أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية: قراءة تفكيكية
محمد علي عبد الجليل
لن
نتطرَّقَ إلى الأخطاء العِلمية الكثيرة في القرآن لأنَّ وجودها
أمرٌ طبيعي في نص كُتِبَ في القرن السابع الميلادي، بالإضافة إلى
أنه ليس نصًا عِلميًا بل نص ديني أدبي يعكِسُ المستوى المعرفيَّ
لواضعيه وعلومَ عصرِهم. بل سنحاولُ قراءةَ أخطائه اللغوية
والإنشائية قراءةً تفكيكية، بحسب النظرية التفكيكية لجاك دريدا
Jacques Derrida
(1930 - 2004).
في ما يتعلَّق بالأخطاء الواردة في القرآن، يقدِّم المسلِمُ
المؤدلَج أحكامًا مسبقة لا أساسَ لها من الصحة لا لغويًا ولا
تاريخيًا. ولو أنه قرأَ القرآنَ بحيادية كقراءته لكتاب غير مقدَّس
فسوفَ يرى الأخطاءَ بوضوح؛ لأنَّ علاقة القارئ بالنص هي أحد أهم
محدِّدات القراءة.
ومن بين هذه الأفكار الجاهزة الخاطئة التي يقتنع بها (المسلمون)
مِن دُونِ تفكير قولُهم إنَّ "القرآن نزلَ بين قومٍ أَكْفاء، ولو
اكتشفوا أخطاءً لما سكتوا عليها" وأنه كان "محفوظًا في الصدور"...
فهُـمْ يتخيَّلون المجتمعَ الذي ظهرَ فيه القرآنُ في الجزيرة
العربية في القرن السابع الميلادي مجتمعًا ديمقراطيًا مثاليًا
متناسين ما نقلَــتْه المصادرُ التاريخيةُ العربيةُ والإسلاميةُ عن
الجدل الكبير الذي أُثيرَ عند جمعِ القرآن (وقد أثار هذه القضية
مؤخَّرًا الدكتور محمد عابد الجابري)، ذلك الجدلِ الذي يشير إلى
عدم اتفاق الصحابة على النسخة الذي نشرها عثمانُ. فابنُ مسعود
مثلاً رفضَ إدراجَ الفاتحة والمعوِّذتين في القرآن. مما اضطرَّ
عثمانُ، من أجل توحيد القرآن، إلى إحراق باقي المصاحف كمصحف ابن
مسعود ومصحف ابن عباس ومصحف عائشة. مما جعلَ بعضُ الصحابة، وعلى
رأسهم عائشة، يُـكَـفِّرون عثمان ويطالبون بقتله ويرفضون دفنه في
مقابر المسلمين.
كما يتناسون أنَّ عوامَّ العرب آنذاك لم يكونوا أَكْفاءً (جمع:
"كُفْء") بل أَكِــفَّــاء (جمع: "كفيف") لا يرون إلَّا ما تريد
السلطةُ الزمنيةُ آنذاكَ أنْ تُريَهم إياه وأنَّ عربَ الجزيرة لم
يكنْ يهمُّهم لا أخطاءُ القرآن ولا القرآنُ نفسه بل كانت تهمُّهم
مصالحهم الاقتصادية ولقمة عيشهم وأنَّ كثيرًا من القبائل ارتدَّت
عن الإسلام فورَ وفاة محمد.
ثم إنَّ عمليةَ كشْفِ أخطاءِ القرآن في بداية ظهوره لم تكنْ ممكنةً
لأنه كان محصورًا في نطاقٍ ضَـيِّـــق ولم يكنْ قد انتشرَ ولذلك لم
يؤبَه به في بداية الأمر. وعندما انتصرَ المسلمون وانتشرَ قرآنُهم
أصبحَت عمليةُ كشْفِ أخطاء القرآن أصعبَ بكثيرٍ بل غيْــرَ ممكنةٍ
اجتماعيًا ولا سياسيًا؛ فإذا كنا في عصرِنا الحالي عصرِ حرية
التواصل نجد كثيرًا من المسلمين يحاولون بشتى الطرق إغلاق صفحة
"أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية" التي أنشأها الأخ الباحثُ
والمترجِمُ سامي الذيب على شبكة التواصل "فيس بوك" فكيف كانت
الحالُ في القرون الوسطى في الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام؟
وكيف كان سيُسمَح لمنتقدٍ أنْ يبيِّنَ الأخطاءَ اللغوية إذا كان لا
يُسمَح أساسًا إلَّا لمسلمٍ أو منافقٍ أنْ يعيش في الجزيرة
العربية. ولو أنَّ أحدًا تجرَّأَ وأظهرَ خطًا في القرآن فمن سيروي
عنه؟ أين مؤلفات ابن الراواندي النقدية على سبيل المثال؟
إنَّ عدم وجودِ مصادرَ تاريخيةٍ تُشير إلى كشف معاصري القرآن
لأخطاء القرآن لا يعني أبدًا عدمَ وجودِ أخطاءٍ فيه ولا يعني أنَّ
خصومَ القرآن لم يكتشفوا أخطاءه، بل يعني عدمَ وجودِ حرِّيةٍ كانت
تسمح بانتقاد القرآن وكشفِ عيوبِه أو تسمح بالحفاظ على الآثار
النقدية للقرآن إنْ وُجِدَت. فإذا كان عثمانُ نفسُه قد أحرقَ جميعَ
المصاحف الأخرى وأسكَتَ بالعنف جميعَ الأصوات المعارِضة ووظَّفَ
مؤيدوه أساليبَ بلاغيةً وفقهيةً لتبرير أخطاء القرآن وتناقضاتِه
(مثل أسلوب "الالتفات" [الذي يَندُرُ في شِعرِ ما قبلَ الإسلام
ويكثرُ جدًا في القرآن] و"التقديم والتأخير" و"الاعتراض" و"الحذف
والتقدير" وأحكام "الناسخ والمنسوخ" وبعض القراءات وبعض التبريرات
النحوية الإعرابية وكثير من الأحاديث وكثير من التفاسير) فكيف
بأتباعه الذين تحجَّــرَتْ عقولُهم بفعلِ القرآنِ عبْـــرَ العصورِ
أنْ يسمحوا لأحد أنْ يبيِّنَ لهم أخطاءه؟
إنَّ أهمَّ أهدافِ التفاسير وكتب النحو ليس شرْحَ آياتِ القرآن
فحسْبٌ بل تبريرُ تناقضاتِه وأخطائه وتغطية عيوبه. فكانت التفاسيرُ
تقوم بعملياتِ تجميلٍ لهذا الكِتابِ-الهُوية. وقد أكملَتْ ترجماتُ
القرآن ما بدأَتْه التفاسيرُ فصلَّحَت ما أَمْكَنَ تصليحُه من
عيوبٍ ورمَّـمَتْ ما أمْكَنَ ترميمُه من فجواتٍ وتفكُّكٍ وتناقضات.
ويحاولُ عبثًا مروِّجو سرابِ الإعجاز العلمي أنْ يَــلْــوُوا
عُــنُــقَ النص القرآني ليبدوَ منسجمًا مع العِلم ويحاولون بغبار
التوفيقية
concordisme
أنْ يردموا البحرَ المحيطَ الفاصلَ بين النص الذي يقدِّسونه وبين
العِلم.
إنَّ
كثيرًا من الأخطاء التي حصلَتْ عند جمعِ القرآن وكذلك عند تنقيطه
لا علاقةَ لها بفصاحة العرب المسلمين بل بعدمِ معرفتهم بسياق
القرآن وبخفايا وضْعِه وبمصادره أولاً وبكونهم
يعتبرون القرآنَ مقدَّسًا ثانيًا مما
جَعلَهم لا يجرؤون على مجرَّد التفكير بكشف أخطائه ولا على تصحيحها
فيما لو كشفوها. فإذا كان بعضُ معاصري القرآن من المقرَّبين
لمحمَّد وربما لمؤلفي القرآن وممن لا يُشَــكُّ في معرفتِهم
الواسعة بالعربية وببيئة القرآن (كعُمرَ وأبي بكر وابن عباس) لم
يفهموا معانيَ بعضِ الكلمات فيه (كمعنى "الأبّ" [عبسَ، 31]
و"الغِسلين" [الحاقَّة، 36] و"حنانًا" [مريم، 13] و"أَوَّاه"
[التوبة، 114] و"الرَّقيم" [الكهف، 9])، بحسب السيوطي، فكيفَ
بالمتأخرين؟ (راجع: الألفاظ الأعجمية في القرآن ودلالتها
والتحدِّي ومعناه،
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=342785).
