|
مقالتان من اليابان
هناك مثل يقول: "نبأ السوء سرعان ما يسري". وذات مساء حدثتني امرأة عجوز بانفعال عن هذا القول: "نبأ السوء حسب هذا المثل ينتشر بسرعة من تلقاء نفسه، ولكنني أعتقد أن الأصح أن نقول إنه يُذاع قصدًا". وكان هذا هو ما تعنيه: إن القبح في أذهاننا يسمح لنا أن نجد العيب في زلاّت الناس العادية ونبالغ فيها. ونحن بسبب هذه النزعة السلبية أميل إلى أن نلوذ بالتحامل على الآخرين ثم نبثّه هنا وهنالك على شكل إشاعة رديئة من خلال التحدث إلى الناس. وأعتقد أن هذا صحيح ولا ريب. فمن اليسير أن نجد العيب في الآخرين، ولكن من العسير أن نجد فيهم المزايا والفضائل. والأحرى بنا لكي نتبين السمات السلبية في الآخرين من الناس أن نطور أنفسنا حتى يكون بإمكاننا ذلك. ونوْلُنا أن نعقد النية على هذا لا خلال الاستراحات القصيرة في الحياة اليومية وحسب بل لدى تعرضنا الدائم للوسائط الجماعية في المجتمع المتكيف مع الأبناء. إن كلمات (مزيد من النور) معروفة بأنها من آخر كلمات غوته Goethe، أحد عمالقة الأدب الألماني (1749 – 1832). وهي مذكورة في التقرير الطبي الذي كتبه عنه كارل فوغل Karl Vogel، وقد كان طبيبه الشخصي، إنها تُعد كلمات عميقة المعنى يتميز بها غوته. ويقول تقرير فوغل الطبي: "كان هذا الشخص يمقت كل نوع من الظلام". وقد أحب غوته ضياء الشمس البراقة الساطعة أكثر من أي شيء. وهناك مقطع مؤثر في محادثات غوته الأخيرة مع (إكرمان Eckermann) وهو مُريد غوته وصديقه الحميم. جاء فيه: إنني أُجِلّ خلق الله ونوره الذي يسطع متألقًا في الشمس. فهي وحدها التي تتيح لنا جميعًا أن نعيش ونعمل ونوجد. وكان غوته يتوق إلى النور ليخترق ظلام عمره عندما دنا أجله وقد نيَّف على الثمانين. وأظن أن كلمات "مزيد من النور" تليق بعظيم من عظماء الأدب. ومهما يكن، فهناك تفسير مختلف لهذه الملاحظة. فقد قيل بناء على الصحف الأدبية في أيامه إن ما قصده غوته بقوله: "مزيد من النور" لم يكن أكثر مما كان يقوله لخادمه - "افتح المصراع الثاني حتى يدخل مزيد من النور". فإذا فسّرت "مزيد من النور" بهذه الطريقة، بدت رتيبة وجافة. إلا أنه ليست في هذه الأيام وسيلة نعرف بها أي تفسير هو الصحيح، وأظن أنه طالما أن الحقيقة لم يتيسّر الوصول إليها لا حاجة بنا إلى تفسيرها بطريقة تتفّه المعنى. إنني أحب امتلاك الرأي المباشر في الأشياء: فما هو جميل جميل وما هو عظيم عظيم. ويبدو لي أن غوته لم يستطع إلا بشق النفس أن يكتم مشاعر اشمئزازه لدى اطلاعه على انتقادات الصحفيين التي كانت موجودة في كل دورية. وجانب من محادثاته مع إكرمان يكشف مشاعره: إن الانتقادات التي تظهر في الصحف والمجلات كل يوم هي من الكثرة ما يبلغ عددها الخمسين. والكلام المفكك الطائش الذي ينتشر بين الناس الذين يقرؤون هذه الانتقادات لن يشجع على إنتاج الأعمال الأدبية المزدهرة أو المتفوقة. وفي هذه الأيام إذا لم يفصل المرء الأعمال الأدبية عن هذه الانتقادات ولم يعزل هذه الانتقادات عنها فإنها ستصل إلى الدمار. وأكثر هذه الانتقادات الصحفية انتقادات عنيفة مشغولة بتشويه السمعة الذي هو علم جمال هدام مزعوم. وكان من نتيجة هذا النمط من الصحافة أن ظهر بين الناس نوع من الثقافة ذات المعرفة الضئيلة أو السطحية وأصبح للموهبة المتبرعمة ضباب شرير أو عنصر سام. وأنا أتساءل أيمكن لملاحظاته أن تمضي غير مسموعة وما ذلك إلا لأنها قد قيلت قبل أكثر من 150 سنة. إن مفهوم الأنماط الخمسة للرؤية مشروح في البوذية. وهي قدرات الإدراك الخمس المطلوبة للتمييز بين الحقيقة والزيف في هذا العالم. الأولى هي العين التي يملكها عموم البشر، والتي تفقد رؤيتها عندما يعترض شيء بينها وبين هدفها. والثانية هي العين السماوية، أو قدرة الكائنات السماوية على رؤية ما يتجاوز الحدود المادية للظلام أو البعد أو العقبة. والثالثة هي عين الحكمة، أو القدرة البصيرة عند أولئك الذين اكتسبوا المعرفة العميقة. والرابعة هي عين القانون، أو عين الحكمة عند بودهيساتفا التي تخترق كل الظواهر على ضوء المبادئ البوذية لتخليص البشر. والخامسة هي عين البوذا، التي تدرك جوهر كل الأشياء والظواهر في الماضي والحاضر والمستقبل. وعين البوذا التي تتجاوز تصورنا تمامًا تعني العين التي لها منظور أعمق وأكبر بكثير، ورغم ذلك فهي موجّهة إلى تلك الأشياء والظواهر التي نراها بعيننا المجردة. وعين القانون ليست عين المعرفة بل عين الحكمة ولكن ضمن هذه الحكمة تكمن روح الحنو المكرسة لخلاص الآخرين. ولاريب أن المعرفة الواسعة مهمة، ولكن المنظور القائم على المعرفة فقط من المحتمل جدًا أن يكون محدودًا ومقولبًا. وعين الحكمة خلافًا لذلك مرنة وغير متحيزة. وبوسعها مباشرة أن تبصر الخير والشر والصواب والخطأ في كل الظواهر من غير أن تتأثر بحدود المعرفة أو الإعلام. وهذه العين غريبة كل الغرابة بالنسبة إلى النزعة العامة عند الإنسان، التي تسمح له أن يرى الجميل قبيحًا والعظيم تافهًا. وأنا نفسي أعرف الكثير من الناس، الذين رغم أنهم قد لايملكون الكثير من الخلفية الأكاديمية ليفخروا به، قد رعوا في أنفسهم الحب العمي لكل البشر والحنو عليهم وهم يرعون عين الحكمة. ولكي نميز بين الحقيقة والزيف أود لو يتذكر كل منا أن تطوير عين الحكمة هذه يتطلب جهدًا لايكلّ وعلى أساس يومي. * * * كنوز القلب إن الأطفال الذين تتلألأ أعينهم على الدوام بالفضول الذي لاينضب وبالتساؤل، مهما كان في الجو - من مطر، أو ثلج، أو أشعة شمس، أو عواصف - هم كنوز الأرض التي لاتُقدَّر بثمن. وما أشبه نشاطهم وحيويتهم بقوة الحياة في الجذور التي بعد صمودها أمام عواصف الشتاء وثلوجه، تشطأ وتكسر قشرة الأرض عند حلول الربيع. ويصور الكاتب الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) في كتابه الشهير الخالد إميل Emil صبيًا أدرك سن البلوغ: كما