|
المشترك والمختلف بين روسيا والمشرق العربي*
يسود اعتقادٌ في أيامنا هذه بأن الحوارَ الروسي–العربي والروسي–المشرقي، الموجَّه لتطوير لاحقٍ للعلاقات الموجودة تاريخيًّا، والتعاونَ الحضاريَّ حيويان أكثر من أيِّ وقت مضى [...]. إن العالم العربي هو النواة الروحية للعالم الإسلامي؛ ويتمتع المشرق العربي، ضمن هذا العالم، بمكانة نادرة لا مثيل لها. وروسيا دولة تدين غالبيةُ سكانها بالمسيحية الأرثوذكسية. لكن روسيا أوروبية وآسيوية في الوقت نفسه، وتعيش فيها 173 قومية إلى جانب الشعب الروسي. وفي بلادنا ممثلون عن الأديان العالمية الرئيسية. وفي روسيا، تتوافق عادةً الفوارقُ القومية والدينية بين السكان. فالروس يشكلون 80% من السكان، ويعتبرون أنفسهم أرثوذكسيين، ولو بنِسَبٍ متفاوتة، وينتمون إلى القيم الروحية للأرثوذكسية. أما الإسلام السُّني فيدين به مواطنو شمال القوقاز ومنطقة حوض الفولغا، وتعتنقه عشراتُ القوميات ذات الأصول غير السلافية. وتتمتع الجالية اليهودية، على قلَّة عددها، بتأثير بالغ الأهمية في روسيا. كما توجد مناطق بوذية في جمهوريات كالميكيا وبورياتيا وغيرها. وقد راج المعتقد البوذي بين صفوف المراهقين والشباب في كبريات المدن الروسية. كما أن هناك في روسيا مجموعات كاثوليكية وأوقيانية، بالإضافة إلى أعداد من أتباع الأرثوذكسية الروسية القديمة. أما في المشرق العربي فالأمر يختلف. فالسكان من قومية واحدة، فيما هم ينتمون إلى عدد كبير من الأديان والطوائف، وتجمعهم لغةٌ واحدة وتاريخٌ مشترك لعقود طويلة، يفوقان ما يجمع شعوب روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي وطوائفهما. علمًا أننا مررنا، نحن في روسيا وأنتم في لبنان، – على الرغم من جاذبية التنوع الديني الأكيدة، – في مراحل تاريخية مأسوية، سببُها، إلى حدٍّ بعيد، هذه التعددية. حسبنا أن نتذكر الحرب الأهلية في لبنان، والصدامات العرقية الدموية في مرحلة غروب شمس الاتحاد السوفييتي السابق واختفاء هذه الدولة العظمى حقًّا من الخريطة التاريخية للعالم. [...] في العامين 1948 و1949، أظهرت الإمبراطورية الروسية لأوروبا أنها قوة عسكرية عظمى في القارة. وأعني بهذا القضاء على القلاقل في بولونيا والمجر. قلقت أوروبا الغربية فعلاً من السطوة الروسية في أوروبا الشرقية ومن طموحها إلى لعب دور جديد في الشرق الأوسط (مع أن هذا الأمر يأتي في الدرجة الثانية). فأين صراع الحضارات في هذا السياق؟ استغلت بريطانيا العظمى وفرنسا وسردينيا والإمبراطورية العثمانية عامل التخلف المؤقت لدى الجيش والأسطول الروسيين، لتُلحِقَ بروسيا هزيمة عسكرية، وتحصل منها على تنازلات جيوسياسية وعسكرية. ويبدو لي أنه ينبغي إعادة النظر في مبدأ هانتنغتون حول "صِدام الحضارات". ويجوز أن هذا الصِّدام، كما جرى منذ قرن ونصف قرن، ليس السبب الحقيقي للمواجهات والحروب والعداء المتبادل، بل لا يعدو كونه مبرِّرًا لها. لماذا أصبحنا نربط مفهوم "الحضارة" بالعامل الديني حصرًا؟ عندما نتذكر حضارة الهند القديمة والصين ومصر وشعب الأزتيك وحضارة المايا والإسكيث، هل نفكر لحظة في ديانتهم؟ لا، بالطبع! نحن نقوِّم إنجازاتهم في التاريخ البشري، العلمية والثقافية، وكتاباتهم وسواها تحديدًا. [...] إن الدين يشكل عاملاً محفزًا للحضارة في مفهومها الشائع في عالمنا المعاصر. لكن دعونا نتذكر النازية. فعلى قفل حزام كلِّ جندي ألماني نُقِشَتْ عبارة "الله معنا"! فأية علاقة بين الله والهتلرية التي سَعَتْ إلى خلق نظام عالمي جديد باسم الحضارة "الآرية"؟ يبدو أنها علاقة مماثلة لعلاقة الإسلام بأسامة بن لادن. ومحقةٌ تأكيدات المؤرخين على أن وصول الفاشية إلى السلطة كان ممكنًا بسبب الشروط المُذِلَّة لاستسلام ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. ولتنظيم "القاعدة" محامون يقولون، في شكل منطقي نوعًا ما، إن العمليات الإرهابية لهذه المنظمة هي الرد على عذابات المسلمين في فلسطين والدول الغربية، وفي العراق حاليًّا وأفغانستان. ولو تبعنا هذا المنطق فإننا، تحت شعار "الله معنا" أو "الله أكبر"، سنرى البشر يقتتلون، مستخفِّين بمنظومة القيم، مع فارق وحيد هو أن الشعار الأول يمثل مبادئ التعصب العرقي والثاني التعصب الديني. [...] أعتقد أن الحوار البنَّاء بين الأديان يجب إعدادُه من الداخل بتربية المرشدين الروحيين ليقوموا بتنوير الرعية. وهناك دور كبير يمكن أن تلعبه أنظمة التعليم العلمانية، أي تربية الشبيبة بروح التسامح. إن دور وسائل الإعلام كذلك كبير في عملية الحوار والتناضُح مع الآخر. كما لا ينبغي تجاهُل الوجود من المنظار الديني. من هنا، فإن المبدأ المسيحي في "عدم مقاومة الشر بالعنف" يستوجب شروحًا، مثلما هو المفهوم القرآني حول الاعتداء على المعتدي. أما مفهوم "المسكونية"، أي الأرض كدير واسع، فإنني أرى في هذا المفهوم شيئًا من الالتباس. فالإصرار الحرفي على تمثُّله وتطبيقه في أوطان متعددةِ الانتماء الديني أحْدَثَ الكثير من الإشكالات والخلافات الطويلة. فهو نوع من الكوسموبوليتية الدينية. فهل يمكن للمرء أن يكون "مؤمنًا أرضيًّا" عبر جعل الكوكب "ديرًا واحدًا"؟ فالإنسان عاش، ويعيش، وسوف يعيش، في مساحة وعيه القومي والديني، ومن واجبه أن يكون وطنيًّا، فضلاً عن انتمائه الديني، كما يمكن فهمه في المثال الروسي كعنصر أساسي من عناصر تقاليده القومية. وإذا كان الأسلاف والأجداد والآباء يرتادون الكنيسة أو المسجد، فإننا نسير على دربهم، معرِبين عن احترامنا للموروث العائلي أكثر من التقاليد الوطنية. الحكمة في هذا السياق هي في التناغم بين الموروث الديني والثقافي وبين الانتماء الديني. حول مفهوم الوطنية وحب الوطن، هناك محاولات عنيدة في روسيا لإلصاق تهمة مفادها: "إن الحسَّ الوطني هو الملجأ الأخير للسفلة"! ويقوم بهذه المحاولات أولئك الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب "مواطنو الأرض". وبالطبع، فإن المثقفين يعون تمامًا أن حبَّ الوطن والارتباط بالأرض التي تحتضن رفات الأجداد ليس خطيئة، بل ميزة ايجابية. وأنا واثق من أن مَن يحبون وطنهم وثقافتهم وقيمهم الحضارية، أي الوطنيون الحقيقيون، يسهل عليهم التوصل إلى تسويات وتوحيد الجهد في اتجاه الرخاء العام والتناغم بين الحضارات. أما "مواطنو الأرض" فليسوا قادرين على مثل هذا لأنهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، حضارتهم الأم معرفة معمقة؛ وبالتالي يتعذر عليهم فهمُ قيم الحضارات الأخرى. لقد كان الفيلسوف الروسي نيكولاي برديايف محقًّا عندما كَتَبَ أن بوشكين ودوستويفسكي وتولستوي أصبحوا ملكًا للثقافة الإنسانية العالمية، تحديدًا لأنهم مفكرون روسيون، ولهذا جذبوا انتباه العالم، تمامًا كما هي حال الكاتب الإنكليزي وليم شكسبير أو الشاعر الفارسي عمر الخيام. إنهم "مواطنو الأرض" الحقيقيون؛ وقد أضحوا كذلك بفضل ماهيتهم القومية التي نقلوا من خلالها فهمهم للوجود الذي استهوى عقول القراء أينما كانوا. منذ أيام الإلياذة اتفق الفلاسفة على أن العالم عظيم بفضل تنوعه الذي يميِّز كنهَه، وبالتالي عظمته. هناك الآن ستة آلاف لغة يتكلَّم بها البشر؛ ولكلِّ لغة منها قواعدُها وفلسفتُها الوجودية ومزاياها البلاغية وأولوياتها اللغوية المرتبطة بخصائص التطور التاريخي. وهناك في لغات الشعوب الصغيرة التي تقطن شمال الكرة الأرضية عشرات الكلمات التي تعني الثلج؛ والشيء نفسه عند العرب لوصف الجمل، صديق البدو الدائم. وفي لغات الهنود الحمر تسود الأفعال التي تشير إلى الحياة بوصفها سيرورة. وقد أضاعت البشرية آلاف اللغات، وسوف تفقد العشرات والمئات منها. فهل سيزيدنا هذا الأمر غنًى؟ هل إن سيطرة اللغة الإنكليزية في العالم، كعنصر من عناصر العولمة، هي حقًّا عامل وحدة؟ فالبنغالي أو الهندي الذي يفقد لغته لن يصير في يوم من الأيام أمريكيًّا أو اسكتلنديًّا، حتى لو تكلَّم الإنكليزية في طلاقة. فهو، إذا فعل، يهدد بالانسلاخ عن قاعدته الخاصة، على الأقل على مستوى التواصل البشري. يجب أن نعي أن التنوع هو المفتاح للحفاظ على خصوصية العِرْق وحرية تعبيره، وبالتالي على شعوره بالارتياح، إثنيةً وأفرادًا. وعلى البشرية أن تفهم أنها تقف راهنًا أمام خيارين: إما الاستمرار في تركيز الموارد المادية والفكرية للسير قُدُمًا في عملية التطوير التقنية البراغماتية، التي ستؤدي إلى الهلاك الذاتي، وإما أن توجِّه عنايتها الشديدة إلى الجانب الروحي للوجود، من دون أن ترفض، بالطبع، ثمار التطور العلمي التي لم يسبق وجودها في التاريخ البشري. نحن نعيش في عصر سيطرة السوبردولة الوحيدة. ولكن هيغل العظيم، الذي تُعتبَر قوانينُه الجدلية أساسية، أشار إلى أن التطور والتقدم رهنٌ بوحدة الأضداد واصطراعها. وفي أوضاعنا الراهنة، فإن مفهوم "صِدام الحضارات" على محور شرق–غرب – أو إذا شئتم شمال–جنوب – لا يُثبِتُ مطلقًا هذا القانون الجدلي، كما يؤكد المفكرون المعاصرون. إن الديانات التوحيدية لا يمكن لها أن تكون أضدادًا. وما نراه اليوم هو صراع غير متكافئ. فالطرف الأول، المتمثل بالمسيحية الغربية، لا يمكن مقارنته بالآخرين من حيث قوتُه الهائلة، المالية الاقتصادية والعسكرية. لذا، فما من صراع أضداد متكافئة يخدم مسيرة الارتقاء والتطور، بل دفاع مستميت يقوم به الطرف الأضعف في وجه الأقوى. فمن أجل حركة إلى الأمام، أي لتحقيق قانون الجدلية الأول، المطلوب هو مراكز قوى جديدة في حجم الولايات المتحدة وطاقتها. [...] *** *** *** عن النهار، السبت 27 تشرين الثاني 2004 * أجزاء من مداخلة د. سيرغي فوروبيوف في مؤتمر "تجربة روسيا والمشرق العربي" الذي انعقد في صيف 2004 في بحمدون. (المحرِّر) |
|
|