لِيتخيَّلِ المسلمون أنَّ حاكمًا عربيًا طاغيةً نشرَ كِتابًا
يتضمَّنُ أقوالَه وكان هذا الكِتابُ يحتوي على أخطاءٍ مطبعيةٍ
errata
وأخطاءٍ أسلوبيةٍ ولغويةٍ سببُها ضَــعْــفُ جامعي الكِتاب
ومؤلِّفي هذه الأقوال فهل سيجرؤ أحدٌ داخلَ مملكة الطاغية أنْ
يخرجَ على الملأ ويُعلِنَ عن أخطاءِ كِتاب الطاغية؟ وإنْ حدثَ مثلُ
هذا، وقد يحدُث، فهل سيُــبقِي حاشيةُ الطاغية وزبانيتُه ومؤيِّدوه
أيَّ أثرٍ لذلك المنتقِد ولأفكاره؟ وإنْ نجَتْ بعضُ الأفكار
النقدية القليلة وبقيَتْ بعدَ زوالِ حُكْم الطاغية فسيقول أتباعُه
فيما بعدُ إنَّ هذه الآثارَ النقدية لا يُــعْــتَــدُّ بها
لقلَّتِـها ولن يعترِفوا بأنَّ السببَ في قلَّتها هو عدمُ قبولِهم
للنقد وعنفُهم في مكافحته وضعفُهم أمام الردِّ العقلاني عليه. إنَّ
العصور الإسلامية (الراشدي والأموي والعباسي) كانت أكثرَ
دكتاتوريةً من العصر الحديث بما لا يقارَن. كان العنفُ هو ما
يميِّز عصورَ الإسلام حيثُ بلغَ بين المسلمين الــ"رُحماء فيما
بينهم" (بحسب وصف القرآن لهم في سورة الفتح، 29) حدًا أدَّى إلى
اقتتالهم فيما بينَهم اقتتالاً شديدًا ما زلنا نرى آثارَه إلى الآن
بين سُنَّةٍ وشيعةٍ أو بين التيارات الإسلامية الرسمية
(الأرثوذكسية: سُنَّة وشيعة) والتيارات المخالفة [غير الرسمية] (من
دُرزية ونُصَيرية وإسماعيلية وأحمدية وبهائية وغيرها).
يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الأخطاء في القرآن:
1-
النوع الأول: الأخطاء الإملائية غير المقصودة أو أخطاء السهو أو
الجهل من الناسخ:
وهذه الأخطاء على قسمين بحسب تاريخ حدوثها:
(1)-القسم الأول: أخطاء حصلَت في وقت تدوين القرآن
وتبدو قليلةً في القرآن، ومنها الأخطاء الواضحة (اللحن) التي
سُئلَت عنها عائشةُ، بحسبِ عدة مصادرَ مِنها تفسيرُ الطبري:
("حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه
أنه سأل عائشة عن قوله: "إنَّ هذانِ لساحران" [طه، 63]، فقالت: "يا
ابن أختي، هذا عمل الكُـتَّاب أخطأوا في الكِتاب"." (عِلمًا أنَّ
قراءةَ الجمهور كنافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر هي: "إنَّ هذانِ"
وقراءةَ حفصٍ هي: "إنْ هذانِ"). إنَّ مجرَّد ذِكْرِ مثلِ هذه
الأحاديث في كتاب معتبَر كالطبري يوحي بأنَّ فكرة خطأ الناسخ في
القرآن لم تكنْ مستهجَنة.
ومن هذه الأخطاء الإملائية التي حصلَت أثناء التدوين يمكنُ أيضًا
ذِكرُ الخطأ الوارد في الآية 55 من سورة الحج ("أو يأتيَهم عذابُ
يومٍ عقيم") والصوابُ الذي أقترحُه هو أنْ يقال: ("أو يأتيَهم
عذابُ يوم عظيم")، وذلك لأنَّ القرآن يستخدم دائمًا صفةَ "عظيم"
لوصف "يوم"، كما في الآية 37 من سورة مريم ("فويلٌ للَّذينَ كَفروا
من مَشهدِ يومٍ عظيم") والآية 135 من سورة الشعراء ("إنِّي أخافُ
عليكم عذابَ يومٍ عظيم") والآية 13 من سورة الزُّمَر ("قلْ إنِّي
أخافُ إنْ عصيتُ ربِّي عذابَ يومٍ عظيم"). إنَّ وصف اليوم
بــ"العظيم" منطقي أكثر من وصفه بــ"العقيم" وينسجم أكثر مع منطق
القرآن. وربما كان استخدام كلمة "عقيم" (بدلاً من "عظيم") في الآية
55 من سورة الحج يعود إلى خطأ أو سهو من الناسخ، لأنَّ الفرق
الإملائي بين كلمة "عظيم" وكلمة "عقيم" فرق بسيط جدًا.
(2)-القسم الثاني: أخطاء حصلَت بعدَ تدوين القرآن وذلك أثناء
تنقيطه
فأخطأوا في وضع النقاط على بعض الحروف. وقد أشار كريستوف لوكسنبرغ
إلى بعضِها من خلال قراءته للقرآن على ضوء الآرامية. فمثلاً، الآية
64 من سورة الإسراء ("واستفزِزْ مَنِ استطَعْتَ منهم بصوتِكَ وأَجْـــلِـــبْ عليهم
بِخَــيْـــلِــكَ ورَجِـــلِـــكَ وشارِكْهم في الأموالِ
والأولادِ وعِدْهُم وما يَعِدُهُمُ الشيطانُ إلَّا غُرورًا") قرأها
لُكسنبرغ هكذا: ("واستفزِزْ مَنِ استطَعْتَ منهم بصوتِكَ
وأَخْــــلِـــبْ عليهم [اخدعهم] بِحِيَلِك ودجَلِكَ
وشرِّكهم [أوقعهم في الشِّراك: أغرِهِم] الأموالِ والأولادِ
وعِدْهُم وما يَعِدُهُمُ الشيطانُ إلاَّ غُرورًا").
مثالٌ آخر على أخطاء التنقيط هو الآية:
("وهو الذي أَنشأَ جَنَّاتٍ مَعروشاتٍ وغَيْرَ مَعروشاتٍ"
(الأنعام، 141) حيثُ أوردَ القرطبي في تفسيره أنَّ عليًا قرأها
بِالْغَينِ المُعجَمة والسين المُهمَلة هكذا: ("مغروسات
وغير مغروسات").
مثال ثالث على الخطأ الإملائي في التنقيط ما اقترحَـه (أحمد
الجابري) أحدُ المشارِكين في صفحة "أخطاء القرآن اللغوية
والإنشائية"، إذِ اقترحَ قراءةَ كلمةِ "المُصَــلِّين"
بالضاد المعجَمة هكذا: "المُـضِـــلِّين"، لينسجمَ معنى
الآية التالية مع المنطق القرآني: ("فويل "للمُـضِلِّينَ"
الَّذينَ هُم عن صلاتهم ساهون" [الماعون، 4 و5])، ذلك
لأنَّ المُصَــلِّين لا يمكنهم أنْ يسهوا عن صلاتِهم، وإلَّا لما
كانوا مُصَــلِّين.
2-
النوع الثاني: الأخطاء اللغوية أو الإنشائية المقصودة لحاجة ترجمية
أو موسيقية:
وهي عيوب أكثر منها أخطاء. وبعض هذه الأخطاء في الألفاظ أو في
ترتيب الكلمات داخل الجملة ناتجٌ على الأرجح عن تأثير النصوص غير
العربية التي كانت مَصْدَرَ القرآن. ومن هذه الأخطاء تغييرُ
التذكير والتأنيث للكلمة كاستخدام الكلمة المؤنَّثة بصيغة المذكَّر
لإضفاء معنىً إضافيٍّ عليها يؤدِّي معنى الكلمة الأصلية في اللغات
الأجنبية (الآرامية أو العِبرية أو غيرها) التي نُـــقِـــلَ منها
القرآنُ بتصرُّف شديد. مثلاً، استخدمَ القرآنُ 24 مرةً بصيغة
المذكَّر كلمةَ "عاقبة" المؤنثةَ (مثال: "فانْظُرْ كَيفَ
كانَ عاقِبةُ المُنْذَرِين [الصافات، 73]).
وهذا خطأ. ويبدو أنه خطأ مقصود لحاجة ترجمية لأنه من المستبعَد أنْ
يُخطِئَ سهوًا واضعو القرآنِ أو جامعوه أربعًا وعشرين مرةً في
تذكير كلمة مؤنثة. وأُرَجِّح أنَّ الكلمةَ العربية المؤنثة "عاقبة"
هي ترجمة لكلمة عِبرية مذكَّرة ربما هي الكلمة العِبرية المذكَّرة
עקב
[eqev]
التي تعني: عَقِب القَدَم، مآل، نتيجة،
تتمَّة، جزاء. ويبدو أنَّ واضعي القرآنِ استخدموا كلمةَ
"عاقبة" بصيغة المذكَّر لكي يضيفوا بُعدًا دلاليًا آخر غيرَ موجودٍ
وقتَـئذٍ في الحقل الدلالي للكلمة العربية. ويُرَجَّح أنَّ كلمة
"عاقبة" المؤنَّثة كانت في وقت كتابة القرآن تعني: الذُّرِّيَّة
والولد.
["وكُلُّ من خَلَفَ بَعدَ شَيْء فهو عاقِبَةٌ" (تاج
العروس)."
والعاقِبةُ ولَدُ الرجلِ ووَلَدُ ولَدِه الباقونَ بعده" (لسان
العرب)].
وبالتالي فقد كان استخدامُ هذه الكلمة العربية المؤنثة بصيغة
المذكَّر في القرآن (طِبقًا للكلمة العِبرية الأصل في النص العِبري
المنقول عنه كالتوراة والتلمود وغيرهما) يهدف ربما إلى إعطاء معنى
الجزاء والعِقاب.
نلاحظ مثلاً في هاتين الآيتين في المزامير (לָמָּה
אִירָא,
בִּימֵי רָע--עֲוֹן
עֲקֵבַי
יְסוּבֵּנִי.)
["لماذا أخافُ في أيَّامَ الشرِّ عندما يُحيطُ بي إثْمُ
مُــتَــعقِّبي"] (مزمور، 49: 5) و(ז
יָגוּרוּ,
יצפינו
(יִצְפּוֹנוּ—(הֵמָּה,
עֲקֵבַי
יִשְׁמֹרוּ:
כַּאֲשֶׁר,
קִוּוּ נַפְשִׁי.)
["يجتمعون يختفون يلاحظون خطواتي عندما ترصَّدوا نفسي."]
(مزمور 56: 7) أنَّ الكلمة العِبرية (עֲקֵבַי)
("آثاري" أو "تعقُّباتي")، التي تشترك في الجذر مع الكلمة العربية
المؤنثة "عاقبة"، هي كلمة مذكَّرة في صيغة الجمع مع
لاحقة الملكية العائدة على المتكلِّم المفرد.
وهناك خطأ لحاجة موسيقية سجعية (من أجل الفاصلة القرآنية أو
القافية) كحذف ياء المتكلِّم في نهاية الآية (في أحدَ عشرَ كلمةً،
مثل: "فكيفَ كان نَكيرِ [الأصل: نكيري]" [الحج، 44]
و"لكم دِينُكم ولِيَ دِينِ [الأصل: ديني]"
[الكافرون، 6]) وكاستخدام الفعل الناقص "كان" في بعض المواضع، مثل:
"إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شيءٍ شهيدًا"
(الأحزاب، 55، والنساء، 33). والخطأ هو استخدام الفعل "كان" فهو
زائد لا يضيف على المعنى شيئًا بدليل أنَّ القرآن استخدمَ الجملةَ
نفسَها وبالمعنى نفسِه مِن دُونِ الفعل "كان" وذلك في سورة الحج:
"إنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ شهِيد" (الحج، 17). وهذا الخطأ يبدو
مقصودًا للحصول على كلمة منصوبة تتماشى مع نهايات الآيات (الفواصل)
في السورة. فهو خطأ دلالي للحصول على تأثير موسيقي. ونظرًا لكون
القرآن كتابًا ترتيليًا تجويديًا تعبُّديًا ليتورجيًا فإنه من
الطبيعي أنْ يُعطيَ أهميةً كبيرة للفاصلة، أيْ للكلمة التي تقع في
نهاية الآية (السجع). فالفواصلُ في القرآن هي بمنزلة القوافي في
الشعر. فالقرآنُ كلام مسجوع (كلام مــنثور مُـــقَــــفَّــىً له
فواصِلُ).
نلاحظ أنَّ الفاصلة الغالبة في سورة الأحزاب هي كلمة منصوبة، بينما
الفاصلة الغالبة في سورة الحج هي كلمة مرفوعة أو مجرورة. وبالتالي
نستنتج من ذلك أنَّ القرآن استخدمَ "كان" في تلك الآية من سورة
الأحزاب ("إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شيءٍ شهيدًا")
فقط للحصول على كلمة منصوبة ("شهيدًا") ليتوافقَ سجعُ الآية مع سجع
باقي الآيات في السورة، بينما لم يكنْ بحاجة إلى قافية منصوبة في
سورة الحج فلم يستخدم الفعل "كان" في الجملة نفسها: ("إنَّ اللهَ
على كُلِّ شيءٍ شهِيد").
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تؤكِّد على أنَّ الهدف من استخدام القرآن
للفعل "كان" في كثير من الجُمَل ذات القافية المنصوبة هو الحصول
على الفاصلة المناسبة للآية، مقابل استخدامه للجُـمَـل نفسِها مِن
دون الفعل "كان" في سُوَر أخرى قافيتُها مرفوعة أو مجرورة. ومن هذه
الأمثلة:
1.
"إنَّ اللهَ كان علِيًّا كبيرًا" (النساء، 34)؛ مقابل:
"وأنَّ اللهَ هو العَلِيُّ الكبير"
(الحج،
62)؛
2.
"فإنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا"
(النساء، 129)،
"إنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا"
(الأحزاب، 24)؛
مقابل:
"إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم"
(المائدة، 39، والأنفال، 69)؛
3.
"وكان اللهُ غفورًا رحيمًا" (الأحزاب، 5 و50
و59 و73)؛
مقابل:
"واللهُ غفورٌ رحيم" (المائدة، 74، والتوبة، 27)؛
4.
"وكان اللهُ غنيًّا حميدًا"
(النساء، 131)؛
مقابل:
"فإنَّ اللهَ غنيٌّ حميد" (لقمان، 12)؛
5.
"وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ قديرًا"
(الأحزاب، 27، والفتح، 21)؛
مقابل:
"إنَّ اللهَ على كُلِّ شىءٍ قدير" (البقرة،
20 و 109 و148، وآل عمران، 165، وفاطر، 1، والعنكبوت، 20، والنحل،
77، والنور، 45)؛
6.
"وكان اللهُ سميعًا بصيرًا" (النساء، 134)؛
مقابل:
"إنَّ اللهَ سميعٌ بصير" (الحج، 75، ولقمان 28، والمجادلة، 1)؛
7.
"وكان ذلك على الله يسيرًا" (النساء، 169)؛ مقابل:
"إنَّ ذلك على الله يسير" (الحج، 70)؛
8.
"إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا" (الأحزاب، 1)؛ مقابل:
"إنَّ اللهَ عليمٌ حكيم" (التوبة، 29)؛
9.
"إنَّ اللهَ كان بما تَعْمَلون خبيرًا" (الأحزاب، 2)؛
مقابل:
"واللهُ بما تَعْمَلون خبير" (آل عمران، 180)، "وأنَّ اللهَ بما
تَعْمَلون خبير" (لقمان، 29)؛
10.
"وكان اللهُ قويًّا عزيزًا"
(الأحزاب، 25)؛ مقابل:
"إنَّ اللهَ قويٌّ عزيز" (المجادلة، 21، والحديد 25)، "إنَّ اللهَ
لَقويٌّ عزيز" (الحج، 74)؛
11.
"إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا" (الأحزاب،
34)؛
مقابل:
"إنَّ اللهَ لطيفٌ خبير" (الحج، 63، ولقمان 16)؛
12. "وكان اللهُ بكُلِّ شيءٍ عليمًا" (الأحزاب، 40،
والفتح، 26)، "فإنَّ اللهَ كان بكُلِّ شيءٍ عليمًا" (الأحزاب، 59)؛
مقابل: "إنَّ اللهَ بكُلِّ شيءٍ عليم" (العنكبوت، 62، والتوبة،
115، والأنفال، 75، والمجادلة، 7)، "واللهُ بكُلِّ شيءٍ عليم"
(الحُجُرات، 16، والتغابن، 11، والنور، 35).
ولكنَّ النحويين اخترعوا معنىً جديدًا للفعل "كان"، وهو معنى
"الأزل والأبد"، لتبرير استخدام القرآن لهذا الفعل. ولكن لو أرادَ
حقًا مؤلِّفو القرآنِ تسليطَ الضوء على معنى "الأزل والأبد"
لاستخدموا الجملةَ من دُونِ الفعل "كان" أو مع الحرف المشبَّه
بالفعل "إنَّ" أو مع أية كلمة تُــعَــبِّر عن الديمومة. كما أنَّ
الشواهدَ الشعرية التبريرية التي قدَّمَـها بعضُ النُّحاة للفعل
"كان" لا تفيد معنى "الأزل والأبد" إذا ما دقَّقنا فيها جيدًا، بل
تفيد معنى الحال أو ربما العادة الماضية. ومن هذه الشواهد: قولُ
المُـــتَــلَمِّس: "وكُـنَّــا إذا الجَـبَّارُ صَـعَّــرَ
خَــدَّه / أقَـمْنا له مِن ميلِه فتَــقَــوَّما." وقولُ قيس بن
الخطيم: "وكُنتُ امرءًا لا أسمع الدهرَ سَــبَّةً / أَسُبُّ
بها إلَّا كشفتُ غطاءها." وقولُ أبي جندب الهذلي: "وكنتُ
إذا جاري دعا لمضوفةٍ / أُشَمِّرُ حتى يُــنْصِفَ الساق مِئزري."
3-
النوع الثالث: الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بترتيب الكلمات داخل
الآيات أو بترتيب الآيات داخل السور (البلبلة والاضطراب والاختلال
في ترتيب الآيات):
وهذه الأخطاء منها ما هو مقصود لإضاعة الخيط الموجِّه للمعنى الكلي
للنص بحيث لا يتمكَّن من إدراكه العوامُّ فتوجِّهُهم السلطةُ
الزمنية بحسب مصالحها. ومنها ما هو غيرُ مقصود مردُّه إلى السهو أو
إلى جهل جامعي القرآن بمصادر القرآن وسياقه وباللغات السامية
السائدة وقتَ ظهورِ القرآن. فلو أَعطَينا شخصًا مُـــنَــضِّدًا لا
يعرِف الفرنسيةَ ولا الفلسفةَ مَـقاطِعَ أو فقراتٍ أو جُـمَــلاً
متفرِّقةً مترجمةً (من الفرنسية إلى العربية) ومخطوطةً بخط اليد
مأخوذةً من عدة كتب للفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل
Simone Weil
فمن الطبيعي أنْ يحتويَ النصُّ الرقميُّ
المنضَّدُ على أخطاء تنضيدية ليست بالقليلة. فكيف سيكون حجمُ
الأخطاءِ إذا كان النصُّ المخطوطُ لا يحتوي على تنقيط وإذا كان قد
جُمِعَ بعد سنوات من تأليفه وطُبِعَ بعد مئات السنوات وإذا لم يكنْ
في حوزتنا أي مخطوط أصلي للنص؟ وهو ما ينطبق على القرآن.
مثال
على تلك الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بفوضى الترتيب هو الآيات
المتفرقة التي تشير إلى مفهوم التقمص (العَود للتجسد
réincarnation).
بحيث أنَّ تَـناثُـــرَها وتَبعثُــــرَها في القرآن يُضيعُ
القارئَ ويُــفقِـدُه الخيطَ المنطقي الذي يربط الجُــمَــلَ
ببعضها فينصرِفُ عن التفكير في إعادة تركيب قِطَعِ البَـزْل
puzzle
القرآنية إلى الترتيل والتجويد والترديد الببغائي للنص؛ وهذه
الوظيفةُ الترتيليةُ التعبُّديةُ الليتورجيةُ هي أهمُّ وظائف
القرآن ("ورَتِّـــلِ القُرآنَ تَرتيلا"
[المُــزَّمِّـــل، 4].
وتندرج ضِمْنَ هذه الأخطاءِ الإنشائية النواقصُ والزياداتُ
المقصودةُ وغيرُ المقصودة التي تزيد من تعدُّد معاني القرآن
polysémie.
فالقرآنُ ضاع منه الكثير كما تشير بعضُ المصادر كـــالإتقان
للسيوطي (عن ابن عمر قال: "لا يقولَنِّ أحدُكم قد أخذْتُ القرآنَ
كلَّه. وما يدريه ما كلُّه؟ قد ذَهبَ مِنه قرآنٌ كثير، ولكنْ
لِيقُـــلْ: قد أخذْتُ منه ما ظَهرَ."). فالكلمةُ المفقودةُ مثلاً
في هذه الآية: "وما جَعلَ عليكم في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [...]
مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ" (الحج، 78) قد يكونُ تقديرُها "فالزموا"
(فرْض: "فاتَّبِعوا") أو "كاف التشبيه" (وصْف وإخبار). والمفعولُ
به الناقصُ في هذه الآية "مَن كانَ يَـظُـنُّ أَنْ لن
يَـنْـصُـرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ فَـلْـيَـمْـدُدْ
بِسببٍ إلى السَّماءِ ثُـمَّ لِـيَـقْـطَـعْ [...]
فـلْـيَـنْـظُـرْ هل يُـذْهِـبَـنَّ كَـيدُهُ ما يَـغِـيظُ" (الحج،
15) قد يكونُ تقديرُه: "الحبْل"، أو "أصل الوحي"، أو "النصر"، أو
"نصر "النبي" مُحمَّد"، أو "الرزق"، أو "رِزْق "النبي" مُحمَّد"،
أو "المنكَرات"، أو "الماضي"، أو غير ذلك.
وهناك على الأرجح خطآنِ في هذه الآية (خطأُ زيادةٍ وخطأُ نُـقصان):
"كُلَّما أرادوا أنْ يَخْرُجوا مِنها [مِنْ غَــمٍّ] أُعِيدوا فيها
و[...] ذُوقوا عَذابَ الحَريق" (الحج، 22). على الأرجح، هناك
زيادةُ "مِن غَمٍّ" ونُـقصانُ "قيلَ لهم" قبل الفعل "ذوقوا". حيثُ
يبدو أنَّ الجارَّ والمجرورَ "مِنْ غَــمٍّ" زائدان. إذْ إنَّ
عبارة "مِنْ غَــمٍّ" لا تنسجم مع ما قبلَها ولا تُـعَــبِّر عن
شدَّة التعذيب ولا تضيف شيئًا للمعنى، بل تزيد العبارةَ ركاكةً.
فالغَــمُّ، لغةً، هو الحزنُ والكرب وليس صَـهْـــرَ الأجسادِ في
النار. فليس مِن الغَمِّ أنْ تُــقَــطَّــعَ للذين كفروا ثيابٌ من
نارٍ ولا أنْ يُــصَــبَّ فوقَ رؤوسِهم الحميمُ الذي يَصهَر
جلودَهم وما في بطونهم ولا أنْ يكونَ لهم مقامعُ من حديد. إنَّ
القرآن يستخدمُ كلمةَ "غَــمّ" بمعنى الحزن لا بمعنى التعذيب
الشديد بالنار: "فاستَجَبْنا له ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكذلكَ
نُــنْجِي المُؤْمِنِين" (الأنبياء، 88) "ثُمَّ أَنْزَلَ عليكم
مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً" (آل عمران، 154) "وقَــتَــــلْتَ
نَفْسًا فنَجَّيناكَ مِن الغَمِّ وفَــتَـــنَّاكَ فُتُونًا" (طه،
40). ربما كان الأَولى إذًا أنْ يقالَ: "كُلَّما أرادوا أنْ
يَخْرُجوا مِنها أُعِيدوا فيها وقيلَ لهم: ذُوقوا عَذابَ الحريق"،
وذلك طبقًا لاستخدام القرآن لجملة مشابهة في الآية 20 من سورة
السجدة (والتكرارُ من ميِّزات القرآن): "وأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا
فمأْواهم النَّارُ كُلَّما أَرادوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها
أُعِيدوا فيها وقِيلَ لهم ذُوقوا عذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُون".
هذه الأخطاءُ، مقصودةً كانت أم غيرَ مقصودةٍ، لها دلالاتٌ: إمَّا
دلاليةٌ
sémantiques
(في حالة الأخطاء المقصودة)، أيْ لها معنىً إضافيٌّ، وإمَّا كشفيةٌ
أو كاشفةٌ
révélatrices
(في حالة الأخطاء غير المقصودة)، أيْ تكشِف عن جوانبَ إضافيةٍ
تتعلق بالنص أو بكاتبه أو بسياقه. وهذه الدلالاتُ تضيع عند
الترجمة.
لقد قمتُ بتجربة بسيطة توضح آليةَ جمعِ القرآن وكيفية حصول الأخطاء
فيه. خِلالَ الفصل الدراسي السابق، كنتُ أعطي في كل حِصَّة دراسية
نصًا صحفيًا عربيًا أو أكثرَ لطلاب اللغة العربية في الجامعة
وأشرحه لهم شرحًا وافيًا ثم أُقَــدِّم لهم في نهاية الشرح ترجمةً
كاملة للنص. وكنتُ أحيانًا أعطي عِدَّةَ ترجمات لبعض الجمل تاركًا
للطلاب الوقتَ الكافيَ ليسجِّلوا ترجماتي المقترَحة. وفي آخر الفصل
الدراسي، طلبتُ من بعض الطلاب المتفوقين أنْ يرسلوا لي ترجمةً
موحَّدة، مما نقلوه عني، للنصوص التي درسناها. وفوجئتُ بوجود أخطاء
وترجمات مخالفة تمامًا للمعنى ولِما قلتُه لهم خلال الدروس. وجدتُ
أخطاءً إملائيةً نتيجةَ السهوِ ونواقصَ وزياداتٍ في النصوص
المترجَمة المكتوبة والمنقولة عن ترجمتي الشفهية. مِن أسبابِ هذه
الأخطاء عدمُ خبرتهم بالنص العربي الأصل وتفاوُتُ قدراتِهم
الاستيعابية وقدرات النقل والإملاء وربما الاختلافاتُ الثقافية
والاجتماعية والنفسية بينهم وبيني. وقد أقرَّ القرآنُ بذلك في
الآية: "وفي الأرضِ قِطَعٌ مُتجاوِراتٌ وجَنَّاتٌ من أعنابٍ وزرْعٌ
ونخيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقَى بِماء واحِدٍ
ونُفَضِّـلُ بَعْضَها على بَعضٍ في الأُكُلِ" (الرعد، 4). هذه
الآيةُ تنسِفُ الأساسَ الذي تقوم عليه عقيدةُ "حِفظِ القرآنِ في
الصدور دُونَ أيِّ تغيير". فإذا كانت النباتاتُ شديدةَ التنوعِ
والاختلافِ مع أنها تشربُ من ماء واحد فمن الطبيعي أنْ تختلفَ
التـــلَـــقِّــياتُ بحسب الاستعدادات وأنْ تختلفَ بالتالي
القراءاتُ والتأويلاتُ للمؤمنين متعدِّديْ المَشاربِ الذين
تلَــقَّــوا نصًا واحدًا مفترَضًا من مَصْدَر واحد مفترَض. فعلى
قَـدْر
استعداد المريد أو التلميذ يكون المعلِّمُ. وعلى قدْر تحمُّـلِ
الإنسان وطاقتِه "تتنزَّلُ" الإشاراتُ ("على قَدْرِ أهلِ العزمِ
تأتي العزائمُ" [المتنبي]). وكذلك تكون قُدرةُ التيَّار
الكهربائي على قَدْرِ تحمُّلِ الجهاز الذي يسري فيه هذا التيارُ،
وإلَّا أحرقَه. وعلى قدْرِ الوعي تكونُ الرؤيةُ. ولذلك قال القرآنُ
"لَمَّا جاءَ مُوسى لِميقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنظُرْ إليكَ قالَ لن تَراني ولكنِ انظُرْ إلى الجَبلِ
فإنِ استَـــقَـــرَّ مَكانَهُ فسوْفَ تَرانِي فلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلجَبلِ جَعلَهُ دَكًّا وخَرَّ موسى صَعِقًا"
(سورة
الأعراف، 143).
تُـبيِّنُ إحدى الحِكايات الصوفية أهميةَ السامع (أو القارئ) في
عملية التواصل وليس المتكلِّم (أو الكاتب)، فتروي أنَّ ثلاثةً
سَمِعوا مناديًا عَشَّابًا يبيع السعترَ البرِّيَّ فيقول: "يا
سَعْتر بَرِّي"، ففهِمَ كلُّ واحد منهم مخاطبةً مختلفةً عن
الآخَـر. فسَمِعَ أحدهم: "اِسْعَ تَــرَ بِــرِّي"؛ وسَمِعَ الآخر:
"الساعةَ ترى بِرِّي"؛ وسمع الثالثُ: "ما أوسعَ بِرِّي". فالمسموع
واحد واختلفَت الأسماع. (المِنَح القُـدُّوسِيَّة بِشَرح المُرشد
المعين على طريقة الصوفية، "بيان فهم القوم من اللفظ الواحد معان
مختلفة"، الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي). فحتَّى لو
لقَّنَ محمَّدٌ قرآنَه شفاهًا إلى جميعِ معاصريه من العرب ثم كتبوا
بعدَ وفاته ما حفِظوه عنه لكان ما سيكتبوه مختلِفًا عما لقنَّهم
إياه.
إذا كان هناك أخطاءٌ لا بأسَ بها وتغييراتٌ دلالية في عمل مجموعة
محدودة لا تتجاوز العشرين طالبًا تلَـــقَّوا عني من فمي إلى
آذانهم مِن دُونِ وسيط ومِن دُونِ تدَخُّــلِ عواملَ سياسيةٍ قد
تَحرِفُ المعنى، فمِن الطبيعيِّ أنْ يكونَ هناك أخطاءٌ أو انحرافٌ
(إنْ لم نقُــلْ: تحريفٌ) للمعنى في حالة تدوين القرآن مع وجود
مجتمع كبير جدًا مقارنةً بمجموعة الطلاب ومع وجود وسطاء نقلوا عن
محمد ومع وجود عواملَ سياسية وسوسيولوجية وصراعات إيديولوجية
واقتصادية.
فالأصواتُ إذا خرجَتْ من فم المتكلِّم حاملةً مقاصدَه تنحرِفُ
دلالاتُها قليلاً عندما تدخل في وسط المتلقِّي. ويزداد الانحرافُ
الدلاليُّ بمقدار ما يزداد البعدُ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي
والنفسي والزمني بين المتكلِّم والمتلقِّي. وهذه حقيقة لغوية؛ حتى
إنَّ "النظرية الذاتوية" (الأنانة
solipsisme
[نظرية تقول بعدم وجود شيء قابل لأنْ يُعرَف غير الذات أو الأنا
وبأنَّ كلَّ الكائنات والأحداث ليست سوى نتاج وعي الشخصية]) في
الألسنية قد ذهبَتْ أبعدَ من ذلك بكثير فقالت ليس فقط بانحراف
المعنى عند انتقالِه من وسط واعٍ (متكلِّم) إلى وسط واعٍ آخر
(سامِع) بل باستحالة نقلِ المعاني والمشاعر التي يحسُّ بها
المتكلِّم إلى المتلقِّي (جورج مونان
Georges
Mounin، Les problèmes théoriques de la traduction
[المشاكل النظرية للترجمة]، غاليمار
Gallimard،
1963، ص 170). وبالتالي فإنَّ قولَ القرآنِ "إنَّا نحنُ
نَـــزَّلْنا الذِّكْرَ وإنَّا له لَحافظون" (الحِجْر، 9) (بحسب
المعنى الذي تُــقدِّمُه التفاسيرُ) هو قولٌ دعائي يتعارض كليًا مع
المسَـلَّمة الأَلسُنية القائلة بعدم ثبات المعنى. كما أنَّ عقيدة
حِفظِ القرآن كما وردَ من مَصْدرِه تخالفُ أبسطَ مبادئ عِلم النفس
(في اختلاف التلقّي باختلاف استعدادات المتلقّي) وأبسطَ مبادئ
اللغة (في تعدد المعاني وفي أهمية القارئ لا النص) وأبسطَ مبادئ
التاريخ (في أنَّ ما يُكتَب هو ما يريده المنتصرون لا ما يطابق
الحقيقةَ) وأبسطَ مبادئ الفيزياء (في التغير الدائم وفي الارتياب).
ولكنَّ المؤمنين الذين يرونَ الأشياءَ من موشور عقيدتهم يجهلون أو
يتجاهلون المؤثراتِ والعواملَ النفسيةَ والفرديةَ والثقافيةَ
والدينيةَ والسياسيةَ والاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والجغرافيةَ
والتاريخيةَ التي تتدخَّلُ في صناعة النص المقدَّس ويتجاهلون
الطبيعةَ الكونيةَ في التغير الدائم، فحتى لو سقطَ حجرٌ نيزكيٌّ
صلبٌ من الفضاء فلا يكون نفسَه بين لحظةٍ وأخرى فكيف بالأفكار
والكلمات ذات الطبيعة الزئبقية؟
ولكنَّ قداسةَ النص الديني هي صنم فكري يعيق المؤمنَ عن رؤية حقيقة
الأمر. يبدو أنَّ مشكلة المؤمنين الأساسية تكمن في فهمهم المنحرف
للمفاهيم الأساسية للدين كمفهوم القداسة والمعجزة. إنَّ الفهم
الخاطئ للقداسة يجعل الخطأَ معجزةً. فالقداسةُ ليست في الكلمات بل
في الانتباه والحضور (في اللحظة الحاضرة، هنا-الآن) بحسب قول
البوذا في القصة التي يرويها أنتوني دو مِــلُّو
Anthony De
Mello
(1931 – 1987) في كتابه أغنية الطائر (Comme
un chant d’oiseau)
(ص 26 في النسخة الفرنسية، بترجمة اليسوعي إرنست ريشيه [ريشير]
Ernest Richer
عن الإنكليزية، 1994. النسخة العربية بترجمة الصديق أديب خوري).
فقد
سُئِل البوذا ذات مرة: "ما الذي يجعل المرءَ قِدِّيسًا؟" فأجاب:
"تنقسم كلُّ ساعةٍ إلى عدد معيَّن من اللحظات، وكلُّ لحظة إلى عدد
من الأجزاء. فمن يستطيع أنْ يكون حاضرًا بالكُـلِّية في كل جزء من
اللحظة فهو قِدِّيس." الحقيقة الوحيدة هي هنا-الآن. وأكثرُ ما
يُـبعِـد عن هذه الحقيقةَ هو الكلام ومنه القرآن. أما
المعجزة فهي، كما تؤكد سيمون فايل
Simone Weil
(1909 – 1943)، ليست حدثًا مخالفًا للطبيعة، فنحن لا نعرِف أصلاً
قوانينَ الطبيعة، بل المعجزة هي أنْ يقومَ الإنسان، مثلاً، بثلاث
خطوات بدون أي دافع آخر غير الرغبة في "طاعة الله" على حد تعبيرها
(أيْ في الحضور والانتباه والمَحَبَّة المجرَّدة من الرغبة) فإنَّ
هذه الخطواتِ الثلاثَ معجزةٌ سواء تمَّتْ على الأرض أم على الماء،
لكنها عندما تتم على الأرض لا يبدو أيُّ شيء مدهشًا. فالمعجزة
الوحيدة بحسب سيمون فايل هي القداسةُ، والقداسةُ هي الحضور.
عندما نكشِفُ عن أخطاء لغوية وإنشائية في القرآن بناءً على ما وصلَ
إلينا من استخدامات لغوية سائدة في عصر تدوين القرآن أو بناءً على
لغة القرآن نفسِها فإننا لا نسيء لقداسة النص ولا لإعجازه، إذْ لا
قداسةَ له ولا إعجازَ البتَّةَ، إنما نسعى لتحطيم الأصنام الفكرية
الوهمية التي يتعب المسلمون في حملِها أينما حلُّوا وارتحلوا. إنَّ
وجودَ أخطاء في النص لا يسيء إليه بل يكشف عن بعض أسراره.
عندما رجَّحْتُ أنَّ في الآية
"أو يأتيَهم عذابُ يوم عقيم"
(الحج، 55) خطًا (هو استخدام الصفة "عقيم" بدلاً من "عظيم") فإنَّ
المعيارَ الأول الذي استندتُ إليه هو لغةُ القرآنِ نفسُها وذلك
لأنَّ القرآن يستخدم دائمًا صفةَ "عظيم" لوصف "يوم".
هذا الخطأ السهو من الناسخ يمكن أنْ يكونَ كاشفًا إذا ما قرأناه
قراءةً تفكيكيةً، بحسب تفكيكية دريدا، أيْ إذا قرأناه كما نقرأ
الأحلامَ. فقد يشيرُ هذا الخطأُ وغيرُه من الأخطاء إلى عدة أمورٍ،
منها:
1.
عند تدوين القرآن لم يكنْ هدفُ النُّسَّاخِ، ومِن ورائِهم السلطةُ
التي أمرَتْ بجمع القرآن، التفاصيلَ الدقيقةَ في النص القرآني.
المهمُّ ألَّا يَـحْــرِفوا المعنى إلى ضدِّه. وهذه الفكرة
يؤكِّدها حديثٌ وردَ عن محمد يقول: "يا عُمَرُ، إنَّ القرآنَ
كُلَّهُ صَوابٌ ما لم يُجْعَـــلْ عَذابٌ مَغفِرةً أو مَغْفِرةٌ
عَذابًا". أيْ أنَّ القرآنَ لم يكنْ يُمثِّــل لهم قانونًا دقيقًا
واضحًا، ولم يكن في الأساس الهدفُ من وضْعِه وجَـمْعِه إيصالَ
المعاني المتغيرة التي يمكن أنْ يشيرَ إليها إلى الآخر المختلف، بل
إيصال رسالة غير مباشرة إلى هذا الآخر المختلف (وخاصةً أتباع
اليهودية والنصرانية) مفادُها أنَّ العربَ الأمييين (الوثنيين
الذين لا كِتابَ "مقدَّسًا" لهم) يمكن أنْ يكونَ لهم كِتابٌ
يُــعَــبِّر عن هويتهم. فالقرآنُ يشبه صرخةَ هُويةٍ، صرخةَ وجود،
هو ردٌّ من الوثنيين على تعـيـــيــر اليهود لهم.
2. كان هدفُ واضعي القرآن متركِّـــزًا على الفاصلة (السجع في
نهاية الآية) لاستخدامِه في الترتيل الطقسي. (بحسب كريستوف
لوكسنبرغ فإنَّ كلمة "القرآن" مشتقة من السريانية "قريانا"
qeryana
ويعني "كتاب الفصول"
lectionnaire،
وهو القراءات الكتابية الثابتة المستعملة في إقامة رتبة القداس
الإلهي على مدار السَّــنَـة. [انظر: دراسة في لغة القرآن، روبرت
ر. فينيكس الابن وكورنيليا ب. هورن، معابر،
http://www.maaber.org/issue_august03/books6a.htm])
3. تشير بعضُ الأخطاء إلى نقص الإمكانيات المادية والفكرية
آنذاك. فنسخُ كِتابٍ لا خطأَ فيه لم يكنْ وقتَـــئذٍ بالأمر السهل.
بالإضافة إلى أنَّ قواعدَ الإملاء لم تكنْ قد نضجَتْ بعدُ ("فكانَ
الخطُّ العربيُّ لأول الإسلام غيْرَ بالغٍ إلى الغاية من الإحكام
والإتقان والاجادة" [تاريخ
ابن خلدون، ج1، ص
419]). كما أنَّ جَـــهْـــلَ النُّسَّاخِ بكثيرٍ من سياقات
النص القرآني يزيد من احتمال وقوع الأخطاء.
4. إنْ كان استخدامُ عبارة "يوم عقيم" مقصودًا (وبالتالي لا
يُــعَــدُّ خطًا) فعندئذٍ يشير على الأرجح إلى أنَّ العبارةَ
مترجمةٌ من لغة أخرى إلى العربية لأنَّ هذا الاستخدامَ غيرُ مألوف
في العربية. وفي حالِ توفُّرِ مَصْدرِ العبارة يمكننا أنْ نفهمَ
مقصدَها فهمًا أفضل. إلَّا أنه مِن المرجَّحِ وجودُ خطأٍ إملائيٍّ
غيرِ مقصودٍ فيها.
5. ليس مِن المستغرَبِ وجودُ أخطاءٍ في نصٍّ كالقرآن، بل مِن
المستغرَبِ عدمُ وجودِ نقدٍ لأخطائه. فعدمُ وصول أي نقد لأخطاء
القرآن من خصوم محمد إلينا (إلَّا النزر اليسير مما نقلَه القرآنُ
وفقهاء المسلمين) يدلُّ على حجم العنف والدكتاتورية في فرضِ النص
القرآني. فالتاريخ نقلَ لنا أنَّ محمدًا لم يتهاون مع منتقدي
القرآن إذْ عفا عن أسرى المشركين وأصرَّ على قتل النضر بن الحارث
صبرًا (بحرمانه من الشرب والأكل) لأنه انتقدَ القرآن وفضحَ
مصادرَه.
6. لقد وظَّفَ المفسِّرون بعضَ الأخطاء لإظهار إعجاز القرآن أو
لزرع أفكار تهدف إلى السيطرة على المجتمع أو للإشارة إلى تفوُّق
سياسي أو عسكري. فقد وظَّفوا الخطأَ المحتمَل ("يوم عقيم") لرفع
درجة الخوف لدى المجتمع الإسلامي من يوم القيامة إنْ لم يستسلِموا
للهِ، أيْ للسلطانِ "ظِلِّ اللهِ في أرضه"، فقالوا بأنَّ "اليوم
العقيم" هو الذي لا ليلَ فيه أو الذي لا خيرَ فيه أبدًا. وربما
أرادوا أنْ يبثُّوا الرعبَ في الخصم فأشاروا من خلال تفسيرهم لهذا
الخطأ اللغوي إلى يوم بدر يومِ انتصار "المسلمين" على "المشركين".
7.
تشير الأخطاءُ في القرآن إلى تقديس أتباع محمَّد للرسم القرآني
العثماني (طريقة كتابة القرآن في مصحف عثمان)، إضافةً إلى تقديسهم
للنص القرآني نفسِه. ولذلك لم يُــغيِّروا الأخطاءَ الواردةَ فيه،
بل أعطَوها معنىً. وهو ما أشار إليه ابنُ خلدونَ بقوله:
وانظُـرْ ما وقَعَ [...] في رسْمِهِمُ المُصْحفَ حيثُ رسَمَه
الصحابةُ بخطوطهم وكانت غيرَ مستحكِمةٍ في الإجادة فخالَفَ الكثيرُ
من رسومهم ما اقتضَتْه أقْيِسةُ رسومِ صناعةِ الخط عند أهلها. ثم
اقـتـفى التابعون مِن السلف رسْمَهم فيها تبرُّكًا بما رسَمَه
أصحابُ الرسول [...] المتَــلقُّون لِـــوَحْــيِه مِن كِتاب الله
وكلامِه كما يُقتَـفى لهذا العهد خطُّ وليٍّ أو عالِمٍ تبرُّكًا
ويُــتَّــبَــعُ رسْمُه خطًا أو صوابًا. وأين نسبةُ ذلك من
الصحابة فيما كتبوه، فاتُّـبِــعَ ذلك وأُثبِتَ رسمًا،
ونَـــبَّـــهَ العلماءُ بالرسم على مواضعه. ولا
تَــلْــتَـــفِـــتَــنَّ في ذلك إلى ما يزعمُه بعضُ
المغفَّــــلين مِن أنهم كانوا محكَمين لصناعة الخط وأنَّ ما
يُــتَــخيَّــلُ من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما
يُــتخيَّــل بل لكلِّها وجهٌ. يقولون في مِثْــلِ زيادة الألف في
"لَأَاْذبَــحَــنَّــهُ" [سورة النمل، 21] إنه تنبيهٌ على أنَّ
الذبح لم يَقعْ، وفي زيادة الياء في "بِأَيـــــيْـــدٍ"
[الذاريات، 47] إنه تنبيهٌ على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك
مما لا أصلَ له إلا التحكُّم المحض. وما حمَلَهم على ذلك إلَّا
اعتقادُهم أنَّ في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهُّمِ النقصِ في قلَّة
إجادة الخط. وحسِبوا أنَّ الخطَّ كمالٌ فنزَّهوهم عن نقصِه ونسبوا
إليهم الكمالَ بإجادته وطلبوا تعليلَ ما خالفَ الإجادةَ مِن
رسْمِه، وذلك ليس بصحيح. واعلمْ أنَّ الخطَّ ليس بكمالٍ في حقهم
إذِ الخطُّ مِن جملة الصنائع المدنية المعاشية [...]. والكمالُ في
الصنائع إضافيٌّ وليس بكمالٍ مطلق إذْ لا يعودُ نقصُه على الذات في
الدين ولا في الخِلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران
والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس[1].
8. بالنسبة لأخطاء الانتقال
المفاجئ من ضمير المتكلِّم الجمع إلى ضمير المتكلِّم المفرد أو
العكس (استخدام "أنا"/"ـــي" و"نحن"/"ـــنا" للإشارة لشخص واحد هو
المتكلِّم) وكذلك الانتقال من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب أو
العكس للإشارة إلى عائد واحد والتي يُدرِجُها النحاةُ والمفسِّرون
ضِمْنَ أسلوب "الالتفات"
énallage
البلاغي، مِنَ المحتمَلِ أنْ يكونَ أحدُ أسباب بعض هذه الأخطاءِ هو
عدمُ معرفةِ واضعي القرآن لعائد بعض الضمائر في النص الأصلي
المنقول عنه. فمثلاً قد يعود ضمير المتكلم في سِفْر المزامير (Livre
des
Psaumes)
إلى داوود أو إلى الله أو إلى الكاتب أو الراوي. ففي الآيتين
المذكورتَين سابقًا (مزمور، 49: 5) و(مزمور 56: 7)، لا نعرِفُ
بالضبط على من تعود ياءُ المتكلم في الكلمة العِبرية المذكَّرة
الجمع (עֲקֵבַי)
("آثاري" أو "تعقُّباتي"). من هو الراوي؟ وبالتالي فمن المرجَّح
أنَّ الالتباسَ في عائديةِ بعضِ الضمائر في النص الأصلي
(المَصْدَر) المفترَض قد ظَهَرَ على شكلِ تخبُّطٍ في استخدام
الضمائر في النص العربي المترجَم (الهدَف)، أيْ على شكلِ انتقالٍ
من ضمير إلى ضمير بصورة عشوائية على الأرجح. ولكنَّ السبب الأول
والرئيسي للتخبُّط في استعمال الضمائر هو تجميع قُصاصات القرآن
تجميعًا عشوائيًا من عدة نصوص وسياقات.
9.
أمَّا الأخطاءُ الإنشائية غيرُ المقصودةِ فقد تشير قبْلَ كلِّ شيء
إلى جهل النسَّاخِ وجامعي القرآن بسياقات النص القرآني وبسياقات
مصادره. فلو كُــلِّفَ ناشرٌ لا يعرِفُ شيئًا عن الطب أنْ يجمعَ
لنا في كتاب واحدٍ جُملاً وفقراتٍ ذُكِرَتْ في ندوةٍ طبية عربية
تتناولُ موضوعًا معيَّنًا فإنَّ هذا الناشرَ وإنْ كان يتقن
العربيةَ جيدًا سوف يرتكب أخطاءً إنشائيةً جمَّةً تتعلَّق في ترتيب
هذه الجُمَل والفقرات وربْطِ بعضِها ببعض وذلك لجهلِه بمواضيع
الكِتاب.
10.
وأمَّا إنْ كان الخطأُ الإنشائيُّ مقصودًا فيُرجَّح أنْ يكونَ
جامعو القرآنِ قد لجؤوا إليه لطمسِ فكرة ما لا تتناسب مع مصالحهم
أو مع عقيدتهم التي ورثوها عن آباهم ولم يستطيعوا تغييرَها.
ويُرجَّح أنْ يكونَ، مثلاً، هدفُ تبعثُرِ الآيات التي تشير إلى
التقمص وعدمِ ترابُطها هو إخفاء هذه الفكرة لعدم إيمان الأكثرية
المسلمة (مِن سُــنَّة وشيعة) بها. فالترتيبُ الحالي لهذه الآيات
خطأ منطقي إمَّا عن قصدٍ، وهو الأرجح، وإمَّا عن جَهْـــل.
وهذا هو سياق مترابط نوعًا ما مقترَح لبعض آيات البعث بحيث تعطي
معنىً أكثرَ وضوحًا يشير إلى التقمص (العَود للتجسُّد):
﴿"[...]
ولَئِن قُــلْتَ: «إنَّكم مَبعوثونَ مِن بَعْدِ الموتِ»
لَيقُولَـــنَّ الذينَ كَفَروا إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ مُبين."
[هود، 7]
"يا أيُّها الناسُ إنْ كُنتُم في رَيبٍ مِنَ البَعثِ فإنَّا
خَلقْناكم من تُرابٍ ثُمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ من عَلقةٍ ثُمَّ من
مُضْغةٍ مُخَلَّـــقةٍ وغَيْرِ مُخَلَّـــقةٍ لِـنُـــبَــــيِّنَ
لكم ونُـــقِرُّ في الأرحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ
نُخْرِجُكم طِفلاً"
[الحج، 5]
–
"فهذا [هو] يومُ البعثِ ولكنَّكم [كُنتُم] لا تَعلَمون."
