|
إبستمولوجيا
تأثرت الفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة بعد القرن الرابع بمذهب الفيلسوف يمليخا الأفامي الذي أظهر من الاهتمام بالوثنية ما جعل الأفلاطونيون المُحدَثون بعده تقاةً لا يتعبدون للآلهة فلسفيًّا وحسب، بل وعلى غرار المتدينين الروحانيين، فاستعملوا الفلسفة لتأويل القَصص المأثور عن هوميروس والخبرات الروحية والرموز والشعائر السرَّانية لعلم الباطن. إن الغرض من هذا البحث هو تعليل انعطاف الأفلاطونية المُحدَثة المتأخرة نحو الدين بدوافع فلسفية. قبل الدخول في صلب المواضيع العقلية، لا مناص لي من التذكير بضرورة التزام حياة الفيلسوف وأخلاقياته وبأهمية الدين "الوثني" في حياة پروقلس ومذهبه الفلسفي. فلقد بين پيار هادو، في كتابه عن "الفلسفة القديمة"، أن تلك الفلسفة لم تكتفِ بمجرد الخطاب الفلسفي، بل أصرت كذلك على ضرورة انسجام سلوك الفيلسوف مع فكره، فوضع كل مذهب فلسفي قواعد في المناقب والسلوك؛ إذ لم يفصل الفلاسفة آنذاك بين النظر theoria والعمل praxis. من هنا كان پروقلس يؤالف في حياته بين النظر العقلي العميق وبين التعبد للآلهة.
مثل إله البدايات والأبواب عند الرومان "يانوس" تبدو الطبيعة لنا بوجهين: الأول غير المأهول، العالم غير العضوي الذي تسيطر عليه القوانين الفيزيائية التي من بينها قانون الفرص، أو قانون نقص الانسجام، أو الهدف السامي الأكثر وضوحًا؛ أما الآخر فهو العالم العضوي للأحياء، أو الكون العضوي الذي تسود فيه العوامل المنظمة المنسجمة إضافة إلى القوانين الفيزيائية إذ يختفي هنا عنصر الصدفة العمياء. وإذا قسمنا الأمور بحسب الكتلة فإنَّ العالم غير العضوي يفوق نظيره العضوي، إذ يبدو الأخير ضئيلاً إلى درجة متناهية. ويمكن عدُّ الحياة أشنة في زاوية صغيرة تكمن في الكون الخالي. ومع ذلك فإنَّ الحياة، أو العنصر الذي يحمل الخواص الغريبة للعقل والإدراك، هي الخواص التي تبيِّن وجود الهدف في الكون. إنَّ الكميات الهائلة من الكتلة لا تضيف شيئًا إلى هذه الخواص، ويبدو أنَّ هدفها تهيئة أساس للحياة، وبهذا المنظور تبدو الطبيعة ذات طابع مسرف بواسطة ذلك المزيج الصدفي، إذ تكون نسبة قليلة فقط من المادة الكونية صالحة لاحتياجات الحياة.
ورثتنا الكيمياء، ناطقةً باللسان العربي، أدبيات غزيرة، غنية، تتقاطع فيها حضارات عدة. وهي تنتسب صراحة إلى ماض إغريقي ويوناني-مصري، كما تكثر فيها المقبوسات عن أصحاب الكيمياء (= الحكماء) القدماء؛ لا بل إن حواشي كاملة من العقائد الفلسفية (= الكيميائية) باللسان العربي تحيل إلى أقداء من العصور القديمة، المبكرة والمتأخرة. ولقد نهض باحثون ألمعيون لاقتفاء أثر هذه المصادر وخصصوا لها أعمالاً باهرة، نخص بالذكر منها دراسات پاول كراوس. ومع ذلك، فإن العمل المتبقي لا يزال كثيرًا. لكن السؤال المطروح هنا هو، بالحري، حول معرفة المغزى من هذه المقبوسات عن مصنفات قديمة، مغلوطة النسبة غالبًا: لماذا استشعر مؤلفون، لا مراء في إسلامهم ولا لبس فيه، حاجة الاقتباس عن فيثاغورث أو أفلاطون أو هرمس؟ ألأن الكيمياء انتقلت إليهم بواسطة الإغريق؟ أغلب الظن أنْ نعم؛ لكن هذا الإثبات نصف صحيح: فالغالبية العظمى من جملة المصنفات في الكيمياء الموضوعة بالعربية والمنسوبة إلى مؤلفين إغريق لا تقابل أي نصٍّ أصلي معروف؛ كما يبدو أن جزءًا لا يُستهان به من هذه الكتب المنحولة وُضعت بالعربية رأسًا في العهد الإسلامي – إلا إذا كنا بصدد كتب منقحة تنقيحًا جذريًّا.
إن الزمن، كما كتب جورج لويس بورج Jorge Luis Borges "هو الجوهر الذي جبلتُ منه، الزمن نهر يجرُّني، بل إنني أنا الزمن". إن حركاتنا وأعمالنا تمتد في الزمن، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لإدراكاتنا وأفكارنا أو لمحتوى وعينا. نحن نحيا في الزمن، وننظم الزمن، وبالتالي نحن كائنات زمنية حتى أعماق كياننا. لكن هل الزمن الذي نحيا فيه أو الذي ينظِّم حياتنا مستمر كما هو نهر بورج؟ أم علينا بالأحرى أن نقارنه بمتتالية من اللحظات المنفصلة التي تتوالى أو تتسلسل مثل حبات السبحة؟
قبل أربعين سنة، وُلِد الفضاء الرقمي الافتراضي المشبع بالذكاء، بالتزامن مع خروج الذكاء الإنساني إلى الإنتشار كونيًا عبر خطوة صغيرة على القمر، محاكيًا ما فعله قبل ملايين السنين على الأرض، فكأنه وجد في الكون محلاً "شبيهًا". استطاع فريق علمي قاده ليونارد كلاينروك أن يربط بين كومبيوترين في جامعتين أميركيتين. أدى ذلك إلى ولادة عالم جديد، في أكثر من معنى. استعاد كلاينروك المناسبة أخيرًا بكلام محمَّل دلالات. قال: عند ولادة الفضاء الافتراضي، لم نقل "إنها خطوة كبيرة للإنسانية" كما فعل رائد الفضاء نيل ارمسترونغ حين خطا على القمر.
مستمرة... |
|
|