english

عودة إلى الذات – 5
في الواقع القائم... وفي الحكمة...

 On the Lookout

أكرم أنطاكي

كيفما تكونوا يُولَّى عليكم.
حديث شريف

1

عام مضى أو كاد على اندلاع الثورة في بلدي. والثورة بعد لم تنتهي. عام مليء بالمآسي والدماء والإحباط. وفي الوقت نفسه مليء بالأمل والرجاء...

منذ فترةٍ قريبة كتب أحد "الأصدقاء القدامى" في صفحته على الفيسبوك "أننا حوَّلنا الحرِّية من حلم مضيء إلى نفق مظلم". وأتفكَّر حزينًا بمدى سهولة النطق بالكلام المنمَّق لدى البعض. وأتفكَّر أن قد يكون هذا "الصديق القديم" وأمثاله على حقٍّ إن كان بوسعنا عزل أنفسنا عما يجري والتعامل مع مآسي هذه الحياة بتعال وكأن لا علاقة لنا بها. لكن هذا مستحيل ضميريًا قبل أن يكون حياتيًا (على الأقل بالنسبة لي). لأني أعتقد أن من يعزل نفسه لا يعود بوسعه فهم أي شيء. وبالتالي فإننا...

إن حاولنا التعمق في النظر انطلاقًا من ذاتنا، التي يفترض أن تكون متفاعلة بإيجابية مع الحياة ومع الآخرين الذين هم نحن في نهاية المطاف، إن حاولنا التفكير ونحن نعيش بصدق في قلب الواقع، وأن نتواصل فيما بيننا كبشر ونحن في قلب الحدث، أليس بوسعنا يا ترى أن نفهم حقيقة ما يحدث في عالمنا المزدوج، وأن نتلمَّس الأفق الرحب لذلك الحلم، الذي يفترض أننا نسعى إليه؟

وأبدأ بما قاله ذات يوم مارتن بوبر متأملاً في عالمنا المعاصر أن...

لم يعد بوسع حياة الإنسان في المجتمع، كما لم يعد بمستطاع الإنسان بحدِّ ذاته، الاستغناء عن عالم الـهو الذي تحلِّق الـأنت فوقه كما تحلِّق الروح فوق سطح المياه. فرغبة الإنسان في الربح وفي السلطة لها تأثيرها الطبيعي والخاص ما دامت هذه الرغبة مرتبطة ومدعَّمة بالرغبة في التواصل. لا يوجد دافع شرير ما لم يتم الفصل بين الدافع وبين الكائن؛ فالدافع المرتبط بالكائن والمحدد من قبله هو سقط المتاع الحيِّ للحياة المجتمعية، وهذه تتحلل إن فصلت. فالاقتصاد كملاذ للرغبة في الربح، والدولة كملاذ للرغبة في السلطة، شريكان في هذه الحياة طالما أنهما شريكان في الروح. فإن تنكرتا لروحهما، تنكرتا للحياة...[1]

وأحاول – انطلاقًا من ذاتي – التفكر فيما جرى ويجري في عالم ذلك "الآخر" الذي هو أنا. وأبتدىء بمن هم على رأس السلطة في بلدي...

2

وأول ما أتلمَّسه في هؤلاء ويريعني هو الفقدان الحقيقي لأي تواصل مع حياة ومع آلام البشر. وبالتالي، مع ذلك الآخر الذي هو انعكاس – إيجابي أو سلبي – لذاتهم المتضخمة. ما أدَّى إلى انعدام الحسِّ بالمسؤولية لديهم... وإلى انعدام الحكمة.

لأنه لو كانت لديهم أية حكمة و/أو أي إحساس بالمسؤولية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. ولكان بالإمكان معالجة الأحداث التي بدأت في إحدى المناطق – التي كانت محسوبة كمنطقة موالية – حبِّيًا ومباشرةً. ولكان بالإمكان إنهاء المشكلة في مهدها بالتراضي. حيث كان يكفي أن يتواصل من هم على رأس النظام مباشرة، وبكل تواضع، مع المتضررين كشركاء لهم في الوطن. وكان بوسعهم أن يعتذروا منهم علنيةً. كما كان بوسعهم أن يحيلوا المسؤولين عن تلك الإساءة إلى القضاء. لكن ما حدث كان عكس ذلك. وبالتالي، كان تنكرًا لروح الشراكة وتنكرًا للحياة...

لأنه لو كان لديهم أي إحساس بالمسؤولية و/أو أية حكمة لما استخدموا الجيش الوطني في دكِّ المدن. ولعولجت منذ بداياتها الانشقاقات التي حدثت فيما بعد، والتي تحدث للمرة الأولى في التاريخ الحديث للبلد، من خلال الحوار الصريح والعلني والسعي الحقيقي لتلمُّس أسبابها ومعالجة هذه الأسباب... ولكانوا سعوا بشكل حثيث ودؤوب ومستمر للحوار المباشر والعلني والصادق مع الجميع، وخاصةً مع المعارضة بكلِّ أطيافها.

لأنه لو كانت لديهم أية حكمة أو إحساس بالمسؤولية لما حدثت الثورة أصلاً...

لكن، يا حيف... كان، ومنذ اليوم الأول، إطلاق نار على الناس العزَّل... وكان، منذ اليوم الأول، اختيار الحلِّ الأمني الذي أوصلنا إلى ما أوصلنا إليه من تخبط، وإلى التدويل...

وأتفكَّر فيما جعل هؤلاء – الذين هم منا في نهاية المطاف – يتصرفون بمثل هذه الرعونة؟! فلا أجد في العمق من سبب حقيقي سوى انعدام التواصل مع الحياة الحقيقية. ما أدى إلى تلك الحالة من الرغبة في الربح التي نسميها بالعربية جشعًا وفجورًا. وإلى ذلك التمسُّك بالسلطة الذي تملَّكهم فأعمى بصيرتهم. وحين تعمى البصيرة، و/أو تفتقد الحكمة، يصبح الإنسان – خاصةً إذا كان متحكمًا بالمال و/أو بالسلطة – وحشًا مفترسًا. والوحش لا يفهم معنى السياسة! لأن السياسة هي الإدارة الحكيمة لشؤون المدينة وليست سياسة البشر مثلما تساس الدواب. كما مارسها وما زال يمارسها من نصَّبوا أنفسهم أولياء على البلد...

لكن في المقابل، حين تعمى البصيرة وتفتقد الحكمة لدى البعض منَّا أليس من واجب البعض الآخر أن يكون أكثر بصيرةً، وأكثر حكمةً؟!

3

وأتفكر، محاولاً أن أضع نفسي مكان ذلك الذي دمِّر منزله و/أو عذِّب وفقد عزيزًا. ذلك الذي قد يجيبنا، أول ما يجيب، حين يطرح عليه هكذا تساؤل: إن التمنطق سهل بالنسبة لمن لم يلحق به ضرر أو إساءة. وبالنسبة لمن لم يفقد أخًا أو عزيزًا.

وأتفهم ردة فعله الأولية ورفضه المبرر إنسانيًا. لكن، هل ردود الفعل المباشرة والعفوية هي الحلُّ والطريق الذي يؤمن الخروج من المأزق الراهن؟ أم أنها تزيد الأمور تعقيدًا؟

لأنه إذا كانت جذور الحراك الشعبي في بلدنا – والذي تحوَّل إلى ثورة عارمة بسبب سوء إدارة القائمين على رأس السلطة للأزمة – أخلاقية وإنسانية ومطلبية ووطنية ولم تزل، فإن أسبابًا كثيرة تجاوزت الجميع جعلت الطائفي والفئوي والخاص فيها يطغي على الإنساني والوطني والعام. وهذا ما أدى إلى التحول التدريجي للحراك الشعبي من حراك سلمي ووطني يحمل قضايا الناس وهمومهم وأحلامهم، إلى أعمال عنف باتت تتصارع من خلالها الجيوش. ما فتح الباب للتدخلات الأجنبية من قبل جميع الأطراف. وأدخلنا جميعًا، في نفق مظلم لم يكن يتمناه أي حريص.

