السومرية

 

آلان إف. ألفورد

 

قبل زُهاء ستة آلاف عام، ظهر شعب غامض من عباءة مجاهل ما قبل التاريخ، وبدأ ببناء المدن الرائعة في السهل الخصب الواقع ما بين نهري دجلة والفرات (وهي منطقة تعادل مساحتها تقريبًا مساحة العراق في العصر الحديث). وكانت مدن إريدو، وأور، ولاغاش، وأوروك، وشوروباك، ونيبور، وكيش، وسيبار هي مدن السومريين، وكانت تُعرف المنطقة برمتها باسم سومر، ولاحقًا بالاسم الإغريقي "بلاد الرافدين" الذي يعني (الأرض) الواقعة ما بين النهرين.

أطلق السومريون ثورة تكنولوجية في مجالات متعددة مثل الزراعة، والتجارة، والرياضيات، والهندسة المعمارية وعلم المعادن. ومنذ منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد، بدأ هذا الشعب الرائع بوضع صيغ متطورة للحكومة، وإقامة أقدم المؤسسات الاجتماعية المعروفة، مثل المدارس والمحاكم. والأهم من ذلك، أن السومريين اخترعوا الكتابة حوالي العام 3300 قبل الميلاد، بادئ ذي بدء على شكل صور (الكتابة التصويرية)، ولكن في وقت لاحق بنمط يعرف باسم المسمارية – وهو نظام غريب من الإشارات على شكل وتد، كانت تُدمغ في ألواح طينية باستخدام أداة تسمى المِرْقَم.

وتسرد هذه الألواح الطينية قصة مذهلة؛ عن الآلهة التي خلقت السماوات والأرض، وهبطت جسديًا إلى الأرض في بداية الزمان، من أجل إرساء أسس المدن السومرية. في تلك الأيام، كانت الآلهة وحدها تحتل أرض سومر العظيمة، ولكن سرعان ما أصابها الكلل من عملها، وبدأت بخلق الجنس البشري لتحرير نفسها من عبء العمل الشاق. وكانت النتيجة الشعب "السومري"، الذي يطلق عليه اللقب الغامض "ذوو الرؤوس السوداء".

عاش أول شعب سومري في "العالم السفلي" (قارن الأسطورة الإغريقية بروميثيوس) الذي كان بمثابة "حديقة الآلهة". كانت الآلهة قد أرسلت جميع الأشياء الجيدة في هذه الحديقة من الجنة إلى الأرض: الماشية والحبوب، والأشجار والنباتات، والكروم، وشجرة التمر، وطبعًا، نسل البشرية نفسها. أسَّس الإنسان الوفرة للآلهة في هذه الحديقة، وفي نهاية المطاف، وبعد أن كان قد أثبت جدارته، منحته الآلهة شارات ورموز المَلَكية، جنبًا إلى جنب مع شتى أُعطيات الحضارة التي أنزلوها كلها من السماء. وفي هذه المرحلة، على ما يبدو، ارتقت البشرية من العالم السفلي إلى سطح البسيطة. فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في "ملحمة جلجامش توصف الحديقة تحت الأرضية الأسطورية بـهل عدن" في استباق لجنة عدن في "سفر التكوين" العبري. وكان مصطلح "عدن" (E.DIN) يعني بالسومرية "مسكن الآلهة".

وحوالي عام 2400 قبل الميلاد، بدأ السومريون يفقدون السيطرة على أراضيهم لصالح الأكاديين، أحد الشعوب الناطقة بالسامية، الذين سرعان ما سيطروا على منطقة سومر. لكنهم، في المقابل، خضعوا للغوتيين حوالي عام 2200 قبل الميلاد. بعدئذ، وإثر نهضة سومرية وجيزة حوالي (2000-2100 قبل الميلاد)، فتح العموريون المنطقة برمتها حوالي عام 2000 قبل الميلاد.

جلبت الألفية الجديدة المزيد من الفوضى، مع البابليين بادئ ذي بدء، ثم مع الكيشيين، وأخيرًا مع وصول الآشوريين إلى السلطة. بيد أن ما يثير الدهشة طوال هذه القرون المضطربة هو أن الديانة السومرية حافظت على وجودها فعليًا دون أن يمسها أذىً يذكر. فعلى العموم، كانت تُعبَد نفس الآلهة، ويتم ترميم نفس المعابد والزقورات (أبراج المعابد الهرمية) أو إعادة بنائها، فضلاً عن نسخ نفس الأساطير وترجمتها بتقوى، مع إجراء تعديلات أو تغييرات طفيفة فقط. وهكذا أصبحت أفكار السومريين ومُثُلُهُم العليا العقيدة الرئيسة للكثير من شعوب الشرق الأدنى القديم، وجرى نشرها من جيل إلى آخر على مدى نحو ثلاثة آلاف سنة.

وكان سبب هذا الثبات الهاجس غير المسبوق بالدين، الذي لخصه جورج رو، العالم المتخصص بالحضارة الآشورية، على النحو التالي:

... لما يربو عن ثلاثة آلاف سنة، لعبت الأفكار الدينية التي روَّج لها السومريون دورًا استثنائيًا في الحياة العامة والخاصة لشعوب بلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين)، ونمذجة مؤسساتهم، وتوشية أعمالهم الفنية والأدبية، والطغيان على كل شكل من أشكال أنشطتهم. لم يسبق أن احتل الدين مكانة مرموقة كهذه في أي مجتمع قديم، لأنه في أي مجتمع قديم آخر لم يشعر الإنسان بنفسه متوكلاً على إرادة الآلهة تمام الاتكال... وينبغي أن لا تغدو الحوافز الدينية نسيًا منسيًا أو يتم التقليل من شأنها البتة.

ما هي طبيعة هذا الدين الدائم؟

كان الإله-الخالق وأسطورة الخلق في جوهر هذه الديانة. ففي كل مدينة من المدن الرئيسة، كان ثمة إله عظيم وإلهة عظيمة يجسدون القوى التي برأت هذا الوجود. في إريدو، كان يُسمى الإله: إنكي (أو إي)؛ وفي أور، كان يسمى الإله: نانار (أو سِن)، وكانت تسمى الإلهة: نينغال؛ وفي لاغاش، كان يسمى الإله: نينورتا (أو نينجيرسو)؛ وفي أوروك، كان يسمى الإله: أَنْ (أو أنو) وكانت تسمى الإلهة: إنانا (أو عشتار)؛ وفي نيبور، كان يسمى الإله: إنليل وكانت تسمى الإلهة: نينليل؛ وفي سيبار، كان يسمى الإله: أوتو (أو شاماش).

في الأصل، كان كل إله من هذه الآلهة بمثابة الخالق بحد ذاته. ولكن في أوقات لاحقة شكلوا مجمع الآلهة (البانثيون)، برئاسة آنو، والذي أصبح فيه كل إله متخصصًا: إنكي إلهًا للبحر السفلي (أبسو)؛ نانار إلهًا للقمر؛ إنانا كفينوس؛ إنليل إلهًا للسماء؛ وأوتو إلهًا للشمس. وكان هناك الكثير من الآلهة الأخرى أيضًا، مثل نرغال وايرا الذين أصبحوا آلهة العالم السفلي، وآلهة متعددة أخرى معروفين عمومًا بالأم الأرض.

تبدأ أسطورة الخلق السومرية مع كارثة في السماء. فالإله أو الإلهة، الذين يُصوَّرون كطود ضخم، ينفجرون إلى شظايا ويمطرون على الأرض البدائية. ونتيجة لذلك، فإن طود السماء، الذي يجسده الإله، يلقح طود الأرض، الذي تجسده الإلهة، مع نسله. ونقرأ في قصيدة "النزاع بين الصيف والشتاء" السومرية:

إنليل، ملك كل البلاد، حزم أمره.
دفع قضيبه
في الجبل العظيم (هارساغ)...
الصيف
والشتاء، ودَفْقُ الأرض المُخْصِب، أغدقها في الرحم.
أنَّى دفع إنليل قضيبه، زأر مثل ثور بري.
هنالك،
قضت هارساغ يومها، ونَعمَتْ بالهناء في تلك الليلة،
وأنجبت الصيف والشتاء كأنهما قشدة دسمة...

في قصيدة أخرى، وعلى نحو مشابه، يوصف الزواج المقدس على النحو التالي:

تأنقت الأرض الكبيرة الملساء، وجملت جسدها
ببهجة.
زينت الأرض الشاسعة جسدها بالمعادن الثمينة واللازورد،
ونمقت نفسها بحجر الديوريت، والعقيق الأبيض، والعقيق الأحمر المشع.
وحشدت السماء نفسها في إكليل من الخضرة، وانتصبت كأميرة.
الأرض المقدسة، العذراء، جملت نفسها للسماء المقدسة.
والسماء، الإله النبيل، غرست ركبتيها في الأرض الواسعة،
وسكبت نطاف البطولة؛ (الشجر والقصب) في رحم الأرض.
والأرض الحلوة، البقرة الخصيبة، لقحتها نطاف السماء الغنية.
وببهجة مادت الأرض لولادة نباتات الحياة،
وبرفاهٍ، أنجبت المنتجات الوفيرة، وولدت النبيذ والعسل.

تصف أساطير أخرى هبوط الله من السماء للإقامة في العالم السفلي الرذيلة، أو هبوط الإلهة من السماء لتولي وجه البسيطة.

وغالبًا ما يصور هبوط الإله أو الإلهة من السماء إلى الأرض كطوفان – في استباق للأسطورة العبرية "الطوفان العظيم". وفي بعض الأساطير، يقذف الإله الهابط طوفانًا عظيمًا من الماء من جسده، غامرًا بذلك نهري دجلة والفرات. وفي أساطير أخرى، يُخرج الإله الهابط فيضانًا عظيمًا من الحجر، الذي يكدسه في "أكوام وتلال" على وجه البسيطة.

عندما يتشظى الإله أو الإلهة في السماوات، تكون النتيجة هي انبثاق آلهة صغار (gods). يجسد تعدد الآلهة الصغار، والذين يشكلون جماعيًا الهيئة السابقة للإله، طوفانًا من المياه والمواد النيزكية. ولدى سقوطها على الأرض، فإنها تغدو "سكان" العالم السفلي؛ وتسمى الأنوناكي، مجهولي الهوية والاسم.

وهكذا تم إعادة تشكيل الأرض، بيد أن الفصل الأخير من الخلق لم يأت بعد؛ يُطلق عليه "الفصل بين السماوات الأرض". ففي الدراما النهائية، يخلق (الإله العظيم) على ما يبدو الشمس والقمر، والنجوم وذلك بفصلها (أو بالأحرى فصل موادها) عن الأرض. الأساطير السومرية غامضة للغاية بشأن هذه النقطة، ولكن يبدو أن الأمر يحدث بالتوازي مع بعث الإله والآلهة الصغار الذين ينتقلون إلى السماء بعد سقوطهم على الأرض. ويبدو أن هذا التحول الغامض هو لإعادة خلق الطود الأصلي للسماء، بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، وربما تُخلق في نفس الوقت الشمس، والقمر، والنجوم. وثمة نقطة مهمة هنا، وهي أن يكون الفصل النهائي للخلق متعلق بمركز الأرض، والنتائج في كونٍ متعلق مركز الأرض (قارن بين مصر واليونان حيث أن هذه الفكرة أكثر وضوحًا).

أما بالنسبة لخلق الإنسان، فالأساطير السومرية متنوعة ولكنها متسقة. ففي إحدى الأساطير، يخلق الإنسان عندما يستخدم إنليل "معوله" لفتح حفرة في الأرض. وفي أسطورة أخرى، يُخلق الإنسان من لحمِ ودمِ آلهة السماء المضحى بها (وهو بالتالي مخلوق على صورتها، قارن سفر التكوين). بينما في الأساطير الأخرى، يُخلق الإنسان في رحم الأرض من الطين الذي أُنزل من السماء. وثمة ميزة غريبة في الأساطير السومرية، وهي فكرة وجود الإنسان أولاً كسلالةٍ تحت أرضية استعبدتها آلهة الأنوناكي في العالم السفلي. ولم يرتقِ الإنسان إلى سطح البسيطة سوى في مرحلة لاحقة - ربما عندما تم إنزال المَلَكية من السماء.

وكما  كان يقول السومريون، "دع الحكماء يعلمون السر للحكماء".

الخاتمة

كانت الديانة السومرية "ديانة خلق"، جسد فيها الإله العظيم والإلهة العظيمة واقعة الخلق وتشكيل الكون.

ترجمة: محمد الطبل

*** *** ***

Reading List

-        A.F. Alford, ‘When The Gods Came Down’, Hodder and Stoughton, 2000.

-        S. Dalley, ‘Myths from Mesopotamia’, Oxford University Press, 1998 edition.

-        H. Frankfort et al, ‘The Intellectual Adventure of Ancient Man’, University of Chicago Press, 1977 edition.

-        Heidel, ‘The Babylonian Genesis’, University of Chicago Press, 2nd ed., 1951.

-        Heidel, ‘The Gilgamesh Epic and Old Testament Parallels’, University of Chicago Press, 1963 edition.

-        T. Jacobsen, ‘The Treasures of Darkness’, Yale University Press, 1976.

-        S.N. Kramer, ‘The Sumerians’, University of Chicago Press, 1963.

-        S.N. Kramer, ‘History Begins at Sumer’, University of Pennsylvania Press, 1956.

-        J.B. Pritchard, ed., ‘ANET’ (‘Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament’), Princeton University Press, 3rd edition, 1969.

-        G. Roux, ‘Ancient Iraq’, Penguin Books, 1992 edition.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني