أقدم موسيقى معروفة في العالم
رامي راوول فيتالي
عُثر
في مدينة أوغاريت الأثرية القريبة من مدينة اللاذقية السورية الحالية
في أوائل خمسينيات القرن العشرين على قطع من 36 رُقَيْم (لوح طيني)
تشترك فيما بينها بنمط موحَّد من حيث المحتوى، فهي تحوي كلمات باللغتين
الأكادية والحورية مع أرقام، والكلمات الأكادية كما تَوضَّح هي أسماء
لأبعاد موسيقية معروفة من خلال دراسة رقم طينية تمَّ العثور عليها في
العراق. لم يمض وقت طويل حتى صار هناك تسليم على نطاق واسع بأن هذه
الرُقُم تحوي نصوص أناشيد دينية مترافقة مع التدوين الموسيقي لها، ولكن
بقيت المسألة الأهم وهي فهم طريقة التدوين الموسيقي واستخراج اللحن منه
وكتابته بأسلوب التدوين الموسيقي الحديث.
تم اعتماد الرمز
H
للإشارة إلى هذه الرُقُم، رُقَيْم واحد فقط من
بينها وجد كاملاً ورُمز له بـ
H-6
وبهذا يعتبر هذا الرقيم أنه أقدم تدوين موسيقي
معروف في التاريخ، وتاريخه يعود لحوالي لقرن الرابع عشر قبل الميلاد.
جرت عدة محاولات لاستخراج اللحن من الرقيم
H-6،
القراءة التي سنركِّز عليها هنا هي التي قدمها العالم السوري راوول
غريغوري فيتالي لأوَّل مرة عام 1979.
وصف الرقيم
H-6
الرقيم
H-6
هو عبارة عن لوح طيني مثل كل الرقم التي كانت
تستخدم للكتابة في المنطقة في تلك العصور. الكتابة على الرقيم مثل باقي
رقم المجموعة
H
مؤلفة من قسمين علوي وسفلي، القسم العلوي مكتوب
بلغة تسمى اللغة الحورية على أربعة أسطر على وجه الرقيم، عندما يصل
السطر إلى حافة وجه الرقيم يلتف حوله ويستمر على ظهر الرقيم أيضًا. في
بداية كل من الأسطر الثاني والثالث والرابع هناك إعادة لكلمات من نهاية
السطر السابق (7 مقاطع صوتية تحديدًا).
وجه الرقيم
H-6
ظهر الرقيم
H-6
تحت القسم العلوي على الوجه يوجد خطان متوازيان رفيعان يفصلانه عن
القسم السفلي.
القسم السفلي مؤلف من ستة أسطر محتواة بشكل كامل على وجه الرقيم،
وتتألف من اسم بُعد موسيقي مكتوب باللغة الأكادية يليه عدد ثمَّ اسم
بعد موسيقي آخر يليه عدد وهكذا.
في نهاية السطر الأول توجد كلمتان حوريتان "أشتما آري" لا يليهما عدد.
أيضًا أسفل ظهر الرقيم هناك كلمات تقول "هذا غناء على نيد قبلي نشيد
الآلهة دوَّنه أمورابي"، و"نيد قبلي" هو مقام موسيقي بحسب الدراسات على
الرقم المكتشفة في بلاد ما بين الرافدين.
اتفق جميع العلماء الذين درسوا هذا الرقيم على أن ما هو موجود فيه كما
باقي رقم المجموعة
H
هو نشيد باللغة الحورية، نصه يقع في القسم العلوي،
والتدوين الموسيقي يقع في القسم السفلي. نص النشيد لم يترجم بشكل كامل
بعد لأن اللغة الحورية ليست معروفة تمامًا، إضافة لأن نص الرقيم على ما
يبدو هو بلهجة أوغاريتية محلية من تلك اللغة، لكن ما تم ترجمته منه
يكفي للاستنتاج أنه مخصص للإلهة "نيكال" إلهة القمر.
قراءة راوول فيتالي للتدوين الموسيقي الموجود في الرقيم
H-6
راوول فيتالي درس أوَّلاً السلالم الموسيقية البابلية التي تم اكتشافها
في أربعة رقم طينية تم العثور عليها في العراق (بلاد ما بين الرافدين)،
ومن خلال تحليل معاني الدرجات الموسيقية (الأوتار) استنتج أن ترتيبها
معاكس لما كان مسلَّمًا به قبلاً، واستطاع بناءً على هذا الاستنتاج أن
يحدد جميع أبعاد السلالم الموسيقية البابلية في بلاد ما بين الرافدين
بدقة عالية، وهو أوَّل من استطاع أن يصل لهذا التحديد الدقيق، ولقيت
النتائج التي توصَّل لها في هذا المجال قبولاً واسعًا من العلماء
المختصين بالموضوع، والدراسات اللاحقة أكدت استنتاجاته واعترفت له بسبق
هذا الاستنتاج.
التدوين الموسيقي الموجود على الرقيم
H-6
كما قلنا مؤلف من تتالي بعد موسيقي – عدد، حيث
البعد الموسيقي معروف تحديدًا بين أي درجتين هو، مثلاً "قبليت" هو
البعد ما بين الدرجتين لا و رِه الأعلى منها (بعد مقابلة أسماء درجات
السلالم البابلية بما هو قريب منها في السلم الموسيقي الغربي المعاصر).
التدوين الموسيقي الموجود في الرقيم
H-6 |
السطر |
نص التدوين |
1 |
قبليت 3 |
ريبوت 1 |
قبليت 3 |
شير 1 |
إشارة 10 "أشتما آري" |
2 |
تيتور إشارة 2 |
زيرد 1 |
شير 2 |
شلشات 2 |
ريبوت 2 |
|
3 |
أمبوب 1 |
شلشات 2 |
ريبوت 1 |
نيد قبلي 1 |
تيتور قبليت 1 |
تيتور إشارة 4 |
4 |
زيرد 1 |
شير 2 |
شلشات 4 |
ريبوت 1 |
نيد قبلي 1 |
شير 1 |
5 |
شلشات 4 |
شير 1 |
شلشات 2 |
شير 1 |
شلشات 2 |
ريبوت 2 |
6 |
كتم 2 |
قبليت 3 |
كتم 1 |
قبليت 4 |
كتم 1 |
قبليت 2 |
الأبعاد المذكورة في الرقيم
H-6
مقارنة بالسلم الموسيقي الغربي المعاصر |
البعد |
بين الدرجتين في السلم المعاصر |
قبليت |
لا – ره صاعد |
ريبوت |
ره – فا نازل |
شير |
فا – لا صاعد |
إشارة |
ره – صول نازل |
تيتور إشارة |
دو – لا نازل |
زيرد |
سي – صول نازل |
شلشات |
مي – صول نازل |
أمبوب |
دو – فا نازل |
نيد قبلي |
سي – مي صاعد |
تيتور قبليت |
ره – سي نازل |
كتم |
صول – دو صاعد |
إذًا ماذا يعني الترتيب المتتالي بعد موسيقي – عدد؟
بعض المحاولات لقراءة التدوين الموسيقي افترضت أن وجود البعد لا – ره
يليه العدد 3 مثلاً يعني عزف الدرجتين "لا" و"ره" معًا ثلاث مرات
متتالية، أي تعدُّد أصوات (هارمونية)، بينما غيرها افترض أن البعد لا –
ره يعني عزف الدرجات لا – سي – دو – ره بالتتالي لكن بقي تفسير العدد
المكتوب بعد البعد الموسيقي صعبًا.
بعد أن درس راوول فيتالي المحاولات السابقة لقراءة التدوين الموسيقي
واعتمد على اكتشافاته بخصوص السلالم الموسيقية البابلية، قدَّم قراءته
الخاصة الكاملة للتدوين الموسيقي وبناها على الأسس التالية:
1.
رفض فكرة تعدد الأصوات التي تقول بأن البعد لا – ره مثلاً يعني عزف
الدرجتين "لا" و"ره" معًا، قِدَم التدوين الموسيقي هو أحد الأسباب ولكن
يوجد سبب آخر ذَكَرَه وهو أن بعض تلك الأبعاد بالنتيجة ستكون متنافرة
غير صافية مما يعني أن عزف الدرجتين معًا لن يعطي نتيجة محبذة حسب ما
هو معروف في علم الهارموني، وبالتالي قَبِل بالفكرة الأخرى التي تقول
أي أن البعد لا – ره مثلاً يعني غناء أو عزف الدرجات لا – سي – دو – ره
بالتتالي.
2.
قارَن الأعداد الواردة في سطور التدوين الموسيقي مع عدد المقاطع
الصوتية في سطور نص النشيد وهي محدَّدة مسبقًا من قبل علماء آخرين،
فلاحظ أن عدد المقاطع الصوتية في كل سطر من نص النشيد المكتوب يساوي
ثلاثة أضعاف مجموع الأعداد الواردة في سطر مقابِل من التدوين الموسيقي،
فاعتبر إذًا أن الأعداد الواردة في التدوين الموسيقي لها دلالة
إيقاعية، فإذا كان كل مقطع صوتي يأخذ زمن واحد فهذا يعني أن الأعداد
الواردة في التدوين الموسيقي كل منها يدل على عدد مازورات ثلاثية
الزمن، أي عدد ضربات آلة الإيقاع القوية عندما يكون الإيقاع ثلاثيًا.
3.
في نهاية السطر الأول من التدوين بَعدَ آخِر بُعدٍ وعدد، ترد كلمتان
"أشتما آري" وتم ترجمتهما بمعنى "لا تُسمع – أعطِ" ففهمها راوول فيتالي
بمعنى "لا تُسمِع النص – أعطِ" أي أن نصف آخر متتالية (وما سبقها) هو
عزف بدون غناء بينما يبدأ الغناء من بداية نصفها الثاني، وهذا معناه أن
السطر الأول من التدوين الموسيقي حتى منتصف المتتالية الأخيرة منه هو
مقدمة موسيقية بدون غناء، أيضًا بما أنَّ عدد سطور التدوين الموسيقي
ستة بينما عدد سطور النشيد هي أربعة فهذا يعني أيضًا أن السطر الأخير
من التدوين الموسيقي هو أيضًا عزف بدون غناء أي خاتمة موسيقية.
4.
تكرار المقاطع الصوتية السبعة في آخر كل سطر من سطور النشيد في بداية
السطر الذي يليه هو طريقة حتى ينتقل القارئ (المغنِّي) من نهاية السطر
على ظهر الرقيم إلى بداية السطر التالي على وجه الرقيم بدون أن ينسى
آخر كلمات لئلا يحدث انقطاع زمني خلال عملية قلب الرقيم، وهذه الطريقة
متَّبعة حتى اليوم في المصاحف وفي قراءة الكتب الدينية حيث تعاد كتابة
آخر كلمة من الصفحة في بداية الصفحة التي تليها، مع العلم أن حذف عدد
المقاطع المعادة وأيضًا إضافة زمن نصف المتتالية الأخيرة في سطر
التدوين الموسيقي الأول إلى زمن سطر النشيد الأول ينطبق تمامًا على
معادلة ثلاثة أضعاف زمن التدوين نسبة لعدد مقاطع سطر النشيد المقابل.
مقارنة مجموع أعداد التدوين الموسيقي بعدد مقاطع النشيد
الحوري |
التدوين الموسيقي |
مقاطع النشيد الحوري |
نسبة مجموع الأعداد إلى عدد مقاطع النشيد |
السطر |
مجموع الأعداد |
السطر |
عدد المقاطع الصوتية
(بدون المقاطع المكررة) |
1 |
13
(مع حذف 5 من آخر عدد) |
- |
- |
- |
2 |
14
(مع إضافة 5 من آخر عدد في السطر الأول) |
1 |
42 |
1\3 |
3 |
10 |
2 |
30 |
1\3 |
4 |
10 |
3 |
30 |
1\3 |
5 |
12 |
4 |
36 |
1\3 |
6 |
13 |
- |
- |
- |
5.
المقدمة والخاتمة الموسيقيتان لا يوجد ما يمكن أن يدل على الإيقاع الذي
يفترض أن تسيرا عليه، لكن راوول فيتالي من دراسة المتتاليات في الخاتمة
الموسيقية لاحظ أن كل منها يتألف من أربع درجات وهذا يتوافق أكثر مع
إيقاع ثنائي لذلك اعتبر أن إيقاع الخاتمة الموسيقية هو ثنائي، وأيضًا
باعتبار أن في المقدمة الموسيقية جمل موسيقية تشابه جمل موسيقية في
الخاتمة اعتبر أن إيقاع المقدمة الموسيقية هو أيضًا إيقاع ثنائي، بينما
إيقاع المقطع المغنَّى هو إيقاع ثلاثي.
6.
أصبحت إذًا درجات المتتالية الموسيقية والزمن الذي يجب أن يستغرقه أداء
كل متتالية معروفة، ولكن مازال غير معروف كيف يفترض أن يتم تقسم الزمن
على درجات المتتالية، فأحيانًا يمكن أن يكون متساوٍ إذا كان الزمن
يساوي أو من مضاعفات عدد درجات المتتالية، وأحيانًا هذا غير ممكن، لذلك
قام راوول فيتالي بتوزيع الزمن على النغمات المختلفة بالطريقة الأكثر
مناسبة للحس الموسيقي السليم معتبرًا أن هذا الموضوع كان متروكًا لحسِّ
العازف، واعتمد في ذلك على مساعدة صديقه الموسيقار اللاذقاني المعروف
محمود عجان.
أصبح هناك إذًا ما يكفي لتقديم قراءة كاملة للتدوين الموسيقي على
الرقيم
H-6
والناتج كان له وقع موسيقي جميل جدًا، وهذا هو
التدوين الناتج:
التدوين الموسيقي للرقيم
H-6
في الواقع هناك من لم يقبل بهذه القراءة للتدوين الموسيقي فطريقة
التدوين التي افترضها راوول فيتالي غير قادرة على تدوين كل الألحان
الموسيقية، وهذا صحيح ولكن ليس هناك بالمقابل ما يشير بأن الألحان في
أوغاريت في ذلك العصر كانت حرَّة وغير مقيدة بقواعد، وهناك أيضًا
قراءات أخرى للتدوين قدمها علماء مختلفون. لكن ما هو ثابت – حتى اليوم
على الأقل - أن قراءة راوول فيتالي هي القراءة الوحيدة الكاملة
والمفصلة والتي تقدم تفسيرًا لكل الكلمات والأعداد الواردة في الرقيم
H-6
وبشكل متوافق تمامًا مع نص النشيد بدون وضع
افتراضات معقدة لا تستند على أساس، والنتيجة الموسيقية جيدة جدًا.
انقر هنا لسماع ومشاهدة فيديو عزف قراءة راوول فيتالي للتدوين الموسيقي
الأوغاريتي
*** *** ***
مدونة رامي راوول فيتالي