|
إبستمولوجيا
هناك مجموعة من النظريات الكونية البديلة Les Théories alternatives التي ظهرت في العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم وفي العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين بعد سيادة وطغيان نظرية الانفجار العظيم أو الكبير Big Bang المعيارية كمسلمة في مجال الكوزمولوجيا أو علم الكون، والتي سنستعرض بعضًا منها باختصار شديد مع اعتذاري من القاريء الكريم لانسياقي رغمًا عني في معمعمة المعادلات الرياضية والرسوم البيانية التي كان لا بد منها لشرح بعض المفاهيم وتقريبها لذهن القاريء قدر الإمكان مع معرفتي بنفور القراء من المعادلات الرياضيات في المقالات العلمية التبسيطية، والغرض من ذلك تنبيه القاريء وإيقاظ وعيه على معلومات ربما لم يكن على معرفة مسبقة بها تتعلق بنشأة الكون وهيكيليته وشكله وهندسته أو معماريته التي ظهرت كبديل للمعلومات والنصوص الدينية الثيولوجية التي تناولت هذا الموضوع من زاوية غيبية ماورائية.
قبل أن تُخترق الثوابت الفكرية التي تظل أحيانًا قرونًا طويلة سيدة الفكر بحيث لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير بأنه يمكن تغييرها، تظهر أفكار وتساؤلات تحاول المساس بهذه الثوابت التي تصبح في بعض الأحيان أشبه بالعقائد التي نقدسها أكثر مما نفهمها! والأمثلة على ذلك كثيرة في العلم، من المسلمة الخامسة في الهندسة الإقليدية، إلى الفزياء النيوتونية، إلى نظرية الانفجار الكبير كبداية لكوننا الحالي! ونحن نعرف اليوم إن العلم ينتهي دائمًا إلى اختراق الثوابت، وإلى تعديل نظرياته باستمرار. فخلال النصف الثاني من القرن العشرين بدأت التساؤلات بالظهور حول بداية الكون. هل الكون بدأ حقًا من نقطة أولى؟ وتحولت هذه التساؤلات إلى دراسات مع ظهور أفكار جديدة وكذلك مع طرح نظريات جديدة لتفسير الكون. لكن الاختراق الحقيقي لمسلمة بداية الكون من انفجار كبير كانت بحاجة إلى محاولة ذات بعد إعلامي، وهذا ما حصل مع كتاب بوغدانوف "Igor &Grichka Bogdanov, Avant le Big Bang, Grasset, 2 juillet 2004"، الذي لم يثر الجدال فقط حول هذه المسألة بل أثار اهتمام الرأي العالمي، العلمي والمجتمعي، حول الأبحاث النظرية في الكوزمولوجيا الحديثة. ومع أن أبحاث بوغدانوف تعرضت لنقد منهجي كبير، لكنها كانت أحد الأعمال التي حرضت العلماء أكثر على الكتابة بشكل مبسط نسبيًا لتوضيح هذه المسألة بعد أن كانت حكرًا على عدد محدود من المختصين. ولا يخفى علينا، عندما تبدأ مسائل البدايات تطرح بين أيدي الناس، سرعان ما تطرح تساؤلات تتعلق بالإيمان والإله، وهل كان الكون موجودًا قبل أن يُخلق؟ لكن لنستبق الأمور ونقول بوضوح، العلم يطرح تساؤلاته ونظرياته ليس للإجابة على هذا النمط من الأسئلة!
يقول العلم بمبدأ العطالة الذي يسري على كافة مكونات عالمنا، إذ تميل جميع العناصر إلى حالة من الاستكانة والركون والتعطل، إلا أنَّ فهمنا لهذا التعطُّل قد اختلف بتطور العلم، فمع فيزياء نيوتن كانت العطالة ميل المادة إلى السكون واللاحركة، ومع الفيزياء الكمومية أصبحت الميل إلى العشواء. فبهذا المعنى يتخذ مبدأ العطالة بعدًا جديدًا يعطي لكلمة "عطالة" معنى يخالف الفهم الأولي لها، ولهذا الفهم أثره المعرفي العميق عندما نقوم بسحب هذا المبدأ على الحياة المعرفية البشرية ومحاولة فهم ما سنطلق عليه اسم "العطالة البشرية". ومع تطور العلم تغير فهمنا لطبيعة هذا المبدأ. وتبدو العطالة البشرية واضحةً إذا أمعنا النظر في تاريخ المعرفة الإنسانية، إذ تركن المجتمعات الإنسانية إلى معرفة معينة تتعطل عندها وتبني صروح أحكامها ومقولاتها الراسخة على هذه المعرفة المؤقتة بطبيعتها، وقد تقصر المدة الزمنية لهيمنة هذه المعرفة أو تطول، وفي كلتا الحالتين يشهد التاريخ مفصلاً يكون نهاية استكانة وبداية أخرى، ولعل هذه الظاهرة أكثر ما تتجلى في مجال المعرفة العلمية والتي ستكون مثالنا لرصد العطالة البشرية.
مستمرة...
|
|
|