إضاءات

حزيران 2017 June

 

عرفت الفلسفة مع إيمانويل ليفيناس تحولاً لم تشهده ربما منذ أفلاطون. كأن الفلسفة معه وصلت إلى ضالتها، أو تذكرت الدلالة التي قامت عليها أو من أجلها، وهي الآخر أو الوجه. يعلن ليفيناس أن الفلسفة قد نسيت سؤالها الأول، ونسيت معه معنى السؤال. كما يصرح أمام أعين معاصريه أن الإيطيقا هي الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى، ليتركهم في شواش، خاصة أنه يسلك في برهانه مسلكًا فينومينولوجيًا يصعب إهماله أو التغافل عنه.

"الأخلاق هي الفلسفة الأولى"؛ هذا يعني أنَّ الفلسفة كانت تسير نائمةً نوعًا ما - كما سيقول ديريدا شارحًا ليفيناس، وأن موضوعاتها كلها منذ أفلاطون حتى هوسرل كانت موضوعات خاطئة قامت على إعراضٍ بدأ منذ اهتمت الفلسفة بالكينونة والحقيقة ونسيت منشأ هذه المقولات وأصلها.

داخل هذا التحول الذي زعزع الفلسفة في عقر دارها (الأنطولوجيا) شهدت الفلسفة مع ليفيناس انقلابًا في موضوعاتها أيضًا، فالوجه ليس أولها والمداعبة ليست آخرها. هكذا، تُصيب قارئ كتاب ليفيناس الأبرز Totalité et infini؛ الذي يعالج موضوعات الفلسفة الكبرى، الدهشة وهو يرى صفحات عدَّة من هذا الكتاب أفردها ليفيناس لموضوع المداعبة والحنيَّة.

 

 

"ما من أحد أعرفه إلا ويريد أن يفهم الفن. لكن، لماذا يا ترى لا نسعى جاهدين إلى فهم شدو العصفور؟ لماذا نحب الليل، والورود، وكل الأشياء التي من حولنا، من دون أن نسعى إلى فهمها؟ عندما يتصل الأمر بالصباغة يظن الناس أن من واجبهم أن يفهموها. فلو أن الناس أمعنوا النظر لأدركوا أن الفنان يعمل عمله بدافع الضرورة، وأنه هو نفسه لا يعدو أن يكون جزءًا لا قيمة له من العالم، وأن لا قيمة مخصوصة له تفوق قيمة الأشياء الأخرى التي تمتعنا في العالم من دون أن نستطيع تفسيرها. الناس الذين يحاولون تفسير الصور هم في الغالب الأعم مخطئون".

 

 

الشِّعر ذروةُ الأدب، والهايكو ذروةُ الشِّعر. يقول آينشتاين إنَّ "القمَر سيبقى موجودًا ولو لم يرَه أحد" لكنّه سيحارُ جوابًا حين يُسأل: كيف تأكَّدتَ؟

الكونُ هو كوننا، هوَ ما نعيهِ، والعلمُ عاجزٌ عن "تفسيره" (يقول أحد الفلاسفة ممازحًا: يجب أن يُمنَع تداول كلمة "تفسير")، فالعلم أداةُ العقل البشريِّ، ومحدودٌ به، وتبدو مقولة الفيزيائيين النظريين: "في النهاية، سيفسِّرُ العلمُ كلَّ شيء" بلا معنى للمُبدعين والصُّوفيين ومن يقاربون الوجود بكيانهم لا بذهنهم؛ فكيفَ سيفهم كائنٌ ذو بعدَين عالمًا ثلاثيَّ الأبعاد؟ كيف يمكنُ أن تشرحَ جمال زهرةٍ ساقطة للتوِّ، أو هبوبَ ريحِ الخريفِ الناعمة (مهلاً، هل هيَ ناعمةٌ فحسب؟ حاول أن تصفَها، الآن، جرِّب كلَّ ما بحوزتك من مفرداتٍ تعلَّمتها - فأصبحتْ من الماضي-: دافئة؟ لطيفة؟ عطِرة؟ هل هذا كلُّ شيء؟ هل وصفتها حقًا؟ بل هل وصفتَ منها شيئًا؟) على وجهك، بمعادلاتٍ وأرقام وقوانين؟

 

 

إذا كانت الآلهة لا تكترث بأحوال البشر كما يعتقد أبيقور، ولم تهتمَّ يومًا بهم وهي في أوج صلفها الميتافيزيقي، فلماذا نصرُّ نحن بشر ما بعد الميتافيزيقا والثورات العلمية والتكنولوجية والبيولوجية على الاهتمام بها والحديث عنها بإطناب شديد وإحياء مقولاتها الآفلة؟ أليس في ذلك ضرب من الشيزوفرانيا الإنسانية حين نعلن نحن أبناء الحداثة "التي لم يكتمل مشروعها" حسب وصف هابرماس لها عن "موت الله" وانتصار الإنسان وانبلاجه "كسيد على الطبيعة ومالكًا لها" كما حلم بها ديكارت منذ القرن السابع عشر، مقابل انسحاب الإلهي. ثمَّ نجد أنفسنا بين فكِّي عالم كلٌّ ما فيه يبعث على الخوف والقلق من تواري إنسانيَّتنا خلف غبار الفضاءات الدينية خاصَّة بعد أن ساهمت العولمة في إنتاج سوق للاستهلاك الديني، وروجت له عبر وسائل الاتصال التيكنولجية الحديثة من تلفزة وأنترنات ووسائل مكتوبة. حيث يتمُّ ترويض عقل الإنسان ومخيَّلته وحواسَّه على تقبُّل كمٍّ هائل من الصُّور والخطابات المنتحلة للذات الإلهية. وحيث تعود العين إلى عرفانيتها مصابة بداء الخشوع وهي تحدِّق في صورة رجل دين أتقن فنَّ التنكُّر في ملابس الزهد وغطى وجهه بأقنعة الآلهة يتصدَّر عالم الشاشة السحري يمارس فعل الانفعال على المؤمنين ويحثُّهم على ردِّ الفعل.

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني