|
الحياة والوعي في الكون
مثل إله البدايات والأبواب عند الرومان "يانوس" تبدو الطبيعة لنا بوجهين: الأول غير المأهول، العالم غير العضوي الذي تسيطر عليه القوانين الفيزيائية التي من بينها قانون الفرص، أو قانون نقص الانسجام، أو الهدف السامي الأكثر وضوحًا؛ أما الآخر فهو العالم العضوي للأحياء، أو الكون العضوي الذي تسود فيه العوامل المنظمة المنسجمة إضافة إلى القوانين الفيزيائية إذ يختفي هنا عنصر الصدفة العمياء. وإذا قسمنا الأمور بحسب الكتلة فإنَّ العالم غير العضوي يفوق نظيره العضوي، إذ يبدو الأخير ضئيلاً إلى درجة متناهية. ويمكن عدُّ الحياة أشنة في زاوية صغيرة تكمن في الكون الخالي. ومع ذلك فإنَّ الحياة، أو العنصر الذي يحمل الخواص الغريبة للعقل والإدراك، هي الخواص التي تبيِّن وجود الهدف في الكون. إنَّ الكميات الهائلة من الكتلة لا تضيف شيئًا إلى هذه الخواص، ويبدو أنَّ هدفها تهيئة أساس للحياة، وبهذا المنظور تبدو الطبيعة ذات طابع مسرف بواسطة ذلك المزيج الصدفي، إذ تكون نسبة قليلة فقط من المادة الكونية صالحة لاحتياجات الحياة. إنَّ الحياة المادية – يتضمن استعمال هذا المصطلح وجود نظيره أو عكسه، وهي الحياة غير المادية، والذي أطلقه الماديون الذين يكونون العدد الكبير بين كل فئات العلماء، وهم يعترضون على هذا التمييز ويعتقدون بوجود عالم واحد هو العالم المادي، إذ أنَّ جميع الأشياء ومنها العقل والروح تنبعث من صفات، أو خواص، المادة ولذلك فهي مادية. إنَّ مثل هذا الموقف عبارة عن تلاعب في الألفاظ وهو يعني إطلاق اسم واحد على شيئين مختلفين وإضفاء صفات الأول على الثاني. يعتقد الماديون أنَّ كل شيء في العالم تتحكم فيه القوانين الفيزيائية، وأنَّ عدم مقدرتنا على شرح بعض الظواهر على أساس هذه القوانين يعزى إلى معرفتنا الناقصة، وتسمى هذه الظاهرة بـالنظرة الآلية. ولتقديم فكرة واضحة عن الموقف ينبغي أن نسمي الأشياء بمسمياتها، فالأشياء المادية هي الأشياء التي يمكن وصفها على نحو كمي وفقًا للمجال والوقت، وهي تتصف بخواص الموقع والحركة، وتحتوي على كتلة وطاقة ويمكن قياسها (الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة، أو بعبارة أخرى الكتلة هي الطاقة والطاقة هي الكتلة) وللواحدة تأثير على الأخرى بحسب القوانين الفيزيائية. ينطبق المفهوم الآلي على الأشياء المادية التي تعرف بحسب هذا المفهوم أو المقياس. وإذا ما حصلنا على دراية أو فهم كامل بظروف النظام المادي فإنَّ ذلك يتيح لنا فرصة للتكهن بمصيره. وحتى في هذا المجال فإنَّ علم الآليات الكمي قد أدخل تصحيحًا هو أن الوصف الكامل بمقياس المجال والوقت للنظام المادي يكون مستحيلاً في الواقع ومن غير الممكن كذلك وضع تخمينات مضبوطة لتطور حالة أصلية. وعلى أيِّ حال، ومن الناحية العملية، فإنَّ هذا المبدأ الذي يطلق عليه مبدأ الشك ينطبق على الحالات المكرسكوبية فقط، والتي لها مدى في حدود الذرة. إما الحالات والحوادث ذات المقياس المكرسكوبي الكبير في العالم المادي الواسع النطاق الذي يحيط بنا فيمكن توقعه على نحو معقول في المفهوم الآلي. ويمكن أن نلاحظ أنَّ الشك يشير هنا إلى حالة الدقة، فإمكانية التعبير عن هذه الظواهر المادية في مقياس الوقت والمجال، سواء أكان هذا الأمر دقيقًا أو لا، لا يمكن أن يتطرق إليها الشك. وبعكس ذلك فإنَّ الأشياء غير المادية لا يمكن تحديدها بإطار للزمن والمجال، ولا يمكن قياسها كوحدات مادية، ولا يمكن أن تطيع القوانين الفيزيائية، وتعد النشاطات العقلية مثالاً على الظواهر غير المادية. لا يمتلك الفكر أبعادًا أو وزنًا أو طاقة، ومن الطبيعي أن تكون عملية التفكير مرتبطة بالنشاط الفيزيائي إلا إنها لا تكوِّن النشاط نفسه. ويمكن أن يحتاج التفكير إلى مادة دماغية مادية إلا أن نتيجة التفكير أمر غير مادي. لا تملك فكرة 2 x 2 = 4 وزنًا، وموقعها وزمانها لا يمكن أن يحددا، أو يمكن أن تكون في أي مكان، ولا يمكن تطبيق مفهوم الحركة عليها. ويمكن لعقلين مثل العقل (الضخم) والعقل (الضئيل) أن يصلا إلى النتائج نفسها على الرغم من أن النشاطات المادية لكل من الدماغين، والتي يمكن قياسها بالسعرات، تختلف بلايين المرات.
