فينسنت هاردنغ: من
يقف خلف خطاب فيتنام التاريخي للدكتور كينغ
فيري هوليت
يستذكر
أسطورة الحقوق المدنية فينسنت هاردنغ قائلاً:
كانت
أول مرة اجتمعت فيها بمارتن لوثر كينغ حين كنت أقطن وسط مجتمعٍ متعدد
الأعراق في شيكاغو، حيث قررنا أننا بحاجةٍ إلى اختبار قناعاتنا في عمق
الجنوب. وكان ذلك سنة 1958.
كنَّا
ستَّة رجال، رجلان أسودان غيري وثلاثة رجالٍ بيض، وكان من الخطر أن
نسافر معًا في السيارة نفسها. توقفنا في أطلنطا في مكان إقامة كينغ،
حيث كان يتعافى من الجرح الخطير جراء الطعنة التي تلقاها في مدينة
نيويورك. كان في غرفة نومه مرتديًا بيجامته، لكن كوريتَّا فتحت الباب
ورحبت بنا مقتادةً إيانا مباشرةً إلى داخل الغرفة. هنَّأنا الرجل على
وصولنا بالسلامة حتى هذا الحدِّ من رحلتنا، وطرح علينا الكثير من
الأسئلة. لقد كان مهتمًا بما كنا نفكر وبسبب قيامنا بما كنا نقوم به.
حين
سمع مارتن أنِّي كنت جزءًا من كنيسة مينونايت قال: "أنت في الأصل لا
عنفي، ويجدر بك الانضمام إلينا". وذلك ما قمنا به فعلاً بعد ثلاث سنوات
عام 1961. وحينها كنت قد تزوجت للتوِّ بروز ماري، وانتقلنا إلى أطلطنا،
حيث جمعتنا الجيرة والصداقة وزمالة العمل هناك بعائلة كينغ.
شكَّل هذا اللقاء بداية علاقةٍ مثمرةٍ في وسط حركة الحقوق المدنية.
لم يتوقَّف فينسنت هاردنغ، الذي وافته المنية الأسبوع الماضي عن عمر 82
عامًا قطّ عن العمل في سبيل تحقيق رؤيته حول المجتمع والعدالة
الاجتماعية بناءً على تعليمات المسيح.
أنهى هاردنغ المولود عام 1931 دراسته الجامعية وأدَّى خدمة العلم، ثمَّ
انتقل إلى شيكاغو ليتابع دراسة الدكتوراه في التاريخ. وخلال سير
دراساته استكشف موقف اللاعنف للقائلين بتجديد العماد في القرن السادس
عشر وألهمه ذلك الموقف، مما قاده في نهاية المطاف إلى الانضمام إلى
جماعة مينونايت متعددة الأعراق في شيكاغو، حيث سيلتقي زوجته روز ماري.
منحت شهادة الداعين إلى تجديد العماد والتزامهم بصناعة السلام وعدم
المقاومة والعناية المتبادلة والحياة المجتمعية احتجاجات هاردنغ ضد
التمييز العنصري في أمريكا صبغتها الأساسية. ويستذكر قائلاً:
كنا
ملتزمين بقانون المحبة وبطريقة الجماعة، وكان لدينا شعورٌ قويٌّ جدًا
بأننا إن لم نستطع العيش خارج تلك الطريقة وفي ظل طريقةٍ أخرى فلن يكون
ثمَّة ما يدعى بالبشرى. فبالنسبة لنا كانت البشرى لمجتمعٍ معزولٍ
عنصريًا هي وجود رجالٍ ونساءٍ يؤمنون بوجود طريقةٍ ولديهم الرغبة
بالعيش وفق تلك الطريقة.
أقام فينسنت وروز ماري، حين انتقلا إلى أطلنطا بدعوةٍ من كينغ، مركزًا
تطوعيًا متعدد الأعراق باسم دار مينونايت.
لم يكن اللاعنف بالنسبة لهاردنغ وكينغ مجرد وسيلةٍ للفاعلية، بل كان
أسلوب حياة. ووفقًا لذلك حين بدأت حرب فيتنام، عارضها كلاهما سرًا،
لكنهما تردَّدا في الإفصاح عن ذلك للعلن. حيث فسَّر هاردنغ ذلك قائلاً:
كان
مارتن منذ البداية واضحًا جدًا في أن رعب الحرب يحلُّ دائمًا بأفقر
أعضاء المجتمع وأضعفهم. وكان يشعر أن المسيح كان جادًّا في دعوته:
"عليك أن تجد طريقةً ما أخرى للرد على الشَّرِّ". لقد آمن مارتن بذلك
منذ بداية الحرب، ولم يكن ثمَّة شكٌّ حول موقفه. ولكن هل تجرَّأ أن
يخرج للعلن ضد الحرب؟ كان لايدون جونسون حليفًا رئيسًا في الكفاح في
سبيل قانون الحقوق المدنية عام 1964 وفي سبيل قانون حقوق التصويت عام
1965، كما عدَّ حرب فيتنام حربه الشخصية. وقد شكَّلت هذه المعضلة
صراعًا داخليًا لدى مارتن.
لن تفهم هذا الصراع دون فهم السياق أولاً. إن الشخصيات العامة لم تكن
تتحدَّث في ذلك الوقت عن الحرب للعلن. فقد كان ثمَّة نوعٌ من الموافقة
غير المعلنة بأن هذا الصمت هو كلُّ ما كنا نريد فعله. لقد كان مارتن
يعلم أن الكثير من المناصرين الرئيسين للحركة لن يسرَّهم اتخاذ موقفٍ
علني. وبالتالي كانت القضية بالنسبة إليه هي الموعد الذي ينبغي فيه
اتخاذ هذا الموقف العلني وكيفية اتخاذه. لقد كان قلب الرجل يعتصر
بالأسى من موقف طاقمه الشخصي. وبعد ذلك أتت رسالةٌ من مجلس مؤتمر
القيادة المسيحية الجنوبي تنص على أن عدم اتخاذ كينغ هذا الموقف هو
قرارٌ عائدٌ للمجلس.
لكن كينغ قرر عام 1966 أنَّه لم يعد يستطيع أن يبقى في حالة الصمت التي
فرضها على نفسه. حيث لجأ إلى هاردنغ ليعينه على حبك الخطاب الذي ألقاه
في نيسان من عام 1967 بكنيسة ريفر سايد والذي سيغيِّر بعد ذلك مجرى
التاريخ:
لقد كان مارتن يعلم أنَّه سيتحدَّث بأقصى درجات النزاهة إن كان أساس
خطابه قائمًا على موقفٍ دينيٍّ، وبالأحرى موقفٍ دينيٍّ راسخ، لا على
موقفٍ سياسي، بل على موقفٍ قائمٍ على معتقداته الدينية. وهكذا حين دعي
الرجل إلى كنيسة ريفر سايد ليخطب في رجال الدين والعلمانيين القلقين
بشأن فيتنام شعر بأن الأوان قد آن.
حين كان مارتن يجوب البلاد لجمع المال والارتقاء بالوعي العام حول
حركته لم يكن لديه الوقت الكافي ليسخر الوقت والجهد اللازمين للخطاب.
ولذا لجأ إليَّ للقيام بذلك (وقد كنت أستاذًا في جامعة سبيلمان في
أطلنطا). لقد تجذَّرت هذه الفكرة من خلال الأحاديث الكثيرة التي جمعتنا
حول ذلك الشأن. فقد كان يثق بي ويعلم أن أي شيءٍ أكتبه سيمثل موقفنا
المشترك. وبالنسبة لي كان من دواعي سروري لعب هذا الدور. كانت روز ماري
والأولاد قد خططوا لقضاء بعض أيام عطلة رأس السنة مع الأقارب، وبفضل
ذلك ركنت إلى مكتبي في الدور السفلي في ذلك الشتاء من عام 1966 وانكببت
باحثًا عن الكلمات التي ستقال وكأنها صادرة عن كينغ. لقد كنت أحاول أن
آتي بكلماتٍ تخصُّ كلينا في نفس الوقت.
عليك فهم سياق هذا الخطاب وخلفيته. لقد كان الشباب السود ينفجرون. وقد
كان بوسع كينغ أن يختار الركون إلى انتصارات مدينتي سلما ومونتغمري
وإقرار قانون الحقوق المدنية والتقدم الحاصل في حقوق الاقتراع - لحظات
النجاح في عمله. لكنه اختار الذهاب إلى واتس في صيف 1965 لأنه أحب
أولئك الشُبَّان الواقعين في كرب. لم يكن لديه خطة ولا برنامج عمل.
وكان المكان لا يزال مشتعلاً فسأل: "ماذا حصل؟" ردَّ شابٌّ: "لقد
فزنا". نظر مارتن حوله إلى الجوار المحطَّم: "كيف بوسعك قول ذلك؟"
فجاءت الإجابة: "على الأقل لفتنا انتباه الجميع إليها". أذهل ذلك
الجواب مارتن وأخذ يلقي المزيد من الانتباه إلى الشبَّان وما كانوا
يمرون به. لقد بدأ يدرك أن معارضة الحرب لن تبعده عنهم، ولكنه كان يتخذ
موقفًا منحازًا إلى جانبهم للتعريف بمعارضته.
شكَّل الخطاب الذي حمل عنوان ما وراء فيتنام: وقت كسر جدار الصمت
اتهامًا لاذعًا للحرب ولأثرها الكارثي على الكفاح من أجل العدالة في
الوطن. ولعله كان أكثر خطابات مارتن إثارةً للجدل، فقد صنَّفته صحيفتا
النيويورك تايمز والواشنطن بوست وكذلك الجمعية القومية لدعم الناس
الملونين على أنَّه خاطئ. ومع ذلك فإن صميم الكلمات التي صاغها كينغ
بمساعدة فينسنت هاردنغ مثلت مناشدةً لقلب الإنجيل لتجسيد رسالة المسيح
بغية جلب "البشرى للفقراء". لقد تحدى كينغ الأمة قائلاً:
يجب
علينا تجاوز التردُّد نحو الفعل. ويجدر بنا إيجاد طرقٍ جديدةٍ للتحدُّث
من أجل السلام في فيتنام والعدالة في أرجاء العالم النامي، ذلك العالم
الواقع على عتبة أبوابنا. إن لم نتحرَّك فإننا سنسحل عبر دهاليز الزمن
المخزية والمظلمة المفردة لأولئك الذين يمتلكون النفوذ دون الشفقة،
والسطوة دون الفضيلة، والقوة دون البصيرة.
سيلقى كينغ حتفه برصاصة مرتزقٍ وبعد سنةٍ واحدةٍ فقط من تاريخ إلقائه
هذا الخطاب.
وبعد موت كينغ، تابع هاردنغ عمله مدرسًا في الجامعة، ونظَّم برامج
للشبَّان، وكتب العديد من الكتب التي توثق حركة الحقوق المدنية في
الستينات وتمجِّدها. ولم يكن في لقاءاته وحواراته يركز على ماضيه
الشخصي أو إنجازاته، بل على الحركة التي شارك فيها. وقد كان يوجه طلابه
وزملاءه نحو الحاضر والمستقبل. وخلال جهود هاردنغ لتمجيد حركة الحقوق
المدنية وأعمال الدكتور كينغ كان يقاوم ما شعر بأنه نزعةٌ نحو تعطيل
هذه الجهود عبر التعامل معها على أنها تاريخ ماضٍ. يقول هاردنغ:
نحن
لا نلقي سوى قدرٍ قليلٍ جدًا من الاهتمام على القضايا الحقيقية التي
تصدى لها كينغ في حياته: ألا وهي الفقر والظلم والحاجة إلى الجماعة.
إننا نهوى أن نعدَّه جزءًا من الماضي فقط. ونودُّ أن نقتبس أقواله. بل
إننا نحب أن ننأى بأنفسنا عنه ونكتفي بعدِّه زعيمًا عظيمًا أو خطيبًا
للحقوق المدنية لا أكثر. إنَّه لمن الرائع أن نفردَ عطلةً تحمل اسمه،
ولكن ما يحزُّ في النفس أننا لا نستطيع إفراد مكانٍ في قلوبنا لرسالته.
بالرغم من تخصُّص هاردنغ في التاريخ، إلا أنه كان يذكِّرنا على الدوام
بأن نركِّز على ما بوسعنا فعله في الحاضر بدلاً من أن نركن إلى الماضي.
وقد كان يركز في زياراته إلى جماعة "وراء المحراث (برودرهوف)" على حث
الجيل الجديد على الالتزام بالرؤية التي تشارك بها مع كينغ. حيث خاطب
في إحدى هذه الزيارات مجموعةً من الشبَّان بالكلمات التالية:
يهوى
الكثير من الناس تأليه مارتن كينغ في مسيرة واشنطن عام 1963، ولكن ربما
لو كان
كينغ ذاك الرجل لما تعرَّض للاغتيال... وبحلول عام 1967 حين ألقى
كينغ خطابه في كنيسة ريفر سايد كان يتحدث عن الظلم الاقتصادي العميق
والأساسي الذي كان سيدِّمر هذا البلد إن لم يُفعل شيء حياله. لقد كان
يتحدث عن التزام هذا البلد المروَّع بالعنف بمثابة طريقة حياة، ويذكر
من جديد كيف لهذا أن يدمر البلد إن لم نجد طريقةً أخرى للحياة. كان
يتحدث عن تلك النزعة المسمومة لمناهضة الشيوعية، والتي جعلت من
الاستحالة على البلد أن يعطف على رغبات الفقراء وتطلعاتهم في كافة
أنحاء العالم.
ذلك
هو الشيء الذي أتحدث عنه حين أتكلم عن شجاعة مارتن لوثر كينغ؛ ألا وهو
محاولة تحقيق تلك المحبَّة التي كان مارتن يؤمن بها بحقٍّ.
الآن وقد رحل فينسنت هاردنغ، فإن ذلك يقع على عاتقنا.
نشر بتاريخ 29 أيار 2014
ترجمة:
محمد الطبل
*** *** ***