|
كمال جنبلاط
شاعرًا صوفيًّا "أنا
لا
أدعي أنني شاعر"، يقول كمال جنبلاط في
مقدمة ديوانه الأول فرح، ويستعيد العبارة
في مقدمة ديوانه الأخير وجه الحبيب. فنحن
"لا نصنع الشعر، بل غيرنا مَن يصنعه".
وفي فهم الصوفي ليس هناك "أنا" و"الغير"؛
إذ "ليس في الجبة غير الله"، في قول
الحلاج، أقرب الصوفيين إلى نفس جنبلاط. ما
يقوله جنبلاط هو أن الشعر يجيئه عفو الخاطر،
وأنه لا يتقصد الذهاب إلى الشعر. فهو إذن مكتوب
لا كاتب. وحال جنبلاط في ذلك هو حال الغزالي
القائل بعد ارتقائه المدرج الصوفي: "أؤمن
إيمان اليقين بأني لم أتحرك وإنما حرَّكني،
وبأني لم أعمل وإنما استعملني." وما يقوله
جنبلاط يضيف إلى قول الغزالي: "... وبأني لم
أكتب وإنما كتبني." لكن
بين الكاتب واللغة الشعرية المكتوبة علاقة
توتر. فالشاعر الصوفي يتوقد وجْدًا إلى
المطلق، واللغة هي النسبة. فكيف تستطيع
اللغة، بدلالاتها التعبيرية النسبية، أن
تحمل شوقًا صوفيًّا لا يوصف إلى المطلق
وتنقله: "كالفضاء أنا، لا يحدني حد،
والعالم المحسوس كجرة الفخار – هذه هي
المعرفة"، على ما جاء في الأوپنشاد. فكيف
نوفق، إذن، بين لغة محجَّمة كالجرار وروح
طليقة كضوء النهار؟! وكيف نصالح بين الفضاء
والوعاء أو نُمالِح بين البهاء والبناء؟! إن
اللغة لم تُبتدَع في الأصل لتعبِّر عن الحالة
الصوفية التي لم تشهد مثلها عينٌ أو تسمع
بمثلها أذن. من هنا يشعر الصوفي بعد كتابة
شعره بأن سرَّه لا يزال مطويًّا في قلبه، وبأن
كلامه مكنون في صمته، وبأن الحقيقة – "عروس
الأزل" – أجمل من نشيده، فينكسر على نفسه
ويعترف: "النقص في شعري هو مني ومن كثافة
ذهني، أما الجميل فهو منه." والحقيقة
أن ديوان جنبلاط الأخير أرشدني إلى مصدر ما
يُسمَّى بـ"الشعور الأوقيانوسي"، وهو
شعور مَن يشعر بالراحة والانبساط حين يسرِّح
البصر في ماء البحر ويشعر بتوحده، ليس مع مائه
فحسب، بل مع الكون بأكمله. هذا الشعور الذي
يُعجِزُ الشاعرَ واللغةَ جعل بايرون، الشاعر
الإنكليزي، يقول وقد توحد مع المحيط: "أشعر
بما لا يمكن لي أن أحكيه/ وبما لا يمكن لي أن
أكتمه أو أخفيه." وقد فسَّر فرويد هذا
الشعور بأنه من ترسُّبات مرحلة الطفولة التي
لا يميز فيها الطفلُ بين جسمه وجسم الأم ويشعر
بتوحده معها. أما بخصوص جنبلاط، فإن الأم هي
"الروح التي كانت ترفرف على وجه الغمر"،
بحسب التعبير التوراتي في مستهل سفر التكوين.
إنها الروح أو الحياة في انبجاسها الأولي من
الماء: "فنحن من الأمواج اقتُطِعْنا"،
يقول جنبلاط، وفينا من البحر حركة سطحه
المائج وعمقه الساكن: "فلينظر الإنسانُ مما
خُلِق، خُلِقَ من ماءٍ دافق"، على ما ورد في
القرآن [الطارق 5-6]. ما
يمكن قوله في الشعر الجنبلاطي هو أنه نص مفعم
بالروح الديني الهندي، معنًى ومبنًى
ونسيجًا، مما جعل ميخائيل نعيمه يتساءل عن
السبب الذي دفع جنبلاط إلى ركوب مشقات
الكتابة الشعرية مادام همه هو المعنى والكشف
والإيصال، ومادام يُعيِّن الجمال، لا في
اللغة والصورة والإيقاع، بل في الرؤيا
وتجربة المشاهدة ومعايشة الوجود في واحديته.
من هنا فإننا لن نفهم كمال جنبلاط إلا إذا
كابدنا تجربته وعشنا حاله: "لا يعرف الشوق
إلا مَن يكابده." والشوق هو دائمًا إلى
المثال، وشعر الصوفيين وصال، و"أهل التصوف
هم أهل مقامات وأحوال، لا أقوال"، على ما
يلحظ الغزالي. ولن نعيش حال جنبلاط الشاعر إلا
إذا أدركنا أننا من "ضيوف الزمان" الذين
دُعُوا إلى مشاركة الله في فعل الخلق،
فكابدوا وجع المخاض ومتعة الوضع، وتحرروا من
الزمان والمكان، ومن الذاكرة والنسيان،
واحترفوا فنًّا يختصر الفنون كلها، هو فن محو
الذات وكتابة الله في مساحات البياض. يدعونا
شعره إلى الإقامة في الله، وعرفانه التوحيدي
يمطر سلامًا في أعماقه، ومسلكه الطهري يجعله
مثيل "الشجرة على جانب الطريق يغسلها المطر/
هكذا تطهَّرت من غبار الأجيال". والشجرة
المغسولة من أتربة الأزمنة والأمكنة هي
المعادل الفنِّي للإنسان متحررًا من
الثنائيات المتضادة، متحدًا مع الوجود اتحاد
الصورة بالمرآة. وافتقاد شعره عنصر التوتر
الدرامي يعود إلى هذا السلام الداخلي الذي لا
يقلقل سكونَه شيء، مما يجعل شعره تأمليًّا
ووصفيًّا، يجانسه بالترانيم والتراتيل
الدينية. جنبلاط لا يكتب شعر البحث القَلِق عن
معنًى يتحجب في ليل الكون. فالكون سَلَّم
العرفاني سرَّه، وأهداه جماله وتناغُمه
وأمانه. وهو لا يكتب حال ذات فقدت ذاتها في
عالم يغرِّبها عن ذاتها ويُخرِجُها عن محورها.
فالموحِّد منتمٍ، لا مغترب؛ هو في الوجود
حاضر لا يغيب، والوجود فيه مقيم لا يفارق.
وشعره لا يحمل عذاب نفس تعيش التوزع بين نوازع
الأرض ونداءات السماء. فهذه الثنائيات
المتضادة كلها لا تدخل في الحالة الصوفية؛
لذا نفاها جنبلاط الصوفي من شعره، واحتضنها
جنبلاط السياسي في نضاله، وأدرجها في يوميات
حياته. في
ديوانه الشعري يقيم العارف والعرفان، القلب
المطمئن والفكر الهادئ. والحركة الوحيدة هي
حركة الروح؛ واتجاهها واحد، وهو صاعد من أدنى
إلى أعلى، من الإنسانية إلى الربوبية. فكل ما
يعوز الروح جناح يحمله إلى مصدره ومثاله: "لا
يعوزني سوى جناح"، يقول جنبلاط. لكن الجناح
لديه، والريح تجري بأمره، كما جرت لسليمان
الذي سخَّر الله له الريح [سورة ص 36]. وحركة
الصعود يجسِّدها جنبلاط في صورة الدخان الذي
يرمز في صعوده إلى تدرج الصوفي في علوِّه.
ويبدو لي أن هذا الرمز الدخاني الذي يتكرر في
أناشيده مستلهَم من دخان البخور المتصاعد في
المعابد الهندية. والروح سحابة تصعد من
الوديان إلى ذرى الجبال؛ وهو عالق في
السحابة، مستقر في مظلتها المنتشرة فوق
القمة، وهو شعاع يتسلق المسافة بين الأرض
والشمس. وللشمس مقام علويٌّ في الشعر
والوجدان الإشراقي، إذ هي رمز الحقيقة
والخلود في مصر والشرق القديم، لا تفارق
فضاءه ولا تغادر مداره، فإن غابت أشرقها من
داخله: لا
أبالي إذا الشموس تغيب وهو
في مثل هذه البروق الشعرية يتجانس مع الشعر.
لكن في شعره ما يجانس الشعر وما يغايره، على
ما ألمعت. فالشكل الشعري الجمالي ليس همَّه،
بل همُّه نقل الحالة الصوفية إلى نصِّه. ولا
يهمه بعدُ إن نثر شعره أو كسر وزنه أو شرح رمزه
كما يفعل الباحث لا الشاعر. من الصوفية
إلى الرؤيوية السياسية ولأن
هموم البشر لم تدخل ديوان جنبلاط الصوفي، بل
دخلت فكر جنبلاط ونضاله السياسي، أسمح لنفسي
بالخروج على الموضوع، ولا أقول على مدار
الشعر؛ ذلك أن أجمل شعره مقيم في نثره، وروحه
الإنساني يصفِّق بجناحيه ويعلو في أفق نضالنا
الديموقراطي الوطني والاشتراكي والقومي
والأممي. نجد جنبلاط الشاعر مكتوبًا في
اشتراكيته الإنسانية، وديموقراطيته
التعددية، وهجسه بحضارة جديدة يتخلَّق في
مناخها الإنسان الأخلاقي. فالاشتراكية لم
تنتهِ بنهاية أنظمة ضلَّتْ طريقها إلى
الاشتراكية – ولو أدركها ماركس لأعلن أنه ليس
ماركسيًّا! اشتراكيته الديموقراطية
الإنسانية منارة تشرق من حيث غابت تلك
الأنظمة وتطلع من حيث توارت. نقد
جنبلاط الحضارة الغربية، بشقيها: الرأسمالي
الفردي والماركسي التوتاليتاري، لانشغال
النظامَين بتحقيق الوفرة المادية الكمية، لا
بتخليق الإنسان النوعي المعنوي. وكان بعض
نقده يشق حُجُب المستقبل كبروق تسطع في ليل
شتوي. يقول، والزمن لا يزال عند منتصف القرن
المنصرم: "في الغرب يكاد العقل يصبح آلة،
وتكاد الآلة تعقل." وها نحن نعيش في زمن
يتبدى فيه أباطرة عصر العولمة آلات غير عاقلة
تستخدم الآلة الإلكترونية "العاقلة"! كذلك
فرق جنبلاط بين الماركسية الحقيقية وبين
اشتراكية الدولة السوڤييتية التي وصفها
بأنها "رأسمالية موظفين حلتْ محل
الرأسمالية الخاصة". و"من المؤسف وغير
المجدي"، في تعبيره، "أن نحاول إنشاء
رأسمالية دولة، أي رأسمالية موظفين، محل
الرأسمالية الخاصة، كما حصل في روسيا". يقارن
جنبلاط ماركس بالمسيح لناحية الغايات
والأهداف، لكنه يعترض على الوسائل، وأبرزها
ديكتاتورية الپروليتاريا: "على الماركسيين
المؤمنين بالحتمية التاريخية أن يدركوا أن
هناك حتمية أخرى تقول إن الحرية تتبع
الديكتاتورية بالضرورة." وهو لا يتقبل
مقولة "نأكل أولاً ونتفلسف لاحقًا": ذلك
أن تنمية الذوق لكي يحس الجمال ويسمو إليه،
ويحس القبح فينأى عنه، من الأمور التي لا تقبل
التأجيل والانتظار. والعقل – أداة الفكر –
يجب أن يُنمَّى على التوازي والتلازم مع
تنمية الجسم. ويتمنى، بالتالي، لو أن
الديالكتيكا الماركسية كانت روحية بقدر ما هي
مادية! أكثر
من ذلك، يتمنَّى لو أن الشيوعية الروسية وضعت
في عجينها خمير المسيحية الروسية
الأرثوذكسية، وذلك لما يختزنه الموروثُ
الثقافي الروسي من نقاوة الروح وشفافيتها
ويقظة الضمير وحساسيته. وذلك كله يتجلَّى في
الأدب المُعجِز الذي كتبه دوستويفسكي
وتولستوي وپوشكين وغوغول وسواهم من الأدباء
الروس. ويرقى عن الشك أن الوجدان التصوفي
الروسي لعب دوره في تهيئة المناخ المواتي
لصوفية العمل الماركسية. ولو حصل مثل هذا
القران السعيد بين المسيحية والماركسية
لامتلكت الماركسية أقوى الدوافع المعنوية
المحركة للتاريخ. وهو ينقل في هذا السياق قول
أحد السفراء الأمريكيين في موسكو: "إن هذه
التجربة الروسية كان لها أن تكون أروع وأكمل
تفتُّح لهذا الجنون الأرضي لو قامت وتحققت في
ظل الراية الإلهية." وخلاصته هي "اكتشاف
ماركس جديد وماركسية جديدة وصادقة"، إعادة
قراءة الماركسية بغية الكشف عن هدف ماركس
الأخير في تحرير الإنسان من جميع أنواع
الاستلاب، لا من الاستغلال المادي فقط.
ويستخدم المصطلح الديني في خطابه إلى
الرأسماليين قائلاً: "على رأس المال أن
يحوز شرف اقتسام الخبز مع الآخرين." وكان
رؤيويًّا في توجسه من انزلاق شبه القارة
الهندية إلى حروب دينية، ومطالبته بـ"إلغاء
كلِّ سياسة دينية ورفضها وإدانة كلِّ تكتل أو
تحالف يقوم على أساس ديني". وها هي ذي
الأصولية تدرك الديانات الهندية (البوذية
والهندوسية) التي لم يعزف أتباعُها في أيِّ
وقت على وتر "التكفير"، ولم يمارسوا
التبشير، فإذا بعصر العولمة يتحول إلى عصر
الشرذمة، وإذا بآسيا – "خزان الفكر البشري"،
كما وصفها أينشتاين – تنتابها حمَّيات
المواجهات بين الملل والنحل. لهذا
كلِّه أقول: نجد جنبلاط في ديوان الشعر وفي
بنية القصيدة، بل في ثنايا الفكر وألق الرؤية
الحضارية. ***
*** *** عن
النهار، الثلثاء 28 كانون الثاني 2003
|
|
|