|
على هامش الإنجيل الضائع
ياعبد إن رأيتني في الضدين فقد اصطفيتك لنفسي 1 مقدمة إنه الإنجيل المنحول الثالث الذي تنشره معابر[1]. وهنا أجد من الضروري أن أقول، منذ البداية، إنّي ترددت قليلاً قبل نشره، لأن هذا الإنجيل، الذي يمكن اعتباره من حيث العمق والمضمون من أهم الإناجيل المنحولة، هو أيضًا، وفي الوقت نفسه، الإنجيل الأكثر إزعاجًا للمؤمن المسيحي العادي. لكن، من منطلق أن عصرنا، كما يفترض أن يكون، قد تجاوز بشكل عام تلك الحساسيات التي لا علاقة لها بالعقل و/أو بالإيمان قررت الاتكال على ألوهة ستسامحني حتمًا إن أخطأت، ونشره للأسباب التالية: 1. لأن هذا الإنجيل، الذي تم اكتشاف مخطوطه مع عدد من المخطوطات الغنوصية الأخرى في المنية في مصر قرب قرية بني مزار، لا يقلّ قدمًا عن باقي الأناجيل، حيث يعود قدم المخطوط الذي تم اكتشافه في أواخر الستينات من القرن الماضي إلى المئة الثالثة للمسيحية، ويعتقد اليوم أنه الترجمة القبطية لنص يوناني أقدم يعود إلى الأعوام المئة والخمسين الأولى من المسيحية، ما يعطي الباحث في أصول نشأة الأديان، وخاصةً في أصول نشأة الدين المسيحي، فكرة جيدة عن أجواء ومعتقدات تلك الأيام التي لم تُدرَس بعد كما يجب. ما يعني... 2. أنه، ومن منظور معرفي محض، يمكن اعتبار هذا الإنجيل، وبامتياز، الإنجيل الغنوصي الأوضح والأكثر صراحة، الأمر الذي يعطي الباحث فكرة عن كيف كانت تفكر تلك الفئة التي رفضتها الكنيسة وحاربتها على مرّ التاريخ. وأخيرًا... 3. لأنه من الناحية الفلسفية، وبالنسبة للقارىء المتشكك، يعيد هذا النصّ طرح الكثير من التساؤلات المتعلقة بالمسيح والألوهة وثنائية الخير والشر، تلك التي ما زالت إلى الآن بلا جواب، وقد تبقى كذلك حتى نهاية الأزمنة. ونفصِّل قليلاً، مبتدئين بإعطاء... 2 لمحة تاريخية لمنظور آخر في كتابه رفض الهرطقة تحدث (القديس) إيرينيوس أسقف لوغدانوم (حاليًا مدينة ليون الفرنسية)، الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، عن إنجيل كان متداولاً في ذلك الحين، ويدعى بإنجيل يهوذا. وهذا الإنجيل، على حد قوله، صور هذا الأخير كشخص كان يعرف الحقيقة أكثر من الآخرين، وبرأه من تهمة خيانة يسوع كما وردت في الأناجيل المنقولة المعتمدة، ما يعني أن هذا الإنجيل الضائع[2] منذ تلك الأيام، والذي نفت الكنيسة وجوده فيما بعد، كان موجودًا ومتداولاً آنذاك. خاصةً وأن الأسطورة التي تناولها بقيت متداولة على مرّ العصور في الأوساط السرَانية في العالم المسيحي، وبشكل خاص في الأوساط الغنوصية. تلك الرؤية التي كان آخر وأهم من عبّر عنها في العصر الحديث ربما الأديب اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكيس في روايته الإغواء الأخير للمسيح. لكن، وجود هذا الإنجيل ظلّ يفتقد إلى البرهان القاطع حتى كان اكتشافه مع مجموعة من المخطوطات القبطية[3] في قرية بني مزار في محافظة المنية في مصر في الستينات من القرن الماضي. ومن ثم، كان عرض مخطوط هذا الإنجيل للبيع في المزاد العلني عام 1984، وتم شراؤه من قبل مؤسسة ماسيناس الألمانية في بازل التي عملت على استعادة ما تيسر من نصه بالتعاون مع جامعة أريزونا قبيل نشره لدى مؤسسة وقنال الـ National Geographic الأمريكية[4] بعد استكمال ترجمته في العام 2005. فعما يتحدث هذا الإنجيل الذي لم يكن قطعًا من كتابة الشخص الذي نسب إليه إنما كتبه، على ما يبدو، أحد أتباعه و/أو بعض مريديه؟
حول هذا الموضوع يقول البروفيسور الكاهن رادولف كاسِّر الأستاذ السابق في كلية الفنون في جامعة جنيف في سويسرا: يقدم لنا الإنجيل الضائع معلومات عن يهوذا الإسخريوطي الذي ظلّ لأكثر من عشرين قرنًا يعتبر من قبل مئات الملايين من المسيحين أسوأ عدو للمسيح، وشهادةً تخالف تمامًا ما كان يقال حوله في الكتاب المقدس. أمّا استيفان ميمل، أستاذ الدراسات القبطية في جامعة مونستر في ألمانيا، والذي كان أحد أول ثلاث علماء اطّلعوا على المخطوط فيقول: إني أتوقع أن يقدِّم هذا المخطوط للعلماء نظرةً أعمق تتعلق بمعتقدات بعض مسيحي القرن الثاني للميلاد. خاصةً وأن هذا الإنجيل ينفي الاعتقاد السائد في المسيحية والقائل بأن يهوذا مجرد خائن باع المسيح بثلاثين فلسًا، إن لم نقل إنه يتناول الحدث من منظور آخر يجدر بنا التوقف عنده. 3 حول الغنوصية وإنجيل يهوذا ونتوقف قليلاً أمام هذا المنظور الذي يعبّر عنه بامتياز إنجيل يهوذا، والذي يجمع كل العلماء على وصفه بالغنوصي (الكلمة مشتقة من اليونانية γνῶσις أو Gnosis، التي تعني المعرفة)، لنتفكر من منطلقٍ محايد بتلك الرؤية الباطنية التي يقدمها، تلك الرؤية التي كانت، ولم تزل، تشكل أكبر تحدّ للفهم الرسمي الشرعي للكنائس المسيحية، إن لم نقل لكل الشرائع. هذه الغنوصية التي تصفها الموسوعة الكاثوليكية[5] بالـ"عقيدة (التي) تدعو إلى الخلاص عن طريق المعرفة". وهو تعريف يستند إلى أصل كلمة غنوص ويعبر إلى حد ما عن المنظومات الفكرية التي انبثقت عنها. فخلافًا للمسيحية التي تعتقد أن بوسع الروح الوصول إلى نهايتها الخاصة عن طريق خضوع العقل والإرادة للقدرة الإلهية عن طريق الإيمان والفعل، فإن الغنوصية (وفق نفس الموسوعة الكاثوليكية) تربط خلاص الروح بمعرفة معينة لأسرار الكون. فالغنوصيون، أيضًا وفق نفس الموسوعة، هم الناس الذين يعلمون، والذين بمعرفتهم هذه يتفوقون على سواهم. الأمر الذي يجعل من هذه الكلمة تسميةً باتت تطلق على العديد من المجموعات الداعية إلى وحدة الوجود Pantheistes. تلك التي وجدت قبل العصر المسيحي وكانت مزدهرة جدًا في أيامه الأولى. وهذه المنظومة من خلال أدبياتها - التي من أهمها ربما إنجيل يهوذا - تنطلق من مفهوم آخر لنشأة الكون cosmogony يتحدث عن نظرة أكثر تعقيدًا لخليقة تشكل من منظورهم، في نهاية المطاف، واحدًا مع الألوهة[6] التي خلقتها. تلك الخليقة التي انبثقت من العدم كما يصف يسوع الأمر ليهوذا في إنجيله حين يقول: تعالَ كي أعلمك (أسرارًا) لم يعرفها أحد. حيث يوجد عالم كبير لا حدود له، عالم لم تشهد حدودَه أجيالُ الملائكة. (ذلك) العالم الذي يتواجد فيه (الروح) العظيم وغير المرئي. (ذلك الذي) لم تره عين ملاك قطّ ولم يُدركه فكر قلب ولم يكن له اسم البتة وظهرت غيمة مضيئة. وقالت: ليكن ملاك وليكن (هذا الملاك) مرافقي. وكان من الغيمة ملاك كبير، ذلك المولود بذاته. تلك الألوهة التي، وعبر تسلسل معقد جدًا (وقد يبدو متناقضًا أحيانًا) من التجليات، انبثق منها العالم المادي، وكان الإنسان. وهذا الطرح هو من منظوري، أهم ما في تلك المساررة التي تشكل واحدًا مع ما حدده يسوع من مسار خاص ليهوذا حين قال له: سأخبرك بأسرار الملكوت التي بوسعك أن تصلها. لكن (هذا) سيكلفك غاليًا، حيث سيحلّ شخص آخر مكانك، فيبقى عدد (التلاميذ) إثنا عشر ويكون بوسعهم التكامل مع إلههم... فأخبره أن شيت هو المسيح... وحدّثه عن المعرفة التي أعطاها الله لآدم ومن معه، لكي لا يسيطر عليهم ملوك الشواش والعالم السفلي. تلك المعرفة التي أعطاها يسوع لتلاميذه بشكل عام، وبشكل خاص لذلك الذي تجاوزهم جميعًا، لأنه سـ(يـ)صبح ذلك الإنسان الذي يلبس ثيابـ(ـه). فأصبح من ثم ذلك الثالث عشر الذي ... ستلعنـ(ـه) كل باقي الأجيال - لكنـ(ـه) سـ(يـ)أتي لـ(يـ)حكمها. وفي نهاية الأزمنة سيلعنون صعود(ه) إلى (الجيل) المقدس. يهوذا الذي يبدو (أيضًا وفق نفس الإنجيل) أنه صعد فعلاً إلى السماء ليصبح واحدًا من ذلك الجيل المقدس حين رفع ... نظره ورأى الغيم المضيء، ودخل به. ذاك الذي فعل ما كان عليه أن يفعله على هذه الأرض، وسلَّم يسوع لجلاديه. ونتأمل قليلاً فيما قد يبدو من منظورنا تناقضًا واضحًا وأليمًا بين مفهومين مختلفين. منظور عين عقل ومنطق مادي ما زال سائدًا إلى الآن في عالمنا، ومنظور (معرفي) آخر قد يبدو للوهلة الأولى مشوهًا ويتناقض تمامًا معه، والذي تمثله الغنوصية وغيرها من المدارس السرّانية. لأنه ومن منطلق المنظور السائد، يبدو موقف الكنيسة[7] مفهومًا ومبررًا حين رفضت، منذ البداية، الغنوصية وكتاباتها التي من بينها الأناجيل المنحولة. يبدو موقفها مفهومًا منذ لم تكن قد أصبحت مؤسسةً بعد. ما يبرر حاجتها في تلك الأيام إلى إبعاد كل ما يمكن أن يعيق نشر رسالتها من خلال إدخال الشك إلى قلب المؤمن المسيحي العادي. وما زال هذا الموقف مبررًا إلى الآن، وقد يبقى كذلك ما بقيت الكنيسة، التي تتهم الغنوصيين بالحلولية وترفض ما تصفه ثنائية نظرتهم، تنطلق في نظرتها الإيمانية من نفس تلك الثنائية التي تتهمهم بها. حيث ما زال المنظور الإيماني السائد في المسيحية ينطلق من ثنائية الخير والشر. ذلك الشرّ المتمثل بإبليس أو الشيطان الذي يقابله و/أو يتحداه في المقابل الخير المطلق المتمثل بالله والمسيح. وقد نجم عن هذا الفهم كما نعلم جميعًا، وما زال متداولاً حتى تاريخ قريب، منظورٌ تبسيطيٌ للخليقة كما ورد في سفر التكوين من العهد القديم، حيث أغوى الشيطان المتلبس شكل أفعى آدم (الإنسان الأول) فجعله يخطىء ويأكل من ثمرة الشجرة المحرمة التي هي شجرة المعرفة. وأيضًا في العهد الجديد، الذي تستند الكنيسة إليه، لأبراز فداء المخلّص، من خلال التأكيد على نقيضه الذي هو يهوذا الخائن والملعون إلى أبد الآبدين. وأيضًا حتى زمن قريب، على أسطورة أولئك الذين كانوا "شعبًا مختارًا للألوهة الواحدة" فأضحوا، من منظور نفس الكنيسة، يتحملون كيهوذا مسؤولية خطيئة قتل المسيح. وهنا تحديدًا تكمن نقطة ضعف النظرة الرسمية المعلنة للمؤسسة المسيحية. تلك التي يبدو إن أمعنا النظر قليلاً، أن الغنوصية (من منظورها الفلسفي على الأقل) قد تجاوزتها. أولاً من خلال منظورها الأعقد للخليقة، وثانيًا من خلال حلوليتها التي تتجاوز ما يفترض أنه الثنائية الأزلية للخير والشرّ. 4 في الخلاصة والختام وأجدني في النهاية مراجعًا نفسي للمرة الألف متسائلاً، هل تراني من خلال ترجمة ونشر هذا الإنجيل خاصةً، وسواه من الأناجيل المنحولة بشكل عام، أسيء لمسيحيتي من خلال ما يمكن أن يعتبر زرع بذور الشك لدى المؤمن المسيحي العادي الذي يتبنى (وهذا من حقه) منظور الكنيسة والأناجيل الأربعة التي تعتمدها بشكل عام؟ لكن عقلي، والقليل الذي أعرفه، يقول لي إن أي إيمان لا يمكن أن يقوم على التعمية، بل على المعرفة الكاملة والمراجعة المستمرة للحقائق التي تتكشف أمامنا، وبالتالي على ما يمكن أن ينجم عن هذه الحقائق من نتائج. وعقلي، والقليل الذي أعرفه، يقول لي، من خلال نفس المنطق، أن ما من أحد يملك الحقيقة كاملة ههنا، إنما كل من منظوره يملك بعضًا من رؤيته الإنسانية لحقيقة واحدة تتجاوز الجميع من حيث عمقها واتساعها. خاصةً وأن أي دين، والمسيحية كسواها، ليس منعزلاً عن غيره، إنما هو ابن أعماق إنسانية سحيقة، ووليد ديانات سبقتْه، فطبعتْه بطابعها، كما طبعتْه أيضًا البيئةُ التي ولد وترعرع فيها، لأن كل دعوة تنبع من سواها - وهذا طبيعي جدًّا، وإنساني جدًّا -، وأصول أية دعوة لا يمكن إخفاؤها، وأصول المسيحية، كما تشهد بذلك كتبها، كانت قطعًا التوراة، وربما - والله أعلم - قبل التوراة تلك الديانات والثقافات المحيطة التي سادت هذه المنطقة والعالم. وأخيرًا، لأني أعتقد أن هذه المراجعة تشكل من منظوري اليوم قوة العالم الذي يصفونه بالمسيحي، والذي هو الغرب عموماً. تلك المراجعة الدائمة والمستمرة للذات وللمقدسات، والتي أحلم أن يقتدي بها الجميع. *** *** ***
[1] قبل هذا كانت معابر قد نشرت إنجيل توما: http://www.maaber.org/forth_issue/spiritual_traditions_1a.htm وإنجيل مريم المجدلية: http://www.maaber.org/issue_september08/spiritual_traditions1.htm [2] يدعى إنجيل يهوذا أيضًا الإنجيل الضائع. [3] كانت هذه المجموعة من المخطوطات، والمعروفة بـ Codex Tchacos، تحتوي أيضًا وإضافة إلى إنجيل يهوذا على رسالة بطرس إلى فيليبس، والرؤيا الأولى لياموس، وهي مخطوطات كانت معروفة ووجدت أيضًا في نجع حماده. [4] راجع العنوان: http://www.nationalgeographic.com/lostgospel/ [6] من هنا كانت تسميتها بالمذهب القائل بوحدة الوجود أو الـ Pantheiste [7] ونقصد بالكنيسة هنا ليس فقط الكتلكة إنما كل المؤسسات القائمة والممثلة لمختلف التوجهات والطوائف المسيحية.
|
|
|