من الواضح أنَّ النشاط المادي هو الإطار الوحيد للفكر وليس للفكر نفسه. ويمكن للعالم المادي والمتعصب للفكرة المادية أن يبتسم بخيلاء ويقول: "إنني لا أعتقد بهذا الشيء غير المادي"، ومع هذا فإنَّه عندما يقول هذا الأمر فإنَّه يبرهن على الشيء الذي أنكره. ما هو الشيء العجيب الذي يطلق عليه (الأنا)، هل هو الوعي والإدراك الفردي الذي نتكلم بواسطته؟ وهل له إبعاد ووزن وعمر؟ الجواب: كلا، ليس كذلك. لا يوجد له شيء مما ذكرنا. إنَّ هذه الصفات تخص الجسم الذي يتصل به الوعي نفسه. إنَّ صفته الوحيدة هي وجوده بينما هو موجود يبقى ثابتًا. إنَّ أيَّ شيء يكمن وراء المجال والزمن، ويتحدى كل أنواع القياسات، هو الحقيقة الوحيدة التي تملك دراية وفكرة مباشرة عنها، وهو البداية التي نستطيع بواسطتها التعرف على العالم. مع هذا فإنَّ هذه الحقيقة هي الوحيدة المتأكدين بأنها ليست مادية. إنَّ الشيء غير المادي والذي يطلق عليه الأنا والذي يكون جزءًا من شيء مادي والذي ينكر وجود الأشياء غير المادية يمكن أن يكون ظاهرة متناقضة، وبهذا تكون الحقيقة الأولية لنا هو ما يطلق عليه (الأنا) الخاصة بنا وليس بنا حاجة للبرهنة على وجودها. إنَّ الوعي عبارة عن الوجود نفسه، وقد ظهر الوعي قبل ظهور العقل والفكر، ولذلك نحن نتحدى فكرة (ديكارت) التي مفادها: (أنا أفكر فأنا موجود). إنَّ الشيء الذي ينبغي برهنته هو وجود العالم الخارجي، وإذا وجدت شكوك ما، فينبغي أن نرجعها إلى وجود الأشياء المادية. وهذا طبيعي، ذلك أنَّ تجربتنا قد علمتنا أنَّ العالم المادي، بدون شك، حقيقة تنصرف بنحو مستقل عن فكرنا وخيالنا، ومع ذلك فإنَّ هذا الأمر لا يمكن أن يطغي على الوجود الأصلي للشيء غير المادي (الوعي). إنَّ تجربتنا مع الكائنات الحية، إذا ما أردنا المقارنة بهذا الخصوص، تقودنا إلى معرفة أنواع أخرى من الوعي، ولا يوجد أيُّ دليل بهذا الخصوص، وليس من المستطاع أنَّ نحل وعينا محل كائن آخر، وأن نقارن هذا الوعي بالطريقة نفسها التي نقارنها بوزن الأجسام المادية. إنَّ حكمنا ، أو قياسنا، بخصوص الوعي يعتمد على الملاحظات المادية الخارجية، ومن ملاحظة السلوك الخارجي لمخلوق آخر بالمقارنة مع أنفسنا، ذلك أننا نضع استنتاجات حول الأمور الداخلية المعنوية، أي الأمور غير المادية، وتكون مثل هذه الاستنتاجات أكثر دقة كلما زاد التماثل بيننا وبين المخلوقات الأخرى. لذلك لا شك لدينا فيما يخص الأشخاص الآخرين بأنهم يتحركون ويعملون بوحي من وعيهم أو روحهم المشابهة لوعينا. أما الحيوانات التي هي في أحط أنواعها فإنَّ لها، من دون شك، أرواحًا خاصة بها. وإذ كان عقلها يختلف عن عقلنا، أو أحط من عقلنا، فأن وعيها، أي (الأنا) الخاصة بها، مشابه ببساطته غير المادية للوجود الخالص تمامًا. ترجمة: رياض عبد الواحد *** *** *** |
|
|