبقدر حتمية قانون التغذية النباتية للثدييات وأكل اللحوم
للحيوانات المفترسة، ولهذا، فإنَّ أي تراجع عن هذا القانون من قِبلنا
مميتٌ لنا.
افهموا هذا فقط، وكرَّسوا حياتكم لهذا العمل المفرح. فقط ابدأوا بهذا
وستعرفون، في التوِّ واللحظة، أنَّ عمل حياة الإنسان يكمن في هذا، وفي
هذا فقط، وأنه العمل الوحيد الذي يمكنه تحسين حياة البشر جميعًا، ذاك
الأمر الذي تطمحون إليه بهذا الإصرار، وعبر هذه الطرق الكاذبة. افهموا
أنَّ خير البشر يكمن فقط في وحدتهم، ولا يمكن بلوغ الوحدة عن طريق
العنف؛ فالوحدة تُبلغ فقط عندما يفكِّر كلُّ إنسان، دون أن يفكِّر في
الوحدة، في تطبيق قانون الحياة. فقط قانون الحياة السامي هذا، الذي هو
ذاته لكلِّ الناس، يمكنه توحيد البشر. لقد بات قانون الحياة السامي،
الذي كشفه المسيح، واضحًا للبشر في الوقت الراهن، وفقط اتَّباعه، إلى
أن يتمَّ اكتشاف قانون جديد، أكثر وضوحًا وقربًا إلى نفس الإنسان،
يمكنه توحيد البشر في الوقت الراهن.
XIX
يبحث بعضهم عن الخير والسعادة في السلطة، وآخرون في العلم، وطرفٌ ثالث
في الشهوات. أما الذين هم أقرب إلى خير أنفسهم فعلاً؛ فيفهمون أنه لا
يمكن أن يكمن في أنَّ فقط بعض الناس يمكنهم التمتُّع به، وليس الكلُّ.
إنهم يفهمون أنَّ الخير الحقيقي للإنسان على نحوٍ بحيث يمكن لجميع
الناس التمتُّع به دفعةً واحدة، دونما تمييز، ودونما حسد؛ إنه على نحوٍ
بحيث لا يمكن لأحد أن يُحرم منه إن لم يرد ذلك هو نفسه.
(باسكال)
لدينا قائد واحد، واحد فقط، خالٍ من الخطيئة: إنه الروح الكوني الذي
يتخلَّلنا جميعًا، معًا وكلاً على حدة، كواحدة، واضعًا داخل كل إنسان
النزوع نحو ما يجب؛ وذلك النزوع ذاته، الذي يأمر الشجرة بالنمو باتجاه
الشمس، ويأمر الزهرة بطرح البذور في الخريف، يأمرنا بالنزوع إلى الله،
وبأن نتَّحد مع بعضنا بعضًا، أكثر فأكثر، في هذا التوق. الدين الحقُّ
يستميل الناس إليه ليس عبر وعد المؤمن بالخير، وإنما لأنه الملاذ
الوحيد للخلاص من كل الفواجع، ومن الموت.
هذا كل ما أردت قوله: أردت ان أقول إننا قد وصلنا إلى حالٍ في زماننا
لا يجوز لنا البقاء فيها أكثر، وإنَّ علينا - شئنا ذلك أم أبينا -
الانتقال إلى طريق جديدة للحياة، وإننا، لكي ننتقل إلى هذه الطريق،
لسنا بحاجة إلى ابتداع دينٍ جديد، ولا إلى نظريات علمية جديدة يمكنها
تفسير معنى الحياة وتوجيهها، وبشكل خاص لسنا بحاجة إلى أي نشاط مميَّز،
وإنما يلزم فقط شيء واحد: التحرُّر من خرافة العقيدة المسيحية الباطلة،
وكذلك خرافة النظام الدولتي.
فقط أفهِم كل إنسان ليس أنْ لا حقَّ له فحسب، بل ولا إمكانية لديه
لتنظيم حياة الآخرين، وأنَّ عمل كل شخص هو تنظيم حياته، والسهر عليها،
تبعًا لذلك القانون الديني العلوي الموحى إليه، وسيتمُّ القضاء
تلقائيًا على نظام حياة الذين يسمُّونهم الشعوب المسيحية، ذلك النظام
المتوحِّش المعذِّب، وغير الملائم لمتطلَّبات نفوسنا، والذي يزداد
سوءًا أكثر فأكثر.
أيًّا كنت: ملكًا أم قاضيًا أم ملاَّكًا أم حِرفيًا أم مُعدَمًا، فكِّر
في هذا، ارحم نفسك، ارحم روحك... إذ مهما التبس عليك الأمر، وكنت
مخدوعًا بمملكتك أو سلطتك أو ثروتك؛ ومهما كنت معذَّبًا وحانقًا بسبب
فقرك وعذابك؛ فأنت كذلك، مثلنا جميعًا، تملك، أو بالحري يتجلَّى فيك،
روح الله الذي يقيم فينا كلنا، والذي يقول، في زماننا، بوضوح وبشكل
مفهوم: لماذا، ولأجل ماذا، تعذِّب نفسك وكلَّ الذين تخالطهم في هذا
العالم؟ فقط افهم من أنت، وكم، من جهة، هي تافهة ما تسمِّيها، خطًا،
ذاتك، معتبرًا أنَّ جسدك هو أنت، وكم، من جهة أخرى، هي عظيمة الاتِّساع
ما تعيها ذاتك الحقيقية -كينونتك الروحية. فقط افهم هذا، وابدأ بعيش
كلِّ لحظة من لحظات حياتك، لا لأجل غاياتٍ خارجية، وإنما لتحقيق
الرسالة الحقيقية لحياتك، المكشوفة لك ولحكمة العالم كلها، وعبر تعليم
المسيح ووعيك الخاص ابدأ بالعيش واضعًا هدف حياتك وخيرها في تحرير روحك
أكثر فأكثر، ويومًا بعد يوم، من ضلالات الجسد، وأن تتكامل أكثر فأكثر
في المحبة، وهما الشيء ذاته من حيث الجوهر. فقط ابدأ بالقيام بهذا،
ومنذ الساعة الأولى، اليوم الأول، سوف تشعر بمدى جِدَّة وفرح شعور
إدراك الحرية الكاملة، وسوف ينسكب الخير، أكثر فأكثر، إلى نفسك، والشيء
الذي سوف يثير ذهولك أكثر هو كيف أنَّ تلك الشروط الخارجية التي كنت
مهتمًا لها إلى هذا الحدِّ، والتي كانت بعيدة، رغم ذلك، عن أمانيك -
كيف أنَّ تلك الشروط ذاتها (سواء تركتك على حالك الخارجية أم أخرجتك
منها) سوف تكفُّ عن أن تكون عوائق، وستغدو أكبر أفراح حياتك. وإذا لم
تكن سعيدًا - وأنا أعلم أنك لست سعيدًا - ففكِّر في أنَّ ما يُقترح
عليك هنا ليس من ابتكاري، وإنما هو ثمرة مجاهدات روحية لأسمى وأفضل
عقول وقلوب البشرية، وأنَّ خلاصك من شقائك، وحصولك على أعظم الخير الذي
يمكن لإنسانٍ الحصول عليه في هذه الحياة، يكمن في هذا وحده. هذا ما
أردت قوله لإخوتي قبل أن أموت.
ياسنايا بوليانا
2 حزيران 1908
ترجمة: هفال يوسف
*** *** ***