|
إضاءات
لو كان المقصود بمفهوم الشكل هو الشكل المادي، أي الشكل الجسمي - ضمن مرجعية العقد الفئوي الإسلامي على الأقل - فلا يجوز، ضمن دائرة هذه المرجعية، وصف الإله بحيز جسمي وشكل معين، فهو "ليس كمثله شيء". الإيمان هو شكل إيماني، أي طريقة تشكُّل ذات أبعاد متعددة نفسية ومعرفية واجتماعية وسياسية ...الخ. فأنا هنا لا أناقش قضية كون هذا الإيمان بالله صحيحًا أو مزيفًا فهذا يعود بنا إلى المربع الأول مربع الحكم وفق منطق الثنائيات حقيقي/مزيف. الشكل الإيماني هو صيرورة حركية احتمالية نسبية، ويتماثل إيمان البشر بالله بكونه شكل إيماني، ويختلفون في كونهم يتحوّون طرائق تشكل مختلفة وخاصة لإيمان كل واحد لديهم، بل وبين لحظة وأخرى وموقف وآخر عند نفس الشخص.
هناك مثل يقول: "نبأ السوء سرعان ما يسري". وذات مساء حدثتني امرأة عجوز بانفعال عن هذا القول: "نبأ السوء حسب هذا المثل ينتشر بسرعة من تلقاء نفسه، ولكنني أعتقد أن الأصح أن نقول إنه يُذاع قصدًا". وكان هذا هو ما تعنيه: إن القبح في أذهاننا يسمح لنا أن نجد العيب في زلاّت الناس العادية ونبالغ فيها. ونحن بسبب هذه النزعة السلبية أميل إلى أن نلوذ بالتحامل على الآخرين ثم نبثّه هنا وهنالك على شكل إشاعة رديئة من خلال التحدث إلى الناس. وأعتقد أن هذا صحيح ولا ريب. فمن اليسير أن نجد العيب في الآخرين، ولكن من العسير أن نجد فيهم المزايا والفضائل. والأحرى بنا لكي نتبين السمات السلبية في الآخرين من الناس أن نطور أنفسنا حتى يكون بإمكاننا ذلك. ونوْلُنا أن نعقد النية على هذا لا خلال الاستراحات القصيرة في الحياة اليومية وحسب بل لدى تعرضنا الدائم للوسائط الجماعية في المجتمع المتكيف مع الأبناء.
لطالما شغلتني فكرة المقارنة بين عمل سيمفوني لأوركسترا، وما يحمله من جمال وتناغم وتكامل وحياة قائمة بذاتها لهذه الوحدة المركّبة المنتجة ولهذا العمل الجماعي الفردي بالوقت نفسه، وبين اجتماع لأفراد (يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا) كما يقول المثل العربي المثير للأسى والكآبة والإحباط - مع الإعتذار بالطبع لعازف الإيقاع في الأعمال السمفونية -. فالمسافة بين الاثنين عظيمة، والبون شاسع. فالأول عمل يتبارى به الفرد مع الجماعة ليؤكد ذاته من خلالها، بينما في الحالة الثانية نجد الفرد وقد تهشمت ذاته، بعصا الاستبداد الجمعي أو هاجس القطيع، إلى شظايا يجمعها طبل الحشود. وعندها تختفي من الحديث والنقاش والحوار صيغة (أنا) الفردانية المسؤولة عن أفعالها، الواثقة من موقفها، المدافعة عن وجهة نظرها، لتحل محلها صيغة القناع، أي صيغة (نحن) الدفاعية، التي طالما أخفت ورائها ضعف الحجة وهزال المنطق وخواء المعنى، والمختبئة تحت عباءة الجمع، والمتحدثة باسمه. كما أن الحديث عن الحشود والجموع من جهة والفرقة من جهة أخرى يحيلنا إلى مفارقة في منتهى الغرابة نجد فيها العمل المتناغم المتكامل الذي اشرنا إليه آنفًا نتاج (فرقة وفردانية) بينما الفعل الذي تقوم به الجماعة في الحالة الثانية ليس سوى تجمع قطيعي.
غدًا العنصرة، حسابًا شرقيًا. والعنصرة ذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ مجتمعين في العليّة. رأوا أنه صار هو قوّتهم وباعثهم إلى حياة جديدة. كان المعلّم قد قال لهم إن الماء الذي يعطيه يصير في المؤمن به "نبعًا يفيض بالحياة الأبديّة". ولكن هذا بقي عندهم كلامًا حتى أفصح الله لهم بالروح عما قصده للمسيح. فخرجوا بعد انصباب الروح عليهم إلى العالم وصار العالم بهم شيئا جديدًا. قالت كتبنا تكلّموا باللغات بفضل انسكاب الروح على كلّ واحد منهم، وفهم كلّ حاضر في ذاك المشهد ما سمعه بلسان غريب وفق ما قاله نبيّ قديم: أفيض من روحي على جميع البشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلاما، وعلى عبيدي، رجالاً ونساء، أفيض من روحي في تلك الأيام.
في مقاربته في الحياة (20 أيار/مايو 2009) يقول محمد جابر الأنصاري أنه: لم يبق أمام العرب والمسلمين إلا النهوض بإسلام تجديدي متحرر متسامح ومعتدل، لأن إخفاقهم في ذلك يعني خسارة المصير والمستقبل، حيث لم تبق أمامهم خيارات أخرى. إسلام يتفهم طبيعة العصر ويمكّن المسلمين من مواجهته والتعايش معه. الخيارات الأخرى التي جربها العرب بحسب تحليل الأنصاري هي «التغريب الخالص» والبحث عن الخلاص عن طريق «تفسير متشدد ومتطرف للإسلام». من المؤكد بطبيعة الحال أن مناقشة أفكار وطروحات كبيرة عن التغيير تتعرض لابتسار مخلّ في المعالجات الصحفية، والمقالات القصيرة، بما لا يعطيها حقها من العمق والشرح والتوضيح. ومع ذلك فإن خيار «الإسلام التجديدي المتحرر والمتسامح والمعتدل»، وعلى إغراء الأوصاف المستخدمة هنا، يستحق النقاش، خاصة أنه لا يتعدى الشعار، ولم يترجم إلى الآن إلى ما يُشبه البرنامج السياسي والاجتماعي المُقنع. وهو على العموم خيار يواجه صعوبات كبيرة تستحق التأمل فيها.
فتح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، صفحة جديدة لعلاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي. وطوى الصفحة التي سطّر فيها الرئيس السابق، جورج بوش، أسوأ ما مرّت به هذه العلاقات. أمران يثيران الاهتمام في هذا التحوّل الهام والبنّاء. الأمر الأول من حيث الشكل، وهو اختيار تركيا، بالتحديد، منبرًا لإعلان الموقف الأميركي الجديد. أما الأمر الثاني وهو الأساس، فيتعلق بالمضمون والهدف. كان أمام الرئيس أوباما ثلاثة منابر إسلامية أساسية ليعلن منها هذا التحوّل:
نحن مطالَبون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نستبدلَ نظريةَ صموئيل هنتينغتون الخادعة والخطيرة المتمثِّلة بصدام الحضارات (والتي هي أيضًا نظرية بن لادن) بفلسفة حوار الثقافات والحضارات التي سادت دائمًا في حوض المتوسط، رغم الحروب وإثبات الذات من خلال الهُويّات. بالمقابل، يجب على سكان حوض المتوسط أن يتصرفوا إزاء "صدام الأوهام" الذي أورثهم على مر العصور عددًا من الأفكار المسبقة الشائعة حول ما يفرقنا بدلاً من التأكيد على ما هو مشترَك بيننا والذي هو كبير جدًا. كما يجب عليهم أيضًا مقاومة "صدام الجهالات"، لأن هذه الأخيرة تميل إلى الزيادة.
|
|
|