تتقدم الأمواج الهادرة على العاصفة تعلن همهمة العواطف المكتومة عن هذا التبدل الصاخب؛ ويحذرنا الاهتياج المكتوم من اقتراب الخطر. إن تبدل المزاج، وثورات الغضب المتكررة، وتجرك الذهن المستمر، إن كل ذلك يكاد يجعل الطفل صعب المراس. فيغدو أصم عن الصوت الذي تعوّد أن يطيعه؛ إنه ليث محموم؛ لايثق بحارسه ويرفض أن يسيطر عليه. كما يعرف الكثير من الناس، تصور هذه الدرة الأدبية صبيًا، هو إميل، نشأ على ما عرَّفه روسو بأنه تربية مثالية، ومن المقبول عمومًا أن هذا العمل هو عمل تربوي من الطراز الأول. بيد أنني أعتقد أن على الذين يهتمون بالبشر بوجه عام، وليس على المنهمكين في التربية وحسب، أن يقرؤوا هذا الكتاب مرة واحدة على الأقل. وعلى أية حال، فإن عبارة (ليث محموم) هي صورة فاتنة مختارة بعناية للصبي الذي بلغ لتوّه الخامسة عشرة من عمره. وفي عصرنا يتخرج الأطفال من المدرسة الإعدادية ويدخلون المدرسة الثانوية عندما يكونون في عمر يقارب الخامسة عشرة. وهي مرحلة شديدة الأهمية لأن الأطفال يصبحون بالغين في نحو هذا العمر وقد أطلق روسو على هذه المرحلة (الولادة الثانية)، وأنا أشك في أن تربية الأطفال في هذا السن في أيامنا أسهل مما كانت في أيامه. فما هو الوضع لصغار السن في اليابان إذن؟ ألديهم (أطباء) ماهرون يستطيعون شفاءهم من (الحمى) في البيت والمدرسة؟ وهذه الحمى خاصة بالمراهقين الذين لديهم ارتفاعات وانخفاضات انفعالية هائلة. فهل يسار بهم في الوجهة الصحية التي تفضي إلى النمو الناضج؟ مما يؤسف له أنني لا أستطيع أن أقدم إجابة إيجابية. وأنا في هذه الأيام أكاد أظن أن الوضع الآن أسوأ مما كان من قبل. إن العنف المدرسي، ولاسيما في السنوات الأخيرة، قد أصبح في غاية الخطورة وهو ينتقل إلى المدارس الإعدادية. يضاف إلى ذلك أن العنف الذي يحدث بين التلاميذ أخذ يتوجه ضد المعلمين، وأحداث مثل هذا العنف تتزايد بسرعة. وأنا أسمع أنه، بسبب هذا العنف، تلاقي بعض المدارس الإعدادية صعوبة في ضبط الصفوف بشكل نظامي. وقبل فترة قصيرة كانت الكليات والجامعات هي وحدها التي تستدعي رجال الشرطة بألبستهم العسكرية لتخفيف العنف في الحرم الجامعي، ولكن في هذه الأيام بدأت بعض المدارس الثانوية في استدعاء الشرطة. ولابد أن الآباء الذين لديهم أبناء في هذا العمر يقلقون حول إمكان حدوث مشكلة عنيفة أخرى بالإضافة إلى المشكلة التي في البيت. لقد قرأت بنفسي بعض التقارير المشهدية والمقالات عن المدارس التي أتلفها العنف؛ وإحدى أبرز التبصرات المؤثرة في قلب هذه المشكلة كتبها أحد الصحفيين. وكان ما قاله في النتيجة: إن راشدي اليوم قد أصبحوا متبلدين تجاه السمات الداخلية في البشر؛ ويزداد اليوم عدد الراشدين المتحمسين للغاية لتطوير السمات الخارجية في أطفالهم وهم يهملون خصائصهم الداخلية. وإنه تبصر نفاذ. وقد أعلن روسو كذلك في إميل: أراغب أنت في أن تحرك وتغذي مثيرات الحساسية المتيقظة في قلب الفتى؛ أتريد أن تميل بمزاجه نحو الأعمال والأفكار الكريمة؛ إذن لا تترك بذور الكبرياء والغرور والحسد تنبت في نفسه الصورة المضللة لسعادة البشر؛ ولاتِره أولاً أبهة البلاط وخيلاء القصور ومباهج المواكب؛ ولاتأخذ إلى المجتمع والاجتماعات المتألقة؛ ولاتره ظاهر المجتمع حتى تكون قد جعلته قادرًا على تقويم قيمته الحقيقية. فإذا ظهرت له الدنيا قبل أن يعرف الناس فإن من شأن ذلك لا أن يثقفه بل أن يفسده؛ ولا أن يعلمه، بل أن يضلله. إن قوله "أن يعرف الناس" معناه، كما أفهمه، أن ينتبه إلى الخصائص الداخلية في البشر ويكون هويته الذاتية. وهذا هو العامل الأهم في تنشئة الأطفال. فإذا نسي الراشدون هذه النقطة وبذلوا جهودًا مسعورة لإدخال أولادهم في الجماعات التي تسمى النخبوية، فمن المرجّح ألا يخلقوا إلا أناسًا متعجرفين ناقصين متبلدين تجاه عقول الناس ومشاعرهم. والحقيقة أن الأطفال هم المرايا الناصعة التي تعكس آباءهم ومجتمعهم بشكل عام. وفي زهاء الزمن الذي كان فيه البوذا شاكيموني يعظ في دير جيتافانا في الهند القديمة، كان يوجد أحد الحمقى. وذات يوم طلب إليه سيده أن يتولى أمر العناية بداره في أثناء غيابه، قائلاً له ألا يحرس الباب وحسب بل حمار المنزل كذلك. إلا أنه في ذلك اليوم الذي كان فيه السيد في الخارج صادف أن بدأت حفلة في الدار المجاورة. ولم يستطع أن يقاوم إغراء الاستماع إلى الحفلة فنزع الباب، وربطه بظهر الحمار، ثم ربط الحيوان بعمود وذهب إلى الدار المجاورة. وبينما هو خارج المنزل دخله بعضهم وسرقوا كل أثاثه. ولاحاجة إلى القول إن السيد حين عاد إلى البيت وبّخ الفقير بقسوة. هذه حكاية مجازية مذكورة في أحد الكتب البوذية المقدسة، إلا أن حماقة الإنسان الذي نسي الهدف الجوهري من حراسة الباب لاتنفصل البتة عن الوضع التربوي الراهن. ما هدف التربية وما غاية التعلم؟ يبدو لي أن الأطفال الذين يعيشون في اهتياج يحتجون ضمنيًا على مجتمعنا المعاصر الذي يهمل المعنى الجوهري للتعلم والتربية. يعبر نيتشيرن دايشونين[1] في إحدى كتاباته قائلاً: إن الأثمن من الكنوز التي في المخزن هو كنوز الطفل، وكنوز القلب أثمن من كل شيء. ودايشونين يقصد بقوله (كنوز القلب) القيمة العليا الفطرية في حياة البشر. وهذا هو الزمن الذي نحتاج فيه أن ندرك، ولو متأخرين، ذل التشوش في مدنيتنا المعاصرة، التي لا تلاحق إلا تحسين السمات الخارجية للإنسان. وهذا الفهم هو وحده الذي يتيح لنا أن نضرم النار في الطريق التي يمكن عبرها أن يشفى (الليث المحموم) وينشأ شهمًا كملك الحيوانات. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي *** *** *** [1] نيتشيرين دايشونين Nichiren Daishonin (1222 - 1282) هو الياباني الذي أسس الحركة البوذية التي تسمى نيتشيرين شوشو Nichiren Shoshu. كان ابن صياد، ورث تعاليم شاكيموني (البوذا الأول) وطوّرها. (المترجم)
|
|
|