[الروم، 65]
- "ثمَّ لِـتَــبْـــلُغوا أَشُدَّكُم ومِنكم مَنْ يُــتَــوَفَّى
ومِنكُم مَنْ يُـــرَدُّ إلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيلا يَعْلَمَ
مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئًا."
[الحج، 5]
"والموتى يَبعَثُـهمُ اللهُ
ثُمَّ إليهِ يُرْجَعون."
[الأنعام، 36]
"كذلك"
[الشعراء، 59 أو الكهف، 91 أو الدخان، 28 و54]
"يَخْــلُـــقُــكم في بُطونِ أُمَّهاتِكُم خَـــلْقًا مِن بَعْدِ
خَـــلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم له المُلْكُ
لا إلهَ إلَّا هُوَ فأنَّى تُصْرَفُون؟"
[كيف تَضِـلُّون؟]
[الزُّمَر، 6]
"وهو الذي أحياكم ثمَّ يُمِيتُــكُم ثمَّ يُحْـيِــيكُم إنَّ
الإنسانَ لَكَفُور."
[الحج، 66]
"كيْفَ تَكْفُرونَ
بِاللهِ وكُنتُم أمواتًا فأحياكُم ثمَّ يُمِــيتُــكم ثمَّ
يُحْــيِيكُم ثمَّ إليهِ تُرْجَعون؟"
[البقرة، 28]
"ثمَّ بَعَـــثْـــنــاكُم [يبعثكم] مِن بَعْدِ موتِكُم لعلَّكم
تَشكُرون."
[البقرة، 56]
"يا أيُّها الإنسانُ
ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريمِ الذي خَلَـــقَـــكَ فَسَــوَّاكَ
فَعَــدَلَــكَ؟ في أيِّ صورةٍ ما شاءَ رَكَّبَــكَ."
[الانفطار، 6، 7، 8]
"ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أَنزَلَ [يُنزِلُ] مِنَ السَّماء ماءً
فَــتُــصْبِحُ الأرضُ مُخْضَــرَّةً إنَّ اللهَ لطيفٌ خبير."
[الحج، 63]
"وتَرَى الأرضَ هامِدةً فإذا أَنزَلْنا [أَنزَلَ] عليها الماءَ
اهتَـــزَّتْ ورَبَتْ وأَنبَــتَــتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهيج."
[الحج، 5]
"يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ ويُخْرِجُ الميِّتَ مِنَ الحَيِّ
ويُحْيي الأرضَ بَعْدَ موتِها وكذلِكَ تُخْرَجون."
[الروم، 19]
"مِنْها خَــلَـــقْـــناكم [خَـلَــقَــكم] وفيها نُعيدُكم
[يُعيدكم] ومنْها نُخْرِجُكُم [يُخرِجُكم] تارةً أُخرى."
[طه، 55]
"واللهُ [فاللهُ]
أَنبَتَكُم مِنَ الأرضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعيدُكم فيها ويُخْرِجُكم
إخراجًا"
[نوح، 17 و18]
"ذلكَ بأنَّ اللهَ هو الحَقُّ وأنهُ يُحْيي الموتى وأنهُ على كُلِّ
شيءٍ قدير."
[الحج، 6]
"وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها وأنَّ اللهَ يَبعثُ مَن في
القُبور."
[الحج، 7]
"قالوا: رَبَّنا
أَمَـــتَّــــنا اثْـــنَـــتَـــيْنِ وأحْــيَـــيْــتَـــنا
اثْـــنَــــتَــــيْنِ فاعــتَـــرفْنا بِذُنوبِنا فهلْ إلى
خُرُوجٍ مِن سبيلٍ؟"
[غافر، 11]
"فلا! أقسمُ بالشفق
والليلِ وما وسَق والقمرِ إذا اتَّسق لَتركبُـنَّ طَبَقًا [حالاً]
عن طَبَق."
[الانشقاق، 16 و17 و18 و19 و20]﴾
تطلبُ هذه الآياتُ
المذكورةُ أعلاهُ ممن ينكرون البعثَ بعد الموتِ أنْ ينظروا إلى
دليل ملموس أمام أعيُــنِــهِم وهو مراحلُ "خَــلْقِ" [أو
تشكُّــلِ] الإنسانِ ابتداءً من النطفة حتى خروجه طفلاً كاملاً،
وهذا هو البعثُ. ثم يكبرُ الإنسانُ ويموت. والموتى يُبعثون بعدَ
ذلك. وهكذا دواليكَ. المسألة دورية، خَــلْــقًا بعدَ خَــلْقٍ.
فكيفَ لا تقدِرُ عقولُ المُنكرين على فَهمِ ذلك؟ لقد خُلِقوا
وماتوا أكثرَ من مرة. يبدو أنَّ الإنسانَ شديد النُّكران. ولكنَّ
الإنسانَ يُبعَثُ مرةً أخرى لعلَّه يتذكَّر. أيها الإنسانُ
المُنكِرُ للبعث، ما الذي خدعَكَ حتى أنكرْتَ الصورَ أو الهيئاتِ
الكثيرةَ التي مررتَ بها؟ انظرْ أمامَ عينيكَ إلى دليلٍ آخر على
البعث وهو التعاقبُ الدَّوري للفصول، إذْ تكونُ الأرضُ محلاً في
الشتاء ثم تصبح خضراء في الربيع؛ هذا هو البعثُ. فكما تنمو
النباتاتُ وتموتُ وتعود فتنمو كذلك يُخلَقُ الإنسانُ من الأرض
ويعود إليها ثم يُخلَق من جديد. وهكذا يُبعَثُ البشرُ من قبورهم
كما تُـبعَثُ النباتُ من البذرة في الأرض. أيها البشر، لقد
نبَــتُّــم من الأرض كما يَنبُتُ النباتُ. ثم ستعودون إلى التراب
وتخرجون من التراب، كالنبات تمامًا. هذا هو البعثُ. أمَّا الذين
أقرُّوا بأنّهم خُلِقوا مرتين وماتوا مرتين فلا بدَّ أنْ يمرُّوا
بحالات كثيرة [طبقًا عن طبق] فيكتسبوا خبراتٍ متعدِّدة ويتفتَّح
وعيُهم.
وهكذا، بعدَ ترتيبِ
هذه الآياتِ بحسب موضوعها ترتيبًا منطقيًا، يتَّضح للقارئ أكثرَ
فأكثرَ الموضوعُ الأساسي لها المختبئُ في النص اختباءَ القِطَعِ
الأثريةِ في التراب. إنَّ أكثر آيات القرآن المرتَّبة على الشكل
الحالي تشبه لُقىً أثريةً مبعثَرةً من عِظامِ حيواناتٍ وبقايا
أدوات حجريةٍ وغيرها وتحتاج إلى من يعيد تركيبَها بحيثُ تتَّضح لنا
أنواعُ هذه الحيوانات وتلك الأدوات.
11.
إنَّ تحويل الأخطاء والعيوب اللغوية في القرآن إلى أساليبَ بلاغيةٍ
وإعجازيةٍ يُمكن أنْ يُشيرَ إلى حجمِ عقدةِ النقصِ المتحكِّمةِ في
نفوس العرب الوثنيين أو "الأميين" (Gentils)
والمتمثِّــلةِ في عدم امتلاكهم لكِتابٍ مقدَّس يتفاخرون به
كهُويةٍ دينية أمامَ اليهود والنصارى العرب؛ فكان القرآنُ
يمثِّــلُ لهُم طوقَ نجاةٍ من سخرية اليهود والنصارى
وتغطيةً لعقدة النقص لديهم ("هوَ الذي بعثَ في الأُميين رسولاً
منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويُعلِّمهم الكِتابَ والحكمة"
[سورة الجمعة، 2]) وصرخةَ وجودٍ وهُويةً وإعادةً للثقة بالنفس.
فمِن الطبيعي أنْ يتمسَّكوا به ويعضُّوا عليه بالنواجذ ويحوِّلوه
إلى أيقونة مقدَّسة لا يجوز المساسُ بها ويدافِعوا عنه بما أوتوا
من قوة مادية وفكرية ويعطوا العيوبَ اللغوية معنىً. ولمَّا كان
همُّهم هو بناء سقفٍ فكري يحمي رؤوسَهم من سِهام المستهزئين
وسخريتهم فقد خرجَ كِتابٌ مليءٌ بالتناقضات والأخطاء ولكنه في عصر
ظهوره لبَّى إلى حدٍّ ما حاجتَهم الاجتماعية والسياسية آنذاك.
*** *** ***