من هنا، ومن منطلق مبدئي وذرائعي معًا، تأتي ضرورة الحكمة والبحث عن تسوية تاريخية تخرج البلد من الحالة المزرية التي وصل إليها وتجنبنا الأسوأ الذي بات اليوم متوقعًا. تسوية تضمن لكلِّ مكونات الوطن فرصًا متساوية في الحرِّية والعيش الكريم في وطن يكون فيه الجميع شركاء. تسوية تاريخية نحاول أن نتلمَّس خطوطها العريضة من خلال عدد من التوجهات الأساسية التي هي:

-       أولاً: ضرورة أن يشعر الجميع، وخاصةً منهم أبناء تلك الأقليات التي ما زالت محسوبة على النظام، أن لا غنى عنهم في هذا البلد الذي يجب أن يعيشوا فيه بحرية وكرامة وأمان. ما يعني بكلِّ صراحة إعطاء أبناء تلك الأقليات ضمانات ملموسة تجعلهم يشعرون بذلك.

-       ثانيًا: وفي الوقت نفسه، ضرورة أن يشعر أبناء البلد عامَّة والغالبية منهم بشكل خاص أن حقوقهم محفوظة في العيش بكرامة في بلدهم، وأن لا يكون هناك أي تطاول عليهم من قبل أية فئة أو أقلية أو شخص.

-       ثالثًا: ضرورة إعادة الاعتبار إلى الدولة وعلى رأسها مؤسستها العسكرية من خلال السعي لتفهم الأسباب التي أدت إلى ما حصل فيها من انشقاقات. ما سيؤدي حتمًا إلى إيقاف الاقتتال واستيعاب المنشقين. لأن ما أوصل هذه المؤسسة، العزيزة على قلوبنا جميعًا، إلى ما أوصلها إليه من حالٍ مزرية، ليس فقط رعونة من هم اليوم على رأس السلطة السياسية والأمنية، إنما أيضًا ذلك الخلل البنيوي الذي في تركيبتها والذي لم يعد خفيًا على أحد. ما يضع على بساط البحث...

-       رابعًا: ضرورة خلق مناخ ثقة من أجل التوصل إلى حلٍّ للأزمة وإلى تسوية مشرِّفة للجميع. ولكن...

4

هل يمكن التوصل إلى أي حلٍّ لأية أزمة، و/أو التوصل إلى أية تسوية حول أية مشكلة، من دون حوار؟ ويجيبني ذلك الفيلسوف نفسه الذي يتأملنا اليوم من علٍ قائلاً:

لقد تأخرت بالنطق يا صانع الكلام. فقد كان باستطاعتك قبل هنيهة تصديق خطابك، أما الآن فلم يعد بوسعك ذلك. قبل لحظة، كنت ترى، مثلي، أن الدولة لم تعد تقاد؛ فمشعلو النار ما زالوا يراكمون الفحم، أما القادة فلم يعودوا يمتلكون إلا مظهر التحكم بمكنات سباق مجنونة...[2]

وأتفكَّر أن هذه هي مع الأسف حقيقة الواقع القائم في بلدنا اليوم.

حيث الدولة لم تعد تقاد فعلاً... وحيث لم يعد قادتها، الذين يراكمون الأخطاء والفحم ويفتقدون الحكمة، يمتلكون إلاَّ مظهر تحكم بمكنات سباق مجنونة باتت تقودنا جميعًا نحو الهلاك.

وأتفكَّر أن من هنا تحديدًا تأتي ضرورة أن يتنحوا مباشرةً وأن يفسحوا المجال لسواهم...

وأتفكَّر أن من هنا تحديدًا تأتي أيضًا ضرورة أن يتمتع الجميع بالحكمة وبالروية كي يصبح هذا الأمر محور توافق حقيقي بين جميع مكونات الوطن.

وإلاَّ فإنه، شئنا أم أبينا، ستستمر الثورة وسيستمر الخراب الذي لن يتوقف قبل أن يشعر الجميع بضرورة اتخاذ موقف حازم ومبدئي مما يجري...

نعم، ستستمر الثورة وسيستمر معها مع الأسف الخراب، حتى يستلم العقلاء من جميع أطراف طيفنا المجتمعي مقاليد الأمور...

وأعود إلى نفسي في النهاية وأبكي وأصلِّي على أرواح الشهداء، وكي يتوقف الاقتتال...

أعود إلى نفسي وقد قلت ما قلته، لأنها كلمة يجب أن تقال...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] مارتن بوبر، أنا وأنت، الفصل الثاني. http://www.maaber.org/issue_july10/spiritual_traditions1_a.htm

[2] المرجع السابق.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود