|
إيكولوجيتهم وإيكولوجيتنا
رغم حياة مليئة بالتقلُّبات الفكرية والإصدارات المختلفة فإنَّ القليل من الفرنسيين كانوا يعرفون اسم الكاتب أندري ڤورز André Gorz، وإسهاماته المتعدِّدة ضمن التيار الماركسي أو أنصار سارتر، أو ضدَّهما... أو بالأحرى كتبه الأخيرة ومقالاته المحذِّرة من كوارث بيئية قادمة. والغالب أن الكثيرين لم يسمعوا عنه قبل نشرة الأخبار المسائية ليوم 24 سبتمبر2007، والتي حملت نبأ انتحاره وزوجته دورين، وألقت الضوء على جانب من حياته وإسهاماته الفكرية وتحديدًا كتابه الأخير المهدى إلى زوجته رسالة إلى د. – حكاية حبٌّ: شعاع إلى دورين والذي ينفتح بعبارة: ... ستبلغين الثانية والتسعين من عمرك قريبًا، لقد ضمرت بحيث فقدت ستة سنتمترات، وخفَّ وزنك فصار لا يتجاوز 45 كيلوغرامًا، لكنك ما زلت جميلة وكريمة ومثيرة، لقد مرَّت ثمانية وخمسون عامًا ونحن نعيش معًا، وأحبك اليوم أكثر... وينغلق الكتاب بعبارة: كلانا يرغب ألا يعيش بعد موت الآخر، وطالما قال أحدنا للآخر إنه لو تحقَّق المستحيل وعشنا حياة أخرى فإننا نرغب أن نعيشها معًا. لقد كانت كيفية وفاته وما كشفته من حبٍّ صار نادر الوجود من العوامل التي دفعت الفرنسيين إلى الاهتمام بمسيرة هذا الكاتب المنحدر من أصول ألمانية، والذي أسهم طيلة خمسين عامًا تقريبًا في الحياة الفكرية والصحفية تحت الاسم المستعار "ميشال بوسكي" Michel Bosquet، وهذا ما جعل صحيفة محترمة مثل لوموند ديبلوماتيك تعيد نشر نص قديم نشره ﭬورز بإمضائه المستعار سنة 1974 في مجلة البرِّيِّ Le sauvage التي اتخذها منبرًا بعد خلافه مع المجلة التي أسهم في تأسيسها الأزمنة المعاصرة بسبب إدانته لليسراوية، وإبعاده من هيئة تحرير لونوفيل ابسرفتور لإدانته استعمال الطاقة النووية بما جعل شركة كهرباء فرنسا تمنع الإشهار عن المجلة. لقد اعتبرت لوموند ديبلوماتيك إعادة نشر النص اعترافًا برؤيوية الفيلسوف الذي تنبأ، منذ 1974، باسترداد الإيكولوجيا من قبل الصناعة، والمجموعات المالية. وفي كلمة من قبل الرأسمالية. الأوان * * * طرحُ مسألة الإيكولوجيا شبيه بالحديث عن الاقتراع العام أو عطلة الأحد: في مرحلة أولى، يتهمك البورجوازيون وأنصار النظام بأنك تسعى إلى هلاكهم، وإلى انتصار الفوضوية والظلامية، ثم في مرحلة ثانية، عندما تصبح قوَّة الأشياء والضغط الشعبي لا يقهران يمنحونك ما منعوه إياه بالأمس. وبالأساس لا شيء يتغيَّر. إنَّ أخذ الشروط الإيكولوجية في الاعتبار يخلق كثيرًا من الأعداء في صفوف الأعراف. ومع ذلك فإنَّ له ما يكفي من الأنصار الرأسماليين ليصبح قبوله من طرف قوى المال احتمالاً جديًّا. إذن، لا فائدة، من الآن، من لعب لعبة الاختباء: إنَّ النضال الإيكولوجي ليس غاية في حدِّ ذاته، بل مرحلة من المراحل. يمكن أن يخلق مصاعب للرأسمالية ويرغمها على التغيُّر. لكن متى؟ بعد الصمود طويلاً بفضل القوَّة والحيلة، ستتنازل الرأسمالية في النهاية لأنَّ المأزق الإيكولوجي سيصبح لا مفرَّ منه. ستتقبَّل هذا التحدي كما قبلت بقية التحديات السابقة. لذا يجب من الآن أن نسأل أنفسنا، صراحة: ماذا نريد؟ هل نريد رأسمالية تتصالح مع الرهانات الإيكولوجية أم ثورة اقتصادية، واجتماعية، وثقافية تقوِّض شروط الرأسمالية وتخلق رابطًا جديدًا بين الإنسان والجماعة، ومحيطه والطبيعة؟ هل نريد إصلاحًا أم ثورة؟ لا تقولوا إنَّ هذا السؤال هو سؤال ثانوي، وأنَّ المهم هو أن لا نفسد كوكب الأرض لدرجة يصبح فيها غير صالح للسكن. فالعيش ليس غاية في حدِّ ذاته: هل الحياة جديرة بأن تُعاش، كما تساءل إيفان إيليش Ivan Illich، في عالم تحوَّل إلى مستشفى كبير، وإلى مدرسة كبيرة، وسجن كبير، ستكون المهمة الرئيسية لمهندسي الروح فيه صنع إنسان يتأقلم مع هذه الظروف. من الأفضل أن نحاول، منذ البداية، أن نحدِّد لماذا نناضل وليس فقط ضدَّ ماذا. ومن الأفضل أن نحاول تصوُّر كيف ستُؤثِّر الرهانات الإيكولوجية على الرأسمالية، وكيف ستغيِّرها، بدلاً من الاعتقاد بأنَّ هذه الرهانات ستتسبب في اختفائها، لا أكثر. لكن، أولاً، ماذا يعني، اقتصاديًا، الرهان الإيكولوجي؟ لنأخذ مثلاً المركَّبات الكيميائية العظمى لحوض الران Rhin، بلودفيشافين BASF Ludwigshafen، بليفيركوسن Bayer Leverkusen أو روتردام AKZO Rotterdam، سنجد أنَّ كلَّ مركب يدمج مجموعة العوامل التالية: · موارد طبيعية (هواء، ماء، أملاح) تعتبر إلى حدِّ الآن مجانية لأنه ليس بالإمكان إعادة إنتاجها (تعويضها). · وسائل إنتاج (آلات، بناءات) وهي رأسمال ثابت (!) يتآكل، لذلك يجب ضمان تعويضها (إعادة الإنتاج)، ومن المستحسن بوسائل أكثر قوة وأكثر نجاعة، تعطي الشركة أسبقية على بقية المنافسين. · قوة العمل، تتطلَّب هي الأخرى إعادة إنتاج (توفير الغذاء، العلاج، السكن، والتعليم للعمال). في الاقتصاد الرأسمالي يهدف دمج هذه العوامل، ضمن مراحل الإنتاج، إلى الهيمنة على أكبر قدر ممكن من الربح (وهو ما يعني أيضًا، بالنسبة لشركة قلقة على مستقبلها: أكبر قدر من القوة، وبالتالي أكبر قدر من الاستثمارات، والتواجد في السوق العالمي). إنَّ السعي وراء هذا الهدف يؤثِّر بعمق في الطريقة التي تدمج بها العوامل المختلفة، وعلى الأهمية النسبية لكلٍّ منها. مثلاً، لا تضع الشركات في اعتبارها ماذا تفعل كي يكون العمل مريحًا، ولكي تهيِّئ المعامل، بطريقة أفضل، التوازنات الطبيعية وفضاء العيش للناس، لكي تخدم المنتوجات الغايات التي تطمح إليها التجمُّعات البشرية. لكن ها قد وصل الاكتظاظ السكاني، في حوض الران تحديدًا، وتلوُّث الهواء والماء إلى درجة أنَّ الصناعات الكيميائية – كي تواصل نموَّها أو حتى عملها – أصبح عليها تصفية الدخان الذي تبعثه وتنظيف مصباتها. هذا يعني إعادة إنتاج الظروف والموارد، التي تُعتبر إلى حدِّ الآن «طبيعة» ومجانية. هذه الضرورة لإعادة إنتاج المحيط سيكون لها انعكاسات حتمية: يجب الاستثمار في إزالة التلوث، وبالتالي زيادة حجم رؤوس الأموال الثابتة، ومن ثم يجب ضمان إعادة إنتاج تجهيزات التطهير. ونتاج ذلك (النظافة النسبية للهواء والماء) لا يجب بيعه بطريقة مربحة. هناك، إجمالاً، ارتفاع متزامن في وزن رأس المال المُستَثمَر "التركيبة العضوية"، وتكلفة إعادة إنتاج رأس المال هذا، وتكاليف الإنتاج، بدون ارتفاع مماثل في المبيعات. نتيجة لذلك، سيحدث أحد أمرين: إما أن تنخفض نسبة الربح، أو أن يرتفع سعر المنتوجات. وتسعى الشركات، حتمًا، إلى رفع أسعار البيع. ولكن ذلك لن يتمَّ بهذه السهولة: كلُّ الشركات المُلوِّثة الأخرى (صناعة الاسمنت، التعدين، صناعة الحديد...) تسعى هي الأخرى إلى أن تبيع منتوجاتها بأغلى سعر للمستهلك النهائي. إنَّ أخذ الرهانات الإيكولوجية بعين الاعتبار سيؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار بوتيرة أسرع من الأجور الحقيقية، وستتدهور المقدرة الشرائية لعامة الناس، وسيحدث كلُّ شيء وكأن كلفة إزالة التلوث اقتطعت من الموارد التي تمكِّن الناس من اقتناء البضائع. إنَّ إنتاج هذه البضائع سينزع إلى الركود أو إلى الانخفاض. وسيزداد الركود أو الأزمة خطورة. وهذا التراجع في النموِّ والإنتاج، الذي قد يكون في نظام آخر شيئًا جيدًا (سيارات أقل، ضجيج أقل، هواء أكثر، أيام عمل أقصر...)، ستكون له آثار سلبية بالكامل: إنَّ المنتوجات الملوِّثة تصبح أمتعة للرفاهة غير مُتاحة للعامة، وستكون باستمرار في متناول أصحاب الامتيازات. ستتعمَّق الفوارق. سيصبح الفقراء أشدَّ فقرًا والأغنياء أكثر غنى. إنَّ الاهتمام بالتكاليف الإيكولوجية سيكون له، إجمالاً، نفس التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لأزمة النفط. وبعيدًا على أن تستسلم الرأسمالية للأزمة، ستقوم بمعالجتها كما فعلت دائمًا: ستستفيد مجموعات مالية متمركزة جيدًا من الصعوبات التي تواجهها المجموعات المزاحِمة لها لتبتلعها بأرخص الأثمان، وتبسط يدها على الاقتصاد. ستعزِّز السلطة المركزية تحكمها في المجتمع: سيحدِّد تكنوقراطيون المعايير "القصوى" لإزالة التلوُّث وللإنتاج. سيسنُّون التشريعات، وسيوسِّعون مجالات "الحياة المُبَرمَجة" ومجال أجهزة الردع. قد تقولون – دون أدنى شك – بأنَّ كل هذا لا يمكن تفاديه؟ ولكن الحقيقة أنَّ الأشياء تحدث هكذا إذا أصرَّت الرأسمالية على أن تأخذ بعين الاعتبار التكاليف الإيكولوجية دون أن تتعرَّض لهجمة سياسية تشمل كلَّ الأصعدة وتفتكُّ منها السيطرة على آليات المجتمع، وتفرض عليها مشروعًا آخر للمجتمع وللحضارة. لأنَّ أنصار النموِّ على صواب في نقطة واحدة على الأقل: في إطار المجتمع الحالي والنمط الحالي للاستهلاك، المبنيِّ على عدم المساواة، والامتيازات والسعي إلى الربح... عدم النموِّ أو النموُّ السلبي لا يعني سوى الركود، والبطالة، وزيادة الفارق بين الأغنياء والفقراء. في إطار النمط الحالي للإنتاج ليس من الممكن تحديد النموِّ ولا عرقلته، مع توزيع منصف أكثر للخيرات المتوفرة. طالما نحن نفكر في حدود هذه الحضارة غير العادلة، سيبدو النموُّ لعامة الناس وعدًا دون أمل – مع أنه خادع – بأنه سيأتي اليوم الذي يكفون فيه عن أن يكونوا دون امتيازات ويكفُّ فيه عدم النموِّ عن أن يكون اتهامًا لهم بالدونية. أليس علينا التصدي للنموِّ، وفي الوقت ذاته للخداع الذي يترتَّب عنه، ولديناميكية الاحتياجات المتزايدة صعبة التحقيق التي يقوم عليها، وللمنافسة التي ينظمها بتحريض الأشخاص "كلٌّ للتسلُّق فوق الآخرين"؟ إنَّ شعار هذا المجتمع يمكن أن يكون: ما هو جيد للجميع لا يساوي شيئًا. لن تستحق الاحترام إلا إذا كنت تملك "أفضل من الآخرين". مع أنه، على العكس، ما يجب تأكيده للقطع مع إيديولوجيا النموِّ: الشيء الوحيد الجدير بك هو ما يكون جيدًا للجميع. الشيء الوحيد الذي يستحق أن يُنتَج هو ما لا يميِّز أحدًا ولا يقلِّل من شأن أحد. يمكن أن نكون أسعد مع رخاء أقل. لأنه في مجتمع بدون امتيازات لا يوجد فقراء. ترجمة: سناء بوعجيلة الأوان نقلاً عن لومند ديبلوماتيك، أبريل 2010 |
|
|